البحث الرابع
مفهوم الرُشد في الفقه الإسلامي
الصفحة 110
الصفحة 111
مَدخَل
1 ـ فَرَضيّة البحث المركزيّة
انتهت الدراسات المعاصرة بأبحاثها إلى تحديد مكوّنات الشخصيّة الإنسانيّة ، وإن كانت قد بدأت مؤخّراً مع بدايات النضج العلمي لإنجازات عِلم النفس العامّ ، أو فروعه التي تُعنى بالشخصيّة .
وقد ادّعت هذه الدراسات أنّها باكورة اتّجاهات العقل الإنساني في هذا المجال ، كما سيظهر لنا في آراء ( البورت ) بعد قليل .
وحيث تفترض الدراسات المعياريّة أنّ القرآن الكريم جاء تبياناً لكلّ شيء ، وقد تعرّض في أكثر من موضع بالإشارة إلى مكوّنات الشخصيّة السويّة ، أو محصّلتها ، وكان من بين ذلك قوله تعالى : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتّى إِذَا بَلَغُوا النّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ) [النساء : 6] ، والآية المُختارة للدراسة والتحليل واحدة من آيات الأحكام في القرآن الكريم :
أ ـ فإنّها مرتّبة على ما قبلها في منع إتيان المال للقاصرين والسفهاء بقوله تعالى : ( وَلاَ تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ) [النساء : 5] .
ب ـ وإنّها رتّبت إجرائيّة اختيارهم بعد النضج الذي وضّحته بعلامتين هما : البلوغ الذي كنّى عنه بالنكاح ؛ لأنّ الإنسان مع البلوغ يصلح للنكاح ، وإيناس الرُشد ، الذي جاء مصطلحه مُجملاً في القرآن ، ولم تُبيّن السُنّة المراد القطعيّ منه ، فصار موضوعاً لاجتهاد المُفسّرين والفقهاء .
ومن اجتهادهم نلحظ أنّ العقل العربيّ قد استعان بالكلّيات في القرآن والسُنّة ، وقد أسهم في تحديد سمات الشخصيّة السويّة من خلال جمع محاور نظريّة الرُشد كما فهِمَها المفسّرون والفقهاء ، ومقارنتها بما توصّل إليه الفكر البشري دون الاستناد إلى القرآن والسُنّة .
الصفحة 112
للتحقّق من مقولة تُرى ( أنّ العقل البشري ، في جهده ، قد توصّل إلى الحقائق التي سيجد أساسيّاتها في القرآن الكريـم ) .
2 ـ أهمّية البحث
تظهر أهمّية البحث في أنّه محاولة لاستثمار آراء المفسّرين والفقهاء ، في بيان أثر اشتراط الرشد في صحّة التصرّفات الماليّة على مستوى التصرّف بالدخل الفردي ، الذي ستكون الأحكام فيه مُلزِمة لتصرّف المنشأة أو التصرّف المالي العامّ ، سواء في تحديد نمط الإنتاج ، أمْ في تحديد مصارف النفقات للوصول إلى إجرائيّة القرآن الكريم في ترشيد استثمار الموارد في حلقتَي الإنتاج والاستهلاك ، وهُما حلقتان تقوم عليهما أركان النُظم الاقتصاديّة المعاصرة فـي أُسلوبهـا ؛ لحلّ المُشكلة الاقتصاديّة التي تنشأ من نقص الموارد المُتاحة ، لا على سبيل التكوين والخَلق والإيجاد ، كما يذهب إليه الفكر الاقتصادي الوضعي ، إنّما على سبيل تقصير الإنسان في استثمار الموارد وتحويلها إلى سِلع اقتصاديّة ، مقابل ازدياد الحاجات ، وبخاصّة مع ارتفاع معدّلات زيادة السُكّان في العالم ، وهو ما يذهب إليه الفِكر الاقتصادي الإسلامي .
3 ـ أهداف البحث
يهدف البحث إلى معرفة خصائص الشخصيّة السويّة من خلال عرض آراء المفسّرين والفقهاء في تفسير المُجمل القرآني ( الرشد ) ، كما يهدف إلى فهْم معطيات الحظر الشرعيّ على تصرّف غير الراشد في أمواله الخاصّة ، في ما له من مدلولات تقيّد حقّ التصرّف بالملكيّة الخاصّة ، وما له من آثار على تحقيق الترشيد بشِقّيه في الإنتاج والاستهلاك .
4 ـ مَفهوم الشخصيّة في الفكر الوضعي
يرى علماء النفس أنّ مفهوم الشخصيّة لا يزال من أكثر المفاهيم تعقيداً ، حتى أنّ ( البورت ) أحصى في كتابه عن الشخصيّة ما يقرب من خمسين تعريفاً ، ينظر معظمها إلى المفهوم بوصفه : ( تنظيم دينامي داخلي يحدّد أُسلوب سلوك الفرد ) ( 1 ) .
الصفحة 113
ويميل إلى تعريف البروفسور ( stagner ـ 1974م ) الذي يراها : ( ذلك التنظيم للأجهزة الإدراكيّة والمعرفيّة والانفعاليّة والدافعيّة داخل الفرد ، والتي تحدّد استجاباته الفريدة لهيئته ) ( 2 ) .
ويُصرّح العلماء بأنّ أعقد جانب في دراسات الشخصيّة ما يشمل آثار الصفات الجسميّة ، والعقليّة ، والوجدانيّة كافّة ، على أنّ هذا الموضوع هو نتاج طبيعيّ لفرعين من فروع علم النفس ، هما : التجربيي ـ والإكلينكي .
لذلك يرى ( البورت ) ( أنّ اكتشاف الشخصيّة يُعدّ أحد الأحداث البارزة في عِلم النفس المعاصر ) ( 3 ) ، و( أنّ دراستها ووضع النظريّات لتفسيرها يُعدّ إحدى المحاولات المُهمّة بالنسبة لعلم النفس المُعاصر ) ( 4 ) .
فإذا كان الأمر كذلك ، فهل أسهَم العُلماء المسلمون في تحديد أُطُرها ؟ بما رتّبوا على اختلال مكوّناتها مِن تروك قانونيّة سُمّيت في مباحث الفقهاء : الحَجْر على غير الراشد ، وما المعطيات في تحديد الرشد وآثار انتفائه على أهداف البحث ؟ .
الصفحة 114
ــــــــــــــ
( 1 ) حسن ( عبد الحمد سعيد ) ، خصائص الشخصيّة المرتبطة بموازين النجاح ( دكتوراه ) ، ص : 43 .
( 2 ) المصدر نفسه : 4/43 .
( 3 ) المصدر نفسه : ص50 .
( 4 ) المصدر نفسه .
|