المقصد الثالث في المفاهيم
اعلم أنه قد عرف المفهوم بتعاريف : منها انه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق باعتبار كونه مدلولا التزاميا للفظ ، ولتنقيح المقال لابد من بيان ما لللازم من الأقسام كي به يتضح ما هو المراد منها من المفهوم المصطلح في المقام فنقول : ان اللزوم على مراتب وأقسام : منها ان تكون الملازمة بين الامرين بمرتبة من الخفاء ، بحيث يحتاج الانتقال إلى اللازم إلى الالتفات التفصيلي بأصل الملازمة بينهما كي ينتقل الذهن بعده إلى اللازم ، وبعبارة أخرى كانت الملازمة في الخفاء بنحو تحتاج في الانتقال إليها إلى تدقيق النظر ، ومن ذلك جميع ما يصدر من أرباب العلوم من الاشكالات العلمية في اخذ بعضهم بعضا بما يقتضيه لازم كلامه من التوالي الفاسدة ، حيث إنه لولا خفاء الملازمة على صاحب الكلام لما يصدر منه ما يلزم من التوالي الفاسدة من كذا وكذا. ومنها ان تكون الملازمة واضحة في الجملة بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم والملازمة ، من دون احتياج إلى دقيق النظر في أصل الانتقال إلى الملازمة ، ومن ذلك دلالة الآيتين على كون أقل الحمل ستة أشهر. ومنها ان تكون الملازمة في الوضوح بمثابة كانت ارتكازية ومألوفة في الأذهان ، بحيث يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم بلا احتياج إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ، ومن ذلك أكثر الكنايات كالحاتم والجود ، وانو شيروان والعدالة ، ونحو ذلك ، فهذه اقسام ومراتب للزوم ، ولئن شئت فعبر عن الأول باللزوم الغير البين ، وعن الثاني بالبين بالمعنى الأعم ، وعن الثالث بالبين بالمعنى الأخص.
(469)
وبعد ذلك نقول : ان التعريف المزبور وان كان يشمل جميع الأقسام المزبورة ، حيث ينطبق على الجميع التعريف المزبور بأنه ما دل عليه اللفظ لا في محل النطق ، الا انه نقول بان المراد من المفهوم المصطلح في المقام ما هو من قبيل القسم الأخير الذي كانت الملازمة في غاية الوضوح بنحو يكفي في الانتقال إلى اللازم مجرد تصور الملزوم من دون احتياج في الانتقال إليه إلى الانتقال إلى الملازمة بينهما والالتفات إليها تفصيلا أو اجمالا ، لا مطلق ما يلازم الشيء ويستتبعه ، وعليه فيخرج من المفهوم المصطلح ما يكون من قبيل الأولين كالآيتين ونحوهما مما لم يكن اللزوم فيه من البين الأخص ، بحيث يحتاج في الانتقال إليه إلى الالتفات بالملازمة تفصيلا أم اجمالا ولايكفيه مجرد تصور الملزوم. نعم على ذلك يدخل في التعريف المزبور باب الكنايات كالحاتم والجود ونحوه مما كان اللزوم فيه من البين الأخص ومع ذلك لايكون من المفهوم المصطلح ، فمن ذلك عرفوه بوجه آخر ، تارة بأنه حكم لغير مذكور ، وأخرى بأنه حكم غير مذكور لازم لحكم مذكور ، حيث إن الغرض من العدول إلى هذا التعريف انما هو اخراج المفردات كالحاتم والجود ، وتخصيص المفهوم المصطلح بالقضايا وان كان الأولى حينئذ تعريفه بأنه قضية غير مذكورة اما بحكمها أو بموضوعها لازمة لقضية مذكورة ، ووجه أولوية ذلك سلامته عما أورد على التعريفين المزبورين ، حيث أورد على الأول بلزوم خروج مفهوم الشرط الذي هو من اجل المفاهيم عن التعريف ، نظرا إلى كون الموضوع فيه مذكورا ، في القضية اللفظية حيث كان الموضوع في طرف المفهوم في قوله ( ان جائك زيد فأكرمه ) هو زيد المذكور في القضية ، وعلى الثاني بلزوم خروج مفهوم الموافقة في نحو قوله ( لا تهن عبد زيد ) الدال على حرمة إهانة زيد بالأولوية ، وهذا بخلافه على ما ذكرنا من التعريف حيث إن فيه جمعا بين الجهات. وعلى أي حال فيعتبر في المفهوم المصطلح ان يكون الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة دون شخص الحكم ، والا فيخرج عن المفهوم المصطلح المتنازع فيه ، ومن ذلك أيضا بنوا على خروج القضايا المتكفلة لاثبات شخص الحكم عن حريم النزاع ، معللين بان انتفاء شخص الحكم المذكور في القضية عند انتفاء بعض القيود المعتبرة فيه يكون عقليا ، فلا مجال للنزاع فيها في ثبوت المفهوم وعدمه ، كما لايخفى. ومن هذا البيان ظهر أيضا ان مركز التشاجر والنزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه
(470)
لابد وأن يكون ممحضا في ناحية عقد الحمل في القضية ، في أن الحكم المنشأ في القضية الشرطية أو الوصفية أو غيرهما هل هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة منه كي يلزمه انتفائه رأسا عن غير مورد وجود القيد أو انه شخص الحكم أو الطبيعة المهملة كي لاينافي ثبوت شخص حكم آخر في غير مورد وجود القيد ؟ فكان القائل بثبوت المفهوم للقضية يدعى ان الحكم المعلق في القضية اللفظية هو سنخ الحكم والطبيعة المطلقة والقائل بعدم المفهوم يدعى خلافه وانه لا يدل عقد الحمل في القضية الا على الطبيعة المهملة ، مع تسالم الفريقين في ظهور عقد الوضع في القضايا ـ اسمية كانت أم فعلية أو غيرهما في كون القيود المأخوذة فيها بخصوصياتها دخيلة في ترتب الحكم كما هو ديدنهم في كلية العناوين المأخوذة في الخطابات ، حيث كان بنائهم على دخلها بخصوصياتها في ترتب الحكم لا بما أنها مرآة إلى امر آخر ، ولا بما انها مصداق للجامع بينها وبين غيرها. لا انه كان مورد النزاع في ناحية عقد الوضع كما يظهر من الكفاية (1) وغيرها ، من جعل مركز التشاجر في ناحية عقد الوضع في القضية حيث قال : بان من يقول بالمفهوم في مثل الجملة الشرطية لابد له من اثبات دلالة الجملة الشرطية على ترتب الجزاء على الشرط بنحو ترتب المعلول على علته المنحصرة واما القائل بعدم المفهوم فهو في فسحة من ذلك ، لان له منع دلالتها على اللزوم تارة بل على مجرد الثبوت عند الثبوت ولو من باب الاتفاق ، ومنع دلالتها على الترتب أو على نحو الترتب على العلة ثانيا ، أو على العلة المنحصرة ثالثا ، بعد تسليم اللزوم والعلية. وذلك لما عرفت من أن ظهور القضايا في مدخلية العنوان المأخوذ فيها لترتب الحكم بخصوصيته مما لايكاد ينكر عند أحد منهم أصلا ، فلايمكن ان يكون النزاع بينهم حينئذ في المقام في ناحية عقد الوضع في الدلالة على العلية أو بنحو الانحصار ، بل لابد وأن يكون النزاع ممحضا في المقام في ناحية عقد الحمل خاصة كيف وانه لولا مفروغية الظهور المزبور عندهم لما كان وجه لفهمهم التنافي عند احراز وحدة المطلوب بين قوله : أعتق رقبة ، وبين قوله : أعتق رقبة مؤمنة ، وحملهم المطلق على المقيد ، وذلك من جهة امكان ان يكون موضوع الحكم بوجوب العتق حينئذ هو مطلق الرقبة الجامع بين المؤمنة وغيرها وان ذكر الايمان
1 ـ ج 1 ص 302.
(471)
من جهة كونه أحد المصاديق أو أفضلها ، وحينئذ فنفس فهمهم التنافي بينهما في المثال شاهد ما بيناه من التسالم في ظهور عقد الوضع في القضايا كلية على أن العنوان المأخوذ فيها مما له الدخل بخصوصيته الشخصية في ترتب الحكم ، إذ حينئذ بعد ظهور دليل المقيد في دخل الايمان بخصوصيته في وجوب العتق واحراز وحدة المطلوب ولو من الخارج ، يقع بينهما التعارض فيحتاج إلى حمل المطلق منهما على المقيد ، وهكذا في قوله : أكرم زيدا ، وقوله : أكرم عمرا ، حيث إنه مع العلم بوحدة المطلوب يقع بينهما التعارض ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ظهور كل من الدليلين في مدخلية خصوصية العنوان ، وان كل عنوان بخصوصيته تمام الموضوع للحكم ، لا بما انه مصداق للجامع وان الواجب انما هو اكرام الانسان ، وعلى ذلك نقول : بأنه بعد تسلم هذا الظهور في عقد الوضع في كلية القضايا فلا جرم لايبقى مجال النزاع في المقام في المفهوم وعدمه الا في طرف عقد الحمل في القضية ، في أنه هل هو السنخ والطبيعة المطلقة أو الشخص والطبيعة المهملة ؟ فمع احراز كون المحمول هو الحكم السنخي فلا جرم بمقتضى الظهور المزبور في عقد الوضع في دخل الخصوصية يستفاد انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية. ومما يشهد لما ذكرنا أيضا تصريحاتهم كما سيجيء بخروج القضايا المتكفلة لشخص الحكم عن حريم النزاع وعن المفهوم المصطلح ، وتعليلهم لذلك بان انتفاء شخص الحكم بانتفاء موضوعه أو بعض قيوده عقلي غير قابل للنزاع فيه في البقاء وعدمه. إذ نقول : بأنه لولا الظهور المزبور في دخل الخصوصية لكان من المحتمل ان يكون هناك فرد علة أخرى توجب بقاء ذلك الحكم الشخصي ، بان كان العلة في الحقيقة للحكم الشخصي هو الجامع بينهما وان المذكور في القضية أحد فردي الجامع ، ومن المعلوم انه مع تطرق هذا الاحتمال لا مجال لجعل الانتفاء فيه عقليا عند الانتفاء الا بتسلم الظهور المزبور في عقد الوضع. وعليه نقول : بأنه إذا كان ذلك يوجب انتفاء الحكم الشخصي عند الانتفاء فليكن الامر كك في الحكم السنخي أيضا ، فمع احراز الحكم السنخي فقهرا بمقتضي الظهور المزبور في دخل الخصوصية يلزمه عقلا انتفاء الحكم بانتفاء الخصوصية من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة ، واما توهم عدم كفاية هذا المقدار في الحكم بانتفاء الحكم السنخي لولا اثبات انحصار العلة ، بدعوى انه بدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى توجب شخصا آخر من الحكم مثله ، ومعه فلايمكن الحكم بانتفاء السنخ بهذا المقدار الا
(472)
باثبات انحصار العلة ، فمدفوع بان ذلك كك فيما لو كان الحكم المحمول في القضية بنحو الطبيعة المهملة والا ففي فرض كونه بنحو الطبيعة المطلقة فلا جرم لا يفرق بينهما بل توجب قضية الظهور المزبور حينئذ في دخل الخصوصية لزوم انتفاء الحكم السنخي عند انتفاء الخصوصية. وعلى ذلك فلا محيص حينئذ من صرف النزاع في المقام في ثبوت المفهوم وعدمه عن عقد الوضع في القضية وارجاعه إلى طرف عقد الحمل ، بان المحمول هو الطبيعة المهملة حتى لايلزمه الانتفاء عند الانتفاء أو هو السنخ والطبيعة المطلقة حتى يلزم الانتفاء عند الانتفاء ؟ من دون احتياج إلى اثبات العلية المنحصرة. ومن ذلك نقول : بأنه لابد للقائل بالمفهوم في كل قضية شرطية أو وصفية أو غائية أو غيرها من اثبات كون المحمول في تلك القضية هو السنخ ، اما من جهة دلالة القضية عليه ولو بالاطلاق أو من جهة القرائن الخارجية ، كي يستفاد المفهوم بضم ظهور عقد الوضع في القضية في دخل الخصوصية ، والا فبدون اثبات هذه الجهة لايكاد يصح له الاخذ بالمفهوم والحكم بالانتفاء عند الانتفاء ولو مع اثباته انحصار العلة ، هذا. ولكن أقول : بأنه لايخفى عليك ان مجرد ظهور عقد الوضع في دخل العنوان بخصوصيته في ترتب الحكم السنخي غير مجد أيضا في استفادة الانتفاء عند الانتفاء الا بضم قضية اطلاق ترتب الحكم والجزء عليه في الترتب عليه بالخصوص بنحو الاستقلال ، والا فبدونه يحتمل ان يكون هناك علة أخرى تقوم مقامه عند انتفائه ، ومع هذا الاحتمال لايمكن الاخذ بالمفهوم في القضية ، كما هو واضح. وحينئذ فإذا احتجنا إلى قضية اطلاق ترتب الجزاء في الحكم بالانتفاء عند الانتفاء ـ كما اعترف به الأستاذ أيضا نقول بأنه ملازم قهرا مع انحصار العلة فلا يستغني حينئذ في الحكم بانتفاء السنخ عن اثبات انحصار العلة ، كما لايخفى. ثم اعلم بان السنخ والطبيعة المطلقة تارة يراد به المعنى القابل للانطباق على الافراد المتكثرة ، كالانسان مثلا بالقياس إلى افراده ومصاديقه المتكثرة ، حيث إن اطلاقه انما هو بمعنى قابلية انطباقه وصدقه في الخارج على افراده من زيد وعمرو وبكر وخالد وغير ذلك من الافراد ، وأخرى يراد به ما يقتضي حصر الكلي والطبيعي بفرده ومصداقه الخاص نظير قولك : انما العالم زيد ، مريدا به حصر تلك الطبيعة لزيد وعدم ثبوت مصداق آخر
(473)
لغيره. وإذ عرفت ذلك نقول : ان المراد من السنخ والطبيعة المطلقة في المقام انما هو السنخ بالمعنى الثاني لا هو بالمعنى الأول ، فالمراد هو ان المتكلم في قوله : ان جاء زيد فأكرمه ، مثلا بصدد حصر هذا السنخ من الحكم بفرده الخاص والا فهو باعتبار المعنى الأول غير معقول لأنه من المستحيل اطلاق الحكم في المثال المزبور بنحو يشمل وجوب الاكرام الثابت لعمرو وخالد ، ضرورة ان شخص الحكم الثابت لموضوع غير قابل للثبوت لموضوع آخر ، وهو واضح.
|