وقبل الشروع في بيان ترجيح أحد الامرين نذكر ما يقتضيه الأصل العملي في المسألة عند الشك فنقول : أما إذا كان الخاص مقدما على العام بحيث يحتمل كونه منسوخا بالعام الوارد بعده أو مخصصا وبيانا له ، فمع الدوران يجري استصحاب حكم الخاص ، من جهة الشك في ارتفاعه لاحتمال كونه مخصصا للعام لا منسوخا به ، فيستصحب ، وأما إذا كان الخاص واردا بعد العام ، بحيث يحتمل فيه الناسخية والمخصصية ، فتارة يكون حكم الخاص المتأخر نقيضا لحكم العام ، كما لو كان حكم العام هو وجوب اكرام العلماء ، وكان حكم الخاص عدم وجوب اكرام الفساق منهم ، وأخرى يكون حكمه ضدا لحكم العام ، كان كان حكم الخاص في الفرض المزبور حرمة اكرام الفساق منهم أو كراهته. فعلى الأولى يجرى فيه أيضا حكم التخصيص بمقتضي الأصل العدمي قبل ورود العام ، من جهة انه قبل ورود العام يعلم بعدم وجوب اكرام الفساق من العلماء ، وبورود العام وهو قوله : اكرام العلماء يشك في وجوب اكرامهم ، من جهة احتمال كون الخاص المتأخر مخصصا للعام وبيانا له في عدم دخول الفساق منهم من الأول تحت حكم وجوب الاكرام ، فيستصحب الحالة السابقة وهي عدم وجوب اكرامهم فينتج حكم التخصيص دون النسخ. واما على الثاني فلا أصل يجرى في البين من جهة القطع التفصيلي بانتقاض الحالة السابقة على كل تقدير اما بوجوب الاكرام بمقتضي العام على فرض الناسخية واما بحرمة الاكرام الثابت للخاص على فرض المخصصية ، فعلى كل تقدير فلا شك فيه في البقاء حتى يجرى استصحاب العدم السابق على العام ، كما أنه بالنسبة إلى حكمه الفعلي أيضا مقطوع بحرمته على تقدير المخصصية والناسخية. نعم لو كان مفاد العام هو وجوب الاكرام أو حرمته وكان مفاد الخاص المتأخر استحباب الاكرام أو كراهته أمكن دعوى جريان حكم التخصيص بمقتضي استصحاب عدم المنع السابق ، حيث إنه بالأصل المزبور مع ضميمة رجحانه الفعلي أو المرجوحية الفعلية أمكن اثبات الكراهة أو الاستحباب ، فتأمل.
(554)
هذا هو مقتضي الأصول العملية عند الشك وعدم ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر ، ولقد عرفت ان مقتضاها جريان حكم التخصيص في جميع صور المسألة عدا فرض تضاد الحكم الثابت للخاص مع الحكم الثابت للعام. واما مقام الترجيح فقد يقال : بترجيح احتمال التخصيص على احتمال النسخ ، بتقريب ان التخصيص أكثر وأشيع من النسخ حتى قيل من جهة كثرته وشيوعه : بأنه ما من عام الا وقد خص ، وبان النسخ في الحقيقة تخصيص في الأزمان قبال التخصيص في الافراد ، ومع الدوران يقدم الثاني على الأول لكونه كثيرا من تخصيص الأزمان. ولكن فيه ما لايخفى ، فإنه أولا نمنع كون النسخ من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى باب التصرف في الدلالة ، بل هو كما عرفت أشبه شيء بباب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة قبال التخصيص الراجع إلى مقام التصرف في الدلالة ، كما يكشف عنه أيضا صحة النسخ بزمان يسير عقيب قوله : أكرم زيدا في كل زمان ، مصرحا بعمومه الأزماني ، حيث يرى بالوجدان انه يصح له نسخ ذلك الحكم بعد يوم أو ساعة ، بقوله : نسخت ذلك الحكم ، من دون استهجان أصلا ، مع عدم صحة ذلك بنحو التخصيص من جهة كونه من تخصيص الأكثر المستهجن ، حيث إن نفس ذلك أقوى شاهد وأعظم بيان على عدم ارتباط النسخ بباب التخصيص في الأزمان وكونه من سنخ الأكاذيب والتقية الراجعة إلى مقام التصرف في الجهة دون الدلالة ، وثانيا منع اقتضاء مجرد الشيوع والأكثرية لترجيح التخصيص والتصرف الدلالي على النسخ والتصرف الجهتي ، والا لاقتضى ذلك تقديم التقية على غيرها عند الدوران بينها وبين غيرها ، نظرا إلى شيوع التقية في زمان صدور هذه الأخبار ، مع أنه لايكون كك ، حيث إن بنائهم على عدم الاعتناء باحتمال صدور الخطاب تقية الا في بعض الموارد الخاصة التي كان الأصل الجهتي فيها موهونا في نفسه ، كما في مسألة طهارة الكتابي ، ومسألة حلية اكل ذبائحهم وطهارتهم ، ومسألة عدم تنجس الماء القليل بملاقاة النجاسة ، بل ومنع أصل أكثرية التخصيص من غيره أيضا ، فان لنا فرض الكلام في الخصوصيات الواردة في صدر الشريعة وبدوها ، ولئن قيل بان الأكثرية والأشيعية انما هي بلحاظ الاحكام العرفية لا بلحاظ خصوص الخطابات الشرعية حتى يتوجه الاشكال المزبور ، يقال انه من الممنوع أيضا أكثرية التخصيص في الاحكام العرفية من السنخ لولا دعوى أكثرية السنخ فيها بلحاظ جهلهم بالموانع
(555)
والمزاحمات الواقعية النفس الامرية ، ولا أقل من عدم كون التخصيص فيها في الكثرة بمثابة يوجب انس الذهن به كي يوجب الحمل عليه في الخطابات الشرعية عند الدوران والترديد. وبالجملة فالمقصود من هذا البيان انما هو المنع عن كون وجه تقديم التخصيص على النسخ من باب الأكثرية والأشيعية ، والا فربما نحن نساعد أيضا على أصل المدعى من تقديم التخصيص على النسخ عند العرف والعقلاء بحسب ارتكازاتهم في الخطابات الشرعية والاحكام العرفية الجارية بنياتهم. وقد يقرب وجه تقديم التخصيص على النسخ بما قرب في وجه تقديم أصالة السند والجهة على أصالة الظهور والدلالة ، من دعوى ان الأصل الجاري في السند كما كان في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور لكونها منقحة موضوعها ، كك الأصل الجاري في الجهة أيضا ، بلحاظ ان موضوع الجهة في الظهور هو الكلام الصادر عن المعصوم عليه السلام عن داعي الجد لبيان حكم الله الواقعي ، لا للتقية ونحوها ، وانه لولا احراز أصل صدور الكلام عن الإمام عليه السلام واحراز جهة صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا ينتهى النوبة إلى مقام التعبد بظهوره ، ودلالته ، فبذلك يكون أصالة التعبد بالصدور والجهة في رتبة سابقة على أصالة التعبد بالظهور والدلالة ، لكونهما منقحتي موضوعها ، باعتبار كون الأول مثبتا لأصل الموضوع وهو كون الكلام صادرا عن الإمام عليه السلام ، والثاني لكيفية صدوره وكونه لبيان الحكم الواقعي لا للتقية ونحوها ، وعليه فعند الدوران بين التصرف الدلالي والتصرف الجهتي يقدم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي ، من جهة تقدمه عليه رتبة في المشمولية لدليل الاعتبار. وبذلك يقال في المقام أيضا بان النسخ بعد أن كان سنخه من باب التقية الراجع إلى التصرف في الجهة ، لا من باب التخصيص في الأزمان الراجع إلى التصرف الدلالي ، فمع الدوران في العام بين كونه منسوخا بالخاص المتأخر أو مخصصا به يقدم الأصل الجاري في جهته على الأصل الجاري في ظهوره ودلالته ، من جهة جريان أصالة الجهة فيه حينئذ في الرتبة السابقة بلا مزاحم ، ومعه لابد من رفع اليد عن ظهوره ودلالته في العموم بمقتضي ما في القبال من الخاص الأظهر ، من غير فرق في ذلك بين ظهور الخاص في ثبوت حكمه على فرض المخصصية من بدو الشريعة أو عدم ظهوره فيه بل ظهوره في ثبوت حكمه في زمان صدوره ، وان كان على الأخير لا ثمرة عملية في البين ، من جهة القطع بحجية العام على كل تقدير إلى زمان
(556)
صدور الخاص ولزوم الاخذ بالخاص من حينه ورفع اليد عن العام على كل تقدير أيضا سواء على الناسخية أو المخصصية ، هذا. ولكن قد يورد على هذا التقريب بعدم اجداء هذا المقدار من الترتب والطولية لتقديم الأصل الجهتي على الأصل الدلالي عند الدوران ، بدعوى انه كما لا مجال للتعبد بظهور الكلام بدون احراز أصل صدوره وجهته كك لا مجال أيضا للتعبد بسنده وجهته مع عدم ظهوره ، واجماله ، حيث لايترتب عليهما اثر عملي في البين حتى يجري فيهما أصالة التعبد ، بل وانما ترتبه على ظهور الكلام الصادر عن الإمام عليه السلام لأجل بيان الحكم الواقعي ، وعلى ذلك فكان كل من السند والجهة والدلالة مما له الدخل في ترتب الأثر على الخبر في عرض واحد ، حيث كان ترتب الأثر عليه ووجوب المعاملة معه معاملة الواقع منوطا بسد أمور ثلاثة : أحدها احتمال عدم صدوره ، وثانيها احتمال صدوره لا لأجل بيان حكم الله الواقعي بل لأجل التقية ونحوها ، وثالثها احتمال كون المراد غير ما هو ظاهره ، وفي ذلك يكون مجموع الأمور الثلاثة من قبيل العلة المركبة لترتب الأثر وهو وجوب العمل ، بحيث بانتفاء أحدها ينتفى الأثر المقصود من التعبد بالبقية ، وحينئذ فإذا كان كل من أصالة السند والجهة والدلالة في عرض واحد بالنسبة إلى ترتب الأثر والنتيجة فقهرا لايبقى مجال تقديم أحدها على الآخر في المشمولية لدليل الاعتبار بمحض تقدمها الطبعي. ولكن يمكن دفع ذلك بان الامر وان كان كما ذكر من احتياج كل من التعبد بالسند والجهة والدلالة في الجريان التعبد بالآخر ، ولكن نقول : بان ذلك غير قادح في تقدم الأصل الجهتي على أصالة الظهور بعد اختلاف نحوي التوقف والاحتياج فيهما ، وكون التوقف والاحتياج في بعضها من جهة عدم احراز الموضوع ، وفى البعض الآخر من جهة عدم الأثر ولغوية التعبد بدونه ، حيث إن من المعلوم حينئذ ان الأصل الجهتي لكونه منقح موضوع الأصل الدلالي وفي رتبة سابقة عليه مقدم لا محالة على الأصل الدلالي في مقام الدوران في المشمولية لدليل الاعتبار ، فلابد حينئذ من رفع اليد عن أصالة الظهور والدلالة ، وذلك أيضا ينطبق على ما عليه ديدن الأصحاب من تقديم التصرف الدلالي على التصرف الجهتي ولو بنحو التقية مع كثرتها وشيوعها في زمن الأئمة عليهم السلام. وعليه فحيث ان باب النسخ كان من سنخ التورية والتقية في كونه من قبيل التصرف في الجهة لا من قبيل التصرف في الدلالة فعند الدوران بين كون الخاص مخصصا للعام أو ناسخا
(557)
له يقدم التخصيص على النسخ ويحكم بكونه مخصصا له لا ناسخا ، هذا. ولكن مع ذلك كله فالتحقيق هو عدم اثمار هذا الترتب والطولية بين الأصل الجهتي والدلالي لشيء بوجه أصلا ، وذلك : اما في مقام الدوران بين التصرف الدلالي والتقية : فمع استلزام الأصل الجهتي لطرح الدلالة رأسا فظاهر ، من جهة لغوية التعبد بالجهة حينئذ مع انتفاء أصل الدلالة ، واما مع عدم استلزامه لذلك وامكان الاخذ بالعام ولو ببعض مدلوله فبأنه وان كان يجري الأصل الجهتي ويؤخذ بالعام مثلا في بعض مدلوله بلا كلام لكنه لا يتوقف هذا المقدار على ما ذكر من الترتب والطولية بينهما ، من جهة وضوح كون الامر كك ولو على القول بالعرضية ، من جهة العلم التفصيلي حينئذ بخروج مقدار من المدلول عن تحت الحجية سواء على تقدير التخصيص أو التقية ، واما فيما عدا هذا المقدار من المدلول فحيثما لا تنافي بين الأصلين يؤخذ بهما ، فيترتب عليهما وجوب العمل على طبقه سواء فيه بين طولية الأصلين أو عرضيتهما هذا إذا كان الدوران بين التقية والتخصيص. وأما إذا كان الدوران بين النسخ والتخصيص كما في المقام ، فان كان الخاص مقدما على العام وقد احتمل فيه كونه مخصصا للعام أو منسوخا به ، ففي ذلك يقع التعارض بين الأصل الجهتي في الخاص وبين الأصل في العام المتأخر ، وحيث انه لايكون لأحدهما تقدم رتبي على الآخر كما في فرض اعتبارهما في دليل واحد فلا جرم ينتهي الامر فيهما بعد المعارضة إلى التساقط ، وفي مثله يكون المرجع هو استصحاب حكم الخاص. واما ان كان الخاص متأخرا عن العام فان كان ذلك قبل حضور وقت العمل بالعام فلا ثمرة تترتب على كونه ناسخا أو مخصصا ، من جهة انه على كل تقدير يكون العمل على طبق الخاص المتأخر من حين صدوره ، وأما إذا كان صدوره بعد حضور وقت العمل بالعام بمدة فتارة لايكون له ظهور في ثبوت مدلوله من الأول من حين ورود العام وأخرى كان له هذا الظهور ، فعلى الأول فلا دوران في البين بين الأصلين إذا كما أنه يجري فيه الأصل الجهتي كك يجري فيه الأصل الدلالي أيضا إلى حين ورود الخاص ، ومعه يكون المتبع هو أصالة العموم إلى حين ورود الخاص ، ومن حين ورود الخاص يكون العمل على طبق الخاص المتأخر سواء كان ناسخا أو مخصصا ، واما على الثاني من فرض اقتضاء الخاص المتأخر على تقدير كونه مخصصا ولو من جهة اطلاقه لثبوت حكمه من حين ورود
(558)
العام ، كما كان ذلك شأن أغلب الخصوصات ، ففي مثله وان دار الامر بين التصرف في ظهور العام وبين التصرف في جهته وكان يثمر أيضا فيما قبل ورود الخاص منه الأزمنة المتقدمة من جهة القضاء والكفارة لو كان الواجب مما يترتب على تركه ذلك ، الا ان طرف المعارضة بدوا لما كان هو اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت مفاده من أول الامر ، من جهة منافاته بالضرورة مع قضية ظهور العام في العموم ، فلا جرم ينتهى الامر فيهما إلى التساقط ، ومع سقوط أصل الظهور في العام عن الحجية في العموم يجرى عليه قهرا حكم التخصيص. ولئن شئت قلت بان أصل الجهة في العام في مثل الفرض من جهة اناطته بجريان أصالة الظهور في العام وشمول عمومه لزيد أيضا في نحو قوله : أكرم كل عالم إناطة الشيء بموضوعه كان غير جار على كل تقدير من جهة وضوح عدم المجال للتعبد بالجهة بالنسبة إلى زيد مع عدم التعبد بعموم العام وشموله له ، فيكون حينئذ طرف المعارضة قضية اطلاق الخاص المتأخر في ثبوت حكمه على تقدير التخصيص من حين ورود العام ، ومع التعارض وسقوط أصالة الظهور في العام عن الحجية فقهرا يجرى عليه حكم التخصيص ، ولابد فيه من الرجوع إلى الأصول التي توافق بحسب النتيجة مع التخصيص تارة كما في فرض كون مفاد العام هو وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص عدم وجوب اكرام زيد العالم ، وأخرى مع النسخ ، كما في فرض كون مفاد العام عدم وجوب اكرام العلماء ومفاد الخاص وجوب اكرام زيد حيث إن قضية البراءة عن القضاء مثلا حينئذ توافق النسخ ، هذا. ولكن الذي يسهل الخطب عدم ترتب اثر عملي على مثل هذا الفرض بالنسبة إلينا بعد تأخر زماننا عن زمان العام والخاص ، من جهة وضوح انه على كل تقدير كان الواجب علينا الاخذ بالخاص والعمل على طبقه ناسخا كان أو مخصصا. نعم في الخاص المتقدم كان له ثمرة مهمة من حيث كونه مخصصا للعام المتأخر أو منسوخا به ، ولكنك عرفت فيه أيضا ان اللازم فيه هو الرجوع إلى استصحاب حكم الخاص من جهة معارضة الأصل الجهتي في الخاص حينئذ مع الأصل الدلالي في العام المتأخر وتساقطهما فتدبر. هذا تمام الكلام في العام والخاص.
(559)
|