ثانياً : النتائج المترتّبة عليه
المغزى الاقتصادي وراء آراء الفقهاء في ماهيّة الإحياء :
1 ـ إنّ إحالة مفهوم الإحياء إلى العُرف جعل هذا المفهوم واسعاً ومتحرّكاً ليشمل : استثمارات الإسكان ، الصناعيّة والزراعيّة ، وتربية الحيوانات ، واستثمارات الحفر والتنقيب ، والصناعات المعدنيّة ، ومشاريع الموارد المائيّة باعتبارها جزءاً من مسطّحات الأرض .
وبهذا الفهْم للإحياء تكون هناك ممارسة فعليّة في زيادة تيّار السلع المُنتجة ، وتعظيم تيّار الخدمات المضافة سنويّاً إلى حجم الدخل القومي ، ويرى الباحث أنّ هذا الاتّجاه مُنسجم مع مقاصد الشريعة .
2 ـ إذا توقّفنا عند إخراج الأرض من التعطّل إلى كون المورد مهيّئاً للانتفاع ، فيجعل المسألة في الأرض قريبة الشبَه بالأرض البيضاء ، فتلحقها مشكلة عدم صحّة البيع أو الإجارة ، وبحمل إحدى المسألتين على الأُخرى يتبيّن رُجحان مسألة تحقّق الانتفاع الفعلي .
3 ـ إنّ الإحياء في مجال الاستثمارات الزراعيّة يكثر في الأرض المحدودة ؛ الأمر الذي لا يضطرّ نمط النشاط الاقتصادي إلى أن يركّز على رأس المال ووحدات العمل ، وهذا أمر مُلائم لشعوب العالم الثالث التي تُعاني غالباً من أزمة في موجوداتها أو في مهارة العمل ، فإذا توسّعت الأرض بفِعل الإحياء مع زيادة السُكّان قلّ اعتماد الدول النامية على رأس المال ؛ الأمر الذي يُعدّ ثغرة في ما يسمّونه بالحلقات المفرغة ، فإذا أضفنا أنّ المسلم مأمور كفايةً بتحصيل المهارات ، فإنّ فُرَص التقدّم الاقتصادي في المُجتمع الإسلامي ستكون أوفر ، وإنّ المعجل التنموي سيكون أكثر فاعليّة .
الصفحة 97
4 ـ يسهم الإحياء بهذا المفهوم بامتصاص أنواع البطالة ، فهو يقلّل من الدوريّة منها ؛ لأنّ فترات الكساد وليدة نقص الطلب بسبب نقص الدخل عن الوفاء بمتطلّباته ؛ ولأنّ الإحياء متعدّد الجوانب فسُيقلّل أثر البطالة الموسميّة ، وسيقلّل الاحتكاكيّة ؛ لتعمّق مهارة العامل للتخصّص في حِرفة واحدة ، وكذا الحال في الفنّية والهيكليّة .
أمّا البطالة المقنّعة ، فإنّ القطّاع الزراعي هو مجالها ، ولكن لتعدّد صور الإحياء ، ولانتشار القوى العاملة في استصلاح الأراضي واستثمارها فسيقلّل أثرها ، فإنّنا ـ مثلاً ـ نلحظ أنّ المقنّعة في الريف المصري تصل إلى نسبة ( 20 ـ 50% ) من القوى العاملة بالقطاع الزراعي .
5 ـ يخفّف الضغط على الدولة إذا أُتيحت الفرصة للكوادر الزراعيّة أو الصناعات الغذائيّة باستثمار خبراتها في ميدان العمل الفعلي ، بدلاً من العمل المكتبي أو الإرشادي ، وبالتالي فإنّ زيادة السِلع مع الكفّ عن الضغط على الميزانيّة يغلق فرَص التضخّم بسبب ضخّ السيولة النقديّة لأغراض الاستهلاك ، فيرتفع الطلب مُقابل نسبة ثابتة من العَرْض .
6 ـ وتلحق بالإحياء منفعة مباشرة ، فلو استنبط المُحيي بئراً في حائط ، فيلزمه أن يعطي فائض حاجته من الماء لجاره إلى أن يصلح بئره ، ولا يستحقّ عن ذلك عوضاً ، على رأي أبي حنفية والإماميّة وأصحاب الشافعي ( 56 ) ؛ استناداً لقول النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) : ( مَن منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ ، منَعه الله فضل رحمته يوم القيامة ) ( 57 ) .
والراجح عندي ما ذهب إليه الإماميّة وأحمد في عدم جوار أخْذ العوض عن بذل الماء الفائض من بئر مملوك ؛ لأنّ الحديث دالّ على ذلك دلالة لا غُبار عليها ، ولأنّ التكلُفة الحدّية ( * ) معدومة ( صفر ) ، وتكاليف الصيانة ثابتة تقريباً ما دامت البئر مستعملة ، ومنفعة صاحب البئر الحدّية
ـــــــــــــــــــــــــ
( * ) التكلفة الحدّية : وهي الإضافيّة التي يتطلّبها إنتاج مقدار صغير آخر من المنتوج ( الماء ) .
الصفحة 98
طالما حدّد الأمر في فضل الماء ( صفر ) أيضاً ، فصار عند ذاك أشبه بالسلعة الحرّة ، وهي التي متى أنتجت لواحد أمكن أن ينتفع بها سواه من دون كُلفة إضافيّة ؛ ولذا يُعدّ تقاضي الثمن خسارة لا مُبرّر اقتصادياً لها . وهذا يعني أنّ الإسلام يقف دون إهدار الموارد موقفاً صارماً ، ويعدّه مِن الممنوعات شرعاً ( 58 ) .
---------------
( 56 ) الدمشقي ( محمّد بن عبد الرحمن ) ، رحمة الأُمّة في اختلاف الأئمّة ، ص : 190 ، اُنظر : الشيخ الطوسـي ، المبسوط ( حجري ) ، كتاب إحياء الموات .
( 57 ) البخاري ، فتح الباري : 5/31 ، أخرجه أبو داود : 2/101 ، والموطّأ : 4/1498 ، اُنظر : الماوردي ، تحقيق الجميلي ، ص : 285 و286 .
( 58 ) للتفاصيل اُنظر : الزرقا ( أنس ) ، نُظم التوزيع الإسلاميّة ، بحث منشور في مجلّة أبحاث الاقتصاد الإسلامي : العدد 1 / المجلّد 2 ص : 2 ـ 5 ، 1404 / 1984م .
|