المطلب الرابع : اشتراط عِلم المتصالحَين بما تنازعا عليه
اتّفق الفقهاء على صحّة الصُلح مع علم المتصالحَين بما تنازعا عليه ، ولكنّهم اختلفوا مع الجهالة ، فيـرى الإماميّـة ( 78 ) والحنابلة ( 79 ) والحنفيّة ( 80 )
الصفحة 217
جواز الصلح مع الجهالة ، ويرى الشافعيّة ( 81 ) والظاهريّة ( 82 ) وبعض المالكيّة ( 83 ) بطلانه .
واستدلّ المُجيزون له بعدّة أدلّة ، منها :
1 ـ إطلاق الأدلّة وعدم وجود مقيّد يقيّد صحّة الصلح بما عُلم التنازع فيه .
2 ـ ما ورد في الصحيح عن الباقر والصادق ( عليهما السلام ) ، أنّهما قالا في رجُلين كان لكلّ واحد منهما طعام عند صاحبه لا يدريان كم هو ، فقال كلّ واحد منهما لصاحبه : لك ما عندك ولي ما عندي . فقال الإمام ( عليه السلام ) : ( لا بأس بذلك إذا تراضيا وطابت به نفساهما ) ( 84 ) .
لكن تُناقش دلالة الرواية بأنّها ناظرة إلى الإبراء لا الصُلح ، إلاّ أنّ الباحث يرى تضمّن الصُلح للإبراء يجعلها ناظرة إليه بمعناه الأعمّ ، أي أنّها ناظرة للصلح الذي يحقّق إبراءً .
ولظهور المعاوضة فيها فلا تُحمَل إلاّ على الصلح ، ومع الحاجة إلى تحصيل البراءة مع الجهل فلا يتمّ إلاّ بالصلح .
3 ـ قول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( استَهِما وتوخّيا ، وليحلل أحدكما صاحبه ) ( 85 ) .
4 ـ ومن المعقول أنّه إذا صحّ عن معلوم ، فمِن بابٍ أَولى يصحّ عن مجهول ؛ لئلاّ يفضي إلى ضياع المال ؛ لأنّ المعلوم يمكن التوصّل إلى استيفائه قضاءً أو تحكيماً ، بينما المجهول ليس له من طُرق الاستيفاء إلاّ الصُلح .
5 ـ وحتى مع افتراض أنّه فرع على البيع ، فإنّه في حالاتٍ استثنائيّة يصحّ في المجهول مثل بيع أساسـات الجـدران ( 86 ) .
أمّا المانعون ، فإنّهم يرونه باطلاً إذا وقع عن مالٍ مجهول ؛ لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ) [النساء : 29] ، وهنا لا يتحقّق الرضا المشترط في الآية .
ومن حيث إنّه فرعٌ عن البيع ، فإنّه باطل لمجهوليّة العوضين المتصالح عنهما .
الصفحة 218
ويقسّم العاملي هذه الفرضيّة إلى أربعة صور ، هي :
أ ـ أن يعلما ما وقعت فيه المنازعة ، فالحكم في هذه الصورة واضح من غير ريبٍ ، لارتفاع الجهالة .
ب ـ أن يجهلاه ويتعذّر عليهما معرفته مطلقاً ، فالصحّة أيضاً ؛ لتطابق النصوص والإجماعات على الصحّة مع موافقة العقل ، إذ إنّ مَن عليه حقّ يجهل قدره ، ويريد إبراء ذمّته ، يلزم أن يكون له طريق وليس له إلاّ الصُلح ، وإلاّ لَزِم الحرَج ، وإذا صحّ الصُلح مع العلم بالمصالَح عنه ، فمِن باب أَولى يصحّ مع الجهل به ؛ لأنّه في الحالة الأُولى هناك طريق للإبراء ، أمّا في الثانية فلا طريق لذلك ، ولو لم يجزْ الصلح هنا لأدّى ذلك إلى ضياع المال ، وهو خلاف مقصود الشارع .
جـ ـ أن يجهلاه ويمكن معرفته بالحال ، فالمشهور عدم الصحّة ؛ لمكان الغَرر والجهل مع إمكان التحرّز منهما ، وهنا يلحظ رجحان أدلّة النهي عن الغَرر على عمومات الصُلح ؛ لاعتضاد الأُولى بأدلّة العقل ، وبإمكان التحرّز ، فهي هنا ـ أي أدلّة عموم الصلح ـ مخصّصه بما لا غَرر فيه ولا جهالة يمكن التحرّز منها ، أو أنّ العامَّين من النصوص تعارضا فتساقطا ، ولزم من تساقطهما العودة إلى الأصل ، وهو عدم صحّة المعاملات أصلاً ما لم يرِد في جوازها مُسوّغ شرعيّ .
وعبارة العاملي المصدّرة بـ ( المشهور ) تعني وجود رأي مرجوح عند الإماميّة يقضي بجواز الصلح في هذه الصورة ، مستعينين بظهور أدلّة الصُلح ؛ ولأنّه أوسع من البيع لِما هو مشرّع فيه من المسامحة والمساهلة ، ولأنّه لمّا جاز الصلح بلا عوض جاز مع الجهالة من بابٍ أَولى .
د ـ أمّا الصورة الرابعة ، فهي ما لا يمكن معرفة المُصالَح عنه في الحال ؛ لعدم وجود آلة القياس كالوزن والمكيال ، أو لكون العوضين غائبَين مع تعذّر إحضارهما .
الصفحة 219
والصورة هذه صحيحة ؛ لتناول الأدلّة لها ، ولأنّ الحالة تقتضي اتّخاذ الصُلح طريقاً لحسْم النزاع ، ولأنّه قد يحصل بتأخير الحسم ضرر ( 87 ) .
وإلى مثل هذا ذهب الحنابلة ، فقد قال ابن قدامة : ( إنّ الجهالة لا تمنع الصحّة ؛ لكونها لا تمنع التسليم ) ، وفي موضعٍ آخر يفصّل فيقول : يصحّ الصلح على مجهولٍ إذا لم يكن إلى العلم به سبيل ( 88 ) ، مستدلّين بقول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) للمتنازعين على ما لم يستطيعا معرفته : ( استهما وتوخّيا ، وليحلل أحدكما صاحبه ) .
ومَن يرى شريطة المعلوميّة بما تصالحا عنه إنّما رتّب كون الصلح فرعاً على البيع ، والحال أنّه ليس كذلك ، بل هو هنا ( معاوضة ) ؛ الغرض منها ليس انتقال الثمن والمُثمن فقط ، إنّما الغرض الأساس هو تحقّق الإبراء وحسم النزاع ، وممّا يدلّ على أنّه لا يشترط أن يكون المصالَح عنه معلوماً ، أنّ الصُلح كما يتضمّن معنى المعاوضة يتضمّن معنى الإسقاط ، وهذا إسقاط حقٍّ ، فصحّ في المجهول .
وذهب المالكيّة إلى اشتراط معرفة المدّعي قدر ما يصالح عنه من الدَين ، فإن كان مجهولاً لم يجزْ ؛ للغَرر .
ولا يصحّ ـ كذلك ـ عند الإمام الشافعي ؛ لأنّه يراه فرعاً من البيع .
فمثلما لا يصحّ بيع المجهول لا يصحّ الصُلح على المجهول ( 89 ) .
وبهذا القدر نستطيع القول : إنّ الفروض الأربعة الأساسيّة قد شكّلت إطاراً نظريّاً لمبحث الصُلح ، اخترنا منها :
إنّ سعة نطاق الأحكام لا تحصر الصُلح في ما كان قد سبَقه نزاع ، وإنّه عقدٌ برأسه أفاد في أغلب معالجته تصحيح ( حقوق ترتّبت في وضعٍ غير رضائيّ ) ، سواء كان الوضع ذاك مادّياً أو قانونيّاً ، ولا مانع من وروده مطلقاً إلاّ إذا استهدف ـ ابتداءً ـ تسويغ المحرّم . وإنّه يصحّ مع إقرار المدّعي ظاهريّاً وواقعيّاً ، ويصحّ مع الإنكار والسكوت صحّةً ظاهريّة ، بحيث لو انكشف بطلان الدعوى على المنكِر ، بَطُل الصُلح برمّته
الصفحة 220
إلى جانب أنّه معلّق ديانةً على صدق المدّعي في ما يدّعيه ، أو في ما تصالحا عنه بعوضٍ . وأنّه لتعدّد مشاغل الحياة واتّساع مراميها وكثرة الحوادث ، لا سيّما في الظروف المعاصرة ، فإنّ من المصلحة تجويز الصُلح على ( ما جُهِل جنسه ومقداره ) ، ولا يمكن التوصّل إلى معرفته لسببٍ وجيهٍ ؛ لئلاّ يضيّع عدمُ التسويغ المالَ وحقوقَ الناس فيه ، ويصاب الناس بالحرَج ، ويتأثّر التماسك والودّ الاجتماعي .
----------------
(78) المصدر نفسه .
(79) ابن قدامة ، المغني : 4/488 .
(80) الكاساني ، بدائع الصنائع : 6/40 .
(81) الشربيني ، مغني المحتاج : 2/177 .
(82) ابن حزم ، المحلّى : 8/165 .
(83) شرح الدردير على حاشية الدسوقي : 3/309 .
(84) العاملي ، وسائل الشيعة ، كتاب الصلح .
(85) ابن قيّم الجوزيّة ، أعلام الموقعين : 1/108 ـ 109 .
(86) ابن قدامة ، المغني : 4/492 .
(87) العاملي ، مفتاح الكرامة ، كتاب الصلح ، ص458 .
(88) ابن قدامة ، المغني : 4/492 .
(89) الشهيد الأوّل ، اللمعة : 4/177 .
|