الجهة العاشرة
إذا ورد عام وخاص متخالفان ، ففي كون الخاص ناسخا أو منسوخا أو مخصصا للعام وجوه. وقد يقرب قاعدة كلية في تنقيح ذلك وتعيين كونه ناسخا للعام أو منسوخا به أو مخصصا له ، وهي اعتبار كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام واعتبار كون الناسخ واردا بعد حضور وقت العمل بالعام لاقبله حيث يقال حينئذ بان الخاص ان كان مقارنا مع العام أو واردا بعده قبل حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه مخصصا للعام وبيانا له ، لا ناسخا له ، من جهة انه يعتبر في النسخ ان يكون رافعا لحكم ثابت فعلى من جميع الجهات ، وقبل حضور وقت العمل بالعام لايكون حكم فعلى في البين حتى يكون قضيته رفع الحكم الثابت ، فمن ذلك يتعين فيه كونه مخصصا للعام وبيانا له لا ناسخا. واما ان كان وروده بعد حضور وقت العمل بالعام يتعين كونه ناسخا له ، لا مخصصا وبيانا له ، فان مقتضى كونه بيانا هو لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو قبيح بل محال ، لأنه نقض للغرض الذي هو محال من الحكيم واما لو كان ورود الخاص قبل ورود العام ففيه يحتمل الأمران ، حيث يحتمل كونه مخصصا للعام ويحتمل كونه منسوخا به. هذا ملخص ما أفيد في وجه التفصيل بين صورة ورود الخاص قبل
(551)
حضور وقت العمل بالعام أو بعده. وقد عرفت ابتنائه على تسليم مقدمتين : الأولى قبح تأخير البيان عن وقت حضور عمل المكلف بالعام ، والثانية اعتبار كون السنخ رفعا للحكم الفعلي على الاطلاق ، حيث إنه على تقدير تمامية هاتين المقدمتين لابد من التفضيل المزبور وملاحظة كون الخاص واردا قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، بالالتزام بالتخصيص في الأول وبالسنخ في الثاني. ولكن كلتا المقدمتين ممنوعة وذلك : اما المقدمة أولى وهي قبح تأخير البيان عن وقت الحاجة فان أريد من وقت الحاجة وقت حاجة المولى إلى بيان مرامه فقبحه مسلم لا اشكال فيه بل هو محال ، من جهة استلزامه نقض الغرض الذي هو من المستحيل في حق الحكيم ، ولكن صغراه في المقام ممنوعه ، حيث نمنع تعلق غرض الشارع في مثل تلك العمومات ببيان المرام الواقعي ، ومجرد احتياج المكلف إلى العمل لايقتضي كون وقت حاجته هو وقت حاجة المولى ، من جهة جواز التفكيك بينهما. وان أريد بذلك وقت حاجة المأمور والمكلف ولو لم يكن وقتا لحاجة المولى إلى البيان فقبحه غير معلوم بل معلوم العدم ، حيث إنه من الممكن كون المصلحة في القاء ظهور العام إلى المكلف عن خلاف المرام الواقعي ليأخذ به ويتكل عليه حجة وبيانا إلى أن يقتضى المصلحة بيان المرام الواقعي ، كيف وانه كفاك في ذلك ما في موارد التعبد بالأصول والامارات المؤدية على خلاف الواقعيات مع تمكن المكلف من تحصيلها بالاحتياط أو بالسؤال عن الأئمة عليهم السلام بل وكثير من الاحكام التي بقيت تحت الحجاب إلى قيام الحجة عجل الله فرجه مع احتياج العباد إليها ، ومن المعلوم حينئذ انه مع امكان ذلك واحتمال وجود المانع عن ابراز المرام النفس الأمري اما مطلقا أو إلى وقت خاص أو قيام المصلحة الأهم في عدم الابراز لا مجال لاثبات كون الخاص المتأخر عن وقت العمل بالعام ناسخا لا مخصصا ، بل حينئذ كما يحتمل فيه كونه ناسخا يحتمل أيضا كونه مخصصا. نعم لو قيل بان وقت حاجة المأمور ووقت العمل بالعام هو بعينه وقت حاجة المولى إلى بيان المرام النفس الأمري وهو الخصوص لاتجه الحمل على النسخ في الخاص المتأخر ، ولكن ودن اثباته خرط القتاد ، لما عرفت من عدم السبيل إلى هذه الدعوى بعد احتمال وجود مانع أو مزاحم أقوى في البين اقتضى اخفاء الواقعيات بالقاء الظهور إلى المكلف على خلافها اما إلى
(552)
الأبد أو إلى وقت خاص بعد العمل بالعام. واما المقدمة الثانية ففيها أيضا ان كون النسخ رفعا للحكم الثابت وان كان لا سبيل إلى انكاره ، ولكن نقول بأنه لايلزمه كون ذلك الحكم الثابت فعليا على الاطلاق ، بل يكفي في صحته كونه رفعا لحكم ثابت في الجملة ولو بمرتبة انشائه الحاصل بجعل الملازمة بينه وبين شرطه وسببه ، كما في الواجبات المشروطة ، كيف وان النسخ في الشرعيات كالبداء في التكوينيات المتصور في الموقتات والمشروطات بالنسبة إلى المخلوقين ، وحينئذ فكما انه يصح في الاحكام العرفية نسخ الحكم في الموقتات والمشروطات قبل حصول شرطها ، ويكفي في صحته مجرد كونه رفعا لما هو المنشأ بالانشاء السابق ، ولو كان ذلك مجرد احداث الملازمة بين الامرين ، كك في الأحكام الشرعية ، فيكفي في صحته أيضا مجرد كونه رفعا لما تحقق بالانشاء السابق ولو لم يكن حكما فعليا على الاطلاق ، بل كان عبارة عن صرف قضية تعليقية ومحض الملازمة بين وجود شيء ووجوب امر كذا ، إذ لا فرق بينهما الا من جهة انه في العرفيات عبارة عن ظهور الواقع بعد خفائه من جهة ما يبدو لهم لما يرون فيه من المفاسد أو المزاحمة لما هو الأهم بخلافه في الشرعيات فإنه من جهة علمه سبحانه بعواقب الأمور واحاطته بالواقعيات عبارة عن اظهار الواقع بعد اختفائه لمصلحة تقتضيه. ومن ذلك نقول : بان باب النسخ أشبه شيء بباب التورية والتقية ، في كونه من باب التصرف في الجهة ، من حيث اظهاره سبحانه حكما بنحو الدوام والاستمرار لمصلحة تقتضيه ، مع علمه سبحانه بنسخه فيما بعد حسب ما يرى في علمه من المصالح المقتضية لذلك ، وعليه فصح ان يقول : ان جاء وقت كذا يجب كذا ، ثم يقول بعد حين قبل مجيء الوقت : نسخت ذلك الحكم ، فكان المرفوع هو تلك الملازمة الثابتة بين وجوب شيء ومجيء وقت كذائي ، ونتيجة ذلك هو عدم وجوب ذلك الشيء عليه عند تحقق الوقت الكذائي. ثم إن ذلك أيضا بناء على المشهور في المشروطات من عدم فعلية التكليف فيها الا بعد حصول المنوط به والشرط خارجا ، والا فبناء على ما اخترناه من فعلية الإرادة والتكليف فيها بجعل المنوط به هو الشيء في فرضه ولحاظه طريقا إلى الخارج فلايحتاج إلى جعل المرفوع هو الملازمة ، حيث كان المرفوع حينئذ هو الحكم الفعلي المنوط ، بل لو قلنا برجوع المشروطات إلى المعلقات بارجاع القيود الواقعة في الاحكام إلى الواجب والمأمور به كان الامر أظهر ، من جهة فعلية الإرادة المطلقة الغير المنوطة بشيء حتى في فرضه ولحاظه
(553)
فتأمل.
وعلى ذلك فلا يبقى مجال للتفصيل المزبور بين فرض ورود الخاص قبل حضور وقت العمل بالعام أو بعده ، فإنه على كل تقدير يتأتى فيه احتمال النسخ والتخصيص كما في الفرض الثالث ، فلابد حينئذ بعد جريان احتمال النسخ والتخصيص في كل من الفروض الثلاثة من ترجيح أحد الاحتمالين على الآخر.
|