الـفَـارِسُ الـشّجَـاع
(26)
(27)
الفـَارِسُ الشّجَـاع
الشجاعة أو الجرأة . موهبة يتمتع بها غالب عظماء الانسانية ، فهي لا تقبل التكلُّفَ ولا تستقيم معها محاكاة . وهي ايضاً صفة كريمة تميَّز بها العرب بصورة عامة ، والمسلمون بصورة خاصة . فالعربي بطبعه ـ غالباً ـ شجاع غير هياب ، يتقحم موارد الهلكة ، إن رأى في ذلك ما يرضي مزاجه ، حتى ولو كانت الخسارة عنده أكبر في ميزان الاحتمال . ولعل هذه الخصلة الكريمة ، هي احدى معطيات الطبيعة الصحراوية ، وما فرضته من خشونة العيش على هذا الانسان . فالمعروف عن العرب القدامى ، أن ظروفهم المعاشية كانت صعبة للغاية ، فكانت جلُّ حياتهم الاقتصادية تقوم على الغزو أو السلب ، أو طَرق الاحياء أو ما شابه ذلك ، مما كان متسالم عليه لديهم آنذاك * ، ولا يرون فيه أي إخلال بالشرف أو المكانة الاجتماعية ، بل على العكس من ذلك ، فقد كان هذا العمل يكسب القائم به رفعة وسؤدداً في قبيلته وبني قومه . فكان المغيرون على الأحياء يتفاخرون بذلك . وينشدون فيه الأشعار . ____________ * وكانت التجارة احدى الدعامات الاقتصادية الهامة ، لكن يبدو انها كانت مختصة بطبقة معينة من أصحاب السيادة .
(28)
قال طفيل الغنوي :
وغـارة كـجـراد الريح زعزعـها * مخراق حرب كنصل الـسيف بهـلـول (1)
وهم يرون في ذلك ردءاً لهم من الغارات التي يمكن أن تشنها عليهم القبائل الأخرى ، كما يرون في ذلك إظهارا لشجاعتهم وقوتهم حتى لا يفكر الآخرون بغزوهم . قال المثقب العبدي :
ونحمـي على الثغر المخـوف ويتقـى * بغارتنا كـيدُ الـعـدى وضُـيـومُهـا(1)
وقال الآخر :
ومـن لم يـذد عـن حوضه بسلاحه * يُهدَّم ومن لم يظلـم الـنـاس يـُظـلَـم
والمسلم الحقيقي شجاع ايضا بمقتضى تركيبته الذهنية الخاصة التي صقلها الاسلام ، وروحه الرسالية المستمدة منه . فهو لا يعرف معنى الخوف من الموت ـ في الله ـ لأنه مؤمن بسلامة المصير ، فلا يرى غير الجنة أعدت للمتقين في الآخرة . ومتى كان الامر كذلك ، يهون عليه كل شيء في سبيل ذلك حتى نفسه . وتأريخنا الاسلامي حافل بالبطولات والتضحية كما هو بيِّن وواضح لدى كل من يتتبعه . وصاحبنا أبو ذر رضي الله عنه ، الذي هو موضوع بحثنا الآن ، كان ممن اتسم بأعلى معاني البطولة والشجاعة ، في الجاهلية ، وفي الاسلام . ____________ 1 ـ شعر الحرب في العصر الجاهلي 80 و 462 ( البهلول : السيد الجامع لكل خير ) و ( المخراق : الرجل الحسن الجسيم المتصرف بالامور الذي لا يقع في أمر الا خرج منه ) .
(29)
ففي الجاهلية كان شجاعاً بطبعه ، بل في طليعة الشجعان المغامرين ، فالمعروف عنه أنه كان فارس ليل ، لا يعرف معنى الخوف ولا الوجل ، يغير على الحي ، وعلى القوافل ، فيصيب منها ، ثم يرجع الى مقره . روى بن سعد في الطبقات ، بسنده : كان أبو ذر رجلا يصيب الطريق ، وكان شجاعاً يتفرد وحده بقطع الطريق ، ويغير على الصرم * في عماية الصبح على ظهر فرسه ، أو على قدميه ، كأنه السبع ، فيطرق الحي ويأخذ ما أخذ . ثم إن الله قذف في قلبه الاسلام (1) . وهذه الرواية لا تنافي كونه كان متعبداً قبل الاسلام ، يتألَّه ويعبد الله وحده ، فمما لا يخفى على الباحث والمطلع ، أن هناك أموراً كانت سائدة لدى العرب في الجاهلية وكانوا متسالمين على أكثرها فأقرَّ الاسلام بعضها ، ونهى عن بعضها الآخر ، فكان من جملة ما نهى عنه الاسلام هذه الخصال الذميمة وهي قطع الطرق ، والإغارة على الناس في مآمنهم . فانتهى عنها المسلمون . ولا مانع من أن يكون أبو ذر متعبداً قبل الاسلام بسنوات ، ويفعل بعض هذه الاعمال ، ثم انتهى عنها حين نهى الاسلام عنها ! إنه لا مانع من ذلك قط ، ولا يُخلُّ هذا بشرفه ومكانته . هذا ، اذا لم نقل بأنه كان يفعل ذلك مع الفئات والقبائل التي تعبد الأصنام ، استحلالا منه لذلك . فمن يدري ؟ وحين اسلم أبو ذر ، زاده الاسلام شجاعة الى شجاعته ، ومنحه زخماً ____________ * الصَّرم : الفرقة من الناس ليس بالكثير . 1 ـ أعيان الشيعة 16 / 320 .
(30)
لا تدرك حدوده ، فكان من فرسان الاسلام وأبطالهم ، من أول يوم . فقد قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله ، اني منصرف الى أهلي ، وناظر متى يؤمر بالقتال ، فألحق بك ، فاني أرى قومك عليك جميعاً ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أصبت . فانصرف ، فكان يكون بأسفل ثنية غزال (1) فكان يعترض لعيرات قريش ، فيقتطعها فيقول : لا أرُدّ لكم منها شيئاً حتى تشهدوا أن لا إله إلا الله ، وان محمداً رسول الله . ! فان فعلوا ، ردَّ ما أخذ منهم ، وان أبوا ، لم يرد عليهم شيئاً ، فكان على ذلك ، حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومضى بدر ، وأحد ، ثم قدم فأقام بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم (2) . ____________ 1 ـ ثنية غزال موضع بين مكة والمدينة . 2 ـ أعيان الشيعة 16 / 321 عن الطبقات الكبرى لابن سعد .
(31)
|