الفصل الثاني : السُبل العامة للوقاية من الجريمة الاقتصادية
المبحث الأوّل : مفهوم الإسلام للمال والملكيّة وأثَره في الوقاية
للعقائد الشموليّة مفاهيم منتزعة من أكثر من حكم فرعيّ ، وللإسلام مفهومات عن المال والملكيّة .. تميّزه عن النُظم الأُخرى . ولنحاول كشْف النقاب عن تصوّر الإسلام للمال ؛ لنرتّب على هذا التصوّر أُسلوب المكلّفين ممّن آمَن بهذا الدِين في تعاملاتهم الماليّة :
عرّف الفقهاء المال بأنّه : ما يميل إليه الطبع ، ويمكن ادّخاره لوقت الحاجة ( 93 ) .
وعرّفه آخرون : إنّه اسم لغير الآدمي ، خُلق لمصالح الآدمي ، ويمكن إحرازه والتصرّف فيه على وجه الاختيار .
وعرّفه الشيخ الخفيف : إنّه كلّ ما يمكن حيازته والانتفاع به على وجهٍ معتاد ( 94 ) .
وعرّفه السيوطي في ( الأشباه ) : كلّ ما لَه قيمة يُباع بها ، ولا يلزم تلَفه وإن قلّت ، وما لا يطرحه الناس .
وقد ورد لفظ المال في القرآن في غير موضع :
( لاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ ) [النساء : 29] ،
( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهّرُهُمْ وَتُزَكّيهِم بِهَا ) [التوبة : 103] ،
( إنّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنّ لَهُمُ الْجَنّةَ ) [التوبة : 111] .
وورد في السنّة قول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما تلف مال في بَرّ ولا بحر إلاّ بحبْس الزكاة ) (95) .
وقد قسّمه العلماء إلى متقوّم وغير متقوّم ، وأعطوا للمتقوّم صفة الماليّة ، واشترط الفقهاء للماليّة شرطين هما : كلّ ما يمكن حيازته والانتفاع به شرعاً ، وبذلك يكون الفقهاء المسلمون أوّل من فرّق بين السلع الحرّة والسلع الاقتصاديّة ؛ الأمر الذي له أثر في مجال حلّ المشكلة
الصفحة 170
الاقتصاديّة ؛ حيث لا يعدّ الفقهاء ضوء الشمس والماء الجاري في الأنهار العامّة والهواء من أصناف المال المُتقوّم .
وتوقّف علماء الحنفيّة عند كون المال أعياناً ؛ لذلك استبعدوا الحقوق ـ عدا منفعة العين المؤجّرة ـ من مفهوم المال ، مثل حقّ الشُفعة لعدم إمكان حيازتها . أمّا الجمهور ، فإنّهم يرون الأعيان والمنافع المحلّلة المقصودة مالاً متقوّماً يمكن أن يورَث ، وتجري عليه النواقل الشرعيّة ، وقد حدّد النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) في بعض أحاديثه أنّ المال وسيلة للوصول إلى القُرُبات عند المؤمن ، ولنأخذ لذلك عيّنة :
قال ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( ما أنعم الله على عبد نعمة ، فحمَد الله عليها ، إلاّ كان ذلك الحمْد أفضل من تلك النعمة وإن عظُمت ) ( 96 ) .
وقال أيضاً : ( ما أنفق الرجُل في بيته وأهله ووُلده وخَدمه ، فهو له صدقة ) ( 97 ) .
فالمال ـ إذاً ـ وسيلة للوصول إلى أداء الواجبات ، وتحقيق الكفايات والمندوبات ، والإنفاق المقتصد في المباحات .
وإنفاق المال حرام على المحرّمات ، مندوبٌ إلى ترْك إنفاقه في المكروهات ، وقد حثّ النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أصحابه على البذل والعطاء في الوقْف والتحبيس والصدقة من غير عزيمة ولا أمر ، وحثّ على الوصول إليه بطُرُق شرعيّة ، وحرّم السُحْت بأنواعه كافّة ، وقرّر عقوبات على السرقة والغصب والسلب والغشّ والجباية الظالمة ، فقد روى ابن حبّان والحاكم أنّه ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) قال : ( لا يحلّ لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طِيب نفس منـه ) ( 98 ) .
وترِد الملكيّة بوصفها سلطة على المال تُسنَد لفردٍ أو أفراد ، إذا صحّت نسبتها إليه بوسائل شرعيّة ، فالملكيّة ـ إذنْ ـ حكم شرعيّ موضوعه المال ؛ لذلك يعرِضُها الفقهاء :
بأنّها حكم شرعي مقدّر في العين أو المنفعة ، يقتضي تمكّن مَن تُضاف إليه الانتفاع بالمملوك ، وأخْذ العـوَض عنـه ( 99 ) .
الصفحة 171
ويرى ابن الهمام أنّها : ( القدرة على التصرّف ابتداءً ) ( 100 ) .
وعرّفها الزرقاني بأنّها : ( اختصاص حاجز شرعاً يسوّغ صاحبه التصرّف إلاّ لمانع ) ( 101 ) .
والملكيّة في الإسلام ليست مطلقة كما هي في النُظم الفرديّة ، ولا هي على ذمّة المجموع والفرد غائب عنه .. إنّما هي على ذمّة الفرد أصالة ، لكن تلحقها قيودٌ ، بناءً على فلسفة الاستخلاف لصالح المجتمع ، وما تؤسّسه الشريعة من حقوق على المال ؛ لقول الرسول ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّ دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلـى أن تلقـوا ربّكـم ) (102) .
ولقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( كلّ المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعِرضه ) ؛ لذلك يرِد على الملكيّة :
1 ـ عدم استخدامها في ما حرّم الله من التصرّف لكون صاحبها مانعاً لحقوق الله ، أو يتّخذها للتسلّط والظلم .
2 ـ عدم استخدامها لإلحاق الضرر بالآخرين .. ، ولنا : رواية سمرة بن جندب وما حصل في عهد عمَر من إجبار محمّد بن مسلمة على أن يمرر الضحّاك بن خليفة خليجاً في أرضه ( 103 ) .
3 ـ منْعه من الإسراف وتبديد الأموال والوقوع في حمأة تضييع الثروة .
4 ـ منْعه من الاحتكار ومحاولة تهريب المال خارج دار الإسلام .
إنّ المصاديق الواردة من القيود مبنيّة على أساس منع الإضرار بالآخرين ؛ لأنّ كلّ حقّ في الإسلام مقيّد بمنع الضـرر ؛ استناداً إلى قاعدة لا ضرر على معطَيات الحقّ الممنوح بحكمٍ شرعي .
وجعل للجماعة حقوقاً في الملكيّات الخاصّة ، مثل : الزكاة والخُمس ، وتأمين حاجيات الدفاع عن البلد عند خواء الخزينة . وقد صرّح بذلك الغزالي ، والقرافي ، والشاطبي ، والقرطبي ، وابن حزم ، وابن عابدين ، وكذلك كفاية الفقـراء .
الصفحة 172
فقد ورد عن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) أنّه قال : ( أيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤٌ جائعاً فقد برِئت منهم ذمّة الله ) ( 103 ) .
وعليه استند ابن حزم ، إذ قرّر أنّ ذلك فرْض يجبرهم السلطان عليه إن لم تقمْ زكواتهم به ...
ومن باب أَولى ، نجد النفقة الواجبة للآباء والأجداد والأبناء والزوجات . ولذلك كلّه يرتّب بعض الدارسين على تقييد الإسلام لطبيعة التصرّف بالمال بعدم الإضرار بالآخرين ، وجوب رعاية المجتهد إيجاد الموازنة بين مصلحة صاحب المال والضرر الذي يلحق بغيره ...
وبذلك يتحصّل من قوانين الملكيّة ، ابتداءً واستمراراً وانتهاءً ، أنّها تُستخدم استخداماً رشيداً مؤدّياً لنفع المجتمع حصـراً ، ولم يقف المشرّع من استخدامها وسيلة للضرر موقفاً محايداً ، وإنّما يتدخّل في إيقاف التصرّف بالملكيّة ، طالما تسبّب هذا التصرّف بإحداث أثَر مضرّ لصاحبها أو للمجتمع .
النتائج المستفادة من التصوّر الإسلاميّ للمال والملكيّة
1 ـ إنّ هذا التصوّر يحدّد استخدامات المال والثروة بالجانب الإيجابي البنّاء ، بعيداً عن اقتراف الذنـوب والمخالفـات .. ، وحيث رُبطت التكاليف بالمصالح ، فإنّ الواجب والمندوب ما يحقّق مصلحة المجتمع .. ، وإنّ المحرّم وسَطٌ قابل أن يُشيع الجريمة .
فإنتاج المحرّم ـ كزراعة المخدّرات .. ـ تصرّف يصحّ سبباً لرفع يد المالك عن استخدام المورد ... ؛ لأنّه من الإفساد في الأرض ، واتّخاذه النقد سلعة منتجة للربا أمر يوقفه الشارع بوسائله المتعدّدة .
2 ـ إنّ هذا الضبط المبنيّ على التصوّر يخصّص الموارد تركيزاً باتّجاه الإنتاج الأكثر شمولاً للمنفعة الشاملة ، بحذف ما يخصَّص للحرام ( المضرّ والدافع للجريمة ) ؛ وبذلك يحقّق كفاية دَخْل الفرد لمتطلّباته .. ، ويسقط أحد الدوافع الثانويّة للجريمة .
الصفحة 173
3 ـ إنّ هذا التصوّر يدفع المالك إلى بذْل المال في الصدقات والتبرّعات والوقْف ، بما يجعل عدداً من الخدمات كُلفتها ( صفر ) ؛ لتعظيم دالّة المدفوعات التحويليّة باتّجاه تعديل المداخيل المنخفضة ، وتقليل الباعث الاقتصادي بضغط هوّة التفاوت في المداخيل وأثره في التركيب الاجتماعي ..
4 ـ إنّ هذا التصوّر يقلّل من احتمالات ظهور الجريمة ، ويوقف التفكير بالاعتداء على أموال الأفراد أو الأموال العامّة ، سواء بالجريمة الجنائيّة كالسرقة والغصب ، أو الجرائم الاقتصاديّة كالربا والاحتكار والإضرار بالعُملة .
5 ـ إنّ هذا التصوّر يجعل القرْض الحسَن بدل الربا ، والمضاربة بدل الفائدة ، والإعانة بالتصدّق بدل المقايضة بأشياء أُخرى ، وقضاء حاجة المسلم وما عليها من حثّ بدل فرْض الشروط ؛ الأمر الذي يخلُق تركيبة يسودها الوئام الاجتماعيّ ، وهي مرتكز من مرتكزات نظريّة الأمن الاجتماعي في الإسلام .
ــــــــــــــــــ
( 93 ) الزحيلي ، ( م . س ) .
( 94 ) الخفيف ( علي ) ، مجمع البحوث الإسلاميّة ، بحث ( المالكيّة الفرديّة ) .
( 95 ) السيوطي ، ( م . س ) : 2/144 .
( 96 ) المصدر نفسه .
( 97 ) المصدر نفسه : 2/143 .
( 98 ) المصدر نفسه .
( 99 ) القرافي ، الفروق : 2/208 ، وتبنّاه الكاساني صاحب البدائع ، اُنظر : 7/147 .
( 100 ) الكاساني ، ( م . س ) : 7/147 ، الهداية : 4/21 .
( 101 ) الزرقا ، المدخل إلى الفقه الإسلامي : 1/220 .
( 102 ) اُنظر : خطبة الوداع ، سيرة ابن هشام : 4/185 .
( 103 ) ابن حزم ، المُحلّي : 7/121 .
|