متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
البحث الثالث: الأسس الإسلامية في خطب الوداع
الكتاب : آيات الغدير    |    القسم : مكتبة أهل البيت (ع)

البحث الثالث

الأسس الإسلامية في خطب الوداع

اتضح مما تقدم أن خطبة عرفات في حجة الوداع تضمنت بشارة النبي صلى الله عليه وآله بالأئمة الإثني عشر من بعده، ووصيته بهم..

فماذا قال صلى الله عليه وآله في الخطب الخمس الباقية؟ في مكة يوم التروية، وفي منى يوم العيد، ووسط أيام التشريق، وفي مسجد الخيف يوم النفر. وفي غدير خم؟.

مع أن المصادر نقلت القليل من هذه الخطب وخلطت بين مضامينها.. لكنك تجد في رواياتها المتعددة أنه صلى الله عليه وآله طرح كل الأمور المهمة التي تحتاج اليها الأمة من بعده.. فقد تضمنت الخطب فقرات نبوية في المحاور أو الأسس الخمس التالية:

1ـ أساس المساواة الإنسانية

ـ مبدأ الوحدة الإنسانية بين البشر، وإلغاء التمايز القومي.

ـ مبدأ حسن معاملة النساء، وعدم ظلمهن.

2ـ أساس وحدة الأمة الإسلامية

ـ مبدأ إلغاء آثار الجاهلية ومآثرها وتشريعاتها المخالفة للاسلام.

ـ مبدأ الأخوة والتكافؤ بين المسلمين.

ـ مبدأ احترام الملكية الشخصية ـ تحريم أموال المسلمين على بعضهم.


الصفحة 84

ـ مبدأ احترام حياة المسلم ـ تحريم دمائهم على بعضهم.

ـ مبدأ احترام عرض المسلم وكرامته ـ تحريم أعراضهم على بعضهم.

ـ مبدأ: من قال لا إلَه إلا الله، فقد عصم ماله ودمه.

ـ مبدأ ختام النبوة به صلى الله عليه وآله وختام الأمم بأمته.

ـ مبدأ شهادة النبي على الأمة في الآخرة، وموافاتها له على الحوض.

ـ مبدأ ضرورة الدقة والحذر من محقرات الأعمال، التي تجر الى الإنحراف.

ـ مبدأ التحذير من الكذب على النبي صلى الله عليه وآله، والتحقيق فيما ينقل عنه.

3ـ أساس وحدة الشريعة ووحدة ثقافة المسلمين

ـ مبدأ أداء الأمانة

ـ قوانين الإرث

ـ قوانين الديات والقصاص

ـ تشريعات مناسك الحج (خذوا عني مناسككم)

4ـ مبادئ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله

ـ مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

ـ مبدأ التأكيد على الثقلين القرآن والعترة.

ـ مبدأ إعلان أن علياً ولي الأمة من بعده، والإمام الأول من الإثني عشر.

ـ مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.

ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش وكنانة على حصار بني هاشم.

ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله

ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد بعده والصراع على السلطة

5ـ أساس عقوبة المخالفين للخط النبوي

ـ مبدأ لعن من ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه.


الصفحة 85

ولا يتسع المجال لبحث هذه الأسس والمبادىء الإلَهية بالتفصيل، لذا نكتفي بذكر نماذج من الخطب الشريفة، ثم نذكر فقرات الخطب المتعلقة بالمبادىء المذكورة، مع التوضيحات الضرورية.

ولا بد أن نشير أولاً الى أن للنبي صلى الله عليه وآله له في كل واحدة من هذه المبادىء بياناتٌ متعددةٌ في غير حجة الوداع، وأنها تشكل مع ما جاء منها في خطب الوداع الستة كلاماً موحداً، لا يمكن فصل بعضه عن بعض.. فكلامه صلى الله عليه وآله إن هو إلا وحيٌ يوحى يكمل بعضه بعضاً، ويفسر بعضه بعضاً، ويشكل في كل موضوع وحدةً عقيدية وتشريعية متكاملة البناء، في صرح الإسلام الرباني الشامل.

نماذج من نصوص خطب الوداع

ـ تحف العقول ص 30 لابن شعبة الحراني المتوفى حدود سنة 350

خطبته صلى الله عليه وآله في حجة الوداع:

الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا.

من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إلَه إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أوصيكم عباد الله بتقوى الله، وأحثكم على العمل بطاعته، وأستفتح الله بالذي هو خير.

أما بعد: أيها الناس! إسمعوا مني ما أبين لكم، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا.

أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم عليكم حرام، الى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.


الصفحة 86

وإن ربا الجاهلية موضوع، وإن أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب.

وإن دماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أبدأ به دم عامر بن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب.

وإن مآثر الجاهلية موضوعة، غير السدانة والسقاية.

والعمد قود، وشبه العمد ما قتل بالعصا والحجر، وفيه مائة بعير، فمن ازداد فهو من الجاهلية.

أيها الناس: إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه قد رضي بأن يطاع فيما سوى ذلك، فيما تحتقرون من أعمالكم.

أيها الناس: إنما النسىء زيادة في الكفر، يضل به الذين كفروا، يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطؤوا عدة ماحرم الله.

وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، وواحد فرد: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب بين جمادى وشعبان. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس: إن لنسائكم عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً، حقكم عليهن أن لا يوطئن أحداً فرشكم، ولا يدخلن أحداً تكرهونه بيوتكم، إلا بإذنكم، وألا يأتين بفاحشة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تعضلوهن وتهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإذا انتهين وأطعنكم فعليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكتاب الله، فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيراً.

أيها الناس: إنما المؤمنون إخوة، ولا يحل لمؤمن مال أخيه إلا عن طيب نفس منه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

فلا ترجعن كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي.


الصفحة 87

ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد.

أيها الناس: إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إن أكرمكم عند الله أتقاكم. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى.

ألا هل بلغت؟

قالوا: نعم.

قال: فليبلغ الشاهد الغائب.

أيها الناس: إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث، ولا تجوز لوارثٍ وصية في أكثر من الثلث، والولد للفراش وللعاهر الحجر.

من ادعى الى غير أبيه، ومن تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً. والسلام عليكم ورحمة الله.

ـ وقال الكليني في الكافي: 1|403

عن الحكم بن مسكين، عن رجل من قريش من أهل مكة قال: قال سفيان الثوري: إذهب بنا الى جعفر بن محمد، قال فذهبت معه إليه، فوجدناه قد ركب دابته، فقال له سفيان: ياأبا عبد الله حدثنا بحديثِ خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف.

قال: دعني حتى أذهب في حاجتى فإني قد ركبت، فإذا جئت حدثتك.

فقال: أسألك بقرابتك من رسول الله صلى الله عليه وآله لما حدثتني.

قال: فنزل، فقال له سفيان: مر لي بدواة وقرطاس حتى أثبته، فدعا به ثم قال:

أكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. خطبة رسول الله صلى الله عليه وآله في مسجد الخيف:

نضر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها وبلغها من لم تبلغه.

ياأيها الناس ليبلغ الشاهد الغائب، فرب حامل فقهٍ ليس بفقيه، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.

ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لأئمة المسلمين، واللزوم لجماعتهم، فإن دعوتهم محيطةٌ من ورائهم.


الصفحة 88

المؤمنون إخوةٌ تتكافى دماؤهم، وهم يدٌ على من سواهم، يسعى بذمتهم أدناهم.

فكتبه سفيان ثم عرضه عليه، وركب أبو عبد الله عليه السلام وجئت أنا وسفيان، فلما كنا في بعض الطريق قال لي: كما أنت، حتى أنظر في هذا الحديث.

قلت له: قد والله ألزم أبو عبد الله رقبتك شيئاً لا يذهب من رقبتك أبداً!

فقال: وأي شيء ذلك؟

فقلت له: ثلاثٌ لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، قد عرفناه. والنصيحة لأئمة المسلمين، من هؤلاء الأئمة الذين يجب علينا نصيحتهم؟ معاوية بن أبي سفيان، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وكل من لا تجوز الصلاة خلفهم؟

وقوله: واللزوم لجماعتهم، فأي الجماعة؟ مرجىء يقول: من لم يصل ولم يصم ولم يغتسل من جنابة وهدم الكعبة ونكح أمه فهو على إيمان جبرئيل وميكائيل؟ !

أو قدري يقول: لا يكون ما شاء الله عز وجل، ويكون ما شاء إبليس؟ !

أو حروري يتبرأ من علي بن أبي طالب، ويشهد عليه بالكفر؟ !

أو جهمي يقول: إنما هي معرفة الله وحده، ليس الإيمان شيء غيرها؟ !

قال: ويحك، وأي شيء يقولون؟ !

فقلت: يقولون: إن علي بن أبي طالب عليه السلام والله الإمام الذي وجب علينا نصيحته. ولزوم جماعتهم: أهل بيته.

قال: فأخذ الكتاب فخرقه، ثم قال: لا تخبر بها أحداً. انتهى.

ـ وفي تفسير علي بن ابراهيم: 1|171

وحج رسول الله صلى الله عليه وآله حجة الوداع لتمام عشر حجج من مقدمه المدينة، فكان من قوله بمنى أن حمد الله واثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس: إسمعوا قولي واعقلوه عني، فإني لا أدري لا ألقاكم بعد عامي هذا.

ثم قال: هل تعلمون أي يوم أعظم حرمة؟


الصفحة 89

قال الناس: هذا اليوم.

قال: فأي شهر؟

قال الناس: هذا.

قال: وأي بلد أعظم حرمة؟

قالوا: بلدنا هذا.

قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الى يوم تلقون ربكم، فيسألكم عن أعمالكم.

ألا هل بلغت أيها الناس؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وكل مأثرةٍ أو بدعةٍ كانت في الجاهلية، أو دمٍ أو مالٍ، فهو تحت قدميَّ هاتين، ليس أحدٌ أكرم من أحدٍ إلا بالتقوى.

ألا هل بلغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوع منه ربا العباس بن عبد المطلب.

ألا وكل دمٍ كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول موضوعٍ دم ربيعة.

ألا هل بلغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه، ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!


الصفحة 90

ألا أيها الناس: إن المسلم أخ المسلم حقاً، لا يحل لامرىء مسلم دم امرىء مسلم وماله إلا ما أعطاه بطيبة نفس منه. وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها، وحسابهم على الله.

ألا هل بلغت أيها الناس؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد.

ثم قال: أيها الناس: إحفظوا قولي تنتفعوا به بعدي، وافهموه تنعشوا. ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف على الدنيا، فإن فعلتم ذلك ـ ولتفعلن ـ لتجدوني في كتيبة بين جبرئيل وميكائيل أضرب وجوهكم بالسيف ثم التفت عن يمينه فسكت ساعة ثم قال ـ إن شاء الله أو علي بن أبي طالب ـ

ثم قال: ألا وإني قد تركت فيكم أمرين إن أخذتم بهما لن تضلوا: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. ألا فمن اعتصم بهما فقد نجا، ومن خالفهما فقد هلك.

ألا هل بلغت؟

قالوا: نعم.

قال: اللهم اشهد.

ثم قال: ألا وإنه سيرد عليَّ الحوض منكم رجالٌ فيدفعون عني، فأقول: رب أصحابي؟ فيقول: يامحمد إنهم أحدثوا بعدك وغيروا سنتك، فأقول: سحقاً سحقا.

فلما كان آخر يوم من أيام التشريق أنزل الله: إذا جاء نصر الله والفتح، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: نُعِيءتْ اليَّ نفسي، ثم نادى الصلاة جامعة في مسجد الخيف، فاجتمع الناس فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال:

نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها، وبلغها من لم يسمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه الى من هو أفقه منه.


الصفحة 91

ثلاث لا يغل عليهن قلب امرىء مسلم: إخلاص العمل لله، والنصيحة لائمة المسلمين، ولزم جماعتهم، فإن دعوتهم محيطة من ورائهم.

المؤمنون إخوة تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يدٌ على من سواهم. أيها الناس: إني تارك فيكم الثقلين.

قالوا: يارسول الله وما الثقلان؟

قال: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنه قد نبأني اللطيف الخبير أنهما لن يفترفا حتى يردا عليَّ الحوض، كإصبعي هاتين ـ وجمع بين سبابتيه ـ ولا أقول كهاتين وجمع سبابته والوسطى، فتفضل هذه على هذه.

فاجتمع قوم من أصحابه وقالوا يريد محمد أن يجعل الإمامة في أهل بيته، فخرج أربعة نفر منهم الى مكة ودخلوا الكعبة، وتعاهدوا وتعاقدوا وكتبوا فيما بينهم كتاباً: إن مات محمد أو قتل أن لا يردوا هذا الأمر في أهل بيته أبداً!

فأنزل الله على نبيه في ذلك: أم أبرموا أمراً فإنا مبرمون. أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم، بلى ورسلنا لديهم يكتبون... انتهى.

***

ـ وفي صحيح البخاري: 5|126

عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذى بين جمادى وشعبان.

أي شهر هذا.

قلنا: الله ورسوله أعلم.

فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:


الصفحة 92

أليس ذو الحجة؟

قلنا: بلى.

قال: فأي بلد هذا؟

قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:

أليس البلدة؟

قلنا: بلى.

قال: فأي يوم هذا؟

قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال:

أليس يوم النحر؟

قلنا: بلى.

قال: فإن دماءكم وأموالكم ـ قال محمد وأحسبه قال وأعراضكم ـ عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فسيسألكم عن أعمالكم.

ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض.

ألا ليبلغ الشاهد الغائب، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه. انتهى. ويلاحظ أن فيه كلمة ضلالاً بدل كفاراً في غيره.

ـ وفي صحيح البخاري: 1|24

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه ذكر النبى صلى الله عليه وسلم قعد على بعيره وأمسك إنسان بخطامه أو بزمامه، ثم قال:

أي يوم هذا؟

فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.

قال: أليس يوم النحر؟

قلنا: بلى.


الصفحة 93

قال: فأي شهر هذا؟ فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.

فقال: أليس بذي الحجة؟

قلنا: بلى.

قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ليبلغ الشاهد الغائب، فإن الشاهد عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه.

ـ وفي صحيح مسلم: 4|41

فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس، أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:

إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل. وربا الجاهلية موضوع، وأول رباً أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله.

فاتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن كسوتهن بالمعروف.

وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله.

وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟

قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

فقال بإصبعه السبابة يرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، ثلاث مرات.


الصفحة 94

ـ ورواه ابن ماجة: 2|1024، وفيه:

ثم أذن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ولم يصل بينهما شيئاً.

ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف..

ـ وفي مستدرك الحاكم: 1|77

وخطب رسول الله صلى الله عليه وآله فقال:

يا أيها الناس إني فرط لكم على الحوض، وإن سعته مابين الكوفة الى الحجر الأسود، وآنيته كعدد النجوم، وإني رأيت أناساً من أمتي لما دنوا مني، خرج عليهم رجلٌ فمال بهم عني، ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!

فقال أبو بكر: لعلي منهم يا نبي الله؟!

قال لا، ولكنهم قوم يخرجون بعدكم ويمشون القهقرى!. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقد حدث به الحجاج بن محمد أيضاً عن الليث ولم يخرجاه.

ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1016

حدثنا إسماعيل بن توبة، ثنا زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته المخضرمة بعرفات، فقال:

أتدرون أي يوم هذا وأي شهر هذا وأي بلد هذا؟

قالوا: هذا بلدٌ حرام وشهر حرم ويوم حرام.

قال: ألا وإن أموالكم ودماءكم عليكم حرام كحرمة شهركم هذا في بلدكم هذا في يومكم هذا.

ألا وإني فرطكم على الحوض، وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي.

ألا وإني مستنقذٌ أناساً، ومستنقذ مني أناس، فأقول: يا رب أصحابي؟ فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك! في الزوائد: إسناده صحيح.


الصفحة 95

ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1300

باب لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض:

عن جرير بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في حجة الوداع استنصت الناس، فقال: لا ترجعوا بعدى كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

عن الصنابح الأحمسي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إني فرطكم على الحوض وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي.

في الزوائد: إسناده صحيح، ورجاله ثقات.

ـ وفي سنن الترمذي: 2|61

سليم بن عامر قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا الله ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدوا زكاة أموالكم، وأطيعوا ذا أمركم، تدخلوا جنة ربكم.

قال: قلت لأبي أمامة: منذ كم سمعت هذا الحديث؟

قال: سمعت وأنا ابن ثلاثين سنة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

ـ وفي مسند أحمد: 5|412

عن مرة قال حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، فقال:

أتدرون أي يومكم هذا؟

قال قلنا يوم النحر.

قال: صدقتم يوم الحج الأكبر. أتدرون أي شهركم هذا؟

قلنا ذو الحجة.

قال: صدقتم شهر الله الأصم. أتدرون أي بلد بلدكم هذا؟


الصفحة 96

قال قلنا: المشعر الحرام.

فقال: صدقتم، قال فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أو قال كحرمة يومكم هذا وشهركم هذا وبلدكم هذا، ألا وإني فرطكم على الحوض أنظركم وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي! ألا وقد رأيتموني وسمعتم مني وستسألون عني، فمن كذب علي فليتبوأ مقعده من النار ألا وإني مستنقذٌ رجالاً أو أناساً، ومستنقذٌ مني آخرون، فأقول: يا رب أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!!

ـ وفي مجمع الزوائد: 3|265

(باب الخطب في الحج) عن أبي حرة الرقاشي عن عمه قال: كنت آخذاً بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام التشريق أذود عنه الناس، فقال: يا أيها الناس هل تدرون في أي شهر أنتم، وفي أي يوم أنتم، وفي أي بلد أنتم؟

قالوا: في يوم حرام وبلد حرام وشهر حرام.

قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، الى يوم تلقونه.

ثم قال: إسمعوا مني تعيشوا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، ألا لا تظلموا، إنه لا يحل مال امرىَ مسلم إلا بطيب نفس منه.

ألا وإن كل دم وماء ومال كانت في الجاهلية تحت قدمي هذه الى يوم القيامة، وإن أول دم يوضع دم ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل.

ألا وإن كل رباً في الجاهلية موضوعٌ، وإن الله عز وجل قضى أن أول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب. لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون.

ألا وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض، ثم قرأ: إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض، منها أربعة


الصفحة 97

حرم ذلك الدين القيم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم.

ألا لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض.

ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون، ولكنه في التحريش بينكم.

واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوانٌ لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإن لهن عليكم حقاً، ولكم عليهن حقاً أن لايوطئن فرشكم أحداً غيركم، ولا يأذنن في بيوتكم لأحد تكرهونه، فإن خفتم نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن ضرباً غير مبرح ـ قال حميد قلت للحسن ما المبرح؟ قال: المؤثر ـ ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وإنما أخذتموهن بأمانة بالله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله عز وجل.

ألا ومن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

وبسط يده وقال ألا هل بلغت، ألا هل بلغت؟

ثم قال ليبلغ الشاهد الغائب، فإنه رب مبلغ أسعد من سامع.

قال حميد قال الحسن حين بلغ هذه الكلمة: قد والله بلغوا أقواما كانوا أسعد به.

قلت: روى أبو داود منه ضرب النساء فقط رواه أحمد وأبو حرة الرقاشي وثقة أبو داود وضعفه ابن معين. وفيه علي بن زيد وفيه كلام.

وعن أبي نضرة قال حدثني من سمع خطبة النبى صلى الله عليه وسلم في وسط أيامالتشريق فقال:

يا أيها الناس إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربى، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود، إلا بالتقوى.

أبلغت؟

قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال: أي يوم هذا؟

قالوا: يوم حرام.


الصفحة 98

ثم قال: أي بلد هذا؟

قالوا: بلد حرام.

قال فإن الله عز وجل قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم ـ قال ولا أدري قال وأعراضكم أم لا ـ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.

أبلغت؟

قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال: ليبلغ الشاهد الغائب. رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح (أحمد: 5|72)

وعن ابن عمر قال نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى في أوسط أيام التشريق فعرف أنه الموت، فأمر براحلته القصواء فرحلت له فركب فوقف للناس بالعقبة، واجتمع له ما شاء الله من المسلمين فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال:

أما بعد أيها الناس، فإن كل دمٍ كان في الجاهلية فهو هدر، وإن أول دمائكم أهدر دم ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل. وكل رباً كان في الجاهلية فهو موضوع، وإن أول رباكم أضع ربا العباس بن عبد المطلب.

أيها الناس إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، رجب مضر الذى بين جمادى وشعبان وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم، إنما النسىَ زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاماً، ليواطئوا عدة ماحرم الله. كانوا يحلون صفر عاماً ويحرمون المحرم عاماً فذلك النسىَ.

يا أيها الناس: من كانت عنده وديعةٌ فليؤدها الى من ائتمنه عليها.

أيها الناس: إن الشيطان أيس أن يعبد ببلادكم آخر الزمان، وقد رضي منكم بمحقرات الأعمال، فاحذروا على دينكم محقرات الأعمال.

أيها الناس: إن النساء عندكم عوان، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن


الصفحة 99

بكلمة الله، لكم عليهن حق ولهن عليكم حق، ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم غيركم، ولا يعصينكم في معروف، فإن فعلن ذلك فليس لكم عليهن سبيل، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، فإن ضربتم فاضربوا ضرباً غير مبرح.

لايحل لامرىَ من مال أخيه إلا ما طابت به نفسه.

أيها الناس: إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به.

أيها الناس: أي يوم هذا؟

قالوا: يوم حرام.

قال: فأي بلد هذا؟

قالوا: بلد حرام.

قال: فأي شهر هذا؟

قالوا: شهر حرام.

قال: فإن الله تبارك وتعالى حرم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة هذااليوم وهذا الشهر وهذا البلد. ألا ليبلغ شاهدكم غائبكم، لا نبي بعدي ولا أمة بعدكم. ثم رفع يديه فقال: اللهم اشهد. قلت في الصحيح وغيره طرف منه ـ رواه البزار وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف.

ـ وفي مجمع الزوائد: 3|272

وعن فهد بن البحيرى بن شعيب بن عمرو بن الأزرق قال: خرجت الى مكة فلما صرت بالصحرية، قال لي بعض إخواني: هل لك في رجلٍ له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قلت: نعم، قال صاحب القبة المضروبة في موضع كذا وكذا، فقلت لأصحابى: قوموا بنا إليه، فقمنا فانتهينا الى صاحب القبة، فسلمنا فرد السلام فقال: مَنِ القوم؟

قلنا: قومٌ من أهل البصرة بلغنا أن لك صحبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: نعم، صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقعدت تحت منبره يوم حجة


الصفحة 100

الوداع، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: إن الله يقول:

يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، فليس لعربي على عجمي فضل، ولا لعجمي على عربي فضل، ولا لأسود على أحمر فضل، ولا لأحمر على أسود فضل، إلا بالتقوى.

يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجىَ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً.

قلنا: ما اسمك؟ قال: أنا العداء بن خالد بن عمرو بن عامر، فارس الضحياء في الجاهلية. رواه الطبراني في الكبير بأسانيد هذا ضعيف. وتقدم له إسناد صحيح في الخطبة يوم عرفة.

وعن أبي قبيلة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في الناس في حجة الوداع فقال: لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم. رواه الطبراني في الكبير، وفيه بقية وهو ثقة ولكنه مدلس، وبقية رجاله ثقات.

ـ وفي سنن الدارمي: 2|47

فلما كان يوم التروية وجه الى منى فأهللنا بالحج، وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بمنى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح، ثم مكث قليلاً حتى إذا طلعت الشمس، أمر بقبة من الشعر تضرب له بنمرة، ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار، لا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية في المزدلفة، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة قد ضربت بنمرة فنزلها، حتى إذا زاغت يعني الشمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطن الوادي فخطب الناس، وقال:

إن دماء كم وأموالكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع، ودماء الجاهلية موضوعة، وأول


الصفحة 101

دم وضع دماؤنا دم ربيعة بن الحارث كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله. فاتقوا الله في النساء، فإنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وإن لكم عليهن أن لا يؤطين فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، وأنتم مسؤلون عني فما أنتم قائلون؟

قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.

فقال بإصبعه السبابة فرفعها الى السماء وينكتها الى الناس: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد.

ثم أذن بلال بنداء واحد وإقامة فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، لم يصل بينهما شيئاً، ثم ركب حتى وقف، فجعل بطن ناقته القصواء الى الصخيرات...

ـ وفي سنن الدارمي: 2|67

عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم قعد النبي صلى الله عليه وسلم على بعير، لا أدري جمل أو ناقة، وأخذ إنسان بخطامه، أو قال بزمامه

فقال: أي يوم هذا؟

قال فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه.

فقال: أليس يوم النحر؟

قلنا: بلى.

قال فأي شهر هذا....الخ.

الأساس الأول: المساواة الإنسانية

لا نطيل في هذا الأساس لوضوحه، وقد تقدمت عدة فقرات تتعلق به في نماذج النصوص من خطبه صلى الله عليه وآله.


الصفحة 102

الأساس الثاني: وحدة الأمة الإسلامية

وقد روى المسلمون فقرات الخطب التي تتعلق بالمبادىَ الخمس الأولى من هذا الأساس بكثرةٍ وحفظوها وكرروها، حتى ليتصور الإنسان لأول وهلة أنها الموضوع الوحيد في خطب حجة الوداع!

والسبب في ذلك: أن المجتمع العالمي كان في عصره صلى الله عليه وآله مجتمع تمييز حاد على أساس قومي وقبلي وطبقي.. كما أنه كان مجتمع (قانون الغلبة والقوة) فالغالب على حق دائماً، سواء كان حاكماً، أو قبيلة، أو فارساً، أو صعلوكاً.. لأنه استطاع أن يقهر الآخرين، أو يغزوهم ويقتلهم ويسرق أموالهم، أو يغصبها منهم عنوةً، أو يحتال عليهم بحيلة!

فجاءت تشريعات الإسلام لتلغي ذلك كله، وتعلن تساوي الناس أمام الشرع، وتحرم كل أنواع الإعتداء على الحقوق الشخصية، وتركز احترام الإنسان وملكيته وكرامته.

فالأمر الذي جعلهم يحفظونها أكثر من غيرها من كلمات النبي صلى الله عليه وآله، هو إعجاب المسلمين المؤمنين بها، وكونها تمثل الحل لمشكلة الغزو والقتل التي كانوا يعانون منها في الجاهلية القريبة.

وقد كان لهذه التوجيهات بصيغها الإلَهية والنبوية البليغة، تأثيرٌ كبيرٌ على مجرى احترام الإنسان وماله وعرضه ورأيه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، إذ لولاها لساء وضع مجتمع المسلمين أضعافاً مضاعفة عما وصل اليه من سوء، ولعادت النظرة الى الإنسان والتصرف معه الى الحالة الجاهلية مئة بالمئة!!

والملاحظ بعد النبي صلى الله عليه وآله أن أكثر الناس احتراماً للإنسان وحرياته المشروعة، هم عترته وأهل بيته الطاهرون، فعلي عليه السلام هو الحاكم الوحيد بعد النبي صلى الله عليه وآله الذي لم يستعمل قانون الطوارىَ أو الأحكام العرفية، ولا أي قانون استثنائي، حتى مع


الصفحة 103

خصومه والممتنعين عن بيعته، بل حتى في حالات الحرب.. مع أنه ابتلي بثلاثة حروب استوعبت مدة خلافته كلها!

بينما استعمل أبو بكر وعمر منطق القوة والقهر في السقيفة ضد الأنصار، وهموا بقتل سعد بن عبادة، ثم هاجموا الممتنعين عن بيعتهم وهم مجتمعون في بيت علي وفاطمة عليهما السلام، وكانوا في تعزية بوفاة النبي صلى الله عليه وآله! بل روي أن جنازته كانت مسجاةً لم تدفن بعد! وهددوهم بإحراق البيت عليهم إن لم يخرجوا ويبايعوا! ولما تأخروا عن الخروج أشعلوا النار في الحطب وأحرقوا الباب.. الخ. !!

***

وأما المبدأ السادس من هذا الأساس (من قال: لا إله إلا الله فقد عصم ماله ودمه) فقد جاء في رواية تفسير علي بن ابراهيم القمي بصيغة (وإني أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله). وهو مبدأ له ثلاثة أبعاد:

الأول:

أن من أعلن الشهادتين من أي دين أو قبيلة كان فهو مسلم، يحرم ماله ودمه وعرضه، إلا إذا انطبقت عليه مواد الفئة الباغية، أو المفسد في الأرض، أو قتل أحداً عمداً، أو ارتد عن الإسلام، أو زنى وهو محصن...

الثاني:

أن أهل الكتاب مستثنوْن من هذه القاعدة، والموقف منهم في الحرب والسلم حسب أحكام التعايش الإسلامية الخاصة بهم.

الثالث:

أن النبي صلى الله عليه وآله أشهد أمته أنه تقيد في الجهاد بأمر ربه عز وجل، ولم يتعداه .. فمهمته في الجهاد إنما كانت على تنزيل القرآن، وتحقيق إعلان الشهادتين فقط، أي لتكوين الشكل الكلي للأمة، ولم يؤمر بقتال المنحرفين، أو الذين يريدون أن ينحرفوا من المسلمين، لأن ذلك قتالٌ على التأويل، يكون من بعده، لا في عهده.

***


الصفحة 104

وأما المبدأ السابع (ختام النبوة به صلى الله عليه وآله وختام الأمم بأمته) فقد ورد في رواية مجمع الزوائد المتقدمة وغيرها (فقال لا نبي بعدي، ولا أمة بعدكم، فاعبدوا ربكم، وأقيموا خمسكم، وصوموا شهركم، وأطيعوا ولاة أمركم، ثم ادخلوا جنة ربكم).

وهو مبدأ هيمنة شريعته صلى الله عليه وآله على شرائع الأنبياء السابقين عليهم السلام.. وردُّ مدعي النبوة الكذابين، الذين ظهر بعضهم في زمنه صلى الله عليه وآله، وظهر عددٌ منهم بعده.

كما أنه يعطي الأمة الإسلامية شرف ختام أمم الأنبياء عليهم السلام، ويلقي عليها مسؤولية هذه الخاتمية في هداية الأمم الأخرى.

وقد حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم الخطوط العامة بعبادة الله تعالى والصلاة والصوم وإطاعة ولي الأمر.. ولكن لا يبعد أن الراوي نقل ماحفظه من كلامه صلى الله عليه وآله ونسي بعضه كالزكاة والحج.

ومن الملاحظ في هذه المبدأ وجود فريضة إطاعة ولي الأمر على لسان النبي صلى الله عليه وآله وإذا أوجب الله تعالى إطاعة أحدٍ بدون شروط، فمعناه أنه معصومٌ لا يظلم ولا يأمر ولا ينهى إلا بالحق.. وبما أن النص النبوي لم يذكر شروطاً لإطاعة أولي الأمر، فيكون مقصوده الإثني عشر إماماً المعينين من الله تعالى، الذين بشر الأمة بهم.

***

وأما المبدأ الثامن (شهادة النبي صلى الله عليه وآله على الأمة في الآخرة، وموافاتها له على الحوض) فقد ورد في مصادر متعددة كما مر، وفي بعضها (ألا وإني فرطكم علىالحوض وأكاثر بكم الأمم، فلا تسودوا وجهي) وفي بعضها (وإني مكاثرٌ بكم الأمم، فلا تقتتلن بعدي) وهو أسلوبٌ نبوي فريدٌ في التأكيد على الأمة في وداعها، بأنها ستوافي نبيها بين يدي ربها، ويكون كل فردٍ منها بحاجة ماسةٍ الى أن يسقى من حوض الكوثر، شربةً لا يظمأ الإنسان بعدها أبداً، ويصلح بها بدنه لدخول الجنة.

فهذا التوجيه منه صلى الله عليه وآله كمثل أبٍ يقول لأولاده: إعملوا بوصيتي، فإني مسافرٌ عنكم، وسوف أرجع اليكم وآتي بأموالٍ كثيرة، وتكونون في حالة فقرٍ شديدة، وسأعرف من يعمل بوصيتي منكم، ومن يخالفني!


الصفحة 105

وأما المبدأ التاسع (تحذير الأمة من محقرات الأعمال) ففيه إلفاتٌ الى قاعدة مهمة في السلوك الفردي والإجتماعي، وهي أن الإنحراف يبدأ بأمر صغير، أو أمور تبدو بسيطة، يحتقرها الإنسان ولا يراها مهمةً في ميزان التقوى.. وإذا بها تستتبع أموراً أخرى، وتجره الى هاوية الهلاك الأخروي، أو الدنيوي!

وهو أمرٌ مشاهد سواءً في حالات الهلاك الفردي أو الإجتماعي..

فقد يتسامح المسلم في النظر الى امرأة أجنبية تعجبه، ويتسامح في الحديث معها، ثم في التصرف.. حتى ينجر أمره الى الفاحشة!

وقد يتسامح في اتخاذ صديق سوء، ولا ينصت الى صوت ضميره الديني، ونصح ناصحيه.. حتى يغرق معه في بحر ظلمه للناس، أو بحر انحرافه ورذيلته!

وقد تتسامح الأمة في اعتداء الأجانب عليها، أو في نفوذهم السياسي، أو الإقتصادي أو الثقافي في بلادها.. فينجر الأمر الى تسلطهم على مقدراتها، وسيطرتهم عليها!

أو يتسامح المجتمع في مظهر من مظاهر الفساد والمنكر أول ما يحدث في محلة أو منطقة منه، أو في فئة من فئاته..

أو يتسامح المجتمع في شروط حاكمه، ووزرائه وقضاته، أو في ظلمهم وسوء سيرتهم.. فينجر ذلك الى شمول الفساد في المجتمع، وتسارع هلاكه!

فالمحقرات من الذنوب هي المواقف أو التصرفات الصغيرة، التي تكون في منطق الأحداث والتاريخ بذوراً غير منظورة، لشجرة شرٍّ كبيرة، على المستوى الفردي أو الإجتماعي!!

وبهذا ورد تفسيرها عن النبي صلى الله عليه وآله في مصادر الطرفين..

ـ ففي الكافي 2|288، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله نزل بأرض قرعاء، فقال لأصحابه: إئتوا بحطبٍ، فقالوا: يارسول الله نحن بأرضٍ قرعاء ما بها من حطب! قال: فليأت كل إنسانٍ بما قدر عليه، فجاؤوا به حتى رموا بين يديه، بعضه على بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هكذا تجتمع الذنوب، ثم قال: إياكم والمحقرات


الصفحة 106

من الذنوب، فإن لكل شيء طالباً، ألا وإن طالبها يكتب ما قدموا وآثارهم، وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. انتهى.

ـ وفي سنن البيهقي: 10|188

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إياكم ومحقرات الأعمال، إنهن ليجمعن على الرجل حتى يهلكنه، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً، كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم، فجعل الرجل يجىَ بالعويد، والرجل يجىَ بالعويد، حتى جمعوا من ذلك سواداً، ثم أججوا ناراً، فأنضجت ما قذف فيها. انتهى.

وهذان الحديثان الشريفان ناظران الى التراكم الكمي للذنوب والأخطاء المحقرة، وكيف تتحول الى خطر نوعي في حياة الفرد والمجتمع.

وقد يكون الحديثان التاليان ناظرين الى التراكم الكيفي في نفس الإنسان والمجتمع، وشخصيتهما..

ـ ففي الكافي: 2|287

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: اتقوا المحقرات من الذنوب، فإنها لا تغفر! قلت: وما المحقرات؟ قال: الرجل يذنب الذنب فيقول: طوبى لي لو لم يكن لي غير ذلك!

ـ وفي سنن ابن ماجة: 2|1417

عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً. في الزوائد: إسناده صحيح، رجاله ثقات. انتهى. ورواه الدارمي: 2|303، وأحمد: 6|70 و 151

ومن القواعد الهامة التي نفهمها من هذا التوجيه النبوي: أن الشيطان عندما ييأس من السيطرة على أمة في قضاياها الكبيرة، يتجه الى التخريب والإضلال عن طريق المحقرات! (ألا إن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلدكم هذا أبداً، ولكن سيكون له طاعةٌ في بعض ما تحتقرون من أعمالكم، فيرضى بها (سنن ابن ماجة: 2|1015)


الصفحة 107

فقد كان الإسلام الذي أنزله الله تعالى، وبناه رسوله صلى الله عليه وآله صرحاً كبيراً وقلعةً محكمة، يئس الشيطان من قدرته على هدمها، فاتجه الى إقناع شخص من أهلها بسحب حجر واحدٍ صغير من جنب الجدار، ثم حجرٍ آخر.. وآخر.. حتى يفرغ تحت الأساس فينهار الصرح على من فيه!

ومن الأمور الملفتة التي وردت في التوجيه النبوي في رواية علي بن ابراهيم أن إطاعة الشيطان في محقرات الذنوب عبادةٌ له، فالذين يبدؤون بالإنحراف في مجتمع، إنما يعبدون الشيطان ولا يعبدون الله تعالى، وهم بدعوتهم الى انحرافهم يدعون الأمة العابدة لله تعالى الى عبادة الشيطان.. (ولكنه راض بما تحتقرون من أعمالكم، ألا وإنه إذا أطيع فقد عبد!).

كما أن شهادة النبي صلى الله عليه وآله بأن الشيطان راض بما تحتقرون من أعمالكم، شهادةٌ خطيرة يخبر بها عن ارتياح الشيطان من نجاحه في مشروعه في إضلال الأمة، وهدم صرحها عن طريق المحقرات.. وهو ينفع في تفسير قوله تعالى: ولقد صدق عليهم ابليس ظنه فاتبعوه إلا فريقاً من المؤمنين. سبأ ـ 20

أما أهل البيت عليهم السلام فقد اعتبروا أن طمع الأمة بالسلطة بعد النبي صلى الله عليه وآله وصراعها عليها، كان أعظم المحقرات التي ارتكبتها بعد نبيها.. ففي بحار الأنوار: 28|217 عن الإمام الباقر عليه السلام قال في تفسير قوله تعالى: ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس قال: ذلك والله يوم قالت الأنصار: منا أميرٌ ومنكم أمير! انتهى.

***

وأما المبدأ العاشر (تحذير النبي صلى الله عليه وآله من الكذب عليه) فقد ورد في روايتي أحمد المتقدمتين وغيرهما، ووردت فيه أحاديث كثيرة مشددة في مصادر الشيعة والسنة، تدل على أن هذه المشكلة كانت موجودة في حياة النبي صلى الله عليه وآله، وأنه أخبر بأنها ستزداد من بعده، ويكثر الكذابون عليه!


الصفحة 108

والمتأمل في هذه المشكلة ينفر من هؤلاء الكذابين، لأن عملهم عملٌ شيطاني من شأنه أن يشوه الإسلام ويزوره، ويمنع وصوله الى الأجيال.. خاصة أن النبي صلى الله عليه وآله لم يكن مأموراً بفتح جبهة داخلية مع أصحابه أبداً، ولم يؤمر بفضح هؤلاء الكذابين ولا بمعاقبتهم على كذبهم الماضي أو الآتي!!

فهل يكفي في معالجة المشكلة تحذير الكذابين، وتحذير الأمة منهم؟!

من الواضح أن ذلك العلاج لا يؤثر إلا تقليل حجم المشكلة الكمي، ولذا فإن تصريح النبي صلى الله عليه وآله بوجودها، وإخباره باستمرارها وتفاقمها بعده، دليلٌ على أنه وضع لها بأمر ربه الحكيم، علاجاً كافياً..

وقد كان العلاج وجوب عرض أحاديثه التي تروى عنه على الثقلين اللذين تركهما في الأمة وأوصاها بهما.. فكل حديث خالف كتاب الله تعالى فهو زخرفٌ باطل، يستحيل أن يكون صادراً من النبي صلى الله عليه وآله، لأنه لا يقول مايخالف القرآن.. وكل حديث يخالف ماثبت عن عترته الذين هم مع القرآن، فهو باطلٌ أيضاً لأنهم مع القرآن دائماً، ولأنهم ورثة النبي صلى الله عليه وآله والمبينون علومه للأمة من بعده.

الأساس الثالث: وحدة شريعة المسلمين وثقافتهم

وقد وردت مبادىَ هذا الأساس في فقرات متعددة من خطب حجة الوداع، ذكرنا منها أداء الأمانة وتشريعات الإرث والديات والحج.. ويوجد في الخطب الشريفة تشريعاتٌ أخرى أيضاً.

ومن الواضح أن العامل الأساسي في وحدة ثقافة الأمة الإسلامية على اختلاف بلادها وقومياتها، هو وحدة عقيدتها وشريعتها.. وأن كل الدول والحضارات لم تستطع أن تحقق بين الشعوب التي شملتها ماحققه الإسلام من وحدة في التصور والسلوك، مازالت قائمة الى اليوم بين شعوبه، رغم كل العوامل المضادة!


الصفحة 109

الأساس الرابع: مبادىَ مسيرة الدولة والحكم بعد النبي صلى الله عليه وآله

ـ مبدأ البشارة بالأئمة الإثني عشر من عترته.

ـ مبدأ التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة.

ـ مبدأ إعلان علي ولياً للأمة من بعده، والإمام الأول من الإثني عشر.

ـ مبدأ أداء الفرائض، وإطاعة ولاة الأمر.

ـ مبدأ تخليد تعاهد قريش على حصار بني هاصم.

ـ مبدأ تحذير قريش أن تطغى من بعده صلى الله عليه وآله.

ـ مبدأ تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة.

وقد تقدم البحث في حديث الأئمة الإثني عشر، الذي شهدت رواياته بأنه صدر في خطب حجة الوداع.

والعاقل لا يمكنه أن يقبل أن النبي صلى الله عليه وآله قد أخفى هوية هؤلاء الأئمة الإثني عشر المعينين من الله تعالى.. أو أنه طرح موضوعهم وهو يودع الأمة لمجرد إخبارها بوجودهم، كما تدعي قريش ورواتها!

وأما المبدأ الثاني من هذا الأساس (التأكيد على الثقلين: القرآن والعترة) فقد روتها مصادرنا في خطبة الغدير، وفي خطبة مسجد الخيف أيضاً، وربما في غيرها من خطب حجة الوداع، كما تقدم في رواية تفسير علي بن ابراهيم.

أما مصادر السنيين فقد روت بشكل واسع تأكيد النبي صلى الله عليه وآله على الثقلين القرآن والعترة في خطبة غدير خم فقط، وصححوا روايتها، وقد تقدم أن الطبري المعروف قد ألف كتاباً من مجلدين جمع فيه أحاديث الغدير وطرقها وأسانيدها.

أما في بقية خطب حجة الوداع، فقد رواها من صحاحهم المعروفة الترمذي في سننه: 5 | 328 عن جابر بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول:

يا أيها الناس، إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل 


الصفحة 110

بيتي. وفي الباب عن أبي ذر، وأبي سعيد، وزيد بن أرقم، وحذيفة بن أسيد. هذا حديث غريب حسن، من هذا الوجه. وزيد بن الحسن قد روى عنه سعيد بن سليمان، وغير واحد من أهل العلم. انتهى.

ومن الملاحظ أن عدداً من المصادر السنية روت وصية النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع بالكتاب وحده، بدون العترة!

ففي صحيح مسلم: 4|41 (وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله) ومثله في أبي داود: 1|427، وسنن البيهقي: 5|8، ونحوه في ابن ماجة: 2|1025، وفي مجمع الزوائد: 3|265: بصيغة (أيها الناس إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله فاعملوا به).

والمتتبع لأحاديث الباب يطمئن بأن الذي حصل هو إسقاط العترة من الرواية التي رواها هؤلاء، إما لنسيان الراوي، أو بسبب رقابة قريش على خطب نبيها صلى الله عليه وآله!

والدليل على ذلك: أن نفس المصادر التي روت هذا الحديث ناقصاً في حجة الوداع، روته تاماً في غيرها، فيحمل الناقص على التام!

فقد روى مسلم والبيهقي وابن ماجة والهيثمي بروايات متعددة، وصية النبي صلى الله عليه وآله بالقرآن والعترة معاً، وتأكيداته المتكررة على ذلك..

ـ ففي صحيح مسلم: 7|122:

عن زيد بن أرقم (قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً، بين مكة والمدينة، فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ وذكر، ثم قال:

أما بعد، ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله، واستمسكوا به فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال:

وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي.


الصفحة 111

فقال له حصين: ومن أهل بيته يا زيد، أليس نساؤه من أهل بيته؟

قال: نساؤه من أهل بيته، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده.

قال: ومن هم؟

قال: هم آل علي، وآل عقيل، وآل جعفر، وآل عباس.

قال: كل هؤلاء حرم الصدقة؟

قال: نعم. انتهى.

ورواه البيهقي في سننه 7|30 و 10|114.

وفي مجمع الزوائد: 1|170: عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إني تركت فيكم خليفتين: كتاب الله، وأهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض. رواه الطبراني في الكبير ورجاله ثقات). ورواه بنحوه: 9|162 وقال: رواه أحمد وإسناده جيد.

وأما أبو داود فلم يرو حديثاً صريحاً في الثقلين، ولكنه عقد في سننه: 2|309 كتاباً باسم (كتاب المهدي) وروى فيه حديث الأئمة الإثني عشر وبشارة النبي صلى الله عليه وآله بالإمام المهدي وأنه من ذرية علي وفاطمة عليهما السلام، وروى عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جوراً). انتهى.

والذي يؤكد ما ذكرناه من أن الوصية بالعترة حذفت من خطب حجة الوداع: أن الكلام النبوي الذي هو جوامع الكلم، له خصائص عديدة يتفرد بها.. ومن خصائصه أنه يستعمل تراكيب معينة لمعان معينة، لا يستعملها لغيرها، فهو بذلك يشبه القرآن. وتركيب (ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي) خاصٌّ لوصيته للأمة بالقرآن والعترة، لم يستعمله صلى الله عليه وآله في غيرهما أبداً.. كما أن تعبير: إني تارك فيكم الثقلين لم يستعمله في غيرهما أبداً.

ولذلك عندما قال لهم في مرض وفاته: إيتوني بدواة وقرطاس أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً.. فهمت قريش أنه يريد أن يلزم المسلمين بإطاعة الأئمة من عترته


الصفحة 112

بشكل مكتوب، فرفضت ذلك بصراحةٍ ووقاحةٍ! وقد روى البخاري هذه الحادثة في ست أماكن من صحيحه!! وروت المصادر أن عمر افتخر في خلافته، بأنه بمساعدة قريش حال دون كتابة ذلك الكتاب!!

وغرضنا هنا أن نلفت الى أن ورود هذا التركيب في أكثر رواياتهم لخطب حجة الوداع للقرآن وحده دون العترة، يخالف الأسلوب النبوي، وتعبيره المبتكر في الوصية بهما معاً.. خاصةً وأن الترمذي رواهما معاً!

والنتيجة أن بشارة النبي صلى الله عليه وآله لأمته في حجة الوداع بالائمة الإثني عشر، ووصيته بالثقلين، وجعله عترته الطاهرين علياً وفاطمة والحسن والحسين عدلاً للقرآن في وجوب الإتباع، أمرٌ ثابتٌ في مصادر جميع المسلمين.. لا ينكره إلا من يريد أن يتعصب لقبيلة قريش، في مقابل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله.

وأما المبدأ الثالث من هذا الأساس (إعلان علي ولياً للأمة من بعده) فهو صريح حديث الغدير، ولا يتسع موضوعنا لذكر أسانيده ونصوصه، ودلالتها على ذلك.. وقد تكفلت بذلك المصادر الحديثية والكلامية، ومن أقدمها كتاب (الولاية) للطبري السني، ومن أواخرها كتاب الغدير للعلامة الأميني.

وأما المبدأ الرابع من هذا الأساس (تأكيده صلى الله عليه وآله على أداء الفرائض وإطاعة ولاة الأمر) فقد تقدم ذكره في فقرات الأساس الثاني، وقد اعترف الفخر الرازي وغيره في تفسير قوله تعالى (أطيعوا وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) بأن غير المعصوم لا يمكن أن يأمرنا الله تعالى بطاعته بدون شرط، لأنه يكون بذلك أمرَ بالمعصية! فلا بد أن يكون أولوا الأمر في الآية معصومين.. وكذلك الحديث النبوي الشريف في حجة الوداع، وغيرها.

وأما المبدأ الخامس من هذا الأساس (تخليده صلى الله عليه وآله مكان تعاهد قريش على حصار بني هاشم) فقد رواه البخاري في صحيحه: 5|92 قال:


الصفحة 113

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: منزلنا إن شاء الله إذا فتح الله، الخيف، حيث تقاسموا على الكفر. انتهى.

ورواه في: 4|246 و: 8|194 ورواه في: 2|158، بنص أوضح، فقال:

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم من الغد يوم النحر وهو بمنى: نحن نازلون غداً بخيف بني كنانة، حيث تقاسموا على الكفر. يعني بذلك المحصب، وذلك أن قريشاً وكنانة تحالفت على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب، أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا إليهم النبي صلى الله عليه وسلم!!. انتهى.

ورواه مسلم: 4|86، وأحمد: 2|322 و 237 و 263 و 353 و 540

ورواه البيهقي في سننه: 5|160، بتفاوت وقال (أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح من حديث الأوزاعي) وقد رواه مسلم عن الأوزاعي، ولكن البخاري لم يروه عنه، بل عن أبي هريرة، ولم نجد في طريقه الأوزاعي، فهو اشتباهٌ من البيهقي، أو سقطٌ من نسخة البخاري التي بأيدينا.

وفي رواية البيهقي عن الأوزاعي زيادة (أن لا يناكحوهم، ولا يكون بينهم شيء حتى يسلموا اليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم).

كما أن في رواياتهم تفاوتاً في وقت إعلان النبي صلى الله عليه وآله للمسلمين عن مكان نزوله في منى، فرواية البخاري تذكر أنه أعلن ذلك في منى بعد عرفات، بينما تذكر رواية الطبراني أنه أعلن ذلك في مكة قبل توجهه الى الحج.. وهذا أقرب الى اهتمامه صلى الله عليه وآله بالموضوع، وحرصه على تركيزه في أذهان المسلمين، خاصةً أنه نزل في هذا المنزل، وبات فيه ليلة عرفات، وهو في طريقه اليها، وقد تقدم ذلك في رواية الدارمي، ثم نزل فيه طيلة أيام التشريق! قال في مجمع الزوائد: 3|250:

عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل يوم التروية بيوم: منزلنا غداً إن شاء الله بالخيف الأيمن، حيث استقسم المشركون. رواه الطبراني في الكبير والأوسط، ورجاله ثقات. انتهى.


الصفحة 114

والمسألة المهمة هنا: هي هدف الرسول أن يذكِّر قريشاً والمسلمين بحادثةٍ عظيمة وقعت فيهذا المكان، قبل نحو أربع عشرة سنة من ذلك اليوم فقط! هذه الحادثة التي تريد قريش أن تدفنها وأن ينساها الناس، ويريد الله ورسوله أن تخلد في ذاكرة المسلمين والتاريخ، وكلها عارٌ على قريش، وفخرٌ للنبي صلى الله عليه وآله وبني هاشم.. وهي صورةٌ عن جهود فراعنة قريش، حيث استطاعوا أن يحققو إجماع قبائلهم، ويقنعوا قبائل كنانة القريبة من الحرم بتنفيذ مقاطعة تامة على بني هاشم!!

وقد نفذوها لسنين طويلة وضيقوا عليهم اقتصادياً واجتماعياً تضييقاً تاماً، حتى يتراجع محمد عن نبوته، أو يسلمه بنو هاشم الى قريش ليقتلوه!!

وقد اعتبر الفراعنة يومذاك أنهم نجحوا نجاحاً كبيراً وحققوا إجماع قريش وكنانة على هذا الهدف الشيطاني، وكان مؤتمرهم لذلك في المحصب في خيف بني كنانة حيث تقاسموا باللات والعزى على هدفهم، وبدؤوا من اليوم الثاني بتنفيذه، واستمر حصارهم ومقاطتهم نحو أربع سنوات الى قبيل هجرته صلى الله عليه وآله من مكة!!

وقد تضامن بنو هاشم مع النبي صلى الله عليه وآله مسلمهم وكافرهم وتحملوا سنوات الحصار والفقر والأذى والإهانة، في شعب أبي طالب، ولم يشاركهم في ذلك أحد من المسلمين.. حتى فرج الله عنهم بمعجزة!

لقد أراد النبي صلى الله عليه وآله أن يوعي المسلمين الجدد على تاريخ الإسلام، وتكاليف الوحي، ليعرفوا قيمته.. ويوعيهم على معدن الإسلام ومعدن الكفر ليعرفوهما!

كما أراد أن يبعث بذلك رسالةً الى بقية الفراعنة، الذين مازالوا أحياء من زعماء قريش، بأنهم قد تحملوا وزر هذا الكفر والعار، ثم ارتكبوا بعده ما هو أعظم منه، ولم يتراجعوا إلا عندما جمعهم في فتح مكة تحت سيوف الأنصار وسيوف بني هاشم، فأعلنوا إسلامهم خوفاً من القتل.. وها هم اليوم يخططون لوراثة دولة الإسلام التي بناها الله تعالى ورسوله، وهم كارهون!!

لقد أهلك الله تعالى عدداً قليلاً من أبطال ذلك الحلف الشيطاني، من سادة


الصفحة 115

هم!

وكانت تصرفاتهم الظاهرة والخفية، ومنطق الأمور، وشهادة أهل البيت، ومجرى التاريخ.. تدل على فرحهم بأن النبي صلى الله عليه وآله يعلن قرب موته ورحيله عنهم، وأنهم يعدون العدة لما بعده لحصار بني هاشم الجديد!!

فأراد النبي صلى الله عليه وآله أن يذكرهم بخطتهم في حصارهم القديم، وكيف أحبطه الله تعالى! وأنه سيحبط حصارهم الجديد أيضاً!!

وأما المبدأ السابع من هذا الأساس (تحذيره قريشاً أن تطغى من بعده وتفسد) فقد ذكرته أحاديث مصادرنا، وذكرته رواية الهيثمي المتقدمة في مجمع الزوائد عن فهد بن البحيري، الذي استمع على مايبدو الى خطبة يوم عرفة ونقل عن النبي صلى الله عليه وآله قوله (يامعشر قريش لا تجيئوا بالدنيا تحملونها على رقابكم وتجئ الناس بالآخرة، فإني لا أغني عنكم من الله شيئاً) انتهى.

ونشكر الله تعالى أن فهدا البحيري هذا كان بدوياً، ولم يكن قرشياً ولا كنانياً، وإلا لوضع هذه الرواية في رقبة بني هاشم، وأبعدها عن قريش، كما فعل الرواة القرشيون! فجعلونا نقرأ في مصادر إخواننا السنيين عشرات الأحاديث (الصحيحة ) في تحذير النبي صلى الله عليه وآله لبني هاشم وبني عبد المطلب وذمهم!! وعشرات الأحاديث في مدح قريش ووجوب أن تكون القيادة فيهم!! ولا تجد فيها حديثاً في ذم قريش إلا وقد أحبطوا معناه بحديث آخر، أو حولوه الى مدحٍ لقريش!!


الصفحة 116

وحديث ابن البحيري في حجة الوداع تحذيرٌ نبويٌّ لقريش في محله تماماً.. لأن قريشاً ذات موقع مميزٍ في العرب.. وهي المتصدية لقيادة عرب الجزيرة في حياة النبي صلى الله عليه وآله ومن بعده.. فالخطر على أهل بيته من قريش وحدها.. والتحريف الذي يخشى على الإسلام.. والظلم الذي يخشى على المسلمين إنما هو من قريش وحدها.. وبقية الناس تبعٌ لها!

والنبي صلى الله عليه وآله إنما هو مبلغٌ عن ربه، ومقيمٌ لحجة ربه، وعليه أن يحذر وينذر، ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.

وأما المبدأ الثامن من هذا الأساس (تحذيره الصحابة من الإرتداد والصراع على السلطة) فقد روته مصادر الجميع بصيغتين: مباشرة، وغير مباشرة..

أما غير المباشرة فهي قوله صلى الله عليه وآله (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد تقدم في نصوص الخطب أن ابن ماجة عقد في سننه: 2|1300 باباً تحت هذا العنوان وقال فيه إن النبي صلى الله عليه وآله (استنصت الناس فقال... ويحكم أو ويلكم، لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض... فلا تقتتلن بعدي).

وهذا يعني أن ذلك سوف يقع منهم، وقد أخبرهم أنهم سيفعلون، ولكنه صلى الله عليه وآله استعمل كل بلاغته وكل عاطفته، وكل موجبات الخوف والحذر.. ليقيم الحجة عليهم لربه عز وجل، حتى إذا وافوه يوم القيامة لا يقولوا: لماذا لم تحذرنا!

والذين يحذرهم من الإقتتال ليسوا إلا الصحابة لا غير .. لا غير.. لا اليهود ولا القبائل العربية، ولا حتى زعماء قريش بدون شركائهم من الصحابة..

فالدولة الإسلامية كانت قائمة، وقد حققت مركزيتها على كل الجزيرة، والخوف من الإقتتال بعد النبي صلى الله عليه وآله ليس من القبائل التي خضعت للاسلام طوعاً أو كرهاً، مهما كانت كبيرةً وموحدةً مثل هوازن وعطفان.. فهي لا تستطيع أن تطمح الى قيادة هذه الدولة، وإن طمحت فلا حظَّ لها في النجاح، إلا بواسطة الصحابة..


الصفحة 117

واليهود قد انكسروا وأجلى النبي صلى الله عليه وآله قسماً منهم من الجزيرة، ولم تبق لهم قوة عسكرية تذكر.. ومكائدهم وخططهم مهما كانت قويةً وخبيثةً، فلا حظَّ لها في النجاح إلا.. بواسطة الصحابة..

وزعماء قريش، مع أنهم يملكون جمهور قبائل قريش، فهم لا يستطيعون أن يدعوا حقاً في قيادة الدولة بعد النبي صلى الله عليه وآله لأنهم كلهم طلقاؤه، يعني كان للنبي صلى الله عليه وآله الحق في أن يقتلهم ، أو يتخذهم عبيداً، فاتخذهم عبيداً وأطلقهم.. فلا طريق لهم للقيادة إلا بواسطة العدد الضئيل من الصحابة، من القرشيين المهاجرين..

وبذلك يتضح أن تحذيره صلى الله عليه وآله من الصراع بعده على السلطة، ينحصر بالصحابة المهاجرين، ثم بالأنصار فقط.. وفقط !!

وهنا يأتي دور التحذير المباشر، الذي لا ينقصه إلا الأسماء الصريحة.. وقد جاء هذا الإعلان النبوي على شكل لوحةٍ من الغيب، عن النتيجة والمصير الذي يمشي اليه هؤلاء الصحابة المنحرفون المحرِّفون!

لوحةٌ أخبره بها جبرئيل عليه السلام عن الله تعالى، يومَ يجعل الله محمداً صلى الله عليه وآله رئيس المحشر، ويعطيه جبرئيل لواء الحمد، فيدفعه النبي الى علي بن أبي طالب، فهو حامل لوائه في الدنيا والآخرة، ويكون جميع أهل المحشر تحت قيادة محمد صلى الله عليه وآله.. ويفتخر به آدم عليه السلام، حتى يدعى أبا محمد.. صلى الله عليه وآله.

ويعطي الله تعالى رسوله الشفاعة وحوض الكوثر، فيفد عليه الوافدون من الأمم فيشفع لهم ويعطيهم بطاقة للشرب من حوض الكوثر، ليتغير بذلك الكأس تركيبهم الفيزيائي، وتصلح أجسادهم لدخول الجنة، والخلود في نعيمها..

وعندما يفد عليه أصحابه تحدث المفاجأة:

يأتي النداء الإلهي بمنع النبي صلى الله عليه وآله من الشفاعة لهم، ومنعهم من ورود الحوض، ويؤمر ملائكة العذاب بأخذهم الى جهنم !!

هذا هو مستقبل هؤلاء الصحابة على لسان أصدق الخلق!!


الصفحة 118

إنه صورةٌ رهيبةٌ، جاء بها جبرئيل الأمين، لكي يبلغها النبي صلى الله عليه وآله الى الأمة في حجة الوداع!!

إنها أعظم كارثةٍ على صحابةِ أعظم رسول صلى الله عليه وآله .. ولا بد أن سببها أنهم سوف يوقعون في أمته من بعده أعظم... كارثة!!

ولا ينجو من هؤلاء الصحابة إلا مثل (همل النعم) كما في روايات محبيهم الصحيحة بأشد شروط الصحة.. وهو تعبيرٌ نبويٌّ عجيب، لأن همل النعم هي الغنم أو الإبل الفالتة من القطيع، الخارجة على راعيه! وهو يدل على أن قطيع الصحابة في النار، وهملهم الذي يفلت منهم، يفلت من النار الى الجنة!!

بل ذكر النبي صلى الله عليه وآله أن الصحابة الجهنميين زمرتان، مما يدل على أنهم خطان من صحابته لاخطٌ واحد، وتقدم قول الحاكم عن حديثه: صحيحٌ على شرط الشيخين، وفيه (ثم أقبلت زمرةٌ أخرى ، ففعل بهم كذلك، فلم يفلت إلا كمثل النعم!!)

إنها مسألةٌ مذهلةٌ.. صعبةُ التصور والتصديق، خاصةً على المسلم الذي تربى على حب كل الصحابة، وخير القرون، والجيل الفريد، وحديث أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم.. وعلى الصور واللوحات الرائعة للصحابة، التي كبر معها وكبرت معه.. فإذا به يفاجأ بهذه الصورة الشيطانية المخيفة عنهم!!

لو كان المتكلم عن الصحابة غير الرسول صلى الله عليه وآله لقالوا عنه إنه عدوٌّ للإسلام ولرسوله يريد أن يكيد للإسلام عن طريق الطعن في صحابة الرسول.. صلى الله عليه وآله.

ولكن المتكلم هو.. الرسول صلى الله عليه وآله.. بعينه.. بنفسه.. وكلامه ليس اجتهاداً منه ولا رأياً رآه، حتى تقول قريش إنه يتكلم في الرضا والغضب، وكلامه في الغضب ليس حجة.. بل هو وحيٌ نزل عليه من رب العالمين!!

إنها حقيقةٌ مرةٌ.. ولكن هل يجب أن تكون الحقيقة دائماً حلوةً كما نشتهي.. وأن يكون الحق دائماً مفصلاً على مزاجنا، مطابقاً لموروثاتنا؟!

وماذا نصنع إذا كانت أحاديث الصحابة المطرودين، المرفوضين، الممنوعين من


الصفحة 119

ورود الحوض مستفيضةٌ في الصحاح، وهي في غير الصحاح أكثر.. وهي تصرح بأنه لاينجو منهم إلا مثل الهمل!!

ـ قال الجوهري في الصحاح: 5|1854

والهمل بالتحريك: الإبل التي ترعى بلا راع، مثل النفش ، إلا أن النفش لا يكون إلا ليلاً، والهمل يكون ليلاً ونهاراً. يقال: إبلٌ هملٌ وهاملة وهمال وهوامل.

وتركتها هملاً أي سدى، إذا أرسلتها ترعى ليلاً ونهاراً بلا راع.

وفي المثل: اختلط المرعي بالهمل. والمرعي الذي له راع. انتهى.

ولكن السؤال هو: لماذا طرح الرسول صلى الله عليه وآله موضوعهم في حجة الوداع؟!

الجواب: لأن الله تعالى أمره بذلك، فهو لا ينطق عن الهوى، ولا علم له من نفسه بما سيفعله أصحابه من بعده، ولا بما سيجري له معهم يوم القيامة!!

والسؤال الآخر: وماذا فعل الصحابة بعد الرسول؟ هل كفروا وارتدوا كما يقول الحديث؟ هل حرفوا الدين؟ هل اقتتلوا على السلطة والحكم؟!

والجواب: إقبل ما يقوله لك نبيك صلى الله عليه وآله، واسكت، ولا تصر رافضياً!

والسؤال الآخر: لماذا اختار الله تعالى هذا الأسلوب في التحذير، ولم يهلك هؤلاء الصحابة، الذين سينحرفون، أو يأمر رسوله بقتلهم، أو يكشفهم للمسلمين ليحذروهم!

والجواب: هذه سياسته سبحانه وتعالى في إقامة الحجة كاملة على العباد، وترك الحرية لهم.. ليحيى من حيَّ عن بينة، ويهلك من هلك عن بينة.. ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.. فهو سبحانه مالكهم له حق سؤالهم، وهو لا يفعل الخطأ حتى يحاسب عليه.. وهو أعلم، وغير الأعلم لا يمكنه أن يحاسب الأعلم ويسأله!

والسؤال الآخر: ماذا كان وقع ذلك على الصحابة والمسلمين؟! ألم يهرعوا الى الرسول صلى الله عليه وآله ليحدد لهم الطريق أكثر، ويعين لهم من يتبعونه بعده، حتى لا يضلهم هؤلاء الصحابة الخطرون؟!


الصفحة 120

والجواب: لقد عين لهم الثقلين من بعده: كتاب الله وعترته، وبشرهم باثني عشر إماماً يكونون منهم بعده..

وقبل حجة الوداع وبعدها ، طالما حدد النبي صلى الله عليه وآله لهم عترته وأهل بيته بأسمائهم: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، حتى أن الأحاديث الصحاح تقول إنه حددهم حسياً فأدار عليهم كساءً يمانياً، وقال للمسلمين: هؤلاء عترتي أهل بيتي!!

ولم يكتف بذلك حتى أوقف المسلمين في رمضاء الجحفة بغدير خم، وأخذ بيد علي عليه السلام وبلغ الأمة إمامته من بعده، ونصب له خيمةً، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بإمرة المؤمنين، ويباركوا له ولايته عليهم التي أمر بها الله تعالى.. فهنؤوه جميعاً وباركوا له، وأمر النبي صلى الله عليه وآله نساءه وكن معه في حجة الوداع، أن يهنئن علياً فجئن الى باب خيمته وهنأنه وباركن له.. معلناتٍ رضاهن بولايته على الأمة.

ثم أراد صلى الله عليه وآله في مرض وفاته أن يؤكد الحجة على الأمة بوثيقةٍ مكتوبة، فطلب منهم أن يأتوه بدواة وقرطاس ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً.. ولكنهم رفضوا ذلك بشدة! وقالوا له: شكراً أيها الرسول، لقد قررنا أن نضل، عالمين عامدين مختارين!! لأنا لانريد أن تكتب لنا أطيعوا بعدي عترتي علياً، ثم حسناً، ثم حسيناً، ثم تسعة من ذرية الحسين!

فهل تريد من نبيك صلى الله عليه وآله أن يقيم الحجة أكثر من هذا؟!

الأساس الخامس: عقوبة المخالفين للوصية النبوية بأهل بيته عليهم السلام

وهي عقوبةٌ أخروية، تتناسب مع مسؤولية النبي صلى الله عليه وآله في التبليغ، والشهادة على الأمة.. وقد جاءت شديدةً قاطعة، بصيغة قرارٍ من الله تعالى بلعن المخالفين لرسوله صلى الله عليه وآله في أهل بيته، وطردهم من الرحمة الإلهية، وحكماً بعدم قبول توبتهم نهائياً واستحقاقهم العذاب في النار .

وربما يزيد من شدتها، أنها كانت آخر فقرة من خطبته صلى الله عليه وآله!!


الصفحة 121

وقد تقدم نص هذه اللعنة النبوية في رواية تحف العقول من مصادرنا، وقد نصت مصادر السنيين على أنها صدرت من النبي صلى الله عليه وآله في حجة الوداع.

ـ ففي سنن ابن ماجة: 2|905

عن عمرو بن خارجة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته، وإن راحلته لتقصع بجرتها، وإن لغامها ليسيل بين كتفي، قال... ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ. أو قال: عدلٌ ولا صرفٌ.

ـ وفي سنن الترمذي: 3|293

عن أبي أمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته عام حجة الوداع.... ومن ادعى الى غير أبيه، أو انتمى الى غير مواليه، فعليه لعنة الله التابعة الى يوم القيامة.

ـ وفي مسند أحمد: 4|239

عن عمرو بن خارجة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمنى على راحلته، وإني لتحت جران ناقته، وهي تقصع بجرتها، ولعابها يسيل بين كتفي، فقال: ألا ومن ادعى الى غير مواليه رغبةً عنهم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. ورواه أحمد: 4|187 بلفظ: ألا ومن ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً أو عدلاً ولا صرفاً. انتهى. ورواه بعدة روايات في نفس الصفحة والتي قبلها، وفي ص 238 و 186، ورواه الدارمي في سننه: 2|244 و344، ومجمع الزوائد: 5|14، عن أبي مسعود، ورواه البخاري في صحيحه: 2|221، و: 4|67

ولعلك تسأل: ماعلاقة هذه اللعنة المشددة المذكورة في خطب حجة الوداع وغيرها بوصية النبي صلى الله عليه وآله بأهل بيته؟! فهي تنصب على الذي ينكر نسبه من أبيه وينسب نفسه الى شخص آخر، وعلى العبد الذي ينكر مالكه ويدعي أنه عبد


الصفحة 122

لشخص آخر، أو ينكر ولاءه وسيده الذي أعتقه، ويدعي أن ولاءه لشخص آخر!

فهذا هو معنى (من ادعى لغير أبيه أو تولى غير مواليه) !

والجواب: أن مقصود النبي صلى الله عليه وآله بالأبوة في هذه الأحاديث الشريفة: أبوته هو المعنوية للأمة، وبالولاء: ولايته وولاية أهل بيته عليها، وليس مراده الأبوة النسبية وولاء المالك لعبده !

والدليل على ذلك: لو أن ولداً هرب من أبيه، وسجل نفسه باسم والدٍ آخر، ثم تاب من فعلته وصحح هويته، واستغفر الله تعالى.. فإن الفقهاء جميعاً يفتون بأن توبته تقبل !

ولو أن عبداً مملوكاً هرب من سيده ولجأ الى شخص، وادعى أنه سيده، وبعد مدة رجع الى سيده واستغفر الله تعالى.. فإن الفقهاء يفتون بأن توبته تقبل.

بينما الشخص الملعون في كلام النبي صلى الله عليه وآله مصبوبٌ عليه الغضب الإلهي الى الأبد! (فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً). والصرف هو التوبة ، والعدل الفدية، وقد فسرتهما الأحاديث الشريفة بذلك.

فهذه العقوبة الإلهية المذكورة في خطب حجة الوداع، إنما تصح لحالات الخيانة العظمى، مثل الإرتداد وشبهه، ولا يعقل أن تكون لولدٍ جاهلٍ يدعو نفسه لغير أبيه، أو لعبدٍ مملوكٍ أو مظلومٍ يدعو نفسه لغير سيده!

ويؤيد ذلك أن بعض رواياتها صرحت بكفر من يفعل ذلك، وخروجه من الإسلام! كما في سنن البيهقي: 8|26، ومجمع الزوائد: 1|97، وكنز العمال: 5|872. وفي كنز العمال: 10 | 324 (من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. أحمد عن جابر).

ـ وفي|326 (من تولى غير مواليه فليتبوأ بيتاً في النار. ابن جرير عن عائشة)

ـ وفي|327 (من تولى غير مواليه فقد كفر. ابن جرير عن أنس).

ـ وفي: 16|255 (ومن تولى غير مواليه فهو كافر بما أنزل الله على رسوله. ش)


الصفحة 123

ولا نحتاج الى تتبع هذه الأحاديث في مصادرها وأسانيدها، لأنها مؤيداتٌ لحكم العقل القطعي بأن مقصوده صلى الله عليه وآله لا يمكن أن يكون الأب النسبي، ومالك العبد.

ويؤيد ذلك أيضاً: أن بعض رواياته كالتي مرت آنفاً وغيرها من روايات أحمد، ليس فيها ذكر للولد والوالد، بل اقتصرت على ذكر العبد الذي هو أقل جرماً من الولد ومع ذلك زادت العقوبة واللعنة عليه، ولم تخففها!

ويؤيد ذلك أيضاً: أن هذه اللعنة وردت في بعض روايات الخطب الشريفة، بعد ذكر ماميز به الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام من مالية خاصة هي الخمس، وحرم عليهم الصدقات والزكوات !

ـ ففي مسند أحمد: 4|186

خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته فقال: ألا إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، وأخذ وبرةً من كاهل ناقته، فقال: ولا ما يساوي هذه، أو ما يزن هذه. لعن الله من ادعى الى غير أبيه، أو تولى غير مواليه. انتهى.

ورواه في كنز العمال: 5 | 293، وفي كنز العمال: 10|235 (ومن تولى غير مواليه، فليتبوأ بيتاً في النار . ابن عساكر عن عائشة) انتهى.

أما في مصادر أهل البيت عليهم السلام فالحديث ثابتٌ عنه صلى الله عليه وآله في خطب حجة الوداع في المناسك.. وهو أيضاً جزءٌ من حديث الغدير..

ـ ففي بحار الأنوار: 37|123

عن أمالي المفيد، عن علي بن أحمد القلانسي، عن عبدالله بن محمد، عن عبد الرحمان بن صالح، عن موسى بن عمران، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله بغدير خم يقول: إن الصدقة لا تحل لي ولا لأهل بيتي، لعن الله من ادعى الى غير أبيه، لعن من تولى الى غير مواليه، الولد لصاحب الفراش وللعاهر الحجر، وليس لوارث وصية.


الصفحة 124

ألا وقد سمعتم مني، ورأيتموني.. ألا من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار.

ألا وإني فرطكم على الحوض ومكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة، فلا تسودوا وجهي.

ألا لأستنقذن رجالاً من النار، وليستنقذن من يدي أقوامٌ.

إن الله مولاي، وأنا مولى كل مؤمن ومؤمنة.

ألا من كنت مولاه فهذا علي مولاه. انتهى.

وروى نحوه في|186، عن بشارة الإسلام .

ـ وقال ابن البطريق الشيعي في كتابه العمدة|344

وأما الأخبار التي تكررت من الصحاح من قول النبى صلى الله عليه وآله: لعن الله من انتمى الى غير أبيه، أو توالى غير مواليه، فهي من أدل على الحث على اتباع أمير المؤمنين عليه السلام والأمر بولائه دون غيره، يريد بقوله: من تولى غير مواليه يعني نفسه صلى الله عليه وآله وعلياً عليه السلام بعده، بدليل ماتقدم من الصحاح من غير طريق، في فصل مفرد مستوفى، وهو قول النبي صلى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، ثم قال مؤكداً لذلك: اللهم وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله.

فمن كان النبى صلى الله عليه وآله مولاه فعلي مولاه، ومن كان مؤمناً فعلي مولاه أيضاً، بدليل ماتقدم من قول عمر بن الخطاب لعلي لما قال له النبي صلّى الله عليه وآله: من كنت مولاه فعلي مولاه، فقال له عمر: بخٍ بخٍ لك يا علي، أصبحت مولى كل مؤمن و مؤمنة. وفي رواية: مولاي ومولى كل مؤمنة ومؤمن.

وهذه منزلة لم تكن إلا لله سبحانه وتعالى، ثم جعلها الله لرسوله صلى الله عليه وآله ولعلي عليه السلام بدليل قوله تعالى: إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكوة وهم راكعون...

وقوله صلى الله عليه وآله: من انتمى الى غير أبيه فالمراد به: من انتمى الى غير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في الولاء، مأخوذٌ من قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فعلى عاق والديه لعنة الله. انتهى.


الصفحة 125

كما ورد في مصادر الفريقين أن هذا الحديث جزءٌ مما كان مكتوباً في صحيفة صغيرة معلقة في ذؤابة سيف النبي صلى الله عليه وآله الذي ورَّثه لعلي عليه السلام.. فقد رواه البخاري في صحيحه: 4|67، ومسلم: 4|115، و 216، بعدة روايات، والترمذي: 3|297.. ورواه غيرهم أيضاً، وأكثروا من روايته، لأن الراوي ادعى فيه على لسان علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وآله لم يورث أهل بيته شيئاً من العلم، إلا القرآن وتلك الصحيفة المعلقة في ذؤابة السيف!!

وقد وجدنا أن النبي صلى الله عليه وآله أطلق هذه اللعنة في مناسبة رابعة، عندما كثر طلقاء قريش في المدينة، وتصاعد عملهم مع المنافقين ضد أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وقالوا: (إنما مثل محمد في بني هاشم كمثل نخلة نبتت في كبا، أي مزبلة) فبلغ ذلك النبي فغضب، وأمر علياً أن يصعد المنبر ويجيبهم!!

ـ فقد روى في بحار الأنوار: 38|204

عن أمالي المفيد، عن محمد بن عمر الجعابي، عن ابن عقدة، عن موسى بن يوسف القطان، عن محمد بن سليمان المقري، عن عبد الصمد بن علي النوفلي، عن أبي إسحاق السبيعي، عن الأصبغ بن نباتة قال:

لما ضرب ابن ملجم لعنه الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، غدونا نفر من أصحابنا أنا والحارث وسويد بن غفلة، وجماعة معنا، فقعدنا على الباب، فسمعنا البكاء فبكينا، فخرج إلينا الحسن بن علي فقال: يقول لكم أميرالمؤمنين: انصرفوا الى منازلكم، فانصرف القوم غيري فاشتد البكاء من منزله فبكيت، وخرج الحسن وقال: ألم أقل لكم: انصرفوا؟ فقلت: لا والله ياابن رسول الله لا تتابعني نفسي ولا تحملني رجلي أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين عليه السلام.

قال: فبكيت، ودخل فلم يلبث أن خرج فقال لي: أدخل، فدخلت على أميرالمؤمنين عليه السلام فإذا هو مستند معصوب الرأس بعمامة صفراء، قد نزف واصفر وجهه، ما أدري وجهه أصفر أو العمامة؟ فأكببت عليه فقبلته وبكيت.


الصفحة 126

فقال لي: لا تبك يا أصبغ ، فإنها والله الجنة.

فقلت له: جعلت فداك إني أعلم والله أنك تصير الى الجنة، وإنما أبكي لفقداني إياك يا أمير المؤمنين. جعلت فداك حدثني بحديث سمعته من رسول الله، فإني أراك لا أسمع منك حديثاً بعد يومي هذا أبداً، قال:

نعم يا أصبغ: دعاني رسول الله صلى الله عليه وآله يوماً فقال لي: ياعلي انطلق حتى تأتي مسجدي، ثم تصعد منبري، ثم تدعو الناس إليك، فتحمد الله تعالى وتثني عليه وتصلي عليَّ صلاةً كثيرة، ثم تقول:

أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي على من انتمى الى غير أبيه أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.

فأتيت مسجده وصعدت منبره ، فلما رأتني قريش ومن كان في المسجد أقبلوا نحوي فحمدت الله وأثنيت عليه، وصليت على رسول الله صلى الله عليه وآله صلاةً كثيرةً، ثم قلت:

أيها الناس إني رسول رسول الله إليكم، وهو يقول لكم: ألا إن لعنة الله ولعنة ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين ولعنتي، على من انتمى الى غير أبيه، أو ادعى الى غير مواليه، أو ظلم أجيراً أجره.

قال: فلم يتكلم أحدٌ من القوم إلا عمر بن الخطاب، فإنه قال: قد أبلغت يا أبا الحسن، ولكنك جئت بكلامٍ غير مفسر، فقلت: أُبْلِغُ ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله.

فرجعت الى النبي صلى الله عليه وآله فأخبرته الخبر، فقال : إرجع الى مسجدي حتى تصعد منبري، فاحمد الله وأثن عليه وصل علي، ثم قل :

أيها الناس، ما كنا لنجيئكم بشيء إلا وعندنا تأويله وتفسيره، ألا وإني أنا أبوكم ألا وإني أنا مولاكم، ألا وإني أنا أجيركم. انتهى.

وقد وجدنا لهذا الحديث مناسبة خامسة أيضاً، فقد روى فرات بن ابراهيم الكوفي في تفسيره|392 قال: حدثنا عبد السلام بن مالك قال: حدثنا محمد بن موسى بن 


الصفحة 127

أحمد قال: حدثنا محمد بن الحارث الهاشمي قال: حدثنا الحكم بن سنان الباهلي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح قال: قلت لفاطمة بنت الحسين : أخبريني جعلت فداك بحديث أحدث، واحتج به على الناس.

قالت: نعم، أخبرني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله كان نازلاً بالمدينة، وأن من أتاه من المهاجرين عرضوا أن يفرضوا لرسول الله صلى الله عليه وآله فريضة يستعين بها على من أتاه، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وقالوا: قد رأينا ما ينوبك من النوائب، وإنا أتيناك لتفرض فريضة تستعين بها على من أتاك.

قال: فأطرق النبي صلى الله عليه وآله طويلاً ثم رفع رأسه فقال: إني لم أؤمر أن آخذ منكم على ما جئتم به شيئاً، إنطلقوا فإني لم أؤمر بشئ، وإن أمرت به أعلمتكم.

قال: فنزل جبرئيل عليه السلام فقال: يامحمد إن ربك قد سمع مقالة قومك وما عرضوا عليك، وقد أنزل الله عليهم فريضة: قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى.

قال فخرجوا وهم يقولون: ما أراد رسول الله إلا أن تذل الأشياء، وتخضع الرقاب مادامت السماوات والأرض لبني عبد الطلب.

قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وآله الى علي بن أبي طالب أن اصعد المنبر وادع الناس إليك ثم قل : أيها الناس من انتقص أجيراً أجره فليتبوأ مقعده من النار، ومن ادعى الى غير مواليه فليتبوأ مقعده من النار، ومن انتفى من والديه فليتبوأ مقعده من النار.

قال: فقام رجلٌ وقال: يا أبا الحسن ما لهن من تأويل؟ فقال: الله ورسوله أعلم. فأتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره، فقال رسول الله: ويلٌ لقريشٍ من تأويلهن، ثلاث مرات! ثم قال: يا علي انطلق فأخبرهم أني أنا الأجير الذي أثبت الله مودته من السماء، ثم أنا وأنت مولى المؤمنين، وأنا وأنت أبوا المؤمنين. انتهى.

***


الصفحة 128

الصفحة 129


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net