متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
3 - الإمام علي عليه السلام وحربه مع معاوية
الكتاب : أهل البیت تنوع أدوار و وحدة هدف    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

- 2 -

بسم الله الرحمن الرحيم

20/ شهر رمضان /1388 هجري

 

كنا نتحدث عن تلك الظاهرة الفريدة في المرحلة التي قضاها الامام (ع) حاكماً متصرفاً ومصرفاً لشؤون المسلمين.

هذه الظاهرة الفريدة هي ما المحنا اليها من أن الامام (ع) كان حريصاً كل الحرص على اعطاء العناوين الاولية للصيغة الاسلامية للحياة، والوقوف على التكليف الواقعي الاولي بحسب مصطلح الاصوليين، دون تجاوزه الى ضرورات استثنائية تفرضها طبيعة الملابسات والظروف.

قلنا ان هذه النقطة بحثت من الناحية الفقهية ومن الناحية السياسية معاً، فقيل مثلاً:

لماذا لم يرتض الامام بأنصاف الحلول او بشيء من المساومة ؟

لماذا لم يسكت؟

لماذا لم يُمضِ ولو بصورة مؤقتة الجهاز الفاسد الذي تركه وخلفه عثمان بعد موته؟

لماذا لم يُمضِ الجهاز حتى اذا اطاعه هذا الجهاز واسلم له القيادة بعد ذلك يستطيع ان يمارس بشكل اقوى واعنف عملية التصفية؟

كنا نعالج هذه المسألة وقلنا ان الجواب على هذا السؤال وتفسير هذه الظاهرة الفريدة في الحياة للإمام (ع) يتضح بمراجعة عدة نقاط استعرضنا من هذه النقاط اربع:

النقطة الاولى: هي ان الامام (ع) كان بحاجة الى انشاء جيش عقائدي في دولته الجديدة التي كان يخطط لإنشائها في العراق، وهذا الجيش العقائدي


{ 20 }

لم يكن موجوداً بل كان بحاجة الى تربية واعداد فكري ونفسي وعاطفي وهذا الاعداد كان يتطلب جواً مسبقاً صالحاً لان تنشأ فيه بذور هذا الجيش العقائدي. وهذا الجو ما لم يكن جواً كفاحياً رسالياً واضحاً، لا يمكن ان تنشأ في احضانه بذور ذلك الجيش العقائدي، لو افترضنا ان الجو كان جو المساومات وانصاف الحلول حتى في حالة كون انصاف الحلول تكتسب الصفة الشرعية بقانون التزاحم على ما ذكرناه حتى في هذه الحالة تفقد الصيغة مدلولها التربوي.

النقطة الثانية: هي ان الامام (ع) جاء لتسلم زمام الحكم في لحظة ثورة لا في لحظة اعتيادية، ولحظة الثورة تستبطن لحظة تركيز وتعبئة وتجمع كل الطاقات العاطفية والنفسية في الامة الاسلامية لصالح القضية الاسلامية فكان لا بد من اغتنام هذه اللحظة بكل ما تستنبطه من هذا الزخم الهائل عاطفياً ونفسياً وفكرياً.

النقطة الثالثة: التي ركزنا عليها، هي ان ظاهرة الشك في مجتمع الامام (ع) هذه الظاهرة التي بيناها في محاضرات سابقة وكيف انها عصفت بالتجربة واستطاعت ان تقضي على الآمال والاهداف التي كانت معقودة عليها، هذا الشك بالرغم من انه لم يكن يملك في سيرة الامام (ع) أي مبرر موضوعي، وكانت مبرراته ذاتية محضة بالنحو الذي شرحناه تفصيلاً فيما مضى فقد استفحل وطغى، فكيف لو افترضنا ان هذه المبررات الذاتية اضيفت اليها مبررات موضوعية من الناحية الشكلية، إذن لكان هذا الشك أسرع إلى الانتشار والتعمق والرسوخ وفي النهاية الى تقويض هذه التجربة.

النقطة الرابعة: التي ختمنا بها الحديث بالامس هي عبارة عن ان انصاف الحلول او المساومة هنا كانت في الواقع اشتراكاً في المؤامرة وكانت تحقيقاً للمؤامرة من ناحية الامام (ع) ولم تكن تعبيراً عن الاعداد لإحباط هذه المؤامرة لان المؤامرة لم تكن مؤامرة على شخص الامام علي (ع) لم تكن مؤامرة على حاكمية الامام علي (ع) حتى يقال: انه يمهد لهذه الحاكمية بشيء من هذه


{ 21 }

الحلول الوسط، وانما المؤامرة كانت مؤامرة على وجود الامة الاسلامية، على شخصية هذه الامة، على ان تقول كلمتها في الميدان بكل قوة وجرأة وشجاعة، على ان تَنسَلِخ عن شخصيتها وينصب عليها قيم من اعلى يعيش معها عيش الاكاسرة والقياصرة مع شعوب الاكاسرة والقياصرة. هذا الذي كان يسمّى بالمصطلح الاسلامي بالهرقلية والكسروية.

هذه هي المؤامرة.

وهذه المؤامرة هي التي كان يسعى خط السقيفة بالتدريج عامداً او غير عامد الى تعميقها الى انجاحها في المجتمع الاسلامي.

فلو ان الامام (ع) كان قد مارس انصاف الحلول، لو كان قد باع الامة بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ، اذن لكان بهذا قد اشترك في انجاح وفي سلخ الامة عن ارادتها وشخصيتها.

كانت الامة وقتئذ بحاجة كبيرة جداً لكي تستطيع ان تكون على مستوى مسؤوليات ذلك الموقف العصيب، وعلى مستوى القدرة للتخلص من تبعات هذه المؤامرة.

كان لا بد من ان تشعر بكرامتها بارادتها، بحريتها، باصالتها، بشخصيتها في المعترك وهذا كله مما لا يتفق مع ممارسة الامام (ع) لانصاف الحلول.

النقطة الخامسة: التي لا بد من الالتفات اليها في هذا المجال هي ان الامام (ع) لو كان قد امضى هذه الاجهزة الفاسدة التي خلفها عثمان الخليفة من قبله فليس من المعقول بمقتضى طبيعة الاشياء ان يستطيع بعد هذا ان يمارس عملية التغيير الحقيقي في هذه التجربة التي يتزعمها.

وفي الواقع ان هذا الفهم لموقف امير المؤمنين (ع) الذي اعرضه في هذه النقطة مرتبط بحقيقة مطلقة تشمل موقف امير المؤمنين (ع) وتشمل أي موقف رسالي عقائدي آخر مشابه لموقف أمير المؤمنين (ع) أي موقف آخر يستهدف تغييراً جذرياً او اصلاحياً حقيقياً في مجتمع او بيئة او حوزة او في أي مجتمع آخر من المجتمعات وهذه الحقيقة المطلقة هي ان كل اصلاح لا


{ 22 }

يمكن ان ينشأ على يد الاجهزة الفاسدة نفسها التي لا بد أن يطالها التغيير.

فلو افترضنا ان الزعيم المسؤول عن اصلاح تلك البيئة أقر الاجهزة الفاسدة التي يتوقف الاصلاح على ازالتها وعلى تبديدها، لو انه أقر هذه الاجهزة وتعاون معها وامضاها ولو مؤقتاً، ثم بعد ان إكتسب القوة والمزيد من القدرة، وامتد افقياً وعامودياً في ابعاد هذه التجربة التي تزعمها، بعد هذا استبدل هذه الركائز بركائز اخرى هذا المنطق منطق لا يتفق مع طبيعة العمل الاجتماعي ومع طبيعة الاشياء وذلك لان هذا الزعيم من اين سوف يستمد القوة من اين سوف تتسع له القدرة؟ من اين سوف يمتد افقياً وعامودياً؟

هل تهبط عليه هذه القوة بمعجزة من السماء؟ لا... وانما سوف يستمد هذه القوة من تلك الركائز نفسها...

أي زعيم في أية بيئة يستمد قوته وتتعمق هذه القوة عنده باستمرار. من ركائزه، من أسسه من اجهزته التي هي قوته التنفيذية التي هي واجهته على الامة، التي هي تعبيره، التي هي تخطيطه، فإذا افترضنا ان هذه الاجهزة كانت هي الاجهزة الفاسدة التي يريد المخطط الاصلاحي ازالتها وتبديلها باجهزة اخرى، فليس من المعقول ان يقول الزعيم في أية لحظة من اللحظات، وفي أي موقف من المواقف: دع هذه الاجهزة معي دعني اعمل مع هذه الاجهزة حتى امتد حتى اشمخ وبعد ان امتد واشمخ استطيع ان اقضي على هذه الاجهزة. فإن هذا الشموخ الناتج من هذه الاجهزة لا يمكن ان يقضي على هذه الاجهزة. النتيجة منطقياً مرتبطة بمقدماتها والنتيجة واقعياً مرتبطة ايضاً بركائزها واسسها، فهذا الشموخ المستمد من ركائز فاسدة، من اجهزة فاسدة، لا يمكن ان يعود مرة اخرى فيتمرد على هذه الاجهزة.

هذا الزعيم حتى لو كان حسن النية، حتى لو كان صادقاً في نيته وفي تصوره سوف يجد في نهاية الطريق أنه عاجز عن التغيير، سوف يجد في نهاية الطريق انه لا يتمكن ان يحقق اهدافه الكبيرة لان الزعيم مهما كان زعيماً، والرئيس مهما كان حاكماً وسلطاناً، لا يغير بيئة بجرة قلم، لا يغير بيئة باصدار قرار باصدار أمر، وانما تتغير البيئة عن طريق الاجهزة التي تنفذ ارادة هذا


{ 23 }

الزعيم، وتخطيط هذا الزعيم، اذن كيف سوف يستطيع هذا الزعيم ان ينفذ ارادته، ان يحقق أهدافه ان يصل الى امله؟

فطبيعة الاشياء وطبيعة العمل التغييري في أي بيئة تفرض على أي زعيم يبدأ هذا العمل ان يبني زعامته بصورة منفصلة عن تلك الاجهزة الفاسدة وهذا ما كان يفرض على الامام (ع) ان لا يمضي مخلفات عثمان الادارية والسياسية...؟

النقطة السادسة: التي لا بد من الالتفات اليها ايضاً في هذا المجال هي ان الامام (ع) لو كان قد امضى ولو مؤقتاً الاجهزة التي خلفها عثمان امضى مثلاً ولاية معاوية بن أبي سفيان وحاكميته على الشام لحصل من ذلك على نقطة قوة مؤقتة.

لو باع الامة من معاوية بيعاً مؤقتاً مع خيار الفسخ اذن لاستطاع بذلك ان يحصل على نقطة قوة ونقطة القوة هي ان معاوية سوف يبايعه وسوف يبايعه اهل الشام وهذه النقطة نقطة قوة في حساب عملية التغيير لكن في مقابل هذا ايضاً سوف يحصل معاوية بن أبي سفيان، على نقطة قوة كما حصل الامام (ع) على نقطة قوة ونقطة القوة التي سوف يحصل عليها معاوية هي اعتراف الامام (ع) صاحب الاطروحة الجديدة صاحب الخط الاسلامي الآخر المعارض على طول الزمن منذ تشكلت السقيفة بشرعية معاوية بن أبي سفيان بأن معاوية رجل على اقل التقادير يوصف بأنه عامل قدير على تسيير مهام الدولة وعلى حماية مصالح المسلمين وعلى رعاية شؤونهم هذا الاعتراف. هو المدلول العرفي الواضح لمثل هذا الامضاء في الذهنية الاسلامية العامة، فنقطة قوة لمعاوية مقابل نقطة قوة لعلي (ع)..

ونحن اذا قارنا بين هاتين النقطتين فسوف لن ننتهي الى قرار يؤكد ان نقطة القوة التي حصل عليها الامام (ع) هي اهم في حساب عملية التغيير الاجتماعية التي يمارسها الامام (ع) من نقطة القوة التي يحصل عليها معاوية، خاصة اذا التفتنا الى ان تغيير الولاة في داخل الدولة الاسلامية وقتئذ لم يكن عملية سهلة ولم يكن عملية بهذا الشكل من اليسر الذي نتصوره في دولة مركزية تسيطر حكومتها المركزية على كل أجهزة الدولة وقطاعاتها.


{ 24 }

ليس معنى ان معاوية يبايع او يأخذ البيعة لخليفة في المدينة ان جيشاً في الحكومة المركزية سوف يدخل الشام وان هناك ارتباطاً عسكرياً حقيقياً سوف يوجد بين الشام وبين الحكومة المركزية وانما يبقى هذا الوالي بعد اخذ البيعة همزة الوصل الحقيقية بين هذا البلد وبين الحكومة المركزية لضعف مستوى الحكومة المركزية وقتئذ من ناحية، ومن ناحية اخرى لترسخ معاوية في الشام بالخصوص لأن الشام لم تعرف حاكماً مسلماً قبل معاوية وقبل أخي معاوية ومنذ دشن الشام حياته الاسلامية فانما دشنها على يد اولاد أبي سفيان اذن ترسخ معاوية من الناحية التاريخية والصلاحيات الاستثنائية التي اعطيت له من قبل عمر بن الخطاب في ان ينشئ له سلطنة وملكية في الشام بدعوى ان هذا يكون مظهر عز وجلال للاسلام في مقابل دولة القياصرة.

هذه الصلاحيات الاستثنائية التي أخذها معاوية من عمر بن الخطاب لأجل انشاء مظاهر مستقلة في الشام، لا تشبه الوضع السياسي في الدولة الاسلامية في باقي الاقاليم وهذا مما رسخ نوعاً من الانفصالية في الشام عن باقي اجزاء جسم الدولة الاسلامية.

ثم الصلاحيات التي أخذها بعد هذا من عثمان بن عفان حينما تولى الخلافة، وحينما شعر بأنه قادر على ان يستهتر بشكل مطلق بالامر والنهي، بحيث لم يبق طيلة مدة خلافة عثمان أي ارتباط حقيقي بين الشام والمدينة وانما كان هو الآمر والناهي في الشام مما جعل الشام يعيش حالة شبه انفصالية في الواقع وان لم تكن إنفصالية بحسب العرف الدستوري للدولة الاسلامية وقتئذ، وهذا مما يعقد الموقف على امير المؤمنين (ع) ويجعل نقطة القوة التي يحصل عليها وهي مجرد البيعة في الايام الاولى نقطة غير حاسمة بينما اذا اراد بعد هذا ان يعزل معاوية فبامكان معاوية ان يثير - الى جانب وجوده المادي القوي المترسخ في الشام - الشبهات على المستوى التشريعي والاسلامي.

لماذا يعزلني؟

ماذا صدر مني حتى يعزلني بعد ان اعترف باني حاكم عادل صالح لادارة شؤون المسلمين؟


{ 25 }

ما الذي طرأ وما الذي تجدد؟

مثل هذا الكلام كان بامكان معاوية ان يوجهه حينئذ الى الامام (ع) ولم يكن للإمام (ع) ان يعطي جواباً مقنعاً للرأي العام الاسلامي وقتئذ على مثل هذه الشبهة.

بينما حين يعزله من البداية يعزله على اساس انه يؤمن بعدم صلاحيته، وبأنه لاتتوفر فيه الشروط اللازمة في الحاكم الاسلامي، وهو لا يتحمل مسؤولية وجوده كحاكم، في الفترة السابقة التي عاشها معاوية حاكماً من قبل عثمان او من قبل عمر بن الخطاب.

النقطة السابعة: التي لا بد من الالتفات اليها في هذا المجال هي: ان هذه الشبهة تفترض ان معاوية بن أبي سفيان لو ان الامام (ع) امضى حاكميته وامضى ولايته لبايعه ولأعطى نقطة القوة هذه الى أمير المؤمنين (ع) ولكن لا يوجد في الدلائل والقرائن التي كانت تكتنف موقف الامام (ع) ما يوحي بصحة هذا الافتراض، فان معاوية لم يعص علياً لأجل انه عزل عن الولاية، وانما كان ذلك في اكبر الظن جزءاً من مخطط لمؤامرة طويلة الامد للأموية على الاسلام، الاموية كانت تريد ان تنهب مكاسب الاسلام بالتدريج هذا النهب الذي عبر عنه بأقسى صورة ابو سفيان حينما ركل قبر حمزة رضوان اللّه عليه بقدمه وهو يقول: ان هذا الدين الذي قاتلتمونا عليه، هذا الدين الذي بذلتم دماءكم في سبيله، وضحيتم في سبيله قوموا واقعدوا وانظروا كيف اصبح كرة في يد صبياننا واطفالنا.

كان الشرف الاموي يريد ان يقتنص وان ينهب مكاسب البناء الاسلامي والوجود الاسلامي، وكانت هذه المؤامرة تنفذ على مستويات وكانت المرحلة الاولى من هذه المؤامرة ترسخ الاخوين في الشام يزيد بن ابي سفيان ثم معاوية بعد يزيد بن أبي سفيان بعد يزيد. ومحاولة استقطاب معاوية للشام، عن طريق بقائه هذه المدة الطويلة فيها.

ثم كان معاوية بن أبي سفيان بنفسه، ينتظر الفرصة الذهبية التي يتيحها مقتل عثمان بن عفان هذه الفرضة الذهبية التي تعطيه سلاحاً غير منتظر يمكن ان يمسكه ويدخل به الى الميدان.. ولهذا تباطأ عن نصرة عثمان بن عفان كان


{ 26 }

عثمان يستنصره ويستصرخه ويؤكد له انه يعيش لحظات الخطر ولكن معاوية كان يتلكأ في إنقاذه وكان معاوية - على أقل تقدير - قادراً على ان يؤخر هذا المصير المحتوم بعثمان الى مدة أطول لو انه وقف موقفا ايجابياً حقيقياً في نصرة عثمان بن عفان الا انه تلكأ وتلعثم وكان يخطط لكي يبقى هذا التيار كاسحاً ولكي يخرج عثمان بن عفان على يد المسلمين ميتاً ثم بعد هذا لكي يأتي ويمسك بزمام هذا السلاح ولكي يقول انا ابن عم الخليفة المقتول ومن المعلوم ان معاوية سوف لن يتاح له في كل يوم، ان يكون ابن عم الخليفة المقتول، فهذه الفرصة الذهبية التي كانت على مستوى الاطماع والآمال الاموية لنهب كل مكاسب الاسلام هذه الفرصة الذهبية لم يكن من المظنون ان معاوية سوف يغيرها عن طريق الاكتفاء بولاية الشام، ولاية الشام كانت مرحلة اما منذ قتل عثمان بدأ معاوية في نهب كل الوجود الاسلامي، وتزعم كل هذا الوجود وكان هذا يعني ان تعيينه او ابقاءه والياً على الشام سوف لن يكون على مستوى اطماعه في المرحلة الاولى التي بدأت بمقتل عثمان بن عفان من مراحل المؤامرة الاموية على الاسلام.

وأخيراً لا بد من الالتفات ايضاً إلى شيء آخر: هو ان الوضع الذي كان يعيشه الامام (ع) في ملاحظة طبيعة الامة في ذلك الوضع، وطبيعة الامام (ع) في ذلك الوضع، لم يكن ليوحي بالاعتقاد بالعجز عن امكان النجاح لعملية التغيير دون مساومة.

ومن الواضح ان الفكرة الفقهية التي اشرنا اليها سابقاً عن توقف الواجب الاهم على المقدمة المحرمة، انما تكون فيما اذا كان هناك توقف بالفعل، بحيث يحرز ان هذا الواجب الاهم لا يمكن التوصل اليه الا عن طريق هذه المقدمة المحرمة، والظروف وطبيعية الاشياء وقتئذ لم تكن توحي، ولم تكن تؤدي الى اليقين بمثل هذا التوقف.

وذلك لأن المؤامرة التي كان علي (ع) قد اضطلع بمسؤولية احباطها حينما تولى الحكم لم تكن قد نجحت بعد بل كانت الامة في يوم قريب سابق على يوم مقتل عثمان قد عبرت تعبيراً معاكساً مضاداً لواقع هذه المؤامرة ولمضمون هذه المؤامرة.

هذه المؤامرة صحيح انها تمتد بجذورها الى امد طويل قبل هذا التاريخ،


{ 27 }

المؤامرة على وجود الامة الاسلامية فإن الامة الاسلامية التي سهر عليها رسول الله (ص) على اعطائها اصالتها وشخصيتها وكرامتها ووجودها، حتى كان قد الزم نفسه والزمه ربه بالشورى والتشاور مع المسلمين لأجل تربية المسلمين تربية نفسية واعدادهم لا تحمل مسؤولياتهم واشعارهم بانهم هم الامة التي يجب ان تتحمل مسؤوليات هذه الرسالة خلفها رسول الله (ص) وهي تعيش هذه الروحية وتعيش على هذا المستوى عاطفياً ونفسياً، وبدأت جذور المؤامرة للقضاء على وجود الامة كافة وتحويل الوجود الى السلطان والحاكم.

أول جذر من جذور هذه المؤامرة اعطي كمفهوم في السقيفة حينما قال احد المتكلمين فيها من ينازعنا سلطان محمد.

والسقيفة وان كانت بمظهرها اعترافاً بوجود الامة لأن الامة تريد ان تتشاور في أمر تعيين الحاكم بعد رسول الله (ص) ولكن المفهوم الذي اعطي في السقيفة والذي كتب له ان ينجح يوم السقيفة، وان يمتد بأثره بعد ذلك بعد يوم السقيفة هذه، المفهوم كان بحد ذاته ينكر وجود الامة.

كان ينظر الى النبوة على انها سلطان قريش انها سلطان عشيرة معينة وهذه العشيرة المعينة هي التي يجب ان تحكم وان تسود، نظرية مالكية العشيرة، التي تتحدى وجود الامة، وتنكر عليها إصالتها ووجودها وشخصيتها، هذه النظرية طرحت كمفهوم في السقيفة ثم بعد هذا امتدت واتسعت عملياً ونظرياً.

عمر بن الخطاب كان ايضاً يعمق بشكل آخر هذا المفهوم.

في مرة من المرات سمع عمر بن الخطاب ان المسلمين يتحلقون حلقاً حلقاً، ويتكلمون في أن امير المؤمنين اذا اصيب بشيء فمن يحكم المسلمين بعد عمر؟

المسلمون اناس يحملون همّ التجربة هّم المجتمع همّ الامة تطبيقاً لفكرة: ان كل مسلم يحمل الهموم الكبيرة يفكرون في ان عمر بن الخطاب حينما يموت، من الذي يحكم المسلمين؟


{ 28 }

هذا تعبير عن وجود الامة في الميدان.

انزعج عمر بن الخطاب جدّاً لهذا التعبير عن وجود الامة. لانه يعرف ان وجود الامة في الميدان معناه وجود علي (ع) في الميدان، معناه وجود الخط المعارض في الميدان، كلما نمت الامة كلما تأصل وجودها اكثر واكتسبت ارادتها ووعيها بدرجة اعمق كلما كان علي هو الاقدر وهو الأكفأ لممارسة عملية الحكم، لهذا صعد على المنبر وقال ما مضمونه: أن أقواماً يقولون ماذا ومن يحكم بعد امير المؤمنين...؟ الا ان بيعة ابي بكر كانت فلتة وقى اللّه المسلمين شرها.

يعني ماذا يريد ان يقول في هذا الكلام يريد ان يقول في هذا الكلام بان المسلمين لا يجوز ان يعودوا مرة اخرى الى التفكير المستقل في انتخاب شخص وانما الشخص يجب ان يعين لهم من اعلى. لكن لم يستطع ولم يجرأ ان يبين هذا المفهوم والا هو في نفسه كان هكذا يرى...

كان يرى ان الامة يجب ان تستمع منه هو يعين من اعلى هذا الحاكم، لا ان الامة نفسها تفكر في تعيين هذا الحاكم كما فكرت مثلاً عقيب وفاة رسول الله (ص) كان ذلك فلتة وقى الله المسلمين شرها، والامة يجب الا تعود الى هذه الفلتة مرة اخرى.

اذن فما هذا البديل؟ هذا البديل لم يبرزه لكن البديل كان في نفسه هو اني انا يجب ان اعين هذا ايضاً، كان استمرارية لجذور المؤامرة وبعد هذا عبر عن هذا البديل بكل صراحة وهو على فراش الموت، وحينما طلب منه المتملقون ان يوصي والا يهمل امة محمد (ص)، حينما طلبوا منه ذلك عبر عن هذا البديل بكل صراحة فأسند الامر الى ستة ايضاً كان فيه نوع من التحفظ لانه لم يعين واحداً وحيداً لا شريك له وانما عين ستة كأنه يريد ان يقول: بأني اعطيت درجة من المشاركة للامة عن طريق اني اسندت الامر الى ستة هم يعينون فيما بينهم واحداً منهم.

انظروا كيف كانت المؤامرة على الامة تنفذ بالتدريج.

كانت المؤامرة على وجودها على كيانها على ارادتها كأمة.. تحمل اشرف رسالات السماء.


{ 29 }

طبعاً عبد الرحمن بن عوف الذي كان قطب الرحى في هؤلاء الستة ايضاً لم يستطع في تلك المرحلة ان يطفئ دور الامة لم يحل المشكلة عن طريق التفاوض فيما بين هؤلاء الستة، في اجتماع مغلق وانما ذهب يستشير الامة ويسأل المسلمين من الذي ترشحونه من هؤلاء الستة؟ الى هنا كانت الامة لاتزال تحتفظ بدرجة كبيرة من وجودها بحيث ان عمر بن الخطاب لم يستطع ان يغفل وجود الامة يسأل هذا ويسأل ذاك من تريدون من هؤلاء الستة؟ يقول ما سألت عربياً الا وقال: علي بن ابي طالب (ع) وما سألت قرشياً الا وقال عثمان بن عفان يعني جماهير المسلمين كانت تقول علي بن ابي طالب (ع) وعشيرة واحدة معينة كانت تريد ان تنهب الحكم من الامة كانت تقول عثمان لان عثمان بن عفان كان تكريساً لعملية النهب بينما علي بن ابي طالب (ع) كان تعبيراً وتأكيداً لوجود الامة في الميدان، ولهذا ارادته الامة، وارادت العشيرة عثمان.

ثم بعد هذا جاء عثمان بن عفان وفي دور عثمان بن عفان تكشفت المؤامرة أكثر فأكثر وامتدت أكثر فأكثر.

اصبحت العشيرة تحكم وتقول بكل صراحة بان المال مالنا والخراج خراجنا والارض ارضنا ان شئنا اعطينا للآخرين وان شئنا حرمناهم.

لكن هذا كلام يقال خارج نطاق الدستور، اما في نطاق الدستور كانت لا تزال الصيغة الاسلامية وهي ان المال مال الله والناس سواسية المسلمون كلهم عبيد الله لا فرق بين قرشيهم وعربيهم وبين عربيهم واعجميهم بين أي مسلم واي مسلم آخر، هذه كانت الصيغة الدستورية حتى في عهد عثمان لكن هذا الوالي الاموي المتغطرس او ذاك الاموي المتعجرف او هذا الاموي المستعجل والمتهور كان ينطق بواقع آخر لا يعبر عن الدستور حيث ينظر الى الامة على انها قطيع يتحكم فيه كيف يشاء وعلى ان ارض الاسلام مزرعة ينتفع بخيراتها من يشاء هو ويحرم من خيراتها من شاء ولكن منطق الدستور الاسلامي كان هو المتحذر في نفوس ابناء الامة هذا المنطق هو ان ارض السواد ملك الامة وان الامة هي صاحبة الرأي فهي القائدة وهي سيدة الموقف وهذا يعني ان المؤامرة لا تزال غير ناجحة بالرغم من الجذور بالرغم من المقدمات


{ 30 }

بالرغم من الارهاصات النظرية والعملية بالرغم من كل ذلك المؤامرة لم تكن ناجحة الامة كانت هي الامة، الامة كانت تأتي الى عثمان وتقول: لا نريد هذا الوالي لان هذا الوالي منحرف منحرف لا يطبق كتاب الله وسنة نبيه (ص) ولم يكن يستطيع عثمان بن عفان ان يجيب بصراحة ويقول ليس لك ارادة، هذا الوالي يمثلني انا، وانا الحاكم انا الحاكم المطلق لم يكن يستطيع عثمان بن عفان ان يقول هذا وانما كان يعتذر ويقيل ويرجع وهكذا كان يناور مع الامة يشتغل بمناورات من هذا القبيل مع هذه الامة التي بدأت تحس بالخطر على وجودها فعبرت الامة تعبيراً ثورياً عن وجودها وعن كرامتها فقتلت هذا الخليفة وبعدها اتجهت طبيعياً الى الامام (ع) لكي يعبر من جديد عن وجودها لكي يحبط المؤامرة لكي يعيد الى هذه الامة كل كرامتها خارج نطاق الدستور وداخل نطاق الدستور لكي يقضي على كل انحراف خرج به الحكام عن الدستور عن الصيغة الاسلامية للحياة.

فمن هنا كانت القضية لاتزال في بدايتها لا تزال الامة هي الامة لا تزال بحسب مظهرها على اقل تقدير هي تلك الامة التي قتلت الحاكم في سبيل الحفاظ على وجودها وعلي (ع) صاحب الطاقات الكبيرة هو الشخص الوحيد الذي يؤمل فيه ان يصفي عملية الانحراف.

فالظروف والملابسات لم تكن تؤدي الى يأس... كانت تؤدي الى امل وما وقع خارجاً خلال هذه الاربع سنوات كان يؤكد هذا الامل فان علياً (ع) لولا معاكسات جانبية لم تكن تنبع من حقيقة المشاكل الكبرى في المجتمع، لاستطاع ان يسيطر على الموقف.

لولا مسألة التحكيم مثلاً، لولا ان شعاراً معيناً طرح من قبل معاوية هذا الشعار الذي انعكس بفهم خاطئ عند جماعة معينة في جيش الامام (ع) لولا هذا لكان بينه وبين قتل معاوية وتصفيته بضعة امتار.

اذن كان الامل في ان علياً (ع) يمكنه ان يحقق الهدف ويعيد للامة وجودها من دون حاجة الى المساومات وانصاف الحلول كان هذا الامل أملاً معقولاً وكبيراً ولهذا لم يكن هناك مجوز لارتكاب انصاف الحلول والمساومات.

ولكن هذا الامل قد خاب كما قلنا. انتهى آخر أمل حقيقي في هذه


{ 31 }

التصفية حينما خر هذا الامام (ع) العظيم صريعاً في مسجده صلوات الله عليه وانتهى آخر امل في هذه التصفية وقدر للمؤامرة على وجود الامة ان تنجح وان تؤتي مفعولها كاملاً.

غير ان الامام (ع) حينما فتح عينيه في تلك اللحظة العصيبة ورأى الحسن (ع) وهو يبكي ويشعر ويحس ويدرك بان وفاة ابيه هي وفاة لكل هذه الآمال اراد ان ينبهه الى ان الخط لا يزال باقياً والى ان التكليف لا يزال مستمراً وان نجاح المؤامرة لا يعني أن نلقي السلاح.

نعم المؤامرة يا ولدي نجحت ولهذا سوف تشردون وسوف تقتلون ولكن هذا لا يعني ان المعركة انتهت يجب ان تقاوم حتى تقتل مسموماً، ويجب ان يقاوم أخوك حتى يقتل بالسيف شهيداً ولا بد ان يستمر الخط حتى بعد ان سرق من الامة وجودها لان محاولة استرجاع الوجود اذا بقيت في الامة فسوف يبقى هناك نفس في الامة سوف يبقى هناك ما يحصن الامة ضد التميع والذوبان.

الامة حينما تتنازل عن هذه الارادة والشخصية لجبار من الجبابرة حينئذ تكون عرضة للذوبان والتميع في أتون أي فرعون من الفراعنة.

لكن اذا بقي لدى الامة محاولة استرجاع هذا الوجود باستمرار هذه المحاولة التي يحاولها خط علي (ع) ومدرسة علي (ع) والشهداء والصديقون من ابناء علي (ع) وشيعته اذا بقيت هذه المحاولة فسوف يبقى مع هذه المحاولة امل في ان تسترجع الامة وجودها وعلى اقل تقدير سوف تحقق هذه المحاولة كسباً آنياً باستمرار وهو تحصين الامة ضد التميع والذوبان المطلق في ارادة ذلك الحاكم وفي اطار ذلك الحاكم.

وهذا ما وقع.

أسأل اللّه سبحانه ان يجعلنا من انصاره وشيعته والسائرين في خطه والمساهمين في هذه المحاولات.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net