المطلب الرابع : أدلّة مشروعيّة الصُلح
لقد دلّت على عقد الصلح مجموعة من الأدلّة من الكتاب المجيد والسنّة المطهّرة والإجماع ، ودلّ العقل على جوازه ، وفي ما يأتي بعض أدلّة الجواز :
1 ـ من الكتاب
أ ـ ( وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء : 128] .
ب ـ قوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ) [الأنفال : 1] .
قال المفسّرون : ( أي ما بينكم مِن الخصومة والمنازعة ) ( 24 ) ، ووضّحها القرطبي قائلاً : ( أي ما يقع في حال الاجتماع من مَيل النفوس إلى التشاحّ ، فأمرَهم الله بإنهاء الخصومة ) ( 25 ) .
الصفحة 202
جـ ـ ( لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ ) [النساء : 114] .
د ـ قوله تعالى : ( إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) [الحجرات : 10] .
لقد فهِم المفسّرون من هذه الآيات أنّها واردة في الحثّ على رفع الفتنة بإيقاع الصلح ، واستدلّوا بها على مشروعيّة الصُلح بمصطلحه الفقهيّ ( 26 ) .
2 ـ مِن السُنّة المطهّرة
أ ـ ما روي عن الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) مرفوعاً وموقوفاً أنّه قال : ( الصُلح جائز بين المسلمين ، إلاّ صلحاً أحلّ حراماً أو حرّم حلالاً ) ( 27 ) .
رواه الترمذي ، وغيره ، وروى أيضاً بزيادة : ( والمسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً ) ، قال الترمذي : هذا الحديث صحيح ( 28 ) .
وقد ورد الحديث عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) عنه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) بلفظ : ( الصُلح جائز بين المسلمين ) ، وفي رواية : ( اشترطوا طِيبة صاحب الحقّ ) ( 29 ) .
ب ـ ومن سيرته أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصلح بين بني عمرو بن العوف ، وأصلح بين كعب بن مالك وابن أبي حدرد ، بأنّه استوضع من دَين كعب الشطْر وأمر غريمه بقبول الشطْر ( 30 ) .
جـ ـ وروي عنه أنّه قال لرجُلين احتكما عنده : ( اذهبا فاقتسما ، ثُمّ توخّيا الحقّ ، ثُمّ اسْتهِما ، ثُمّ ليحلّل كلّ منكما صاحبه ) ( 31 ) .
3 ـ مِن أقوال الصحابة وإقراراتهم
أ ـ نقل عطاء عن ابن عبّاس ( رضي الله عنه ) أنّه كان لا يرى بأساً بالمخارجة ، يعنـي الصُلـح فـي الميـراث ( 32 ) .
ب ـ صولحت امرأة عبد الرحمان بن عوف من نصيبها ربُع الثمن على ثمانين ألفاً ( 33 ) .
الصفحة 203
جـ ـ روى مسعر ، عن أزهر ، عن محارب ، عن عمَر أنّه قال : ( ردّوا الخصوم متى يصطلحوا ، فإنّ فصل القضاء يُحدث بين القوم الضغائن ) ( 34 ) .
وروى عنه ( رضي الله عنه ) أيضاً قوله : ( ردّوا الخصوم لعلّهم يصطلحوا ؛ فإنّه آثـر للصدق ، وأقـلّ للخيانـة ) ( 35 ) .
4 ـ مِن الإجماع
ما استفاضت به أقوال العلماء في حصول الإجماع على مشروعيّته مجملاً من غير خلاف بين العلماء ( 36 ) .
وقد نقل العاملي الإجماع على جواز الصلح ( 37 ) ، ونقل ابن قدامة ( 38 ) والشيخ الطوسي ( 39 ) وابن إدريس ( 40 ) إجماع المسلمين على جوازه .
5 ـ مِن العقل
نجد أنّ انسداد طريق إنهاء المنازعات يتعارض مع أهمّ غاية من غايات التشريع ؛ وهي إعطاء كلّ ذي حقٍّ حقّه ، وإزالة الضغائن ، فإذا تعسّر الوصول إلى إثبات الحقّ بقيت آثار سيّئة في النفس ، فلا بدّ من طريق يحلّ التنازع ؛ لذلك وصَفه القرآن بأنّه خير .
يقول السيوري في الآية الكريمة : ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) [النساء : 128] : أي خير عظيم ، أو خير من الخيرات ، كما أنّ الخصومة شرّ من الشرور ( 41 ) ، ويفيد هذا الفهْم أنّ لفظ ( وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) على أنّه صيغة أفعل التفضيل ، أي خير مِن تمسُّك كلٍّ بحقّه ، وهذا وإن كان معارضاً بقاعدة شرعيّة ، إلاّ أنّه خير من الخيرات .
ممّا تقدّم يتبيّن لنا أنّ عقد الصلح مجملاً عقدٌ جائزٌ ، دلّت عليه أدلّة الشرع ، ولكن هذا الجواز وقع عليه مجملاً ، أمّا في تفاصيله ، فقد اختلف العلماء فيها ، وسنعرض لخلافهم في المبحث القادم .
ــــــــــــــــــ
(24) الطبرسي ، مجمع البيان : 3 ـ 4/519 .
(25) القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 7/364 .
(26) ظ : أحكام القرآن للجصاص ، ومسالك الافهام للكاظمي ، ومنتهى المرام لمحمّد بن الحسين الزيدي ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي .
(27) الزيلعي ، نصب الراية : 4/114 ، الشوكاني ، نيل الأوطار : 5/254 ، الجامع الصّغير : 2/50 ، التلخيص الحبير ، ص 249 ، صحّحه الترمذي وابن حبان وابن ماجة ، ورواه أحمد وأبو داود ، ووصفه السيوطي بالصحّة ، وردّه ابن حزم ؛ لأنّه انفرد فيه كثير بن عبد الله بن زياد بن عمر ، وهو عنده ساقط .
(28) ابن قيّم الجوزيّة ، أعلام الموقّعين : 1/107 .
(29) الحرّ العاملي ، وسائل الشيعة ، باب الصلح ، رواه ابن بابويه مرسلاً ، ب3 ، ج2 ، الصلح .
(30) ابن قيّم الجوزيّة ، أعلام الموقّعين : 1/107 .
(31) المصدر نفسه .
(32) المصدر نفسه .
(33) المصدر نفسه .
(34) المصدر نفسه .
(35) المصدر نفسه .
(36) الزحيلي ، الفقه الإسلامي : 2/191 ، ظ : ابن رشد ، بداية المجتهد : 2/290 .
(37) محمّد جواد العاملي ، مفتاح الكرامة ، ص 454 .
(38) ابن قدامة ، المغني : 4/476 .
(39) الطوسي ، المبسوط ، كتاب الصلح ، ط . حجريّة .
(40) ابن إدريس ، السرائر ، كتاب الصلح ، ط . حجريّة .
(41) السيوري ، كنز العرفان : 3/77 .
الصفحة 204
|