ارشاد في طريق استخراج المفهوم
اعلم أن الحكم إذا كان له إضافات متعددة بالقياس إلى موضوعه وقيده وشرطه وغايته ونحو ذلك ، فطريق استخراج المفهوم من كل جهة شرطا أو وصفا أو غاية انما هو باعتبار لحاظ الحكم سنخا بالإضافة إلى تلك الجهة لا باعتبار لحاظه سنخا على الطلاق ، حيث إنه من الممكن ان يكون المتكلم في مقام تعليق السنخ ومقام الاطلاق بالإضافة إلى قيد ، مع كونه في مقام الاهمال بالقياس إلى قيد آخر ، وعلى ذلك فلو ورد حكم معلق على شرط ، ومرتب على لقب ، ومنوط على وصف ، ومغيى بغاية خاصة ، كقوله : ان جاء زيد راكبا إلى يوم الجمعة يجب اكرامه ، ففي مثله كان لهذا الحكم إضافات متعددة : إضافة إلى شرطه وهو المجيء ، وإضافة باللقب وهو زيد ، وإضافة إلى قيده ووصفه ، وإضافة إلى الغاية الخاصة. وحينئذ فإذا فرضنا ان المتكلم كان في مقام اطلاق الحكم وإناطته من حيث السنخ بالإضافة إلى كل واحد من الشرط واللقب والوصف والغاية فلا جرم يلزمه استخراج مفاهيم متعددة حسب تعدد الإضافات ، فمن اضافته إلى المجيء يستفاد مفهوم الشرط فيحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند عدم المجيء وان كان راكبا ، ومن اضافته إلى موضوعه يستفاد مفهوم اللقب ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عن غير زيد ولو كان غيره جائيا راكبا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى قيده يستفاد مفهوم الوصف ويحكم بانتفاء سنخ الوجوب عن زيد عند انتفاء الوصف ولو كان جائيا إلى يوم الجمعة ، ومن اضافته إلى الغاية يستفاد مفهوم الغاية ويحكم بانتفاء سنخ وجوب الاكرام عنه عند
(474)
عدم مجيئه إلى يوم الجمعة ، ولو كان جائيا راكبا بعد يوم الجمعة. وأما إذا لم يكن المتكلم في مقام الاطلاق وإناطة الحكم من حيث السنخ الا بالإضافة إلى بعض تلك القيود ، مع كونه في مقام الاهمال بالإضافة إلى بعضها الآخر ، ففي مثله يلاحظ المفهوم بالقياس إلى ما اعتبر كونه سنخا بالإضافة إليه شرطا أو وصفا أو غاية ، فإذا كان المتكلم في مقام تعليق السنخ بالإضافة إلى المجيء وهو الشرط مثلا كان المستفاد منه هو انتفاء سنخ وجوب الاكرام عن زيد عند انتفاء المجيء ، ولكنه حيث لم يعتبر الحكم من حيث السنخ بالإضافة إلى موضوعه ووصفه وغايته فلاتدل القضية على انتفاء حكم وجوب الاكرام عن غير زيد ولا عنه عند انتفاء وصفه أو غايته ، كي لو ورد دليل على وجوب اكرامه عند انتفاء وصفه أو غايته يقع بينهما التعارض. نعم ذلك الحكم الشخصي ينتفي بانتفاء كل واحد من القيود ، ولكنه غير المفهوم المصطلح ، فان المصطلح من المفهوم انما هو انتفاء سنخ هذا الحكم وعدم ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد الوصف والغاية. وعلى كل حال فلابد في طرف المفهوم من حفظ القضية المنطوقية وتجريدها من خصوص ما أنيط به الحكم السنخي دون غيره. نعم قد يقع الاشكال في أصل تصور الحكم السنخي واستفادته من القضايا وتنقيح المرام في ذلك هو ان الحكم المنشأ في القضايا الشرطية أو غيرها اما ان يكون بمادة الوجوب ، كقوله : ان جاء زيد يجب اكرامه ، واما ان يكون بصيغة الوجوب. فعلى الأول لاينبغي الاشكال في امكان تصور الحكم السنخي بل واستفادته من تلك القضايا. واما الاشكال عليه بان الحكم المنشأ بهذا الانشاء الخاص حينئذ انما كان حكما شخصيا حقيقتا ومن خصوصياته حصوله وتحققه بهذا الانشاء الخاص وتعلقه بالشرط الخاص ، وعليه فلايتصور جهة سنخية للحكم حتى يكون من حيث السنخ معلقا على الشرط أو الوصف ، فيلزمه انتفاء الحكم السنخي عند الانتفاء فمندفع بان مثل هذه الخصوصيات بعد ما كان نشوها من قبل الاستعمال المتأخر عن المعنى والمنشأ ، فلا جرم غير موجب لخصوصية المعنى المنشأ وعليه فكان المعنى المنشأ حينئذ معنى كليا ، وقد علق على الشرط أو الوصف ، وكانت الخصوصيات الناشئة من قبل الاستعمال من لوازم وجوده ، لا انها تكون مأخوذة فيه يصير المعنى لأجلها جزئيا ، كما هو واضح. واما على الثاني فقد يشكل في أصل استفادة الحكم السنخي من الهيأة ، ومنشأه
(475)
هو الاشكال المعروف في الحروف والهيئات من حيث خصوص الموضوع له فيها ، بتقريب ان الحروف وكذا الهيئات لما كانت غير مستقلة بالمفهومية لكون معانيها من سنخ النسب والارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين ، فلا محالة كانت جزئية وغير قابلة للاطلاق الفردي والصدق على الكثيرين ، ومعه فلايتصور الحكم السنخي في مفاد الهيأة في الصيغة حتى يعلق على الشرط أو الوصف فيترتب عليه الحكم بانتفاء السنخ عند الانتفاء. بل ومن ذلك قد يشكل أيضا في صحة أصل الإناطة والتعليق وارجاع القيد في القضايا الطلبية إلى الهيأة في نحو قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، بدعوى ان صحة الإناطة والتقييد فرع امكان اطلاق الهيأة ، ومع فرض خصوصية المعنى في الحروف والهيئات يستحيل التقييد أيضا ، فمن ذلك لابد من ارجاع تلك القيود في نحو هذه القضايا إلى المادة ، هذا. ولكن الاشكال الثاني كما ترى واضح الدفع ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، وذلك من جهة وضوح ان المقصود من خصوص الموضوع له وجزئية المعنى في الحروف والهيئات انما هو جزئيته باعتبار الخصوصيات الذاتية التي بها امتياز افراد نوع واحد بعضها من بعض ، لا مطلقا حتى بالقياس إلى الحالات والخصوصيات الطارية عليه من اضافته إلى مثل المجيء والقيام والقعود ، فكان المراد من عدم كلية المعنى في الحروف هو عدم كليته من جهة الافراد ، وانها موضوعة لاشخاص الارتباطات الذهنية المتقومة بالمفهومين ، وكونها من قبيل المتكثر المعنى ، ومن المعلوم بداهة ان عدم كلية المعنى في الحروف والهيئات وجزئية الموضوع له فيها من هذه الجهة غير مناف مع اطلاقه بحسب الحالات ، وعليه فكما ان للمتكلم ايقاع النسبة الارسالية في استعمال الهيأة مطلقة وغير منوطة بشيء من مثل المجيء وغيره بقوله أكرم زيدا كك كان له ايقاعها من الأول منوطة بالمجيء ونحوه بقوله ان جاء زيد فأكرمه. ومن ذلك أيضا أوردنا على الشيخ « قدس سره » في مبحث الواجب المشروط وقلنا بان مجرد خصوصية الموضوع له في الحروف والهيئات لايقتضي تعين ارجاع القيود الواقعة في القضايا الشرطية إلى المادة وصرفها عما تقتضيه القواعد العربية من الرجوع إلى الهيأة. نعم انما كان لهذه الاشكال مجال بناء على مسلك آلية معاني الحروف وجعل الفارق بينها وبين الأسماء من جهة اللحاظ من حيث الآلية والاستقلالية ، كما افاده في الكفاية ،
(476)
حيث إن لازم آلية المعنى فيها حينئذ هو كونه غير ملتفت إليه عند الاستعمال ، من جهة كونه ملحوظا باللحاظ العبوري المرآتي ، ولازم ذلك لا محالة هو امتناع التقييد رأسا ، بلحاظ ان صحة التقييد فرع الالتفات إلى المعنى ، فمع فرض عدم الالتفات إليه عند الاستعمال فلا جرم يمتنع تقييده أيضا ، ولكن عمدة الاشكال على ذلك في أصل هذا المبنى لما ذكرنا فساده في محله وقلنا بان معاني الحروف وكذا الهيئات انما هي من سنخ الارتباطات الذهنية المتقومة بالطرفين وان الفرق بينها وبين الأسماء انما هو من جهة ذات المعنى والملحوظ لا من جهة كيفية اللحاظ فقط ، وعليه فلا مجال لهذا الاشكال من هذه الجهة أيضا ، كما هو واضح. وحينئذ يبقى الكلام في الاشكال الأول في أصل استفادة الحكم السنخي بل وتصوره ثبوتا بملاحظة جزئية الموضوع له في الحروف والهيئات ، وفي ذلك نقول : بانا وان أجبنا عن ذلك سابقا بكلية المعنى فيها ، من جهة ما تصورناه في مبحث الحروف من القسم الآخر من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير عام الوضع والموضوع له المشهوري ، ولكن التأمل التام فيه يقتضي عدم اجداء هذا النحو من الكلية لدفع هذا الاشكال ، والوجه فيه هو ان ذلك المعنى العام والقدر المشترك الذي تصورناه لما لايمكن تصوره واحضاره في الذهن الا في ضمن إحدى الخصوصيات فلا جرم لايكاد يمكن ان يوجد في ذهن المتكلم عند استعمالها ، بمثل قوله : الماء في الكوز أو زيد على السطح وسرت من البصرة إلى الكوفة ، الا اشخاص النسب الخاصة والارتباطات المخصوصة كما هو ذلك على القول بخصوص الموضوع له فيها أيضا ، وفي مثله يتوجه الاشكال المزبور بان الموجود في ذهن المتكلم عند استعمال الهيأة بقوله : أكرم زيدا ان جائك ، بعد أن لم يكن الا شخص نسبة وربط خاص قائم بالطرفين فلا جرم لايتصور له الاطلاق الفردي حتى يتصور فيه السنخ فيكون هو المعلق على الشرط أو الوصف المذكور في القضية فينتج الانتفاء عند الانتفاء ، وحينئذ فهذا النحو من عموم الوضع والموضوع له في الحروف غير مجد لدفع الاشكال في المقام لأنه بحسب النتيجة كالقول بخصوص الموضوع له فيها. فعلى ذلك فلابد من التصدي لدفعه بوجه آخر غير ذلك فنقول : ان قصارى ما يمكن ان يقال في دفع الاشكال وجهان : أحدهما : ما افاده الأستاذ دام ظله في الدورة السابقة ، وحاصله هو ان دلالة الهيأة
(477)
على الطلب في قوله ( افعل ) بعد ما كانت بالملازمة ، من جهة كونه أي الطلب ملزوما للنسبة الارسالية التي هي مدلول الهيأة ، لا مدلولا لها بالمطابقة ، كما هو مختار الكفاية ، وكان المهم أيضا اثبات السنخ والاطلاق في طرف الحكم والطلب ، فلا بأس حينئذ بلحاظ الاطلاق والتقييد بالنسبة إلى ذلك الطلب الملازم مع الارسال ، ولو على القول بخصوص الموضوع له في الحروف والهيئات ، من جهة انه لا ملازمة بين خصوصية المدلول في الهيأة مع خصوصية ما يلازمه ، فأمكن ان يكون المدلول في الهيأة جزئيا وخاصا ، ومع ذلك يكون ملزومه وهو الطلب كليا ، وحينئذ فإذا كان المهم في المقام هو اثبات السنخ في طرف الحكم والطلب فأمكن اثبات السنخ من غير طريق الهيأة ولو بمثل الاطلاق المقامي ونحوه. الوجه الثاني : ما افاده دام ظله أخيرا ، وتقريبه انما هو بدعوى ان مفاد الحروف وكذا الهيئات وان كان جزئيا ، لكونها عبارة عن اشخاص الارتباطات الذهنية المخصوصة المتقومة بالطرفين ، الا انها تبعا لكلية طرفيها أو أحد طرفيها قابلة للاتصاف بالكلية ، كما في قولك : الانسان على السطح والماء في الكوز والسير من البصرة إلى الكوفة ، في قبال قولك : زيد على السطح وهذا الماء في هذا الكوز وسرت من النقطة الكذائية من البصرة إلى النقطة الكذائية من الكوفة ، فان السير وكذا البصرة في قولك : السير من البصرة لما كان كليا وقابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين كالسير من أول البصرة ووسطها وآخرها فقهرا تبعا لكلية هذين المفهومين تتصف تلك الإضافة والربط الواقع بينهما أيضا بالكلية ، وهكذا في قولك : الانسان على السطح أو الماء في الكوز ، حيث إنه تبعا لكلية الطرفين تتصف تلك النسبة والربط والاستعلائية أو الظرفية بالكلية ، فينحل إلى الروابط المتعددة ، فيصدق في الخارج على زيد الكائن على السطح ، وعلى عمرو الكائن على السطح وهكذا ، ولا نعني من كلية المعنى الا كونه قابلا للانطباق في الخارج على الكثيرين ، ويقابله قولك : زيد على السطح ، حيث إن ذلك الربط الخاص حينئذ تبعا لجزئية المتعلق غير قابل للانطباق في الخارج على الكثيرين. وحينئذ فعلى هذا البيان صح ان يقال : بان تلك النسب والروابط التي هي مفاد الحروف والهيئات بنفسها لاتتصف بالكلية والجزئية ، بل وانما اتصافها بالكلية والجزئية تابع كلية طرفيها أو أحدهما ، فمتى كان أحد طرفيها كليا قابلا للصدق في الخارج على الكثيرين فلا جرم تبعا لكليته تلك الإضافة والربط القائم به
(478)
أيضا تتصف بالكلية ، كما كان ذلك هو الشأن أيضا في التكاليف الكلية الانحلالية ، كقوله : يجب اكرام العالم ويحرم شرب الخمر ، حيث إن كلية التكليف حينئذ انما هي باعتبار كلية متعلقه ، فإذا كان متعلقه كليا فلا جرم تبعا لكلية متعلقه يتصف الحكم أيضا بالكلية ، وينحل حسب تعدد افراد متعلقه في الخارج إلى تكاليف متعددة ، والا فالحكم المنشأ في مثل قوله : أكرم العالم ويحرم شرب الخمر ، لايكون الا شخص حكم وشخص إرادة متعلقة بموضوعه ، وهو الاكرام المضاف إلى العالم والشرب المضاف إلى الخمر. وعلى ذلك ففي المقام أمكن استكشاف الحكم السنخي من الهيأة في الصيغة باجراء الاطلاق في ناحية المادة المنتسبة بما هي معروضة للهيئة ، إذ حينئذ من اطلاقها يستكشف الحكم السنخي ، فإذا أنيط الحكم النسخي حينئذ بمثل الشرط أو الوصف في القضية بقوله ان جاء زيد فأكرمه أو أكرم زيدا العادل ، فقهرا بانتفاء القيد بعد فرض ظهوره في الدخل بخصوصيته واقتضاء اطلاق ترتب الجزاء عليه في ترتبه عليه بالاستقلال يلزمه انتفاء الحكم السنخي ، كما هو واضح. وكيف كان فبعد ان ظهر لك طريق استكشاف المفهوم في القضايا بحسب الكبرى يبقى الكلام في صغريات المفاهيم.
|