آسية بنت مزاحم
وأمَّا امرأة فرعون ( آسية ) .. فكانت مِن بني إسرائيل ، وكانت مؤمنة خالصة ، وكانت تعبد الله سِرَّاًً إلى أنْ قتل فرعون امرأة حزقيل ، فعاينت حينئذ الملائكة يعرجون بروحها ، فزادت يقيناً و إخلاصاً .
فبينا هي كذلك .. إذ دخل عليها فرعون يُخبرها بما صنع ، فقالت : الويل لك يا فرعون ! ما أجرأكَ على الله ( جلَّ وعلا ) فقال لها : لعلَّكِ اعتراك الجنونُ الذي اعترى صاحبتك ؟ فقالت : ما اعتراني جنون ، بلْ آمنتُ بالله ربِّي وربِّك وربِّ العالمين .
فدعا فرعون أُمَّها فقال لها : إنَّ ابنتكِ أخذها الجنون . فأُقسم ، لَتذوقنَّ الموت أو لتكفرنَّ بأله موسى . فخَلَتْ بها أُمُّها ، فسألتْها موافقته في ما أراد ، فأبتْ وقالت : أمَّا أنْ أكفر بالله .. فلا . فأمر بها فرعون حتَّى مُدَّت بين أربعة أوتاد ، ثمَّ لا زالت تُعذَّب حتَّى ماتت .
* وعن ابن عبّاس ، قال : أخذ فرعون امرأته آسية ـ حين تبيَّن له إسلامُها ـ يُعذِّبها لتدخل في دينه . فمرَّ بها موسى وهو يُعذِّبها ، فشكت إليه بإصبعها ، فدعا الله موسى أنْ يُخفِّف عنها ، فلم تجد
الصفحة 18
للعذاب ألماً . وإنَّها ماتت مِن عذاب فرعون ، فقالت ـ وهي في العذاب ـ : ( ... رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ ... ) ( 1 ) ، وأوحى اللهُ إليها أنْ ارفعي رأسكِ ، فرفعت فرأت البيت في الجَنَّة بُنيَ مِن دُرٍّ ، فضحكت .
وقيل : إنَّها كانت تُعذَّب بالشمس ، وإذا انصرفوا عنها اظلَّتْها الملائكة ، وجعلت ترى بيتها في الجَنَّة ( 2 ) .
وأصبحت آسية بنت مُزاحم ( رضوان الله تعالى عليها ) مثلاً إيمانيَّاً شريفاً في كتاب الله ، فنقرأ قول الله تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( 3 ) .
وهكذا اختارت ( آسية بنت مزاحم ) جوار ربِّها والقُرب منه ، على أنْ تكون أنيسة فرعون وعشيقته ، وهي ملكة مصر . وآثرتْ بيتاً يبنيه لها ربُّها على بيت فرعون ، الذي فيه ممَّا تشتهيه الأنفس وتتمنَّاه القلوب ما تقف دونه الآمال . فقد كانت عزفت نفسها عمَّا هي فيه مِن زينة الحياة الدنيا وهي لها خاضعة ، وتعلَّقت بما عند ربِّها مِن الكرامة والزُلْفى ، فآمنت بالغيب واستقامت على إيمانها حتَّى قضت .
ــــــــــــــــــ
١ ـ التحريم : 11.
2 ـ قَصص الأنبياء ، للجزائري : 260-261.
3 ـ التحريم :11.
الصفحة 19
وهذه المواقف هي التي قدَّمتها إلى أنْ جعلها الله مَثلاً للذين آمنوا .. فقد انتزعت مِن كلِّ ما يلهيها عن ربِّها ، فلاذت بربِّها تُريد القُرب منه تعالى ، والإقامة في دار كرامته .
على أنَّ الحضور عنده تعالى والقُرب منه كرامة معنويَّة ، والاستقرار في الجنَّة كرامة صوريَّة ، وسؤالُ الجمع بينهما سؤال الجمع بين الكرامتين .
( ... وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ ... ) تبرٍّ منها ، وسؤال أنْ يُنجيها الله مِن شخص فرعون ، ومِن عمله الذي تدعو ضرورة الصُّحبة والمُعاشرة إلى التلبُّس به .
( ... وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) تبرٍّ آخر ، والقوم الظالمون همْ قوم فرعون ، وهذا سؤال أنْ يُنجِّيها الله مِن المُجتمع العامِّ ، كما أنَّ السؤال السابق كان أنْ يُنجِّيها مِن المُجتمع الخاصِّ ( 1 ) .
وأمَّا في الحديث النبوي الشريف .. فمَن تكون آسية بنت مُزاحم ؟
* قال رسول الله ( صلَّى الله عليه وآله ) : ( حَسْبُك مِن نساء العالمين مريم بنت عمران ، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمَّد ) ( 2 ) .
* وعن ابن عباس ، قال : خطَّ رسول الله ( صلَّى الله عليه [ آله ] وسلَّم ) في الأرض أربعة
ـــــــــــــــــــــ
1 ـ الميزان في تفسير القرآن ، للسيِّد محمّد حسين الطباطبائي19: 344.
2 ـ الاستيعاب ، لابن عبد البرِّ 2: 720.
الصفحة 20
خطوط ، وقال : ( أتدرون ما هذا ؟! ) ، قالوا : الله ورسوله أعلم ، فقال ( صلَّى الله عليه [ وآله ] وسلَّم ) : ( أفضل نساء أهل الجَنَّة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مُزاحم امرأة فرعون ) ( 1 ) .
ومِن أولئك الذين رفعوا رأس التاريخ أيضاً :
ــــــــــــــــــــ
6 ـ أُسد الغابة ، لابن أثير5: 437.
الصفحة 21
|