حاولت نقاء أن تجر حديثها مع إبراهيم إلى ذكر أقاربها ، وانتهى بها القول إلى أن تذكر سعاد ، فقالت : ـ أما بنت خالتي سعاد فهي سيدة شابة جميلة الوجه ، بديعة التكوين ، ولكنها ليست من الطراز الذي يعجبني أو يرضيني. وأظهر إبراهيم استغرابه لذلك ، فقد كانت أسرة نقاء طيبة السمعة ، مشهورة بالاعتدال ، وأردفت نقاء قائلة : ـ إنها ربيت يتيمة ، فقد مات أبوها وهي لا تزال طفلة ، وأفرطت أمها في تدليلها ، ولهذا فقد ركبها الغرور والطيش ، وقد تزوجت وسافرت مع زوجها إلى أوروبا ، على أمل أن يحصل زوجها على شهادة جامعية ، بعد أن فشل في تحصيلها هنا ، ولكنه فشل هنا أيضاً ، وقد رجعا بعد قراننا بأيام ، ولكن سعاد لم تفهم ذلك إلا متأخراً ، فأنا لم أزرها عند عودتها من أوروبا ، وقد جاءت لزيارتي مرتين أو ثلاثة. وكان إبراهيم ساكتاً يستمع إلى نقاء ، ولكنها قرأت على
( 96 ) وجهه علائم عدم الارتياح .. واستمرت تقول : ـ إنها متطرفة أكثر مما يجوز بكثير ، فقد أعشت عينيها أنوار أوروبا الخداعة ، فهي دائمة التحدث عن معالم حضارتها. ـ ومن تكون بنت خالتك هذه أو من يكون زوجها بتعبير أصح ؟!. ـ إنها سعاد ، ولا أعرف عن زوجها سوى أن اسمه محمود ، وهو مفرط في الثراء. ـ ثراء وفراغ وجهل ، إن هذه العوامل هي أخطر ما تكون على المرء. ـ والجمال أيضاً ، فسعاد جميلة جداً يا إبراهيم إنها آية في الرشاقة والإناقة ، وقد كنت أحتفظ لها بصورة عند ، قدمتها لي منذ سنوات. ثم نهضت وجاءت بـ ( البوم ) التصاوير. وقلبته حتى استخرجت منه صورة سعاد ، وقدمتها لابراهيم قائلة : ـ هذه صورتها قبل زواجها وقبل سفرها إلى أوروبا. ثم عادت نقاء تقلب ( ألبومها ) لتنتقي منه بعض صور تذكارية تريها لابراهيم ، ولذلك فقد فاتها ملاحظة الصفرة التي علت وجه إبراهيم عند رؤيته لصورة سعاد وقد عرفها لأول وهلة ، وعرف أنها هي تلك الفتاة اللعوب التي تابعته
( 97 ) بغزلها حيناً من الزمان. وعجب أن تكون هذه الغانية قريبة لنقاء ، وساءه أنها على إتصال بزوجته ، وما يدريه فلعلها سوف لن ترتاح إلى هذه الزوجة السعيدة ، وتعمل على خرابها ، وهم أن يقول لنقاء : إن هذه ليست سوى امرأة مبتذلة نزقة فتجنبيها جهدك يا نقاء !. ولكنه عاد فتذكر أنها الآن زوجة وربة بيت فلعلها قد أقلعت عن الاعيبها الصبيانية ونزواتها الطائشة ، فلا يصح له أن يبعث ماضيها من جديد ، أو ينبش ما لعلها دفنته بين صفحات السنين الماضية. وهكذا حال دافع الخير عنده عن التصريح بما يعرف عن سعاد . ثم أنه لم يكن يريد أن يخبر نقاء بموقف سعاد منه ، لئلا يجعلها في حرج من اتصالها بسعاد . وهو أيضاً يأبى أن يكدر صفاء ذهنها بأمثال هذه الحوادث ، ويود جاهداً أن ينأى بها عن كل ما يخدش روحها ، أو يكدر أفكارها . وبما أن دوافع الخير كانت هي المسيطرة على إبراهيم في تلك اللحظة ، فقد اكتفى بأن أرجع الصورة دون أن يعلق عليها بحرف ، ورفعت نقاء رأسها عن ( الألبوم ) وقالت : ـ أرأيت كيف أنها جميلة ؟ ليت روحها كانت قد اكتسبت شيئاً من هذه الروعة الخلقية. فابتسم إبراهيم ابتسامة باهتة ، وقال : ـ أنا لا أنكر أنها جميلة ، ولكني لا أستسيغ هذا النوع من الجمال المتكلف ، الذي لم تحصل عليه صاحبته إلا بعد جهد جهيد ،
( 98 ) ثم أنه جمال مبطن بالبشاعة يخفي وراءه عوامل كثيرة ، كلها ليست خيرة ولا صالحة ، فالجمال الحقيقي هو الجمال الطبيعي الطاهر ، لا الجمال السطحي الملوث الذي تصنعه محلات التجميل. وعجبت نقاء من أن إبراهيم قد تمكن من التعرف على شخصية سعاد الواقعية ، على أثر نظرة واحدة لتصوير صغير ، وكانت قد استردت الصورة منه ، فهمت بوضعها في محلها من ( الألبوم ) وهي تقول : ـ نعم إنها تماماً كما تقول يا إبراهيم !.. لكن إبراهيم سارع فأمسك يدها برفق وهو يقول : ـ لا ... لا تفعلي هذا يا نقاء ! فإن ( ألبومك ) يضم مجموعة خيرة من الصور الفاضلة ، لا تدعي هذه الصورة تدنسه باندساسها فيه ، أنا لا أريد أن أطلب منك تمزيق الصورة ، ولكني أود أن تحتفظي بها بعيداً عن هذه الصور الثمينة. ورفعت نقاء وجهها نحو إبراهيم ، وتأملته لحظة قرأت فيها على وجهه المعبر ما لم يرد أن يفوه به ، فمدت يدها نحو الصورة ، وشرعت تمزقها إلى قطع صغيرة ، وهي تقول : ـ إذا كنت أنت لا تطلب ذلك مني ، فأنا سوف أمزقها بيدي يا إبراهيم ! لكي لا يعود لسعاد عندي أثر...
( 99 ) ـ وتهلل وجه إبراهيم ، وهو يرى نقاء تمزق الصورة بهدوء ، صورة الفتاة التي جعلته يكفر إلى حين بالمرأة . وها هي نقاء تزيده إيماناً بوجود المرأة الصالحة ... وردد وكأنه يحدث نفسه قائلاً : الحمد لله .. وأسعد نقاء أن ترى الفرحة قد شاعت على قسمات وجه زوجها الحبيب ، ولذلك فقد حرصت على أن لا تعود إلى ذكر سعاد مرة أخرى لكي لا تكدر عليه صفوه وهناءه.
|