أوّلاً : التخلّف ومفاهيمه في الفكرين : الوضعيّ والإسلاميّ
لمّا كانت التنمية هي البديل التاريخيّ للتخلّف ، فلا بدّ من عرض موقف الفكرين منه :
1 ـ في الفكر الوضعيّ
يرى بعض الاقتصاديّين أنّ التخلّف : مجموعة مِن الظواهر التي تصاحب انخفاض الإنتاجيّة (3) .
ويرى آخرون أنّه : نظام وبُنية كلّية تسِم الهيكل الاقتصاديّ السائد (4) .
وبناءً على الاتّجاه الأوّل يحاول المنظّرون الرأسماليّون عَدّه ظاهرة طبيعيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة ، أو تركيباً يجمع هذه الظواهر مجتمعة ، بما يؤدّي إلى انخفاض الإنتاجيّة ، بينما يُدافع الاتّجاه الثاني عن كونه ظاهرة تاريخيّة مُركّبة ، ( حيث يرى بأنّه مقولة عالميّة خاصّة بعصر الامبرياليّة ، ومرتبطة بمجموعة معيّنة من العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الداخليّة والخارجيّة ) (5) .
إنّ تصوّر الاتّجاه الفرديّ للتخلّف يجعله مضطرّاً إلى الكشف عنه فكريّاً من خلال مظاهره ونتائجه ، وتعوّل تلك الدراسات كثيراً على نمط الارتباط بين التخلّف ومعدّلات النموّ السكّاني ، أو انخفاض إجماليّ الإنتاج ، أو انخفاض إنتاجيّة العاملين ، أو تدنّي كفاءة مُجمل النشاط الاقتصاديّ .
وتوسّعاً ، فقد ناقشه من خلال مظاهره غير الاقتصاديّة ، مثل انخفاض نسبة المتعلّمين بالقياس إلى مجموعه السكّان ، أو طبيعة النظام الحقوقيّ السائد .
الصفحة 13
واعتُمِد لجلاء التخلّف ، في تصوّر الاتّجاه الأوّل ، على مقياس غير منضبط (6) ، باعتماد المقارنة بين ما تقدّمه الدول المتقدّمة لسكّانها ، بما تقدّمه دول العالم الثالث ، فاختير مقياس حجم الدخل الفرديّ الحقيقيّ مؤشّراً هامّاً في تلك المقارنات ، وإن انطلقت دراسات أُخرى من اعتماد مدى انخفاض إنتاجيّة العمل أو مؤشّر الاختلال في هيكل الاستخدام لصالح القطاعات التقليديّة .
وبالمقابل ركّز أصحاب الاتّجاه الثاني على أسباب الظاهرة والمحاكمة التاريخيّة للنشأة والتطوّر ، فربطوا التخلّف بتطوّر الحيازة الفرديّة لملكيّة وسائل الإنتاج ، بما يوصل إلى عدم التوافق بين الطابع الاجتماعيّ لعمليّة الإنتاج ، وبين شكل الملكيّة ، وبالتالي عدم التوافق بين قوى الإنتاج الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة ؛ الأمر الذي يخلق في رأيهم خرقاً لواحد من أساسيّات التقدّم الاقتصاديّ ، هو ضرورة التوافق بين القوى المُنتجة وعلاقات الإنتاج .
وحوكمت أيضاً أسباب الاستمراريّة والديمومة لهذه الظاهرة ، وعُزيت إلى التأثيرات الاقتصاديّة للرأسماليّة على اقتصاديّات بُلدان العالم الثالث ؛ حيث جعلت هذه البلدان هوامش للأوطان الأمّهات ، وقد صاحب ذلك تخريب شامل للبنيان الاقتصاديّ في هذه البلدان ، وأحدث فيها نموّاً مُشوّهاً متّسماً بثُنائيّة القطاعات (7) .
وبالجمع بين العوامل الخارجيّة والداخليّة انشطر العالم الحديث إلى دول تنمو بسرعة ، وأُخرى تُراوح أو تتراجع . وبتوسّع الهوّة نشأ التخلّف ، وتطوّر في بلدان آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينيّة ، بينما اضطرد التقدّم الاقتصاديّ في أوروبا وشرق آسيا واليابان .
2 ـ في التصوّر الإسلاميّ
لقد طرح الفكر الإسلاميّ موضوع التخلّف معبّراً عنه بالشقاء ، فقد قال الله تعالى في كتابه الكريم ، في تحديد العلاقة بين الإنسان المتلقّي لهدى السماء ، وبين الكائنات والمخلوقات التي تتصرّف في الحياة بقياساتها البشريّة :
الصفحة 14
( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوّ فَإِمّا يَأْتِيَنّكُم مِنّي هُدىً فَمَنِ اتّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلّ وَلاَ يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) [طه : 123 ـ 124] .
وقال : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنّهُ حَيَاةً طَيّبَةً وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) [النحل : 97] .
وقال عزّ وجلّ : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مّطْمَئِنّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ) [النحل : 112] .
إنّ ما يُفهم من مُفردات ( الضلال ، والشقاء ، والمعيشة الضنكا ) ، هي تلك التركيبة من الخصائص السلبيّة التي تعمّ نشاطات الحياة والمجتمع كلّها ، بمظهرٍ خارجيّ مؤدّاه عدم قدرة الهيكل الاقتصاديّ على توفير ما يُلبّي الحاجات الأساسيّة (Basic Needs) ؛ بسبب فقدان القدرة الذاتيّة لذلك الهيكل على النموّ والتطوّر ، وعدم قدرته على تجاوز سِمة السكونيّة .
قال المفسّرون : ( المراد بـ ( يَشْقَى ) : أي يقع في تعب العمل وكدّ الاكتساب والنفقة ، وقال الجبائي : المُراد بـ ( مَعِيشَةً ضَنكاً ) أي أنّ الله يُقتّر عليه الرزق عقوبة له على إعراضه ) (8) .
وعليه ، فقد دلّ الشقاء الوارد في الآية على تدنّي الإنتاجيّة في العمل ، ودلّ مفهوم المعيشة الضنكا على عدم القدرة الإنتاج الاجتماعيّ على الوفاء بسداد الحاجات العامّة للسكّان ، ولعمليّة تجديد الإنتاج الاجتماعيّ ، ومِن خلال إشارة الجبائي إلى أنّ الله ( إن وسّع على المعرض فإنّه يُضيّق عليه بأن يجعله ممسكاً لا ينفق على نفسه ) (9) ، يراد به ربط ذلك بالتوزيع غير المتساند ، مع الاندفاع والإيجابيّة في استثمار المسخّر من الكون بأُسلوب إمساك الدخْل عن المساهمة الفاعلة في التوظّف ، مع التزامن في تدنّي مستويات الاستهلاك .
الصفحة 15
أمّا في قوله تعالى : ( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) ؛ أي مَن عَمل عملاً صالحاً ، وهو مؤمن مصدّق بالله وأنبيائه ، ومنفّذ لقوانين الشريعة ، فقد وعده الله بأن يُحييه حياة طيّبة .
قال المفسّرون : المراد بالحياة الطيّبة : الرزق الحلال (عن ابن عبّاس وسعيد بن جبير وعطاء ) ، وقيل : رزق يوم بيوم ( تدفّق الإنتاج وزيادته بما يوازي زيادة الحاجات الكمّية بزيادة السكّان ، أو النوعيّة بانشطار الحاجات وتطوّرها واتّساعها عموديّاً وأُفقياً حسب تطوّر المستوى الحضاريّ ) (10) .
ويُلاحظ أنّ قول الله تعالى : ( قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً ) ؛ أي ذات أمْن ، يأمَن أهلها من الإغارة عليهم ، و ( مّطْمَئِنّةً ) ، قارّة ساكنة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو بضيق ، و( يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِن كُلّ مَكَانٍ ) ، أي يحمل إليها الرزق الواسع من كلّ موضع ، ( فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ ) ، أي كفر أهلها بأن لم يؤدّوا شكرها ، فأخذهم الله بالجوع والخوف بضيعهم ، وسمّاه لباساً ؛ لأنّ أثر الجوع والهزال يظهر على الإنسان كما يظهر اللباس ، وقيل : يشملهم الجوع والخوف جميعاً كما يشمل اللباس البدن كلّه (11) .
وفي ضوء ما تقدّم ، فإنّ ماهيّة التخلّف في المفهوم الإسلامي : هي ( عجز البُنية الاقتصاديّة ـ الاجتماعيّة عجزاً كاملاً أو جزئيّاً عن تحقيق مُعدّل استثمار مستمرّ يعلو على معدّل الزيادة السكّانية ، بما يجعلها ـ أي البُنية ـ غير قادرة على الوفاء بالاحتياجات الأساسيّة ، بسبب تقصير الإنسان في مهمّاته الاستخلافيّة مِن جهة السياسة الاقتصاديّة أو مِن جهة عدم استجابة الأفراد لبرامج الاستخلاف في تكليف الإنسان شرعاً بعمارة الأرض ) (12) .
إلاّ أنّه ممّا تلزم الإشارة إليه أنّ ما مرّ من تشخيص للماهيّة والظواهر ، فإنّما هو على مستوى اقتصاد مغلق (closed Economy ) ، الذي تجري عمليّاته بمعزل عن قسمة العمل الدوليّة ، بعيداً عن حركة السِلع والخدمات العالميّة ، وعن انتقال رؤوس الأموال بين الاقتصاديّات المُختلفة ، وتبادل الأيدي العاملة في ما بينها ، علماً بأنّ المذهب الاقتصاديّ الإسلاميّ يرى أصلاً أنّ
الصفحة 16
وجود أكثر من نمط إنتاجيّ ( Production Mod ) إنّما هو حالة مؤقّتة وطارئة ؛ لأنّ التكليف الشرعيّ الدائم يلزم بتعميم الشريعة الإسلاميّة على كلّ المعمورة .
أمّا الحوار على مستوى الاقتصاد المفتوح ( Open Economy ) ، أي أخذ الاقتصاد الإسلاميّ ضمن حركة الاقتصاد العالميّ ، وبوصفه جُزءاً مِن السوق العالميّة ، فإنّ التقصير بمهمّة الاستخلاف فيه ( في المجتمع الإسلاميّ ) إذ يتجسّد في انخفاض إنتاجيّة العمل الاجتماعيّة ، فإنّه ينعكس رأساً في تدنّي مستوى تلك الإنتاجيّة عن المعدّل العالميّ ، وبالتالي تصبح نسب التبادل التجاريّ مائلةً إلى الانخفاض دائماً ؛ لذا فإنّ معيار الإنتاجيّة الاجتماعيّة للمجتمع الإسلاميّ ، مقارنةً بنظائرها الخارجيّة ، يغدو معياراً للمقدرة الاقتصاديّة (Economic Potential) للاقتصاد الإسلامي .
فكلّما كانت المقدرة الاقتصاديّة كبيرة كبُر إجمالي القوّة المُنتجة والإنتاج الاجتماعيّ ، وبالتالي توسّعت وتعمّقت مكانة الاقتصاد الإسلاميّ في قسمة العمل الدوليّة .
فالاستقلال الاقتصاديّ ـ كما نراه ـ هو المكانة التي يحقّقها الاقتصاد بالمعنى للاقتصاد الدوليّ ، تمشّياً مع مقدرته الاقتصاديّة التي ليست هي إلاّ إجمالي القوّة المُنتجة ، زائداً على مجموع الإنتاج الاجتماعيّ ، على أن ينظر إليها بوصفها مُتغيّراً تابعاً للمتغيّرات الهيكليّة في البُنية الاقتصاديّة ، وإنّ تغيير الاقتصاد هيكليّاً يجرّ وراءه تغييرات وتحوّلات في كمّ القوى المنتجة وفي نوعيّتها ، بحيث تؤدّي إلى تغيير في نمط الإنتاج ، وبالتالي في حجمه وقيمته ونوعيّته ، وأخيراً في مقدرته الاقتصاديّة ذاتها .
إنّ الآيات الكريمة التي أشارت إلى مفهوم التخلّف وسببه ، أشارت أيضاً إلى ظواهر من أبرزها الانخفاض المُطلق والنسبيّ لحدّ الكفاية (13) ؛ لكونها من المعايير الكمّية في نمط التوزيع الإسلاميّ القائم على مِعيارَي العمل والحاجة .
الصفحة 17
وسبب الانخفاض في حدّ الكفاية انخفاض إنتاجيّة العمل ؛ بسبب عدم توفّر ظروف الجدّية في مُمارسة عمـارة الأرض ، والتفريط بما سخّره الله تعالى من مُعطيات الطبيعة ، بما يعني انخفاض صافي الأرباح الاجتماعيّ ، وبالتالي ضيق حدود كفاية الأفراد ؛ لصغر حجم السِلع والخدمات التي تدخل فيه ، ومحدوديّة تنوّعها .
وعلى العكس ، فإنّ إدراك العاملين في الاقتصاد الإسلاميّ لفريضة العمل والاستجابة لها تعني زيادة فاعليّة العمل ؛ لتحويل نِعَم الله تعالى إلى سِلَع إنتاج وسِلَع استهلاك بدرجة توجب توسيع حدود الكفاية على نطاق الفرد ، ومن ثَمّ على المستوى الاقتصاديّ كلّية .
إنّ البُعد النسبي لحدود الكفاية في الاقتصاد الإسلاميّ يتّضح في مجال المقارنة مع معايير مستوى المعيشة في الاقتصادات الأُخرى ، على أن تُؤخذ بنظر الاعتبار المتغيّرات النوعيّة المميّزة لنمط الاستهلاك الإسلاميّ ، ومثالاً على ذلك نذكر : استبعاد السِلع المحرّمة والمكروهة ـ مثلاً ـ مِن مجال المقارنة والعوامل المُشابهة الأُخرى .
وفي حالة افتراض مُستوى مُعيّن من حدود الكفاية يمكن أن نتصوّر ثلاث حالات :
أ ـ تناسب مقدار ( الكفاية ) عيناً أو نقداً مع إنتاجيّة الفرد ، وبذلك يكون عمل الفرد هو الكفيل بسدّ متطلّبات معيشته بالمستوى والموقع الاقتصاديّ والاجتماعيّ في مُدّة زمنيّة مُعيّنة ، اعتمد الفقهاء فيها غالباً السَنة مدّةً قياسيّة ، نلحظ ذلك في شرط ( الحول ) في الزكاة والخُمس والخَراج .
ب ـ زيادة مردود عمل الفرد وإنتاجيّته مِن جهة المردود الاقتصاديّ ( فائض الدَخل ) بما يفوق ( حدّ الكفاية ) ، بحيث يخضع هذا الفائض إلى موازنة ماليّة أقامتها الشريعة الإسلاميّة ، مِن خلال تأسيس عِدّة قنوات تُرحِّل قسماً منه إلى بيت المال بوساطة الحقوق الشرعيّة على المال ، وفي مقدّمتها
الصفحة 18
الزكاة والخُمس والكفّارات والنُذور والوَقف والخَراج والصدقات التطوّعيّة التي تمتلك خاصّية تتفرّد بها ؛ إذ إنّها ترتبط بدرجة التقوى في ذات الفرد ، أو إنّ المردود أو جزءاً منه يوظَّف في استثمارات إضافيّة في الأُصول الثابتة أو المتداولة للإنتاج ، وبذلك لا يخضع للزكاة .
جـ ـ أمّا الحالة الثالثة ، فهي عجز مردودات عمل الفرد وإنتاجيّته عن تغطية حدّ الكفاية ، بما يجعل الفرد محلاً للمدفوعات التحويليّة ، من صندوق الزكاة ، أو بيت المال ؛ لتغطية المتبقّي عن طريق مصارف الزكاة أو مصارف الخُمس ، أو الاستفادة من تحقّق الكفّارات والنُذور والأوقاف التي تُسيل منافع الأُصول لصالح المحتاجين للمنافع المحبسـة (14) .
وحيث تنتهي البحوث في نمط التوزيع الإسلاميّ إلى أنّ قوانين التوزيع في الإسلام لا تدع شريحة العجز عرضة للهلكة أو الإحسان ، إنّما تجعل الإمام والمسلمين جميعاً مسؤولين مباشرة عن انتزاع هذه الشريحة إلى مستوى الكفاية ، فإنّ مفهوم التخلّف الناتج عن سوء التوزيع لا يكاد يرى في تصوّر اقتصاد إسلامي .
ويترتّب على ذلك أنّ نموذج التنمية في الإسلام لا يقوم على أساس ( الإنتاج ) فقط ، فللتوزيع دور هامّ في إنجاز النموّ .
وقد يُؤسّس على ذلك أنّ محور التوزيع سيدخل في حسابات المخطّط الاقتصاديّ المسلم ، إلى جانب الإنتاج عند صياغة السياسة الاقتصاديّة أو الخطط الطويلة والمتوسّطة ؛ بما يؤدّي إلى اقتران النموّ مع توزيع إمكاناته توزيعاً عادلاً .
مِن كلّ ما تقدّم يخرج الباحث من هذا الاقتران بالنتائج الآتية :
1 ـ إنّ النمط التوزيعيّ يُهيّئ جميع قوّة العمل المتاحة للمساهمة بالإنماء .
2 ـ تحقيق الكفاية للجميع ، بوصفها حدّاً أدنى يسهم في زيادة إنتاجيّة القوى العاملة ورأس المال معاً .
الصفحة 19
3 ـ السماح بالتفاوت بعد تحقيق الكفاية ؛ الأمر الذي يحرّك الطلب المنشّط ، ثمّ الفعّال الذي يُشجّع الإنتاج ، وبالتالي يُقلّل من فُرص الركود وآثاره السيّئة على الدورة الإنتاجيّة .
نخلص ممّا تقدّم ـ أيضاً ـ إلى أنّ نظرة المذهبيّة الإسلاميّة للتخلّف نظرة فكريّة وليست مادّيةً ، هذه النظرة الفكريّة تستوعب كافّة مظاهره ونتائجه وأسبابه ، وتعدّ أساساً لمعالجته ، كما سيظهر من تصوّر تلك المذهبيّة للتنمية .
وإنّ تلك التصوّرات ـ كما يبدو ـ تُعطي للتوزيع أولويّة في انتزاع المفهوم الحقيقيّ للتخلّف ، فتربطه بنمطه ، ثمّ تحلّل تدنّي الأنماط من خلال عزوف الإنسان عن استثمار الموارد المُتاحة ( المُسخّرة ) للكون ؛ بسبب عدم أداء الإنسان ( المُستخلف ) لمهامه الاستخلافيّة في الأرض ( عمارة الكون ) .
وكلّ ذلك بسبب عدم وضوح أُسلوب المعالجة الإسلاميّة للمُشكلة الاقتصاديّة عند الفرد المُستخلَف ـ غير المسلم ـ أو سيطرة حالة التبعيّة الفكريّة والمنهجيّة لدى المسلمين في الإعراض عن القوانين المركزيّة للنموّ ، كما ترسمها الشريعة الإسلاميّة . أمّا ما يترتّب على هذه العلّة المركزيّة فهو من قبيل النتائج والمظاهر التي تفرزها تلك العلّة .
وهذا يعني أنّ المذهبيّة الإسلاميّة تُعالج المسألة مُعالجة جذريّة عميقة ، تبدأ مِن تمكين العقيدة في النفوس ؛ لأنّ النموّ لا يعدّ ممارسة شرعيّة إلاّ إذا كان استجابة لحُكم شرعيّ ، ثمّ وضع الإنسان تحت تأثيرات مجموعة من القيَم المحفّزة ، إضافةً إلى دور الفقه ( النُظم الحقوقيّة المؤسّسيّة ) في تنظيم بيئة قانونيّة اجتماعيّة سياسيّة مُهيأة للإنماء ، بما يشكّل ، وفق مصطلح الاقتصاديّين ، الإطار المُلائم للتنمية .
إذنْ ، لتعدّ المنهجيّة الإسلاميّة المعادل لِما يُسمّى في أدب التنمية بشروط الانطلاق ، على أنّنا لا بدّ من أن نشير إلى الخلاف في التصوّر والمعالجة بين الفكرين : الوضعيّ والإسلامي ، وما يترتّب على كّل تصوّر من عناصر توجّه الطريقة الكليّة لكلّ فِكر في استخلاص قيميّ لحلّ المشكلة الاقتصاديّة ، وعلى
الصفحة 20
ذلك ، فإنّ منظومة معايير التخلّف في الدراسات الاقتصاديّة للتنمية لا ترقى إلى وصف التخلّف ماهيّةً أو مفهوماً ، ذلك أنّ فائض الزيادة السكّانيّة مفهوم نسبيّ ، فليس الأمر إلاّ عدم استخدام الموارد المُتاحة ( المسخّرة ) ؛ لأنّ التصوّر الإسلاميّ لا يعترف البتّة بنقص الموارد إزاء زيادة السكّان ، ولأنّ وجوب العمل في التصوّر الإسلاميّ وجوب مُنحل إلى كلّ قادر عليه ، إلى جانب كفاية الموارد للحاجات الأُفقيّة ( زيادة السكّان ) . كما أنّ نقص الموارد ـ كما يُمثّل له الحزام الاستوائيّ ـ مسوّغ غريب ، فإنّ النظرة الإسلاميّة ، إلى جانب كونها تؤكّد بدلالات قرآنيّة متعدّدة كفاية الموارد ، لا ترى المسألة من زاوية إقليميّة ، بل إنّ المسلمين جميعاً مسؤولون عن إخوانهم مسؤوليّة وجوبيّة حيناً وندبيّة حيناً آخر .
لقد أسهب الآلوسي والزمخشري في تفسير قول الله تعالى : ( وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا ) [إبراهيم : 34] ، قال الألوسي : ( كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ) يعني ما من شأنه أن يُسأل لاحتياج الناس إليه ، سواء سأله الإنسان أمْ لم يسأله ) .
وقال الزمخشري : ( إنّه آتاكم كلّ ما احتجتم إليه ، والذي لم تصلح أحوالكم ومعايشكم إلاّ به ) (15) .
وقد أيّد العلم هذه النظرة الشموليّة بما جعل الباحثين يؤكّدون على أنّ معارف الإنسان لم تصل إلى اكتشاف فائدة كلّ ما يحيط به الموارد ، وكلّ ما توصّل إلى معرفة فائدته لا يتجاوز قطرة من بحر ، إذا قيس بجميع ما يشتمل عليه هذا الكون .
ففي المملكة الحيوانيّة التي تُعدّ فصائلها بمئات الآلاف ، لم يستخدم الإنسان منها إلاّ نحو مِئتي فصيلة (16) .
ويرى العُلماء أنّ ارتفاع عدد سكّان العالم مِن (750 مليوناً ) في سنة ( 1750 ) إلى ( 4000 مليون ) حالياً صاحَبه ارتفاع في مستوى المعيشة ، وهذا لا يتمّ إلاّ مع فرض كفاية الموارد (17) .
الصفحة 21
وقد نُوقشت قضيّة رأس المال في بحوث مُتعدّدة ، نذكر منها بحث البعّاج : ( مغزى الحلقات المفرغة ) الذي انتهى إلى أنّها وسيلة تضليليّة ؛ لتسويغ بقاء تخلّف دول العجز في العالم المعاصر واستمراره (18) .
أمّا تدنّي إنتاجيّة العمل ، فهو ـ كما يظهر مَن ولجَ هذا الموضوع ـ نتيجة لِما تقدّم من معايير ، ولم تصمد التفسيرات السوسيولوجيّة بعَزو التخلّف إلى نمط الثقافة والدين والأنظمة الاجتماعيّة والفروق العنصريّة واللون ، وتصنيف البشر إلى مجتمعات راكدة وأُخرى راكدة هجينة ، إلاّ بمساسها بالمدخل الفكريّ ؛ لتوضيح تصوّر الإسلام للمدخل السليم لتفسير التخلّف ، وإلاّ فهي دراسات منحازة تضمّ بين جنباتها أغراضاً غير علميّة ، وتحتوي على درجة من التعصّب ورمي شعوب العالم الثالث بعيب ( الأدْنَويّة ) ، وتهدف إلى تقرير آراء عنصريّة تلصق التفوّق الطبيعيّ بعناصر وسلالات بشريّة في العالم (*) ، وهكذا لم تقف معايير المنظومة أمام التفسير الإسلاميّ للتخلّف .
ــــــــــــــــ
( 3 ) انظر : حمزة ( سعد ماهر ) ، م . س .
القاضي ( عبد الحميد ) ، م . س .
( 4 ) اُنظر : سنتش ( توماس ) ، الاقتصادي السياسيّ للتخلّف ، ترجمة فالح عبد الجبّار ، ص : 14 ، مطبعة الأديب ـ بغداد .
د . البعّاج ( هشام ) ، المغزى الحقيقيّ لنظريّة الحلقات ، مجلّة كلّية الإدارة والاقتصاد ، العدد 2 ، السنة الأُولى ، 1981م ، ص : 9 .
( 5 ) اُنظر : افينسيف م . م ، نظريّات النموّ الاقتصادي للبلدان النامية ، ترجمة عز الدين جوني ، ص : 34 ، دار الفارابي ـ بيروت ، 1979م .
( 6 ) اُنظر : درويش ( حسين ) ، التنمية الاقتصاديّة ، 1979م ، دار النهضة العربيّة ـ القاهرة ، ص : 18 .
( 7 ) اُنظر : كوك ( أوليفر ) ، الرأسماليّة نظاماً ، ترجمة الدكتور إبراهيم كُبّه ، ص : 184 ـ 189 .
توماس سنتش ، مصدر سابق ، ص : 22 .
مرسي ( فؤاد ) ، التخلّف والتنمية ، ص : 52 .
( 8 ) الطبرسي ( أبو علي الفضل بن الحسن ) ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، المطبعة الإسلامية 7/34 .
( 9 ) المصدر نفسه .
( 10 ) المصدر نفسه : 3/384 .
( 11 ) المصدر نفسه : 3/389 ، 390 .
( 12 ) اُنظر : خلفيّات انتزاع هذا المفهوم عند : صالح ( عبد الأمير كاظم ) ، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ .
( 13 ) حدّ الكفاية بمنظور عيني هو : مجموع السِلع والخدمات التي يتناسب مقدارها كمّاً ونوعاً مع إنتاجيّة الفرد ، ومدى التزامات بيت المال نحوه محسوباً على أساس الموقع الاقتصاديّ لذلك الفرد .
للتّفيصلات اُنظر في ذلك :
الحسب ( فاضل ) ، الماوردي في نظريّة الإدارة الإسلاميّة العامّة ، ص : 59 ، عمان ، المنظّمة العربيّة للعلوم الإداريّة ، 1984م .
المياحي ( عبد الأمير كاظم ) ، التنمية في الاقتصاد الإسلاميّ ، رسالة ماجستير مقدّمة إلى مجلس كلّية الشريعة ، جامعة بغداد ، رونيو ، 1987م .
إبراهيم ( أحمد إبراهيم ) ، في نمط التوزيع الإسلاميّ ، رسالة دبلوم عالي مقدّمة إلى معهد البحثو والدراسات العربية ـ بغداد ، رونيو ، 1987م .
( 14 ) اُنظر : الآيات الخاصّة بالإنفاق : [التوبة : 60 ، الأنفال : 40] .
والمُستندات الشرعيّة للكفّارات ، واجتهادات الفقهاء في الوقف والخراج . اُنظر في ذلك :
الحسن بن يوسف بن المُطهّر ، شرائع الإسلام ، تحقيق عبد الحسين محمّد علي ، الآداب ـ النجف ، ط1 ، 1969م . وتذكرة الفقهاء ، الطبعة الحجريّة .
الطوسي ( محمّد بن الحسن ) ، المبسوط ، الطبعة الحجريّة ، 1271م .
المحقّق النجفي ( محمّد حسن ) ، جواهر الكلام ، مطبعة النجف ، ط6 : 15/16 .
الكاساني ( علاء الدين ، بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع ، مطبعة الجمالية ـ مصر ، 1910م .
الحسب ( فاضل عبّاس ) ، م . س .
المياحي ( عبد الأمير كاظم ) ، م . س .
( 15 ) الآلوسي ( شهاب الدين محمود شكري ) ، روح المعاني ، الطبعة النيرية : 13/ 226 .
الزّمخشري ( جار الله محمود بن عمر ) ، الكشّاف ، طبعة الحلبي ، 1966م : 2/379 .
( 16 ) وافي ( علي عبد الواحد ) ، الاقتصاد السياسيّ ، ط 5 ، دار الحلبي ، 1952م ، ص 6 و7 .
( 17 ) البيلاوي ( حازم ) ، أصول الاقتصاد السياسيّ ، ص : 34 .
( 18 ) البعّاج ، اُنظر كذلك حتى التفسير الماركسي عند ( Nurkse ) ، أو ( Lebenshtin Ianger ) الذي يركّز على ضرورة التراكم .
(*) وقد تخطّى البحث تفسير التخلّف باستعمال منهجيّة المراحل خشية التطويل ، كما جاء عند الألمان والأمريكان ، مثل نظريّة والت روستو .
|