متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
المبحث الثالث : مبدأ كفاية الفرد وأثره في وقاية المجتمع من الجريمة
الكتاب : دراسات في الفكر الإقتصادي الإسلامي    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

المبحث الثالث : مبدأ كفاية الفرد وأثَره في وقاية المجتمع من الجريمة

مرّ بنا القول إنّ عدداً كبيراً من الباحثين يعتقد أنّ الفقر حالة دافعة إلى الجريمة ، سواء كانت رئيسة كما يراها أصحاب نظريّة الباعث الاقتصاديّ ، أمْ مساعدة كما يراها المفكّرون المسلمون ، فالفقر ـ بوصفه انخفاضاً في دخل الفرد أو قصوره أو عجزه عن تلبية حاجاته الأساسيّة وسدادها ـ يشكّل علاقة جدليّة مع الجريمة ، أيّاً كانت درجة الباعث ؛ لأنّ الفقر يعوّق الفرد عن الإسهام في النشاط الإيجابي ، وأنّه باعتباره ضعفاً في التراكم العامّ يشكّل وسطاً لانتشار البطالة .. وسبباً في البؤس ، إلى جنب طبقة صغيرة مترَفة ، كلّ ذلك مع نقص الإيمان وضعف التقوى يؤدّي إلى ارتكاب الجرائم عامّة ، فقد وجدت دراسة جرت في أمريكا وانكلترا أنّ البطالة عامل هامّ في إحداث السلوك الإجراميّ .

وأجرت جامعة هارفرد ( 1950م ) دراسة على عيّنة ( 200 ) من الأحداث الجانحين ، فوجدت أنّ ( 75% ) من أُسَر هؤلاء ذات مستوىً اقتصاديٍّ متدَنٍ .


الصفحة 176

ومثلها في إيطاليا وُجد أنّ بالغين مجرمين محكوم عليهم ينتسب ( 85 ـ 90% ) منهم إلى أُسر فقيرة .

ووُجد العوجي أنّ جرائم الاتّجار بسلع محرّمة ، والرشوة ، والسرقة ، كـان باعثها تدنّي الأُجـور وتقلّبـات الدخْـل (105) .

فما هو الموقف الإسلامي من ضرورة تحقيق كفاية الفرد ؟ وما أثره في تقليل نِسَب الجريمة ؟

إنّ نظرة واحدة إلى مصارف الزكاة تفيد أنّها تشكلّ عناصر مبدأ كفاية الفرد ، فالفقير ـ عند الفقهاء ـ هو من لا يملك قُوتَ سنَتِه ، ومَن يعول على الكفاية ( 106 ) ؛ لذلك تنصّ نظريّة التوزيع الإسلاميّة على ( أن يُعطى حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ) ( 107 ) ، وهو بذلك يشمل العاجزين عن العمل بمرض أو بطالة ، ومَن ينقص أجرهم عن متطلّباتهم ، والمحتاجين لأدوات مِهَنِهم ، والمتفرّغين للتحصيل العلمي ( 108 ) .

قال الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ الله فرَض في أموال الأغنياء للفقراء بقدَر ما يستغنون ) ( 109 ) .

وقد ذهب الشافعيّة إلى أنّه يجوز إعطاء الزُمّن العاجز نهائيّاً عن العمل لعوَق أو مرض مزمِن ، ويدخل في كفاية الفرد الغارمون ـ وهُم الذين عجزوا عن سداد ديونهم ـ ( 110 )  فيُجعل لهم رصيداً ماليّاً يسدّد عنهم دَينهم ، فيزيل عنهم الباعث على العدوان ، ويلحظ فيه أنّه غلْقٌ عمليّ لدوافع جريمة الربا ، ويسدّد عن الغارم ـ عند الفقهاء ـ حتى إذا مـات .

قال صاحب ( الجواهر ) : ( إذا مات المدين وليس في تركته ما يفي دينه يؤدّي عنه من مال الزكاة ) ( 111 ) .

ويقرّر الفقهاء في من يستطيع بالعمل سداد دَينه أن ينتظر ـ وجوباً ـ إلى وقت يساره ، ويعفيه المشرّع الإسلامي من بيع مسكنه ومتاعه لسداد الدَين ( 112 ) ، وتتولّى مصارف الزكاة حالات الفقر الطارئ لأسباب مؤقّته كابن


الصفحة 177

السبيل ، وهو المسافر المنقطع عن ماله مؤقّتاً ، فيعطى إلى حين تمكّنه من التصرّف بماله ، ولا يسترجع منه ما أُعطي ، يقول الشيخ الطوسي : ( إنّه ملَكها بالإعطاء ) ( 113 ) .

ويذهب الفقه الإسلاميّ إلى أكثر من ذلك ، فهُم يكفلونه حتى لو وجد مَن يُقرضه ، يقول القرطبي : ( لا يلزمه أن يشغل ذمّته بالسَلف ) ( 114 ) .

ولو لاحظنا الخُمس لوجدناه وسيلةً ماليّةً هامّةً ؛ لتعديل المداخيل باقتطاع ( 20% ) من الفوائض لصالح فئات العجز الدخلي .

وهناك الكفّارات والنذور والوقْف ، وهناك استثمارات الدولة للأرض الخراجيّة ، والمعادن والسياحة ، وغيرها من موارد الضمان الاجتماعي .

إنّ عجْز شخص واحد في عصر الصحابة ظاهرة يتوقّف عندها أمير المؤمنين ( عليه السلام ) حين مرّ بشيخ يتكفّف الناس ، فيسأله سؤال المستغرب الذي فوجئ بوجود ما لا يجب أن يكون في رعيّته : ( ما ألجأك إلى هذا ؟ ) ، ويعالج أسباب التكفّف بما يلغي حالة واحدة من ظاهرة مُدانة .

إنّ نظريّة التوزيع حين تكفّل الفرد ، فهي إنّما تكفّه عن التعرّض لأموال الأفراد أو الأموال العامّة ، وتسهم في الكفاية الإنتاجيّة تأهيل الفرد ، وصرْف طاقاته في الإبداع . وهكذا تُتمِّم سيادة مبدأ كفاية الفرد تحصين الإسلام للمسلم بالتقوى .

 

-----------------

( 105 ) وقائع المؤتمر السابع للأُمم المتّحدة لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين / ميلانو ( 1985م ) ، ص : 3/128 .

اُنظر : د . خليفة ( م . س ) ، ص : 104 .

( 106 ) النجفي ( محمّد حسن ) ، ( م . س ) : 15/324 ، ابن عابدين ، ( م . س ) : 2/58 ، ابن قُدامة ، ( م . س ) : 2/692 ، القرطبي ، ( م . س ) : 8/173.

( 107 ) أبو عبيد ، ( م . س ) ، ص : 227 و228 .

( 108 ) المصادر الفقهيّة نفسها في الهامش ( 106 ) .

( 109 ) الحرّ العاملي ، وسائل الشيعة : 6 / 185 .

( 110 ) النووي ، المجموع : 6/194 ، الإمام الشافعي ، الأُم : 2/58 ، الرملي ، ( م . س ) : 6/153 .

( 111 ) النجفي ( محمّد حسن ) ، ( م . س ) : 15/369 .

( 112 ) أبو زهرة ( محمّد ) ، المؤتمر الثاني للبحوث الإسلاميّة ، ( الزكاة ) ، ص : 164 . النجفي ، ( م . س ) : 15/ 369 .

( 113 ) الطوسي ، المبسوط ، باب الزكاة .

( 114 ) القرطبي ، ( م . س ) : 8/180 .


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net