ثانياً : الأساس الفلسفي للإحياء
ترتكز المحاور الاقتصاديّة الإسلاميّة على نظريّة الاستخلاف وقوانينها المركزيّة ، فحيث أنّ الملكيّة المُطلقـة لله تعالـى ، وأنّ الله سخّر للإنسان ما في
الصفحة 83
الكون جميعاً وهيّأه له ، ثمّ أنابه واستخلفه عليه بعد أن زوّده بالقدرة ، فقد أمره بإعمار الأرض ، قال تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود : 61] ، قال المفسّرون : أي أمركم بعمارتها ( 22 ) ، وذكر الجصّاص تفسيرها قائلاً :
( ( اسْتَعْمَرَكُمْ ) : أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه ، وفيه دلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية ) ( 23 ) .
وإلى مثل هذا ذهب المفسّرون في المراد من الآية ، فهي في مرادها تكاد تكون محلّ اتّفاق بين المفسّرين ، غير أنّ هذا الوجوب مجاله المُجتَمع من جهة تكليف أُولي الأمر بضرورة الإعمار ، والأفراد على سبيل السعة والاختيار . فوق ما جعل حديث الإحياء في مفردةِ ( فهي له ) ، أي الأرض ، من دوافع وحوافز حقوقيّة مُنسجمة مع الفطرة البشريّة ، فقد رتّب الله تحقّق ملكيّة الفرد للأرض على إحيائها مِن قِبله ؛ لذلك فإنّ الباحث يرى أنّ الحكم بالإحياء ليس ممّا أسّسته السنّة بوصفها مشرّعة لبعض الأحكام كما يرى الآخرون ... ، إنّما هنا مؤكّدة للقرآن في أمر الله تعالى بإعمار الأرض .
كلّ الخلاف في المسألة أنّه عموم وخصوص من وجه ، فقد أمر القرآن الإنسان المسلم بإعمار الأرض عامّة وإدامة إعمارها ، بينما توجّه الحديث إلى إحياء المُعطّل من الأرض ، وإدخاله في مجال العامر ، فعن محمّد الباقر ( عليه السـلام ) ، عن آبائه ، عن النبيّ ( صلّى الله عليه وآله وسلّم ) أنّه قال : ( مَن أحيا مواتاً فهو له ) ، وكشف إجماع المسلمين على جوازه واكتساب الحقّ بسببه إجماعاً مُحصّلاً ومنقولاً وكاشفاً عن رأي المعصوم ؛ لذا نرى أنّ السنّة في موضوع الإحياء بيانيّة الوظيفة .
وخلاصة البحث في الأُسس الفلسفيّة :
إنّ إحياء الأرض عمل أمَرَ به الشارع ، فهو على سبيل الوجوب العامّ حصراً لوليّ الأمر ، وعلى الوجوب الخاصّ في حالات السعة والاختيار ، وأنّ الله تعالى قد رغّب به وأثاب عليه ، فربط النشاط الاقتصادي بالأجر الأُخرويّ ، ثمّ رتّب على عمليّة نقل الأرض مِن مجال التعطيل إلى مجال التوظّف ، حقوقاً مُكتسبة على الأرض للمُحيي . كلّ ذلك لأجل :
الصفحة 84
1 ـ خلق الفُرص الإنتاجيّة المتجدّدة قبالة مبدأ الإسلام في عدم الوقوف أمام زيادة السكّان ، مِن خلال موقف المجتهدين من تحديد النسل .
2 ـ خلق مبدأ الإحياء ؛ ليسهم في امتصاص فائض العمل ( البطالة ) .
3 ـ زيادة القيَم المُنتجة سنويّاً .
4 ـ إحداث تغييرات إيجابيّة في جانب العَرض من خلال اكتشاف المُحيي للأرض لفرص جديدة وتشغيلها .
5 ـ إحداث تغييرات في جانب الطلب ؛ لأنّ النواتج المتولّدة عنه تسهم في توزيع الدخول بما يصعد من وتائر الاستهلاك المُباح الذي سيشجّع الإنتاج على التواصل والتجدّد .
6 ـ توفير الاحتياجات الغذائيّة للعاملين داخل القطاع الزراعي أو خارجه .
7 ـ توفير الموادّ الأوّليّة للصناعات من خلال إحياء الموارد في الأرض .
8 ـ يظهر جليّاً أنّ مبدأ الإحياء يُقلّل من تحكّم مقولة الرَيع ، الأمر الذي يؤدّي إلى تقليل تكاليف السِلع الزراعيّة ، بما يقلّل من الأسعار ، ويوجّه الموجودات النقديّة والعينيّة ( رأس المال ) ، لا لشراء أرض جديدة أو استئجارها ، إنّما لخلق أرض مُنتجة جديدة ، أي أنّه يدفع التراكم المالي الموجود في الأنشطة التنمويّة الفعليّة ( 24 ) .
الصفحة 85
---------------------
( 22 ) الطبرسي ، مجمع البيان : 1/74 .
( 23 ) الجصاص ، أحكام القرآن : 3/165 ، القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن : 9/56 ، الطبرسي ، ( م . س ) : 12/178 .
( 24 ) اُنظر : عبد الله ( إسماعيل صبري ) ، نحو نظام اقتصادي عالمي ، ص : 211 .
|