متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الرابع : مبدأ التوبة وأثره في ترسيخ الأمن الاجتماعي
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الرابع : مبدأ التوبة وأثره في ترسيخ الأمن الاجتماعي

يقرّر الفقهاء أنّ التوبة باب مشرع ليدخل منه المذنبون إلى رحمة الله ، والسلوك السويّ عامّة ، بل يقرّر الفقهاء أنّ قُطّاع الطُرق لو تابوا قبل قدرة السلطان عليهم ، فإنّ الحدّ يسقط عنهم وجوباً ، وهذا حكمٌ اتّفق عليه الفقهاء ؛ لقوله تعالى : ( إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ) [المائدة : 34] ( 115 ) . وفي العُصاة مطلقاً ، فإنّ التوبة تُسقط العقوبة عند الإمام أحمد ،


الصفحة 178

سواء رُفع الأمر إلى الحاكم أم لا ؛ استند في ذلك إلى حديث النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( التائب من الذنب كمَن لا ذنب له ) ( 116 ) .

وقوله أيضاً : ( التوبة تجُبّ ما قبلها ) ( 117 ) .

ولأنّ في إسقاط الحدّ ترغيباً في التوبة ، ما عدا حدّ القذف ، فإنّه لا يسقط حقّ آدمي ، وكذلك في القتل لتعلّق الحقّ الشخصي به لوليّ الدم ، وتُسقط التوبة التعزيرات التي تقام حقّاً لله تعالى ، كتعزير مفطِر رمضان ، وتارك الصلاة ، وآكل الربا ، ومَن يحضر موائد الخمر ومجالس الفسق ، ومَن باشر امرأة أجنبيّة في ما دون الجُماع ، فيَسقط التعزير بالتوبة ( 118 ) .

ويقول القرافي : ( إنّ التعزير مطلقاً يسقط بالتوبة ، ما علمتُ في ذلك خلافاً ) ( 119 ) . وهو مذهب الزيديّة في ( البحر الزخّار ) ( 120 ) .

ويرى صاحب ( الشرائع ) و( الجواهر ) ( أنّ الحدّ يسقط بالتوبة قبل البيّنة ، ومع الإقرار والتوبة يكون الإمام مخيّراً ) ( 121 ) ، فقد جاء في مُرسلة جميل عن أحد الأئمّة ( عليهم السلام ) في رجُل سرق أو شرب خمراً أو زنى ، فلم يُعلَم ذلك منه ولم يؤخذ حتى تاب وصلُح ، قال ( عليه السلام ) : ( إذا صلُح وعُرِف منه أمر جميل لم يقم عليه الحدّ ) (122) .

وذهب صاحب ( الجواهر ) إلى أنّ اللائط لو تاب قبل قيام البيّنة سقط الحدّ ( 123 ) ، ( ولو كان مقرّاً ، كان الإمام مخيّراً بين العفو والاستيفاء ، وكذلك في السحْق ) ( 124 ) .

وذكر الفقهاء ( أنّه مَن باع الخمر مستحلاًّ يُستتاب ، فإن تاب ، وإلاّ قُتل ، أمّا شارب الخمر ، فإن تاب قبل البيّنة سقط الحدّ ) ( 125 ) .

الخاتمة

لقد اتّضح لنا من خلال البحث : أنّ العقيدة الإسلاميّة والتشريع لهما أثر هامّ في تشكيل تصوّر واضح للإنسان المسلم عن جوانب السلوك الإيجابيّ الفعّال ، ومكافحة العوامل المساعدة على نشوء الباعث على الجريمة .


الصفحة 179

وإنّ هذا التشريع يعتمد سُبل وقائيّة أوّلاً .. ، مبتغياً من ذلك تقليل الوسائل العقابيّة ، لكنّه لا يتركها إذا ما ظهرت ، جاعلاً مفهوم التوبة باباً واسعاً لعودة الخارج عن القانون إلى مجال الفعاليّة الإيجابيّة في المجتمع .

وبذلك تؤسّس الشريعة نظريّة للأمن الاجتماعي تُعدّ أرقى نظريّات سيادة مبدأ القانون في المجتمعات المعاصرة .

وظهر أنّ الإسلام يوسّع مفهوم الجريمة إلى كلّ ذنب ( مخالفة للتشريع ) ، ويسعى لوقاية الإنسان منها جميعاً ، لكنّه في مجال العلاج يجعل لبعضها ـ ذات المدى الخطير ـ عقوبات يسند تقريرها للقضاء ولجهاز الحسَبة ، بينما يترك الأُخرى للعقوبات الأُخرويّة ، وهكذا فإنّ مجالات النشاط الإنساني في التشريع الإسلامي كلّه محكومة القانون والجزاءات بشكلَيها الدنيوي والأُخروي .

ولا يقف التصوّر الإسلامي في مفهومه  للباعث عند رؤية أُحادية ، بل يعدّد بواعث اقتصاديّة ، مناخيّة ، نفسيّـة ... إلخ ، ما هي في تصوّر الإسلام إلاّ صور خارجيّة للباعث الذي يراه .

ويلحظ في أُسلوب الإسلام أنّه يُركّز على الإيمان والعمل الصالح والتقوى بمختلف الوسائل ، الأمر الذي يعدّ مصادرة للبواعث على الجريمة وإلغاء أثرها . ويلحظ الباحث أنّ الجريمة الاقتصاديّة قد حفلت باهتمام الشريعة تحديداً ووقايةً وعلاجاً ، لِما تقرّر من أثر حبّ المال والملكيّة من دفْعٍ نحو السلوك العدواني ، الأمر الذي يمكّننا من القول : إنّ الترابط العضوي بين العقيدة والنُظم الحياتيّة من جهة ، وتنزيه السلوك من الباعث والنزوع إلى العدوان على حقوق الغير من جهة أخرى ، ترابط رفيع المستوى ، متجسّد بربط النشاط بالقيَم والفضائل ، وربطه بالمفاهيم العامّة للمال والملكيّة ، وتركيزه على كفاية الفرد ، وسيادة مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وفكرة المعاد وتوابعه .


الصفحة 180

ويلحظ من البحث : أنّ الإسلام يؤسّس اقتصاداً قيميّاً لا رقميّاً ؛ حيث يُرسي قاعدة الحلال والحرام لتعرف بموجبها إسلاميّة الإنتاج والتبادل ، كما يستخدم التوزيع ... لتحقيق مبدأ الكفاية ، كما أنّه له فهْمه للربح والخسارة بما يتعدّى الحياة الدنيا إلى إقراض الله قرضاً حسناً في تحقيق التضامن الاجتماعيّ . ويلحظ أنّ الإسلام يحافظ على الموارد لهذا الغرض ، فيَعدّ تعطيلها جريمة ، ويرى أنّ الإسراف والاستخدام غير الرشيد في الاستهلاك من المُخالفات القانونيّة للإسلام .

وظهر من البحث : أنّ المعاملات الربويّة ـ أيّما كان مقدار الفائدة فيها ـ من الجرائم الاقتصاديّة ، وهو ـ هنا ـ ينفرد عن النظم الاقتصاديّة والقانونيّة ، لِما يترتّب على الاقتصادات الربويّة من آثار على زيادة كُلفة الإنتاج ، بما يؤثّر على تفاوت التوزيع وإحياء الصورة الاقتصاديّة للباعث على الجريمة .

ويؤسّس نظريّةً في الاحتكار وإفساد العَرْض والطلب ؛ إذ يترك الفرد يمارس نشاطه من دون حظرٍ في حالات الكفاية الإنتاجيّة والشرائيّة ، بينما يتدخّل لمصلحة الفرد في الحالات الخاصّة التي يتطلّب فيها التضامن الإنتاجيّ والتوزيعّي بين أفراد المجتمع .

وفي جرائم العُملة يُظهر تصوّر الإسلام الناضج في حماية عُملة دار الإسلام ، وربَط ذلك بكميّة الإنتاج وسرعة التداول ، الأمر الذي يؤسّس إطاراً نظريّاً في مكافحة التضخّم ؛ لِما لَه من آثار هامّة في إشاعة الجريمة .

ويظنّ الباحث أنّ بحثه قد حقّق أهدافه في ملامسة نظريّة الأمن الاجتماعيّ ، وعَرْض محاورها وآثارها في إقامة المجتمع الإيجابّي والفاعل .

... يرجو الباحث أن يكون قد قدّم ورقة بحث نافعة ... ، ابتغاء لوجهه الكريم ... ، متضرّعاً إليه تعالى أن يجعله صدقةً جارية .

 

------------------

( 115 ) الزحيلي ، ( م . س ) : 2/387 .

( 116 ) المصدر نفسه .

( 117 ) المصدر نفسه .

( 118 ) المصدر نفسه : 2/390 .

( 119 ) القرافي ، ( م . س ) : 4/181 .

( 120 ) المرتضى ، ( م . س ) : 5/211 .

( 121 ) النجفي ( محمّد حسن ) ، ( م . س ) : 41/308 .

( 122 ) الحرّ العاملي ، ( م . س ) الباب 16 ، حدّ الزنا .

( 123 ) النجفي ( محمّد حسن ) ، ( م . س ) : 41/307 .

( 124 ) المصدر نفسه : 41/390 .

( 125 ) المصدر نفسه : 41/468 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net