البحث الخامس
الجريمة الاقتصاديّة
وسُبُل الوقاية منها في الإسلام
الصفحة 138
الصفحة 139
مقدّمة
إنّ لكلّ أُمّة أُصولاً حضارية تعود إليها في تأسيس البُنية الفكريّة ، التي تصبح أرضيّة فلسفيّة للتشريع لمجتمعاتها بمختلف وجوهها ، وللتربية ومناهجها ، وللبناء الاجتماعيّ وأمْنه . وهذا ما يطلق عليه المذهبيّة الاجتماعيّة للأمّة .
ومن المُتسالم عليه أنّ للعقيدة أثراً بالغاً في تحديد السلوك وتوجهيه ، لا سيّما إذا كان القانون مستقىً من أُسسها ، منسجماً في مفاصله وجزائاته مع مفاصلها .
وتختلف فلسفات المجتمعات من جهة المُشرّع بين المصدر الإلهيّ والبشريّ ، بما يتمتّع به الأوّل من زيادة في قوى الإلزام للفرد ، وعدم احتياجه إلى الرقابة خارج الذات ، زيادةً على ما للأوّل من شموليّة ، وعُمق في الولاء ، وآثار ذلك في تقليل الكُلَف المادّية والإجرائيّة في توجيه سلوك الأفراد .
ولأجل ما استقرّ عليه البحث من أنّ الطبيعة البشريّة قد زُوّدت بالاستعداد الإيجابي للبناء والخير وعمارة الأرض ، كما خُلقت مزوّدة بالاستعداد السالب الذي ينطوي على الاستحواذ على جُهد الآخرين ، واعتماد السلوك الهدّام المسبّب للتخلّف ، فإنّ دَور المذهبية الفكرية هنا ، يبرز في تحفيز البواعث لاعتماد السلوك الإيجابي ، وتنبيه الرغبة في انتهاجه وتعميقها من قِبل الأفراد أو المجتمع ككلّ .
فإذا كان هذا ممّا يُتّفق بشأنه ، فإنّه من الممكن القول إنّ العقائد والفلسفات تختلف في مدى ما تؤثّر في سلوكيّات مواطنيها .
وتتفاوت العقائد في تأسيس نظريّتها في الأمن الاجتماعي بوجهَيها : الوقاية والعلاج ، وذلك يستدعي بحثاً مقارناً تفصيليّاً ، لكنّنا سنقف عند دَور
الصفحة 140
العقيدة الإسلاميّة والشريعة المستندة إلى أُصولها بقدر تعلّق الأمر بهدف البحث في معرفة :
( أثر العقيدة والشريعة الإسلاميّة في وقاية المجتمع من الجريمة الاقتصادية ) .
أهداف البحث
يهدف البحث إلى معرفة مفهوم الجريمة الاقتصاديّة وبواعثها في الشريعة الإسلاميّة ، والوقوف عند البواعث الاقتصاديّة للجريمة بصورة عامّة ، ومدى الأثر الذي تُحدثه العقيدة والشريعة الإسلاميّة في مصادرة البواعث الاقتصاديّة للجريمة بصورة عامّة ، ومحاصرة البواعث والوقائع السلوكيّة المنحرفة في مجال النشاط الاقتصادي في المجتمع الإسلامي .
أهمّية البحث
يرى الباحث أنّ هذا البحث مهمّ لعدّة اعتبارات ، أبرزها :
يُعَدّ مجال النشاط الاقتصادي ، من بين مجالات النشاط البشريّ ، أهمّ المجالات القابلة لحصول السلوك المنافي للقانـون .
ولأنّ وسائل الحصول على الملكيّة والمال والحيازة وكيفيّة التصرّف بها تشكّل دافعاً رئيساً للسلوك الإجرامي ، كما تشكّل رصيداً للبناء والإعمار ؛ وذلك لآثار دَور الربح في السلوك الإنساني بوصفه باعثاً له سلباً وإيجاباً ، وآثار التفاوت في مداخيل الأفراد وعدمه في الفعل الإجراميّ ، وعلاقة الأجور بالأسعار .
لذلك جاء البحث ليفحص أثر الترابط العضوي بين العقيدة والنُظم التشريعيّة الحياتيّة المستندة إليها ، في تنزيه السلوك البشري ، وأثر ارتباط القانون والاقتصاد بمجموعة من القيَم والفضائل في النظريّة العامّة الموجّهة لاقتصاديّات المجتمع ، وأثر وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السموّ بسلوك الأفراد نحو الإيجابيّة ، وآثار الطاعة الاختياريّة ، وفكرة المعاد والحساب ، ومسؤوليّة أعمال القلوب في الردع الذاتي .
الصفحة 141
ولقد اعتمد الباحث للوصول إلى فحص فرضيّته - المتمثّلة بالوصول إلى مدى آثار هذه المفاصل - الخطّة الآتية : مقدّمة ، ومدخل : عرَض فيهما مفهوم الجريمة عامّة وبواعثها في الفكر الإسلامي ، وأهمّية البواعث الاقتصاديّة .
ثُمّ عرض في الفصل الأوّل للجرائم في مجال النشاط الاقتصادي والإنتاج ، التبادل ، التوزيع ، الاستهلاك من جهة التجريم القانوني قضاءً وديانةً .
أمّا في الفصل الثاني ، فقد توقّف عند سُبل الوقاية ، وانتقل من ثمّ إلى معالجات المشرّع للجريمة بمجموعة من الوسائل .
وفي خاتمة المطاف ، توقّف عند أهمّ النتائج ، وتقييم ما إذا تحقّقت أهداف البحث .
أرجو أن يكون البحث في لُغته المكثّفة ومْضةً فكريّةً تسهم إلى جنْب أعمال الباحثين في جلاء الحقائق ، سعياً وراء البناء الخلاّق لمجتمعات جَعلت من كلمة ( لا إله إلاّ الله ) شعاراً لبقائها ، وتميّزها بين الأُمم ، حاملة لحضارة تحتضن السلام الاجتماعي بين المجتمعات نفسها ، وألَم الأرض كلّها .
وأن يجعله الله تعالى ... قرضاً حسناً يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون .
الصفحة 142
|