المطلب الثالث : صحّة عقد الصُلح مع إنكار المدّعى عليه
اتّفق الفقهاء على جواز الصُلح إذا كان المدّعى عليه مُقرّاً بالحقّ ( 64 ) ، واختلفوا في صحّته إذا كان ساكتاً أو منكراً على أقوال :
1 ـ ذهب الإمام الشافعي إلى عدم جوازه إذا كان المدّعى عليه ساكتاً أو منكراً ، ووافقه على ذلك ابن أبي ليلى .
2 ـ ذهب جمهور الفقهاء إلى جوازه إذا كان المدّعى عليه ساكتاً .
3 ـ أمّا مع إنكار المدّعى عليه ـ محلّ الدعوى الصُلحيّة ـ فإنّ الفقهاء فيها على قولين : ذهب الإماميّـة والحنفيّـة ( 65 ) إلى جواز عقد الصلح مع الإنكار ، بينما ذهب غيرهم إلى عدم جوازه .
أدلّة المُجيزين
استدلّ المجيزون بعدّة أدلّة منها :
أ ـ عموم النصوص الواردة في الصلح تجعله صالحاً للانعقاد مع إنكار المدّعى عليه ؛ لأنّ أدلّة الصلح عامّة لم تخصّص بدليل .
الصفحة 212
ب ـ قول الخليفة عمَر : ( رُدّوا الخصوم حتى يصطلحوا ) ، فهو إضافة إلى اعتباره بحُكم المرفوع ، فهو مُشعِر بالإجماع ؛ لأنّ القول كان بمحضرٍ من الصحابة ، فلم ينكر عليه أحد مطالباً إيّاه بالمخصّص .
جـ ـ واستدلّوا بدليل عقليّ مؤدّاه أنّ الصلح شُرّع للحاجة إلى قطع خصومة ؛ حيث إنّ الإنكار فيها أمر أغلبي ، ومنْع الصلح في تلك الحالات تضييق لأغلب ما شُرّع له .
إضافة إلى أنّ الإقرار مسالمة على الصُلح ، فوق ما له من قنوات قضائيّة وعُرفيّة لا تنحصر بالصلح ، فيبقى الصلح في أصل مقاصده مُشرَّعاً لحالات الإنكار .
لذلك مالَ أبو حنيفة ، حيث قال : ( أجوَز ما يكون الصلح على الإنكار ) .
أدلّة المانعين
استدلّ المانعون على بطلان الصلح على الإنكار بعدّة أدلّة ، منها :
إنّ الصلح على الإنكار يدخل في مستثنى الحديث : ( إلاّ صلحاً أحلّ حراماً ) ، والمُنكر لا يجب عليه شيء ، فالصُلح كأنّه استحلال ما ليس له ، وهو حرام ، فإن كان المدّعي صادقاً ؛ فإنكار المدّعى عليه يجعل الصلح معاوضة على ما لم يثبت له من حقّ ، زيادةً على أنّه خَلا من العوَض في جانبه الآخر ، وإذا كان كاذباً ، فقد أكل مال أخيه بالباطل ، ففي كلا الحالَين صار الصلح وسيلةً لأكل أموال الناس بالباطل المنهيّ عنه ، وبه يدخل في موضوع الاستثناء ؛ إذ على فرض أنّ المدّعى عليه قد بذَل المال وهو منكر لغرض قطع الخصومة ، فكأنّه أعطى مالَه رشوة ، وهي حرام .
مناقشة الأدلّة
لقد نوقشت أدلّة ( المُجيزين ) بعدّة مناقشات، أهمّها :
1 ـ إنّ الاستدلال بالعموم مع وجود المخصّص لا يمكن اعتباره والركون إليه ؛ إذ إنّ العمومات مخصّصة ، والحديث فيه استثناء ، والاستثناء هو
الصفحة 213
المخصّص ، وإذا ثبت نصّاً ، لا يُعارَض بالاجتهاد . يقول ابن حزم : ( لقد احتجّوا بعموم ( وَالصُلْحُ خَيْرٌ ) [النساء : 128] ، والعمل بالآية ليست على عمومها ؛ إذ الله تعالى لم يُرِدْ قطّ كلّ صُلح ) ( 66 ) ، فمتى استطاع المُجيزون إخراج الصلح مع إنكار المدّعى عليه من مصاديق الاستثناء صرنا إلى الجواز ، ومن جهة المجيز الشرعي لم يرِد في القرآن أو السنّة تصحيح الصلح على الإنكار ولا إسقاط اليمين ؛ إذ إنّ ذلك ليس مشترَطاً في كتاب الله وسنّة نبيّه (67) .
2 ـ إنّ قول الخليفة عمَر لا يحتمِل أكثر من الحثّ على الصلح قبل التقاضي ، وعجْز الرواية دليل على بطلان الصلح على الإنكار ، فعجْز الرواية يقول : ( إنّ فصل القضاء يورث الضغائن ) ، وأخذ مال الغير بالصلح مع إنكاره يورث الضغينة أيضاً ؛ إذ لا رضا ولا تراضٍ في صُلحٍ مع الإنكار ، إذن فقَدَ الصلح مقاصده ، فكأنّ الصلح مع الإنكار هنا صار خلاف مقصد تشريعه .
هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أُخرى لا يُحمَل قول الخليفة عمر مع إغماض العين عمّا تقدّم فقدانه لقوّةٍ قانونية مُلزمة بحدّ ذاته ؛ لأنّه لا يعدو أكثر من قولِ مجتهد ندَب الناس إلى الصُلح ، واعتبار الرواية عنه كاشفة عن إجماع الصحابة أمرٌ فيه تأمّل . وإنْ عَدّها الكاساني إجماعاً وحجّةً قاطعة ، لكن الجمهور يرى أنّه تحميل للأمر أكثر ممّا يحتمل ؛ لأنّ أقل ما يقال فيه : إنّ هذا المسمّى إجماعاً يندرج في السكوتي منه ، وهو مختلَف في حجيّته ، والباحث مع رجحان مَن يراه غير حجّة البتّة ( 68 ) .
زيادةً على أنّ القول المذكور لم يصرّح بجواز الصُلح مع الإنكار .
3 ـ أمّا ما استدلّوا به من موافقة جواز الصلح مع الإنكار لمقاصد الشريعة ، فهو معارَض بمقاصدها أيضاً ؛ إذ إنّ فتح الباب في مشروعيّة الصلح مع الإنكار ذريعة يسلكها أصحاب النفوس الضعيفة ؛ لكي يُفادى الناس الخصومات واليمين بالمال تحت عنوان الصلح ، وعند ذلك يتعارض الدليل مع نفسه أو بمثله ، فضلاً عمّا عارضه ما هو أقوى ؛ إذ إنّ المقاصد
الصفحة 214
دليلٌ لُبّي ، والدليل اللفظي مقدّم عليه مطلقاً ، وهو مُستثنى الحديث النبوي ، فيسقط اعتبار الحجيّة فيه .
وكما نوقشت أدلّة المُجيزين ، تعرّضت أدلّة المانعين إلى النقض بعدّة مداخلات ، أهمّها :
إنّه ليس مسلّماً دخول الصلح مع إنكار المدّعى عليه في مستثنى الحديث النبوي ؛ لأنّ الممنوع في الحديث أن يُجيز الصلح شيئاً محرَّماً مع بقائه على تحريمه ، كما لو اصطلحا على خمرٍ أو خنزير ، وحيث إنّ للمدّعي أن يأخذ حقّه مع إقرار المدّعى عليه أو إنكاره قضاءً أو صلحاً ، فإنّ الصلح مقدّمة للتخفيف عن القضاء ، فإن لم يحصل عليه صلحاً لجأ إلى القضاء ، وعند ذلك فالمدّعى عليه يدفع ادّعاء المدّعي إمّا بالبينّة على بطلان الدعوى أو باليمين ؛ لأنّه على المنكر . فإذا أراد أن يصون نفسه من الخصومة واليمين فله ذلك ، والشرع لا يمنع منه وقايةً لنفسه ولدفع الضرر عنه ، فإنّه يسوغ له ، لهذه الغاية بذَل المال مفاداةً ليمينه ؛ ولهذا ليس مسلّماً أن يدخل الصلح مع الإنكار في مستثنى الحديث .
وبذْله للمال هنا يجعله على عوض ، وليس على غير معاوضةٍ ، وهو أنّ للمدّعي حقّ تحليف المُدّعى عليه المنكِر ، فله أن يتفاداه بالمال ، فكأنّ المال هنا صار عوضاً عن حقٍّ ترتّب في الذمّة ولم يُؤدَّ ، فاعتباره رشوة مسألة غير مسلّم بها ، وكذا كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل ؛ إذ المفترض أنّ الدعوى صادرة من ذي حقّ ، وادّعاء كونه أكلاً لأموال الناس بالباطل يصحّ إذا قطعنا بأنّ المدّعي كاذب في دعواه ، وحيث إنّ القطع منتفٍ ، فالنتيجة تلك فاسدة لفساد مقدِّماتها .
يقول ابن قدامة : ( فإمّا أن يكون المدّعي كاذباً فالصلح باطل في الباطن ؛ لأنّه أكلُ مالٍ بالباطل ، وليس عوضاً عن حقّ ، فيكون حراماً ) ( 69 ) .
ويرى ابن قدامة المقدسي أيضاً : ( أرأيت أنّ الفقهاء يُبيحون لمَن له حقّ يجحده غريمه أن يأخذ من ماله بقدَره ، فإذا حلّ له ذلك من غير اختباره
الصفحة 215
فإنّ الرضا بذلك أَولى ، وهو يتحقّق بالصُلح ) ، ويرى كذلك : ( إنّ هذا الصلح ليس فعلاً محرّماً ؛ لأنّ المدّعي يأخذ حقّه من المنكِر لعِلمه بثبوت حقّه عنده ، ولمّا كان المنكر يدفع المال لإنهاء الخصوم واليمين ، وللتخلّص من شرّ المدّعي ، فإنّ هذا لا يمنع منه نصٌّ ولا إجماع ) ( 70 ) .
رأي الباحث :
يرى الباحث في هذا الخلاف رجحان ما ذهب إليه بعض علماء الإماميّة من التفصيل ، فقد فرّقوا بين الصحّة الواقعيّة والصحّة الظاهريّة ، واعتبروا الصُلح مع الإنكار صحيحاً ظاهراً ، واحتجّوا بالمقاصد التي احتجّ بها الجمهور ، ذاهبين إلى أنّه لمّا كان الصلح وسيلةً لإنهاء الخصومة ، فإنّه لو لم يصحّ مع الإنكار لامتنعت أكثر فوائده ، لكنّه هنا صُلحٌ ظاهريّ مع صدق إنكار المدّعى عليه بما يفيد براءة الذمّة .
وقد وردت صحيحة عمَر بن يزيد ، عن جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : ( إذا كان للرجُل حقّ ، فمَطله حتى مات صاحبه ، ثُمّ صالح ورثته على شيء ، فالذي أخذه الورثة لهم ، وما بقي فهو للميت يستوفيه في الآخرة ) ( 71 ) .
ويترتّب على هذا التفريق أنّه : إن كان المدّعي باطلاً في نزاعه لم يستبِحْ ما صُولحَ به ؛ لأنّه من صور الإكراه على الصُلح ، أو استثمار طريق شرعيّ لغاية محرّمة ( 72 ) ، وإن كان محقّاً فله أخذ العوَض أو طلب اليمين ، أو للمدّعى عليه دفع المال بدل اليمين ، وهنا يحيل فقْه الإماميّة ـ كما يبدو للباحث ـ أمر النظر في صُلحٍ قضائي ـ مثلاً ـ مع إنكار المدّعى عليه فحْص ( دعوى المدّعي ) ، إلى القاضي أو الحاكم الشرعيّ .
يقول العاملي : ( إلاّ إذا كانت الدعوى مستندة إلى شبهةٍ أو قرينةٍ يخرج بها عن الكذب المحْض ) ( 73 ) .
وعند ذلك تتحقّق الصحّة في الأمر نفسه ؛ لأنّ اليمين المترتّب على ادّعائه حقٌّ يصحّ الصلح على إسقاطه . لكن ابن قدامة يرى أنّ الظاهر للقاضي هو مبنى الصحّة ؛ لأنّه لا يعلم باطن الحال إنّما يبني الأمر على الظواهر ، لا سيّما أنّ الظاهر من المسلم صحّة المدّعى ( 74 ) .
الصفحة 216
الثمرة المستفادة من تفصيل رأي الإماميّة :
إنّ الحكم بالصحّة ظاهراً يصحّ إذا كان الواقع مشتبهاً ، ولم يُعلَم المبطِل منهما بعينه ، وإن كان هذا الصلح لا يُبيح للمبطل منهما شيئاً في نفس الأمر ـ الصحّة الواقعيّة ـ بحيث لو انكشف الحال بعد الصلح بغير ما تصالحا عليه عُمل بالمنكشف ، وحُكم ببطلان الصلح الظاهريّ ، بل إذا انكشفت بيّنة تُعدّل من حصص المتصالحَين ، أو تلغي الصلح برمّته حكم بها على الأظهر ، ولو بعد إتمام الصلح الظاهريّ الذي كانت وسائل الإثبات فيه قد توصّلت إلى حقوق ( 75 ) . ويستفاد من ذلك كلّه أنّ عدم القطع بالواقع جملة لا ينافي إجراء الحكم في الظاهر عند عدم التوصّل إليه .
ومن ثمراته : إنّ الحكم بصحّة الصلح صحّةً ظاهريّة حكمٌ مؤقّت يحسم في وقتٍ ما النزاع من جهة ، ويضمن حقوق المنكِر في الدنيا من جهةٍ أخرى لحين توفّر البيّنة له ، ويُعَدّ ( باطلاً ) ديانةً إذا كان المدّعي مبطلاً في دعواه .
ومن ثمراته أيضاً : إنّ الصلح لا يُعَدّ إقراراً مطلقاً بما تصالحا عنه أو عليه ، بل أمراً قابلاً للفسخ إذا انكشف أمر يعدل ترتّب الحقوق ، فلو ظهر أنّ أحد الطرفين لا يستحقّ العوض المصالَح به ؛ لعدم ملكيّته بما صالح عنه بَطُل الصُلح ، وعند ذاك يكون الصلح مع الإنكار حالةَ صلحٍ مؤقّتة .
يقول الشهيد في اللمعة : ( إنّ مَن يطلب الصلح لا يعَدّ منه إقراراً بالحقّ على مَن يرى صحّة الصلح مع الإنكار ) ، أمّا مَن يرى تفرّده في ما أقرّ به المدّعى عليه ، فيَعدّ طلبه إقراراً منه ، فيكون مجرّد الطلب ملزماً له ( 76 ) .
ويرى في الوسيلة أنّه لمّا صرنا إلى أنّ الصلح يصحّ مع الإنكار ، لمْ يكن القبول به إقراراً بالحقّ ، بخلاف ما لو قال : بِعْني ، أو : ملِّكني ، فهو إقرار بعدم كونه مِلكاً له ( 77 ) .
ــــــــــــــ
(63) الميرغيناني ، الهداية : 3/192 .
(64) السرخسي ، المبسوط : 20/139 ، الكاساني ، بدائع الصنائع : 6/40 ، ابن رشد ، بداية المجتهد : 2/290 ، الدردير ، الشرح الكبير : 3/3 ـ 9 ، الحلّي ، المختلف : 2/18 ، الشهيد الأوّل ، اللمعة : 4/177 .
(65) ظ : الشربيني ، مغني المحتاج : 2/180 ، المهذّب : 1/333 ، ابن قدامة ، المغني : 4/482 ، العاملي ، مفتاح الكرامة ، ص 458 ، النجفي ، جواهر الكلام : 26/212 ، المحقّق الحلّي ، الشرائع : 2/123 ، الزحيلي ، الفقه الإسلامي : 1/192 .
(66) ابن حزم ، المحلّى : 8/162 .
(67) المصدر نفسه .
(68) السمرقندي ، ميزان الأُصول ، ج2 .
(69) ابن قدامة ، المغني 4/477 .
(70) المصدر نفسه : 8/162 .
(71) الحرّ العاملي ، وسائل الشيعة ، كتاب الصلح .
(72) محمّد جواد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ص458 .
(73) المصدر نفسه .
(74) ابن قدامة ، المغني : 4/478 .
(75) النجفي ، جواهر الكلام : 26/212 .
(76) الشهيد الأوّل ، اللمعة : 4/176 .
(77) أبو الحسن الموسوي ، الوسيلة : 1/563 .
|