المبحث الأوّل
1 ـ المُنطلق القرآني للبحث
قال تعالى في مُحكم كتابه الكريم :
( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) [النساء : 5 و6] .
وقال المفسّرون فيها : ( أي لا تُعطوا السفهاء - بالمعنى العامّ في كلّ سفيه - من صبيّ أو مجنون أو محجور عليه للتبذير ) ( 5 ) .
وقيل ما هو قريب منه ، فقد روي عن الصادق ( عليه السلام ) : ( إنّ السفيه : شارب الخمـر ومَن جـرى مجـراه ) ( 6 ) ، قال الطبرسي : وهذا القول أَولى ؛ لعمومه .
وذهب المفسّرون إلى أنّ الله تعالى أراد بقوله ( أَمْوَالَكُمُ ) : أي أموالهم كما قال : ( لاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ) [النسـاء : 29] . أي لا تؤتوا اليتامى أموالهم ( 7 ) .
عقّب الطبرسي بقوله : لا يجوز أن تُعطي المال للسفيه يفسده ، ولا اليتيم الذي لا يبلُغ ، ولا الذي بلَغ ولم يؤنَسْ منه الرشد .
ومعنى قوله تعالى : ( وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً ) : أي قولوا لهم ما ينبّههم على الرشد والصلاح في أمور المعاش والمعاد ، حتى إذا بلغوا كانوا على بصيرة من ذلك ، وقال : إنّما سُمّي الناقص سفيهاً ؛ لأنّ السفَه خِفّة الحِلم ، ولذلك سُمّي الفاسق أيضاً سفيهاً ؛ لأنّه لا وزن له عند أهل الدِين ( 8 ) .
وبلوغ النكاح : أي البلوغ الجسمي ( أو ما يصطلح عليه آثار العُمر الزمني ) .
الصفحة 115
و( آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً ) : أي عرفتموه أو وجدتموه فيهم . وفيه إشارة إلى آثار العُمر العقلي . إلاّ أنّ المفسّرين اختلفوا في مُراد الله من مصطلح الرُشد ، فقد روي عن عبد الله بن عبّاس ( رضي الله عنه ) أنّه قال فيه : ( هو أن يبلغ ذا وَقار وحِلم وعقل ) ( 9 ) .
وذهب قتادة والسدي إلى أنّ الرشد : ( العقل والدين والصلاح ) ، وذهب الحسن البصري إلى أنّه : ( صلاح في الدين وإصلاح في المال ) ، وقيل : هو رأي لابن عبّاس ، وروي عن مجاهد أنّه ( العقل ) حسب ، ونُسب هذا الرأي للشعبي ، ونسب إليه القول : ( أن لا يدفع إلى اليتيم ماله ، وإن أخذ بلحيته ، وإن كان شيخاً ، حتى يؤنـس منـه رُشـد العقـل ) (10) .
ويترتّب على حسم الخلاف في الرشد ، من حيث هو موضوع ، حكم مؤدّاه أنّ الإنسان إذا بلغ عاقلاً رشيداً ثبتت له أهليّة الأداء الكاملة ، وصحّت منه جميع العقود والتصرّفات بلا حاجة لإجازة أحد ( 11 ) ، فما مفهوم الرشد عند الفقهاء بعد أن عرفنا اختلاف المفسّرين فيه ؟
2 ـ مفهوم الرشد في اللغة واصطلاح الفقهاء
الرشد في اللغة : إصابة وجه الأمر والطريق ( 12 ) . وهو عند بعض أهل اللغة ( بخلاف الغيّ ) ، ونقيض الضلال ( 13 ) ؛ لقوله تعالى : ( لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ ) [البقرة : 256] ، فهو ـ إذن في اللغة يعني الاهتداء إلى أصحّ الأُمور أياً كانت دينيّة أو دنيويّة .
وهو اصطلاحاً
قال في القواعد : ( الرشد : كيفيّة نفسانيّة تمنع من إفساد المال وصرفه في غير الوجـوه اللائقـة بأفعـال العـقلاء ) ( 14 ) .
ونختار :
إنّه القدرة المكتسبة للفرد التي تظهر في إصلاح تصرّفه عامّة من جهة دينه ( سواء العلم بمعتقداته وتقييد عمله على وفق أوامر الله ونواهيه ، أو
الصفحة 116
تصرّفه في ماله ، أو كلاهما ) . وبناء على اختلاف المفسّرين في الرشد تَوَزَّع الفقهاء في فهْمه إلى محاور أربعة هي :
3 ـ آراء الفقهاء
أ ـ رأي الجمهور
ذهب جمهور الإماميّة ( 15 ) ، والحنفيّة ( 16 ) ، والمالكيّة ( 17 ) ، والحنابلة ( 18 ) إلى أنّ الرُشد هو ( إصلاح المال وتدبيره ) .
ونقل صاحب ( مفتاح الكرامة ) أنّ هذا الفهْم هو ما عليه عامّة مَن تأخّر من الإماميّة ، وحدّده المحقّق الحلّي بأنّ الرشد ( أن يكون الفرد مُصلحاً لماله . وهل تعتبر فيه العدالة ؟ فيه تردّد ) ( 19 ) .
وقال الميرغناني ـ من الحنفيّة ـ : ( ولا يُحجر على الفاسق إذا كان مصلحاً لماله عندنا ، الفسق الأصليّ والطارئ سواء ) ( 20 ) .
وعرّفه الكاساني ( بأنّه الاستقامة والاهتداء في حفظ المال وإصلاحه ) ( 21 ) ، وينقل ابن رشد ( أنّ مالكاً يرى أنّ الرشد هو تثمير المال وإصلاحه فقط ) ( 22 ) .
ب ـ رأي الظاهريّة
ذهب الظاهريّة إلى أنّ الرشد هو الدِين لا غير ، وقد قال ابن حزم : ( فنظرنا القرآن الذي هو المبيّن لنا ما لزّمنا الله تعالى إيّاه ، فوجدناه كلّه : أن ليس الرشد فيه إلاّ الدِين وخلاف الغيّ فقط ، ولا المعرفة بكسب المال أصلاً ) ( 23 ) .
جـ ـ رأي الزيديّة
ذهب الزيديّة إلى أنّ الرشد هو العقل ، وقال في منتهى المرام : ( إنّ الرشد عن قتادة هو العقل ، وهذا قول أهل المذهب ) ( 24 ) ، والعقل ـ كما هي عبادة الزيديّة ـ لا يعني العدالة كما سيظهر في المحور الرابع ، ولا يعني إصلاح المال ، وإن كان يعني العلّة وراءهما معاً .
الصفحة 117
د ـ رأي الشافعيّة والشيخ الطوسي
رأي الشافعيّة والشيخ الطوسي مِن الإماميّة ومَن وافقَهم أنّ الرُشد هو إصلاح المال والدين معاً ، قال الشافعي : ( الرشد ـ والله أعلم ـ الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة ، وإصلاح المال ) ( 25 ) ، وبه صرّح الشيرازي فقال : ( أمّا إيناس الرشد ، فهو إصلاح الدين والمال ، فإصلاح الدين : ألاّ يرتكب من المعاصي ما يسقط بـه العدالـة ) ( 26 ) .
وإليه مالَ الشيخ محمّد بن الحسن الطوسي ( 460هـ ) في كتابيه ( المبسوط ) و( الخلاف ) ، فقال : ( وإيناس الرشد منه أن يكون مصلحاً لماله ، عدلاً في دينه ، فأمّا إذا كان مصلحاً لمالِه غير عدلٍ في دينه ، أو كان عدلاً في دينه غير مصلحٍ لمالِه ، فلا يُدفع إليه مالُه ) ( 27 ) .
ووافَقه من الإماميّة عدد من العلماء ، منهم : قطب الدين الراوندي ، وأبو المكارم في ( الغُنية ) ، وصاحب ( شرح الإرشاد ) ( 28 ) .
ولدى التدقيق في تفسير الآية ، في موسوعة الشيخ الطوسي ( التبيان ) نجد أنّه عرَض آراء المفسّرين في مفهوم الرشد ، ثُمّ قال : ( والأقوى أن يُحمَل على أنّ المراد به العقل وإصلاح المال على ما قاله ابن عبّاس والحسن ، وهو المرويّ عن أبي جعفر ( عليه السلام ) ) ( 29 ) ، ثمّ عقّب فقال : ( للإجماع ، على أنّ مَن يكون كذلك ( العقل ، إصلاح المال ) لا يجوز الحَجْر على مالِه وإن كان فاجراً في دينه ، فإن كان ذلك إجماعاً ، فكذلك إذا بلَغ وله مال في يد وصيّ أبيه ، أو في يد حاكمٍ قد وليَ مالَه ، وجب عليه أن يسلّم إليه مالَه ، إذا كان عاقلاً ، مُصلحاً لماله ، وإن كان فاسقاً في دينه ) ( 30 ) .
وتفسير هذين الرأيين للشيخ ـ في ما نرى ـ أنّ الشيخ كان على الرأي الأوّل في كتابيه ( المبسوط ) و( الخلاف ) . ولمّا كان قد ذَكر كتابيه هذين في ( التبيان ) .. فإنّنا نرى أنّه ـ رحمه الله ـ قد عدَل عن رأيه في ( التبيان ) ، وهو
الصفحة 118
متأخّر عن ( المبسوط ) و( الخلاف ) ( * ) ، إن لم يكن الشيخ يريد بالعقل العدالة ، كما هو الحال عند فقهاء الظاهريّة ، كما سيأتي صريح قولهم في ذلك .
وقد برّر الجزائري في ( قلائده ) أنّ رأيه في ( المبسوط ) من روايته لا من فتواه ( 31 ) ، واعتذار الجزائري عن الشيخ في رأيَيه وجيه ، وإن كان دعوى تحتاج إلى مزيد تمحيص واستدلال .
ـــــــــــــــــــــــ
( * ) والدليل على تأخّر كتابته ( للتبيان ) : ما ورد في ( السرائر ) لابن إدريس ( 295هـ ) ، أنّه قال : ( التبيان صنّفه الشيخ بعد كتُبه جميعاً ، واستكمال عمله وسبره للأشياء وقوفه عليه وتحقّقه لها ) .
( 5 ) الطبرسي ( الفضل بن الحسن ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، شركة المعارف : 3/9 .
( 6 ) المصدر نفسه .
( 7 ) المصدر نفسه .
( 8 ) المصدر نفسه .
( 9 ) الطوسي ( محمّد بن الحسن ) ، التبيان : 3/117 .
( 10 ) المصدر نفسه .
( 11 ) زيدان ( عبد الكريم ) ، المدخل لدراسة الشريعة : 2/312 .
( 12 ) ابن منظور ، لسان العرب ، مادّة رشد : 1/169 .
( 13 ) الفيروزآبادي ، القاموس المحيط ، فصل الراء ، باب الدال .
( 14 ) العاملي ( محمّد جواد ) ، مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلاّمة : 5/246 .
( 15 ) المحقّق الحلي ، شرائع الإسلام : 2/100 ، العلاّمة الحلّي ، تذكرة الفقهاء ( حجرية ) : 2/75 .
( 16 ) الكاساني ، بدائع الصنائع : 7/170 .
( 17 ) ابن رشد ، بداية المجتهد ونهاية المقتصد : 2/278 .
( 18 ) ابن قدامة ، المغني : 4/418 ، المرداوي ، الإنصاف في مسائل الخلاف : 5/332 .
( 19 ) المحقّق الحلّي ، ( م . س ) : 2/100 .
( 20 ) الميرغيناني ، الهداية : 3/285 .
( 21 ) الكاساني ، ( م . س ) : 7/170 .
( 22 ) ابن رشد ، ( م . س ) : 2/ 278 .
( 23 ) ابن حزم ، المُحلّى : 5/307 .
( 24 ) المرتضى ( محمّد بن يحيى ) ، البحر الزاخر الجامع لمذاهب عُلماء الأمصار : 5/92 ، ومحمّد بن الحسين بن القاسم ، منتهي المرام في شرح آيات الأحكام ، ص : 137 .
( 25 ) الشافعي ( محمّد بن إدريس ) ، الأمّ : 3/215 .
( 26 ) الشيرازي ، المهذّب : 1/328 .
( 27 ) الشيخ الطوسي ، المبسوط : 2/ 284 ، الخلاف : 1/627 . العاملي ، مفتاح الكرامة : 5/246 .
( 28 ) المصدر نفسه .
( 29 ) الشيخ الطوسي ، ( م . س ) : 3/117 ـ 118 .
( 30 ) المصدر نفسه .
( 31 ) الشيخ الجزائري ( أحمد ) ، قلائد الدرر في بيان آيات الأحكام بالأثر .
الصفحة 119
|