ثانياً : التنمية
1 ـ التصوّر والإجرائيّة في النُظم الاقتصاديّة الوضعيّة المُعاصرة
لقد تعدّدت الزوايا التي ينظر الباحثون من خلالها إلى التّنمية .
فقد لاحظ بعضهم أنّها ( الزيادة المُستمرّة في إنتاج الثروات الماديّة ) (19) .
ولاحظ آخرون أنّها عمليّة زيادة الدَخل الفرديّ أو الإنتاج الاجتماعيّ ، وقد اعترض على ذلك عونار ميردال (20) .
ويلاحظ هانسن (Hansen) ارتباط التنمية بالعلاقات الدوليّة .
ويربطها اسمان بالتحوّلات الحضاريّة للدول الأقلّ تصنيعاً من الاقتصاد الرعويّ أو الزراعيّ إلى التنظيم الصناعيّ للأنشطة الاقتصاديّة .
الصفحة 22
أمّا (فريد ويكسر) ، فيراها عمليّة شموليّة بأبعاد مُختلفة .
وركّز (حجبر) على أنّها إطلاق قوى مُعيّنة خلال مدّة زمنيّة طويلة نسبيّاً تُحدث زيادة في الدخل أكبر من زيادة السكّان .
هذه الرّؤى تدور حول محورين هما : العلاقات المورديّة ، وانخفاض متوسّط الدخل الفرديّ .
وقد توصّل عدد من الباحثين إلى وضع اليد على خطأ منهجيّ صاحَب تلك الدراسات على مدى نصف قرن ؛ وهو أنّها تفصل بين الجوانب الاقتصاديّة والإطار الاجتماعيّ والدوافع العقائديّة ؛ لتحسين هذا الإطار وتكييفه ، بلحاظ توزيع إمكانات النموّ وثماره (21) .
كما توصّلوا إلى ضرورة التفريق بين مفاهيم النموّ (Growth) ، ومفهوم التنمية (Development) ، ومفهوم التحديث (Modernization) . ولوحظ أنّ تلك الدراسات ركّزت على النموّ ؛ متأثّرة بالتدرّج التاريخيّ لتطوّره من خلال أفكار مُجتهدي المدرسة الاقتصاديّة الكلاسيكيّة ، فقد ظهرت مقولات النموّ عند سمث (Smith) من أفكاره في تقسيم العمل وتقرير حقّ الفرد المُطلق ، بوصفه أساساً لتطوّر ثروة الأُمم ، وتأكيداته على التوازن الآلي بين تأثيرات العرْض والطلب على السوق ، فأعطاه دور المعيار في ماذا يُنتج ؟ ولمَن ؟ وافتراضات المدرسة بصيرورة كلّ اقتصاد لدرجة التشغيل وتطويره ، ومن ثَمّ تحقّق الكفاءة الإنتاجيّة ، وتطوّر المعدّات ، وتعظيم الادّخارات ؛ لتوسيع حجم السوق الداخليّة والخارجيّة ، وتأكيداته على تراكميّة النموّ .
وهكذا تطوّرت مفهومات النموّ عند (ريكاردو) في نظريّته في التوزيع الوظيفيّ على العناصر المساهمة في الإنتاج ، بالتركيز على مقولة العمل ونظريّته في الرَيع التفاضليّ ، وبظهور (مارشال) ظهرت أفكار ومتغيّرات جديدة دخلت في محاور دراسة النموّ ، مثل التطوّرات الفنّية والاندماج ، ونظريّة الوفورات وأثرها على تقليل الكُلَف وتطوير المهارات .
الصفحة 23
وبَرز الجانب المذهبي للرأسماليّة في أفكار (شومبيز) في آرائه في النُظم ، وأثره في إحداث النموّ ، حتى ظهرت الكينزيّة التي انحاز تحت ظلّها العلميّ محرّك النموّ إلى جانب الطلب بما يبرز أثر الركود العالميّ ( 1930م ) ، فأدخلت تعديلات هامّة على دراسة النموّ في ظلّ التفكير الليبرالي ، فطالبت بإعطاء الدولة دوراً في التطوير ، وتعكّزت على التوزيع وإعادة التوزيع ؛ لتنشيط أثر الاستهلاك بغية إيجاد الطلب الفعّال بوصفه مطوّراً للإنتاج .
إنّ الخيط الذي يربط هذا العرض السريع لتطوّر دراسات النموّ الاقتصاديّ ، خلال قرنين من الزمن ، يُمكن وصفه بأنّ التنمية في ظلّ الاتّجاه الفرديّ ظلّت عمليّة إبداعات الأفراد لتحقيق الرخاء المادّي ، أي أنّ تصوّر الليبراليّة للمشكلة الاقتصاديّة دعاها إلى تكليف كلّ فرد بحلّ هذه المشكلة بجهده ونشاطه ، وعلى النطاق الجزئيّ ، وبجمْع هذه الجهود سيصار إلى تذليل آثار المشكلة في مجمل الاقتصاد القوميّ ، بينما ظلّت الآثار التي تسهم فيها قوانين التوزيع في إحداث وتائر النموّ أو تسريعه مهملة ، ما عدا تعديلات طفيفة ظهرت في الفكر الكينزي ، لم تلبث أن تلاشت وسط الإهمال الذي تفرضه النظريّة برمّتها في فرض قيود معيّنة على الفرد حين يتصرّف تصرّفاً مطلقاً بالثروة والدخل .
لذلك فإنّ المقياس الذي تُقاس به التنمية ، والذي ينسجم مع النسيج النظريّ الليبراليّ في تصوّر النموّ ، هو حجم الثورة الكليّة المُتحصّلة للمجتمع خلال مدّة زمنيّة مُعيّنة . وعليه ، فقد اعتمد حجم الدخل القوميّ ، مقدار الدخل الفرديّ الحقيقيّ ، أو حجم التراكم الرأسمالي لسنة الأساس وآثاره ونسب ارتفاعاته ، مقاييس في تصنيف المجموعـات البشريّـة (22) .
إلاّ أنّ ذلك الفصل المُتعمّد عن الجوانب غير الاقتصاديّة في التصوّر ، قد برز بعد التنفيذ في الشطر الغربيّ من الأرض ، عبّر عنه صراحة روستو (Rosstow) بوصفه لمرحلة الاستهلاك الوفير القائل : إنّ هذه المرحلة جعلت المواطن الأمريكيّ يطرح على ذاته أسئلة لا تمسّ مسألة النموّ ، إنّما تشخّص حالة الفراغ
الصفحة 24
الذي انتاب المجتمع بعد تحقيقه لمرحلة الرفاهية (Economic Welfare) ، وظهرت في تردّد الأمريكي في الإجابة عن أسئلةٍ مثل : هل يزداد الإنجاب ؟ هل يرحل إلى الكواكب الأُخرى ؟ هل يجعل العطلة الأسبوعيّة ثلاثة أيّام ؟ هل يعود إلى القيَم الروحيّة ؟ (23) .
نستطيع القول ممّا تقدّم :
أ ـ إنّ النصّ الذي عبّر فيه روستو عن الإحساسات الجماعيّة ، لِما بعد النموّ ، يشير بوضوح إلى أنّ التنمية الغربيّة تتوقّف عند غاية الرفاهية ، عند تحقيق الجانب المادّي للحياة .
ب ـ إنّ التنمية الغربيّة قامت على أساس الضغط على الجانب الإنسانيّ ، تجلّى ذلك في تحديد الإنجاب ، وعلى الجانب الروحيّ للإنسان الغربيّ في إعراضه عن القيم الروحيّة ، وفي تكثيف العمل الأسبوعيّ ، إذ إنّ إنقاص ساعات العمل بالشكل المطلق يعني ، عِبر زيادة إنتاجيّة العمل وحصيلة التقدّم الفنّي والتكنولوجيّ ، زيادة في استغلال جهد إنسانيّ أكبر بالمفهوم النسبيّ (*) .
جـ ـ إنّ القوّة المادّية المُتحصّلة من التنمية دفَعته إلى بواعث عدوانيّة ، وسيطرة جنونيّة على الكون .
2 ـ التنمية في تصوّر المذهبيّة الاشتراكية (الجماعيّة)
إنّ المُتسالم عليه عند الباحثين أنّ مقولات التنمية قد وجدت تنظيرات ونضجاً في ظلّ التفكير الاشتراكيّ للمشكلة الاقتصاديّة ، بينما حظي النموّ (Grwoth) بالقسط الأوفر في التفكير الاقتصاديّ الليبرالي .
وبصرف النظر عن الأساس النظريّ والواقع التاريخيّ لهذه المُسلّمة ، فإنّ النتيجة الحتميّة للتطوّر الاقتصاديّ في العالم الشرقيّ تتمثّل في أنّ الفكر
ـــــــــــــــــــــــ
(*) ولست أظنّ القارئ يطالب هنا بالدليل أو المصداق ، وإن كان الأمر لصيق بالجانب السياسيّ للنموّ الذي يعرض عنه بحثنا ؛ لأنّه في صدد تقويم العناصر الفنّية .
الصفحة 25
الذي يقف خلفه حاول جادّاً إحداث تحوّلات هيكليّة من خلال الاستثمارات العامّة ، باستخدام التخطيط الشامل (Centralized Economic Planning) ، بما يؤدّي إلى تكوين قاعدة استقطاب للموارد المتاحة كافّة .
وبأُسلوب التوزيع المركزيّ للدخل ، وفق قاعدة ( كلّ حسب عمله ) ، دفع النشاط العامّ إلى تحقيق تزايد مُنتظم في متوسّط الإنتاجيّة للفرد ، وبالتالي في قدرات المجتمع ، مستهدفاً ـ كما تشير أدبيّات التنمية ـ إلى توفير الحاجات الأساسيّة وفق مبدأ يتمثّل في ( إحداث التغييرات الجذريّة في علاقات وقوى الإنتاج ، ومن ثَمّ في البنيان الثقافيّ الملائم معها ) (24) .
وعليه ، اعتمد ذلك التطبيق مسألة الملكيّة الاجتماعيّة ، وخوّل الدولة صلاحية تنظيم الإنتاج وتخطيطه مركزيّاً ، وتوزيع عوائده بموازنة صارمة بين الاستهلاك الضروريّ والتراكم المخصّص ؛ لتوسيع قاعدة الإنماء عموديّاً وأفقيّاً .
وقد اعتمدت السياسة الاقتصاديّة القائمة على أساس ذلك الفكر على المناورة في انخفاض حجم الاستهلاك ورفعه لصالح التراكم ؛ تمشّياً مع الأهداف البعيدة والمتوسّطة والقصيرة للتخطيط الاقتصاديّ ، مع الأخذ بالحسبان الاعتبارات السياسيّة في المراحل المختلفة .
ويلاحظ الباحثون أنّ الفكر الماركسيّ جعل الباعث على إحداث النموّ الاقتصاديّ مواجهة جماعيّة بقيادة الدولة في الغالب للمشكلة الاقتصاديّة ، بحيث صارت التنمية بالأساس مسؤوليّة الدولة ، وحقّ الفرد عليها لتحقيق ذلك السداد المقبول لحاجاته الأساسيّة ، وبسدادها تتجدّد قوى الإنتاج ، ويستمرّ النموّ الاقتصاديّ (25) .
وهذا يتيح لنا القول : إنّ مفهوم التنمية ـ كما يراه أصحاب هذا الاتّجاه ـ ينزع إلى الربط الجدليّ بين الإنتاج والتوزيع ، بعلاقة تأثير متبادلة بينهما ، وتسخير الثاني ـ التوزيع ـ لمصلحة الإنتاج ، وتجديده وتحقيق تراكم مناسب ، سواء بالضغط على مستوى الأُجور الفعليّة ، أمْ على مستويات الاستهلاك ، فضلاً عن تحديد لوسائل الإنتاج .
الصفحة 26
3 ـ مفهوم التّنمية في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ
إنّ المُنطلق الذي ينطلق منه تحديد مفهوم الإسلام للتنمية هو : كيف يرى الإسلام المشكلة الاقتصاديّة ؟ وما هو الحلّ الذي قدّمه لها ؟
إنّ التصوّر الإسلاميّ يُسلّم أوّلاً بأنّ الموارد المبثوثة في الكون هي من الوفرة بحيث تغطّي الحاجات القائمة والمفترض قيامها عموديّاً وأُفقيّاً إلى يوم القيامة . وهذه الحقيقة إحدى مُعطيات القرآن الكريـم ، ولـه فيها دلالـة واضحـة (26) :
( وَآتَاكُم مِن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدّوا نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم : 34] (27) . ويقف الإسلام إزاء هذه المُسلّمة موقف المحرّض بالوسائل العقائديّة والأخلاقية ، ومستخدماً القانون المحرّض على العمل واستثمار هذه الموارد .
إنّ النّدرة المعترف بها في الإسلام هي ندرة الطيّبات ، ( أي السِلع والخدمات المبذول عليها عمل يكيّفها لإشباع الحاجات ) (28) .
لذلك فإنّ الجُهد الإنسانيّ هو الكفيل والمسؤول في آنٍ واحد في إحداث وفرة الطيّبات ، بينما لا توكل التنمية في الفكر الليبرالي ، بقولها بندرة الموارد ، إلى الجهد الإنسانيّ وحده ، وحيث إنّ الإنسان مأمور بسدّ مُتطلّباته للتوصّل إلى تحصيل قدرته على العبادة بالمعنى الأخصّ ، ومأمور بعمارة الأرض لقوله تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيَها ) [هود:61] ، وحيثيّات كهذه تشير إلى أنّ العمل والإنتاج ليسا ردود فعل للحاجة الإنسانيّة ، أو استجابة لها بقدَر ما هما حُكم شرعيّ ينظّم الاستجابة الإنسانيّة لتحدّي الحاجة .
نخلص من ذلك إلى القول : إنّ الركن الأوّل في مفهوم التنمية في الإسلام هو الضرورة الشرعيّة للإنتاج ، واستخدام أقصى الطاقات البشريّة فيه ، ولمّا كان الإنسان هو حلقة الوصل أو محلّ الارتباط في تبادل التأثير بين كفاية التوزيع ، وتحقّق القدرة على الأداء الإنتاجيّ ، فقد احتلّ التوزيع الركنيّة الثانية في مفهوم الإسلام للتنمية ؛ ذلك أنّ التوزيع الإسلاميّ للثروة والدخل قائم على معيارَي العمل والحاجة ، وهنا يسهم التوزيع في مساعدة القوى الإنتاجيّة على الحركة الفعّالة
الصفحة 27
في إعطائها القوّة المادّية ، وتسهم المُسلّمات العقائديّة والأحكام التكليفيّة في إعطاء تلك القوى الدفع الروحيّ المعنويّ .
ما يرتّب ، في فهْم التصوّر الإسلاميّ للتنمية ، أنّ لها ركنين هما : عدالة التوزيع والإمكانات المادّية ، وعدالة توزيع ثمار النموّ لأجل إنتاج يتطلّع إلى عمارة الأرض .
لأجل ذلك كلّه فمفهوم الإسلام للتنمية مفهوم شموليّ لا يُؤكّد على جانب العرض ( الإنتاج ) ، كما هو دأب المدرسة الكلاسيكيّة ، ولا يتركّز في جانب التوزيع هدفاً ، كما في الماركسيّة ، إنّما يجمع بينهما في توليفة متوازنة لإنتاج مفهوم شموليّ للتنمية ، ينتج عنه أنّ أُسلوب الإسلام في الإنماء لا يصاب بسوء التوزيع ، كما هو محور الكُلفة الاجتماعيّة للتنمية الرأسماليّة ، ولا بهبوط الإنتاج كمّاً أو نوعاً ، كما هو محور الكُلفة في التنمية الماركسيّة ، فضلاً من التأثير السلبيّ لكلّ من هذه النقائص على الركن الآخر .
من ذلك كلّه يستطيع الباحث أن يوجز بعض مفاصل الفهْم الإسلاميّ للتنمية ، وعلى الوجه الآتي :
أ ـ إنّ الإنتاج مسؤوليّة شرعيّة يترتّب التخلّي عنها جزاءات قانونيّة في الدنيا والآخرة .
ب ـ الامتثال لهذه المسؤوليّة بوصفها حُكماً شرعيّاً عينيّاً يجعل مفاصل الإنتاج مُتعدّدة ، فيها الفرد والمجتمع والدولة.
جـ ـ يجعل الإسلام للعمل مكافأة مادّية وروحيّة ، المادّية بشرعيّة الملكيّة ، والروحيّة بأجر الامتثال للحكم الشرعيّ .
د ـ إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المُتاحة للإسهام بالإنماء الاقتصاديّ ، طالما ضمِن لأفرادها حدّ الكفاية .
هـ ـ إنّ غاية التنمية في الإسلام تتخطّى مرحلة زيادة الثروة القوميّة ، ومرحلة إشباع الحاجات المادّية فقط ، إنّها تضمّ هاتين المرحلتين وتُسخّرهما معاً لهدف أسمى ، وهو تسهيل أمر العبوديّة لله تعالى (29) .
الصفحة 28
4 ـ أدلّة الوجوب المُستفادة مِن الكتاب الكريم
لقد مرّ بنا الاستدلال بقوله تعالى : ( هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ) [هود : 61] . وقد جاء في تفسيرها عن الجصّاص قوله :
( ( استعمركم ) : أي أمركم من عمارتها بما تحتاجون إليه ، وفيه الدلالة على وجوب عمارة الأرض للزراعة والغراس والأبنية ) (30) .
وجاء في الميزان : ( المراد بالاستعمار هُنا الطلب الإلهيّ من الإنسان المُستخلَف أن يجعل الأرض عامرة ؛ لكي ينتفع بها ، بما يطلب من فوائدها ) (31) .
وقد يستدلّ أيضاً بقوله تعالى : ( إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة : 30] ، ومهام خلافة الله في الأرض ، كما يرى المفسّرون : ( إقامة الحقّ وعمارة الأرض ) (32) . وهناك استدلالات أُخرى تُنظر في مظانّها من الكتاب والسنّة والقواعد الفقهيّة وتطبيقات عصر الراشدين (33) .
5 ـ فلسفة الاستخلاف ومفهوم التنمية في الفِكر الإسلاميّ
ترتكز جميع النُظم الاقتصاديّة في العالم على أساس نظريّ يقرّر نمط التعامل مع طبيعة التصرّف بالثروة والدخل ، فيقوم النظام الفرديّ على أساس الحقّ الفرديّ المُطلق للفرد بموجب حصّته من العمل ، في أيّ ظروف كانت في الاستحواذ على جزء من الثروة القوميّة ، والتصرّف المطلق بالدخل الناتج عن العمل فيها . ويقوم النظام الجماعي على أساس عدم أحقّية الفرد في تملّك وسائل الإنتاج غالباً ، ويقرّ التخطيط الشامل للأجر والأسعار طبيعة التصرّف بالدخل ، وفق مُتغيّرات ودَوال يعتمدها ذلك التخطيط .
أمّا بالنسبة للتصوّر الإسلامي ، فكيف يرسم طبيعة التصرّف بالملكيّة ؟
لتوضيح طبيعة التصرّف لا بدّ من عرض القوانين المركزيّة في مذهبيّة الاستخلاف : إنّ الشريعة الإسلاميّة تقرّر ابتداءً أنّ الملكيّة الحقيقيّة لله تعالى ، ونمط العلاقة بين الخالق والكون علاقة ملك تامّ وحقيقيّ ، فيه أعلى درجات
الصفحة 29
الاختصاص ، يظهر ذلك من قوله تعالى : ( للّهِِ مُلْكُ السّموَاتِ وَالأَرْضِ وَاللّهُ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) [المائدة : 120] .
قال المفسّرون : إنّ معنى الآية : ( لله ملك السماوات والأرض دون كلّ مَن سواه لقدرته عليه وحده ) ، وقيل : ( إنّ هذا جواب لسؤال مُضمر في الكلام ، كأنّه قيل : مَن يُعطيهم ذلك الفوز العظيم ؟ فقيل : الذي له ملك السماوات والأرض ) .
فهو يقدر على المعدومات بأن يوجدها ، وعلى الموجودات بأن يعدمها (34) ؛ وبناءً على ذلك ، فإنّ مطلق الموارد والطاقات والسلع الحرّة والاقتصاديّة تدخل في طبيعة هذا المِلك .
وأهمّ ثمرة تكمن وراء تقرير هذه الحقيقة انتفاء الملكيّة الحقيقيّة الأصليّة للإنسان ، فالإنسان ، مِن حيث كونه غير موجِد وغير مُدبّر لديمومة الموارد والطاقات ، لا يصحّ اعتباره مالكاً ؛ لأنّه ليس سبباً للإيجاد والتدبير ، إلاّ أنّ الله تعالى أوكَل للإنسان حقّاً في استثمار الموارد المُتاحة في الكون وإعمار الأرض ، والانتفاع بتلك الموارد وفق نيابة مشروطة ، واختباراً له في طريقة التعامل مع هذه النيابة ، كما حدّدتها الشريعة ، ويدلّ على هذا القانون قوله تعالى : ( وَإِذْ قَالَ رَبّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ) [البقرة : 30] .
وقوله تعالى : ( وَلَقَدْ مَكّنّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ ) [الأعراف : 10] . قال الطبرسي : ( التمكين من التصرّف فيها ، والمعايش : أنواع الرزق ووجوه النِعم ، وقيل : المكاسب والإقدار عليها بالعلم والقدرة والآلات . ومع كلّ هذه النِعم قلّ شكرُكم ) (35) ؛ أي بعدم التزامكم بضوابط الاستخلاف ...
وأخيراً ، فإنّ القانون الثالث للاستخلاف هو أنّ الله القادر جعل هذه الموارد قابلة لتقديم المعطيات للإنسان ، وأنّها وضعت مهيّأة للانتفاع بها إذا ما مارس الإنسان عليها جُهداً ، فهي ليست عصيّة على مَن استخلفه الله ، يدلّ
الصفحة 30
على ذلك قوله تعالى : ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) [لقمان : 20] .
قال الطبرسي : ( مَا فِي السَّمَوَاتِ ) : أي الشمس والقمر والنجوم ، الفضاء كلّه مُسخّر للإنسان ، وما في الأرض من الحيوان والنبات وغير ذلك ، ممّا تنتفعون به وتتصرّفون فيه بحسب ما تريدون .
( وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ) ، يقصد بالظاهرة : ما يُمكّنكم جهدكم من خلْقِه وإحيائه سلعاً نافعاً ، خلَق القدرة فيكم على العمل ، وخلَق الشهوة فيكم ؛ أي خلق الرغبة في العمل .
أمّا الباطنة : فالتي لا يعرفها إلاّ مَن أمعن النظر فيها (36) ؛ أي الموارد المكتشفة باستخدام العلم والمعرفة ، والتي تبقى محجوبة عن الإنتاج ما لم يتحرَّها الإنسان بسلطان القدرة العلميّة والعمليّة .
6 ـ النتائج ذات العلاقة بالتنمية
أ ـ يترتّب على القانون الأوّل : نفي الملكيّة الحقيقيّة عن الإنسان ، إنّما جُلّ الأمر تمكينه بوساطة الحُكم الشرعي للحيازة والانتفاع بالموارد لفرد أو مجموعة ، أو للأمّة على اختلاف في الشكل واتّحاد في المُحتوى .
ب ـ الحيازة بموجب تلكم مفتوحة ، فلا تمييز لطبقة النُبلاء ؛ لأنّ الوسائل الشرعيّة للحيازة عامّة للجميع ، وأهمّ الوسائل ضرورة العَمل ، واعتباره الشرعي سبباً للمعاوضة المُنتجة للملكيّة .
وبهذا تشكّل الملكيّة ، في منطق هذه القوانين ، ( حكماً شرعيّاً قدّر وجوده في عينٍ أو منفعة ، يقتضي ـ ذلك الحُكم ـ تمكين مَن أُضيف إليه انتفاعه بالعين أو المنفعة أو الاعتياض عنها ، ما لم يوجد مانع من ذلك ) (37) .
جـ ـ لمّا كان الحُكم الشرعيّ سبباً للملكيّة ( حيازةً أو انتفاعاً ) دائميّاً ، فإنّ انتهاك السبب يعني فساد النتيجة المُترتّبة عليه .
الصفحة 31
د ـ العلاقة بين الإنسان ( المُستخلف ) وبين الموارد ، ليست علاقة صراع أساسه الندرة ، بل علاقة تكامليّة بين الموارد الكافية والمُسخّرة ، والتكليف الإلهيّ للإنسان بالعمل وعمارة الأرض .
أي أنّ كلّ جزء من مخلوقات الله يؤدّي دوراً في عمليّة الإعمار ، وكلّ هذه الأدوار يكمّل بعضها بعضاً ، متّجهة نحو هدف واحد هو إعمار الأرض ، وتحسين مستوى الحياة لأغراض تسيير عبادة الله تعالى .
هـ ـ لمّا كان الإنسان في اعتبار التصوّر الشامل في الإسلام للتنمية هو المستفيد الوحيد من التسخير والاستخلاف ، فإنّه يتوجّب عليه ولوج الحياة بكلّ فاعليّة وإيجابيّة ، فتعطيل الموارد بعدم الاستخدام أو سوء الاستخدام يُسبّب مناط الحكم أو علّته بسحب الحقّ (38) ، ولأشكال الاستخلاف علاقة خاصّة بالتنمية تشكّل لها حافزاً إيجابيّاً مؤثّراً (39) .
فالأُصول المذهبيّة للاقتصاد الإسلاميّ ، إذن ، ثلاثة :
1 ـ الملكيّة : ملكيّة الموارد المادّية والبشريّة ، الطبيعة والإنسان ، هي لله عزّ وجلّ .
2 ـ الاستخلاف : هو إنابة المالك لعباده من البشر حيازة تلك الموارد والاختصاص بها .
3 ـ التسخير : من حيث إنّ الموارد الطبيعيّة ، بعوالمها الثلاثة : النباتيّ والحيوانيّ والمعدنيّ ، المكتشفة حاليّاً والتي لم تُكتشف بعد ، مُسخّرة لهؤلاء البشر .
وتتجسّد وحدة القوانين المركزيّة الثلاثة هذه في مهمّة عمارة الأرض ؛ باعتبارها التكليف الشرعيّ للإنسان ، الغاية منه إنتاج المستلزمات المادّية الضروريّة له لتأديته مهمّة عبادة الخالق تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ ) [الذاريات : 56] .
الصفحة 32
ـــــــــــــــــــــ
( 19 ) س . كوزيتتس .
( 20 ) تحليل بالدوين ( مبير ) ، اُنظر : ميردال في نقد النموّ ، ترجمة عيسى عصفور ، سوريا ، 1980م .
( 21 ) اُنظر : النجفي ( سالم ) ، التنمية الاقتصاديّة الزراعيّة ، جامعة الموصل ، ص : 16 و17 .
( 22 ) اُنظر : د . العمادي ( محمّد ) ، التنمية والتخطيط ، دمشق ، ط2 ، 1966م ، ص : 71 ـ 77 . مقياس جير الدماير ، بالدوين .
( 23 ) روستو ( والت ) ، مراحل النموّ الاقتصاديّ ، ترجمة إبراهيم جناتي ، القاهرة ، 1977م .
( 24 ) اُنظر في هذا الصدد :
د . الكواري ( علي ) ، نحو فهم أفضل للتنمية ، مركز دراسات الوحدة العربيّة ـ بيروت ، 1984م ، ص : 70 .
د . محيي الدين ( عمرو ) ، التخلّف والتنمية ، ص : 210 .
د . عبد الله ( إسماعيل صبري ) ، نحو نظام عالمي ، ص : 220 .
د . مرسي ( فؤاد ) ، ( م . س . ) ، ص : 176 .
( 25 ) عبد الله ( إسماعيل صبري ) ، ( م . س . ) ، ص : 220 .
مرسي ( فؤاد ) ، ( م . س . ) ، ص : 176 .
( 26 ) اُنظر : الكُبيسي ( أحمد عواد ) ، الحاجات في مذهب الاقتصاد ، ص : 82 و83 .
( 27 ) اُنظر آيات الكتاب الكريم : [إبراهيم : 32 ـ 34] .
( 28 ) د . صقر ( محمّد أحمد ) ، الاقتصاد الإسلاميّ مفاهيم ومُرتكزات ، دار النهضة العربية ـ القاهرة ، ط1 ، 1988م ، ص : 23 و24 .
( 29 ) اُنظر في تفصيلات هذه الخصائص :
النجّار ( عبد الهادي علي ) ، الإسلام والاقتصاد ، سلسلة المعرفة ، الكويت ، ص : 75 .
العلي ( أحمد بويهي ) ، التنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة ومستوى المعيشة ، مجلّة البحوث الإدارية ـ بغداد ، العدد الأوّل ، ك2 ، 1978م ، ص : 145 .
( 30 ) الجصّاص ، أحكام القرآن : 3/165 .
( 31 ) طباطبائي ( محمد حسين ) ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسّسة الأعلمي ـ بيروت ، ط 2: 10/310 .
اُنظر : الطبرسي ( أبو علي الفضل بن الحسن ) ، مجمع البيان ، مطبعة دار الفكر : 12/178 .
( 32 ) الطبرسي ، ( م . س . ) : 1/ 74 .
البيضاوي ، أنوار التنزيل وأسرار التأويل ، مطبعة مصطفى محمّد : 1/135 .
( 33 ) المياحي ( عبد الأمير كاظم ) ، ( م . س . ) ، ص : 75 ـ 81 .
( 34 ) اُنظر : الطبرسي ، ( م . س . ) 3/270 .
( 35 ) الطبرسي ، ( م . ن ) : 4 : 400 .
( 36 ) الطبرسي ، ( م . ن ) : 8/320 .
( 37 ) القرافي ( شهاب الدين أبو العبّاس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن ) ، الفروق ، دار إحياء الكتب العربيّة : 3/308 .
( 38 ) اُنظر : السبهاني ( عبد الجبّار عبيد ) ، الاستخلاف والتركيب الاجتماعي في الإسلام ، رسالة ماجستير مقدّمة إلى كلّية الإدارة والاقتصاد ، رونيو 88 ، جامعة بغداد ، 1985م .
محمود محمّد بابللي ، السوق الإسلاميّة المشتركة ، ص : 40 .
د . الحسب ( فاضل ) ، في الفكر الاقتصاديّ الإسلاميّ ، دار المعرفة ، ص : 39 .
( 39 ) المياحي ( عبد الأمير كاظم ) ، ( م . س ) ، ص : 101 .
|