الجهة الثامنة
اختلفوا في جواز تخصيص العام بالمفهوم المخالف وعدم جوازه ، كقوله عليه السلام : ( خلق الله الماء طهورا لا ينجسه شيء ) (1) وقوله عليه السلام : ( إذا كان الماء قدر كر لم ينجسه شيء ) (2) وذلك بعد الوفاق منهم ظاهرا على تخصيصه بالمفهوم الموافق. ولكن التحقيق القول فيه هو ان العام وما له المفهوم مطلقا تارة يكونان في كلام واحد وقع به التخاطب وأخرى في كلامين مستقلين ، وعلى التقديرين فالدلالة فيهما تارة تكون بالوضع وأخرى بالاطلاق وقرينة الحكمة ، وثالثة بالوضع في العام وبالاطلاق في المفهوم ، ورابعة بعكس ذلك. فعلى الأولين لابد من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيقدم على الآخر ، من غير فرق في ذلك بين كون العام وماله المفهوم في كلام واحد وفي كلامين مستقلين ، إذ على الأول فظاهر ، لعدم استقرار الظهور في واحد منهما حينئذ بعد صلاحية كل منهما للقرينية على الآخر وتساويهما في الوضع
1 و2 ـ الوسائل ج 1 ، الباب 1 من الماء المطلق ، ص 101 ح 8 والباب 9 منه ص 117 ح 1 و2.
(547)
والاطلاق ، وعلى الثاني أيضا كك من جهة تصادم الظهورين وصيرورتهما بحكم المجمل في عدم حجية واحد منهما ، حيث إنه لابد حينئذ من الحكم عليهما بالاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ، الا إذا كان في البين ما يوجب قوة في أحدهما فيوجب استقرار ظهوره لو كانا في كلام واحد أو اقوائيته لو كانا في كلامين مستقلين. ولكن في مثل ذلك حيث لا ضابط كلي كذلك ، من جهة اختلافه باختلاف خصوصيات المقامات والمناسبات بين الاحكام وموضوعاتها ، لايمكن تأسيس قاعدة كلية سارية في جميع الموارد في تقديم أحدهما على الآخر ، بل لابد من لحاظ القرائن الخاصة وخصوصيات الموارد الخاصة من مناسبات الحكم والموضوع ونحوها ، فربما توجب قوة في العام ، وأخرى في المفهوم سواء في ذلك أيضا بين الموافق والمخالف. وعلى الثالث من فرض كون الدلالة في العام بالوضع وفى المفهوم بالاطلاق : فان كانا في كلام واحد فلا اشكال في الاخذ بالعام ورفع اليد عن المفهوم ، بل لا دوران حينئذ حيث إنه مع الظهور الوضعي للعام لايبقى مجال للظهور الاطلاقي في المفهوم ، حتى يجيء فيه احتمال التخصيص ، فان الظهور الاطلاقي من جملة مقدماته عدم البيان على خلافه ، والعام بعد كون الدلالة فيه بالوضع صالح للبيانية ، فيرتفع به موضوع الاطلاق. واما لو كانا في كلامين مستقلين فقد يقال : بأنه أيضا كذلك وانه يقدم العام الوضعي عليه نظرا إلى تنجيزية الظهور الوضعي في العام وتعليقيته في الخاص والمفهوم ، وإناطته بعدم البيان على خلافه. ولكنه فاسد لما تقدم ، وسيجيء بان عدم البيان الذي هو مقوم الاطلاق انما هو في الكلام الذي وقع به التخاطب لا عدم البيان بقول مطلق ولو إلى الأبد بكلام منفصل آخر عن الكلام الملقى إلى المخاطب في مقام تخاطبه ، ومن ذلك ترى اخذ العرف وأهل المحاورة بظهور الكلام الملقى إليهم عند عدم نصب المتكلم قرينة على الخلاف في تخاطبه ، من غير حالة منتظرة منهم في الاخذ بالظهور الاطلاقي بأنه لعله يأتي البيان من قبله في الأزمنة الآتية بعد شهر أو شهرين أو سنة أو غير ذلك ، ومن المعلوم انه لايكون ذلك الا من جهة استقرار الظهور الاطلاقي للمطلق عند عدم نصب المتكلم قرينة على المراد في كلامه الذي أوقع به التخاطب. وعليه فإذا فرض كون العام وماله المفهوم في كلامين مستقلين فقهرا يستقر الظهور الاطلاقي للمطلق في قبال الظهور الوضعي للعام ، من غير
(548)
صلاحية الظهور الوضعي في العام للقرينية والبيانية عليه بنحو يرتفع موضوع الاطلاق ، وفي مثله لا مجال لتقديم ظهور العام عليه بمقتضي البيان المزبور ، بل بعد استقرار الظهور في الطرفين يقع بينهما المزاحمة فلابد من الحكم عليهما بحكم الاجمال والرجوع إلى الأصول العملية ان لم يكن اقوائية في إحداهما ، والا فيؤخذ بما هو الأقوى والا ظهر منهما ، ويرفع اليد عن ظهور الآخر كما هو واضح. ومن ذلك البيان ظهر حكم الفرض الرابع أعني فرض كون الدلالة في المفهوم بالوضع وفى العام بالاطلاق فإنه في فرض كونهما في كلام واحد يقدم المفهوم على العام ، من جهة تنجيزية ظهوره وتعليقية ظهور العام ، وفي فرض كونهما في كلامين مستقلين ، يحكم عليهما بحكم الاجمال بمقتضي البيان المتقدم ، الا إذا كان أحدهما أقوى من الآخر فيؤخذ به ويرفع اليد عن ظهور الآخر ، فتدبر.
|