المبحث الخامس : الجرائم في مجال الاستهلاك
إنّ الطريقة التي يحلّ بها الإسلام المشكلة الاقتصاديّة لا تقف عند عدالة التوزيع أو ضوابط الإنتاج ، إنّما تتدخّل في سلوك المستهلك وتفضيلاته نوعاً وكمّاً ، ذلك أنّ ما يرفضه المستهلك لكونه حراماً يحرم على المنتج إنتاجه على الرغم من وجود حاجة نفسيّة في بعض الأحيان لكليهما باعتماده إنتاجاً أو استهلاكاً مثل الحرير والذهب للرجال ؛ لذلك لا نجد تعارضاً بين إرادة المنتج وتفضيلات المستهلك ، ولا نجد تعارضاً بين أهداف المنشأة الإنتاجيّة والمنفعة المطلقة ، ناهيك عن الحدّية للمستهلك ، لتوحّد دوال الطلب ومكوّنات العَرْض ؛ لذلك فالإنفاق الاستهلاكي محكوم بأقسام الاستهلاك وأحكامه التكليفيّة ، فالاستهلاك المحرّم كأكل المِيتة وشرب الخمر ،
الصفحة 168
والأعيان النجسة وآلات اللهو ، وإجارة المساكن ووسائل النقل للمحرّم ... مسائل نفّر الشارع منها ، وعاقب عليها ، وحرّم الإنفاق فيها .
أمّا في مجال المباح .. ، فإنّ الشارع لم يجعل الإنفاق في مجال الواجب إسرافاً وإن كثُر . أمّا المندوب ففيه رأيان :
الأوّل : إنّه لا فرق بينه وبين الواجب في كثرة الإنفاق ؛ لكونهما إنفاقاً على البِرّ والتقوى ، واستدلّوا له بإعطاء الإمام عليّ ( عليه السلام ) للأقراص ، في المشهور من سبب نزول آية ( هَلْ أَتى ) [الإنسان : 1] وهو لا يملك غيرها .
الثاني : اشترطوا أن تكون في أمواله سعة للإنفاق ، فاضلة عمّا يحتاج إليه ، وربّما قيّدوه بما يليق بحاله .
واستدلّ له بقوله تعالى : ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ .... ) الآية [الإسراء : 29] .
وقوله أيضاً : ( وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ ) [البقرة : 219] .
وقوله ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( إنّما الصدقة عن ظَهر غِنى ) ( 92 ) .
أمّا المباح ، فقد ذهب أكثر الفقهاء إلى أنّ صرف المال في الأغذية النفيسة التي لا تليق بحال المنفِق تبذير ؛ لصدق الإسراف والتبذير هنا ، وهو منهيّ عنه ، خلافاً لِما روي عن الشافعيّة أنّهم يرون أنّ الغاية من تملّك المال الانتفاع به ، وحصَره آخرون في ما يصدق عليه عنوان تضييع المال .
بينما أجمع العلماء على أنّ الإنفاق في المحرّمات سفَه وتبذير وإسراف قطعاً ، وقد ورد أنّ السرَف يبغضه الله .
وينظر الفقه الحنفيّ إلى أنّ الإسراف يوجب السفَه ، بصرف النظر عن مجالات الإنفاق .
إنّ هذا المبحث في حرمة الإسراف يقيّد المستهلك ... إضافةً إلى القيد الفنّي ( الدَخل ) ، ويشيع وسطاً اجتماعيّاً يلبّي حاجة المخطّط ؛ إذ لا يستطيع المخطّط أن يوقِف شخصاً لديه قوّة شرائيّة عند سقف إنفاقيّ محدّد إلاّ بتعسّف قانوني ، بينما يصار الأمر في الشريعة إلى روادع ذاتيّة تُحجّم الاستهلاك ضمن نوعٍ معيّن ، وكمٍّ معيّن .. ؛ لذا نجد أنّ مشكلات عدم ترشيد الاستهلاك أقلّ تكوّناً في المجتمع الإسلامي .
--------------
( 92 ) السيوطي ، ( م . س ) : 1/105 .
الصفحة 169
|