المبحث الثالث : أركان الصُلح
المطلب الأوّل : أركان الصُلح في الفقه الإسلاميّ
يحدّد الفقهاء المسلمون أركان الصلح بـ ( الصيغة والعاقدَين والمحلّ ) .
الفرع الأوّل : صيغة عقْد الصُلح
يرى الفقهاء أنّه لمّا كان الصلح عقداً ، فيلزم ألاّ ينعقد إلاّ بصيَغ العقود ، أي توافق الإيجاب والقبول الصادرَين من كامل الأهليّة ( البلوغ ، العقل ، والاختيار ) ، وتؤدّى صيغة التعاقد من كلٍّ منهما بلفظ ( صالحتُ ) ، ولفظ ( قبلتُ الصُلـح ) .
لكن صاحب ( الوسيلة ) ذهب إلى أنّه لا يعتبر فيه صيغة خاصّة كالبيع والإجارة وعقد النكاح ، بل يقع عنده بكلّ لفظ أفاد التسالم على أمرٍ من نقلِ حقٍّ ، أو إقرار بين المتصالحَين ( 90 ) .
بينما يرى فقيه إماميّ معاصر أنّه لمّا كان عقداً فلا بدّ فيه من الإيجاب والقبول ، حتى في موارد المصالحة على إبراء ذمّة المَدين من الدَين ، أو إسقاط الحقّ ؛ إذ إنّ هذه من الإيقاعات التي يصحّ فيها الإنشاء دون القبول ، لكنّها حينما يؤتى بها على وجه الصلح تحتاج إلى إيجاب وقبول ؛ لأنّ الصلح عقد ، وإن كان متعلّقه قد أشبه الإبراء والإسقاط في آثارهمـا ( 91 ) .
الفرع الثاني : العاقدان
عبّر الفقهاء في صدور الصيغة من الكامل ـ ومقصودهم كامل الأهليّة ـ بتوافر شروط : العقل والبلوغ والاختيار .
1 ـ فشرط العقل ـ كما يقول الكاساني ـ شرط عامّ في جميع التصرّفات ، فلا يصحّ اتّفاقاً صُلح المجنون الذي لا يعقل ( 92 ) .
الصفحة 222
2 ـ وفي شرط البلوغ : يفرّق الفقهاء بين الصبيّ المُميّز وغير المُميّز ، فهم يردّون صُلح الأخير مطلقاً .
أمّا الصبيّ المُميّز ، فيرون لصحّة صُلحه عدّة شروط منها :
أن يكون له فيه نفعٌ مطلَق ، ويبطل إن كان فيه ضرر ظاهر ( 93 ) .
فإذا وجب له دَين على آخر ، فلا يخلو إمّا أن تكون له بيّنة أو لا تكون ، فإن كانت له بيّنة لا يجوز الصلح ؛ لأنّ فيه حطّاً من أمواله ، والحطّ تبرّع ، والتبرّع ضرر ظاهر لا يصحّ منه ؛ لكونه لا يملك التبرّعات ، فيُرَدّ صُلحه .
إلى هذا ذهب أكثر الفقهاء ، بل يكاد يتشكّل إجماعاً منهم عليه ، لكن بعضهم أجاز له فقط تأخير سداد الدَين ؛ لأنّ ذلك من التجارة ، ومع ذلك اشترطوا لتأخير السداد عدم كونه ـ أي التأخير ـ مضرّاً به .
أمّا إذا لم تكن له بيّنة على حقّه ، فقد أجازوا له الصُلح ؛ لأنّه مع عدمها ليس له إلاّ التخاصم وتحليف المُدّعى عليه ، وتحصيل المال أنفع له منهما .
وإلى مثل هذه الأحكام اتّجه الفقهاء في صلح العبد ، وجعلوا المأذون له بمثابة الصبيّ المميّز ، وألحقوا بهما ( الصبيّ والعبد ) المحجور عليه ، مقرّرين عدم نفاذ إقراره ، إلاّ أبو حنفية الذي أنفذ إقراره إذا كان المال بيده ؛ إذ ألْحقَ تعلّق الحقّ بالمال العيني الذي له شروط تمتاز عن الحقّ المتعلّق بالذمّة ( 94 ) .
هذا من جهة المُصالِح ، أمّا من جهة المُصالَح ، فإن كان لخصم الصبي بيّنة جازت مصالحته بقدر الدَين أو بزيادة يسيرة ؛ لأنّه لو لم يُصالحه توصّل خصمُه إلى حقّه بالقضاء .
التوكيل في الصلح : يرى أغلب الفقهاء أنّ أحد طرفَي عقد الصلح يجوز أن يوكِل إنشاء العقد إلى غيره ، إلاّ أنّهم قسّموا الوكلاء في عقد الصلح إلى قسمين :
1 ـ الوكيل الضامن لآثار عقد الصُلح وأحكامه .
2 ـ الوكيل غير الضامن .
الصفحة 223
فالأوّل : مَن أتمّ عقد الصلح مع ضمانه له ، ومن صوره أنّه يضيف الضمان إلى نفسه ، أو أن يشير إلى المال المصالَح به ، وهو مِلكه ، فإذا صرّح بالضمان ، أو تضمّنت صيغة الصلح معنى الضمان فهو له ضامن .
ومثاله : أن يصالحه على مقدارٍ من المال ويضمن ذلك المقدار ، فيقول : وهي عليّ ، أو أن يصالحه على مقدارٍ من المال ، فيقول : صالحتك على ألفَي هذه ؛ ( فيلزمه الضمان ) . ومِن أحكام هذا النوع أنّه يلزمه أن يسلِّم المصالح به إلى المصالِح ، ويلزم عدم المطالبة بالردّ في ما إذا رفَض الأصيلُ بنود الصُلح ، بل لا يتوقّف الأمر على إجازة الموكّل .
ومدرك صحّة هذا النوع عمومات النصّ ؛ ولأنّه تصرّف بنفسه ، وتبرّع بإسقاط الدَين عن الغير بالقضاء عنه في مالـه .
أمّا في الحالة الثانية ، فمثالها قوله : ( صالحتك على ألف دينار ) ، فعقْد الوكيل لهذا النوع من الصُلح موقوف على إجازة الأصيل ؛ لعدم ظهور القرينة على التبرّع كالضمان القوليّ ، أو الإشارة إلى المال المُصالح به ( تعيين البدل ، تمكينه منه ) ، فلمّا عُدمت القرينة صارت وكالته منحصرة في إجازة الموكّل ؛ لأنّه تصرّف في مال غيره ، فيقف تصرّفه على إجازة الغير ( 95 ) .
الفرع الثالث : محلّ العقد
يقسم الفقهاء محلّ العقد إلى قسمين :
المصالَح عنه : وهو الحقّ المتنازع عليه بين المتعاقدَين .
المصالَح به : وهو البديل لذلك الحقّ ممّا يُحسَم به النزاع .
1 ـ المصالح عنه : اشترط الفقهاء لهذا النوع من محل العقد شروطاً :
أ ـ أن يكون حقّاً للآدمي ، فلا يصحّ أن يتمّ الصلح على حقّ الله تعالى ؛ إذ لا يصحّ فيه إسقاط أو إبدال .
يقول ابن القيّم : الحقوق نوعان ، حقّ الله وحقّ الآدمي ، فحقّ الله لا مدخل للصلح فيه كالحدود والزكاة والكفّارات ، أمّا حقوق الآدميين ، فهي التي
الصفحة 224
تقبل الصُلح والإسقاط والمعاوضة ( 96 ) .
ويرى الحنفيّة أنّ حدّ القذف لا يجري فيه الصلح ؛ لأنّهم يرون أنّ المُغلَّب فيه حقّ الله تعالى ، وأمثلة ذلك كثيرة ، منها : الصلح مقابل عدم الإشهاد ، أو إسقاط الشهادة والرجوع عنها ، ومثل هذا كلّ ما وقع في حيّز ما يطلق عليه بالنظام العام .
قال السمرقندي : لا يصحّ صلح امرأة ادّعت أنّ زوجها طلّقها ثلاثاً ، فأنكر الزوج ، فصالحها بشرط أن تُكـذّب نفسهـا ؛ لأنّ المباينة وقعت ، والنصّ يشترط لمثل هذه الحالة شرط ( المُحلِّل ) .
ويضرب الفقهاء مثلاً لذلك أيضاً : إذا عُثر على شخص متلبّسٍ بجريمة ذات حدّ ، وأراد أن يرفعه إلى الحاكم ، فصالحه المتلبّس على مالٍ ليتركه ، فالصلح باطل ؛ لأنّه من الصلح الذي يحرّم الحلال .
أمّا إذا كان المصالَح عنه حقّاً للآدمي ، فيصحّ فيه الصلح . ومن أمثلته :
صلح وليّ الدم عن الجاني ـ قاتل العمد ـ بتنازل الوليّ من القصاص إلى الديّة ؛ لقوله تعالى : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتّبَاعٌ بِالمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) [البقرة : 178] ، قال ابن عباس : نزلت في الصلح عن دم العَمْد .
ب ـ أن يكون المال المصالَح عنه حقّاً للمصالِح ، بل اشترطوا أن يكون حقّاً ثابتاً في محلّ الصُلح ، ومن صوره :
1 ـ لو ادّعت المطلّقة عليه صبياً في يده أنّه ابنه فجحد الرجل ،ُ فصالحت عن النسَب ، فالصلح باطل ؛ لأنّ النسب حقٌّ للصبيّ وليس حقّها ، فلا تملك المعاوضة عليه ؛ لأنّه حقّ غيرها .
2 ـ ولو صالح الشفيعُ مشتري الدار عن حقّه في الشفعة على مال ، فالصلح باطل ؛ لأنّ حقّ الشفعة أن يمتلك الدار لا أن يبيع حقّه في الشفعة .
3 ـ لو صالح شخص أحداً على أن يزيل من داره مظلّة مطلّة على الشارع العامّ ، فالصلح باطل ؛ لأنّ الطريق حقّ عامّ للناس جميعاً ، لهم فيه حقّ الانتفاع ، فلا يملكه أحد ، وقيل في التعليل : إنّه إن سقط حقُّ واحدٍ بالصلح ، فللباقين حقّ ثابت فيه .
الصفحة 225
بخلاف الطريق الخاصّ ؛ إذ الصلح فيه جائز في القلْع والإبقاء ، بشرط رضا جميع المنتفعين بالطريق غير النافذ .
ففي كلّ الأمثلة المتقدّمة نلاحظ أنّ النَسب حقّ للصبيّ وليس للمرأة ، فلا يحقّ لها أن تصالح عنه ، وأنّ الشُفعة لا تتحوّل إلى مالٍ ، إنّما حقٌّ قاصر على التملّك ، وأنّ حقّ الناس جميعاً يتعلّق بالمظلّة المُطلّة على شارعٍ عامّ .
أمّا أمثلة الحقّ الثابت ، فهي :
1 ـ إنّ الفقهاء يجيزُون الصلح عن النكول عن يمين مترتّبة على مدّعى عليه منكِر .
2 ـ لو ادّعى رجل على امرأة زواجاً فأنكرت ، فصالحته على المال لكي يترك الدعوى ، جاز الصلح ؛ لأنّه في معنى الخُلع ، ويصحّ العكس ، ويُعَدّ المال المُصالَح به كأنّه زيادة في المَهر ؛ لأنّ إقرارها يكفي في اعتبار صحّة العقد .
3 ـ أمّا إذا ادّعت المرأة على رجُلٍ نكاحاً ، فجحد الرجُل ، فصالحها على مالٍ لتتنازل عن دعواها ، لا يصحّ الصُلـح ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون النكاح ثابتاً أو لا ، فإن كان ثابتاً ، فلا تصحّ الفُرقة بهذا الصلح ، ولا يعدّ مخالعة ؛ لأنّ المال يعطيه الزوج .
4 ـ الصلح على مالٍ لإسقاط القصاص بين وليّ الدم والجاني ـ قاتل العمْد ـ متفرّع على الخلاف في : ما الواجب في القتْل العمْد ؟ معلوم أنّ أبا حنيفة ومالكاً قالوا : الواجب مُعيّن وهو القصاص ، والرواية الأُخرى التخيير بين القصاص والديّة . وللشافعي قولان : الواجب أحدهما لا بعَينه ، والثاني وهو القصاص عيناً ، لكن لوليّ الدم العدول إلى الديّة وإن لم يرضَ الجاني ( 97 ) . وعند الإماميّة : الثابت فيه القصاص دون الديّة ، فليس لوليّ الدم المطالبة بها إلاّ إذا رضي الجاني ( 98 ) .
الثمرة في الخلاف : على القول بأن ليس له إلاّ القصاص ، فالنزول إلى الدية لا يتمّ إلاّ بالتراضي بين وليّ الدم والجاني ، ويجوز الصلح على ما هو
الصفحة 226
أكثر منها وما هو أقلّ . بينما على القول بأنّه يخيّر بين القصاص والديّة ـ الشافعي وأحمد ـ أنّه يجوز النزول إلى الديّة المقدَّرة بلا حاجةٍ إلى رضا الجاني ، زيادةً على أنّ الصلح على الديّة عند القائلين بأن ليس له إلاّ القصاص يجوز فيه الزيادة على الديّة والنقصان .
أمّا شبه العمْد والخطأ ، فلا يصحّ الصلح على أكثر من الديّة ؛ لأنّها مقرّرة شرعاً ، ولأنّ الزيادة على المقدّر رِبا . بينما في القصاص إنّما يصحّ التنازل عنه إلى مالٍ بالصلح ؛ لأنّ القصاص ليس بمالٍ حتى تكون الزيادة على مقدار ، وتحتسب من مصاديق الرِبا .
وفي الحقّ الثابت أيضاً مثّل الفقهاء : أنّه لو ادّعى شخصٌ على آخر دَيناً ، فأنكر المدّعى عليه ، فصالحه على مالٍ على أن يقرّ له ، فالصلح باطل ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون كاذباً في دعواه فيترتّب التزام لا سَبب له ، أو صادقاً فالدَين واجب السَداد . فالمال المصالَح به في معنى الرشوة .
2 ـ المصالَح به : من شروط المال المصالَح عليه أو به :
أ ـ أن يكون المصالَح عليه مالاً متقوّماً ، فلا يصحّ عن خمرٍ ، أو ميتة ، أو صيد الحرَم أو الإحرام ؛ لأنّ في الصلح معنى المعاوضة ، والأقرب أنّ هذه السلع قد سحَب الشارع قيمتها التبادليّة ، فلا يصحّ أن تكون أساساً يُصالَح عليه .
ب ـ أن يكون معلوماً ، وبذلك قال الحنابلة ، فإن وقع الصلح بمجهول لم يصحّ . أمّا الحنفيّة ، فقد فصّلوا في المسألة بين ما إذا كان المصالَح به مَن يحتاج إلى القبض والتسليم فيشترط كونه معلوماً ، وبين ما إذا كان المصالَح به لا يفتقر إلى القبض والتسليم فلا يشترط معلوميّته .
في القانون المدني : نجد أيضاً أنّ فقهاء القانون يُبطلون الصلح في ما خالَف القانون أو النظام العامّ ، ومثّلوا له بما يأتي :
1 ـ ببطلان الصلح إذا استأجر عقاراً بأكثر من الحدّ الأقصى الذي قرّره القانون .
2 ـ وأبطلوا الصُلح عن إصابات العمل ، أو إنهاء عقد العمل الفردي .
الصفحة 227
3 ـ وأبطلوا الصلح عن الفوائد الرَبويّة إذا زادت عن النسبة المقرّرة في المصارف الربويّة .
4 ـ وأبطلوا الصلح عن دَينٍ لأداء عمل غير مشروع .
5 ـ ومن المسائل المتعلّقة بالأحوال الشخصيّة ، فقد أبطلوا الصلح على نفي البُنوّة وإثباتها ، والصلح على إثبات الزواج أو الطلاق ، ( خلافاً لِما مرّ مِن موقف الفقهاء ) ، وأبطلوا الصلح عن الإقرار بالجنسيّة أو نفْيِها ، أو الصلح عن تعديل أحكام الوصاية والولاية والقوامة ، أو الصلح للتنازل عن حقّ الحضانة ( 99 ) .
ـــــــــــــــــ
(90) الموسوي ، الوسيلة : 1/561 و562 .
(91) محمّد أمين زين الدين ، كلمة التقوى ( رسالة عمليّة ) ، كتاب الصلح : 4/5 .
(92) الكاساني ، بدائع الصنائع : 6/40 .
(93) الزحيلي ، الفقه الإسلامي : 2/195 .
(94) للتفاصيل ظ : أحمد فهمي أبو سنه ، النظريّات العامّة للمعاملات ، ص73 .
(95) للتفاصيل ظ : السمرقندي ، خزانة الفقه : 1/251 .
(96) ابن قيّم ، أعلام الموقعين : 1/108 .
(97) الدمشقي ، رحمة الأُمة ، ص 265 .
(98) أبو القاسم الخوئي ، مباني تكملة المنهاج : 1/166 .
(99) ظ : المادة 551 من القانون المدني .
|