بقى الكلام فيما استدل به الشريف : على بساطة المشتق وعدم تركبه من الوجوه العقلية. فنقول : انه استدل على البساطة فيما حكى عنه بما مفاده انه لو كان المشتق مركبا من الذات والمبدأ فلا يخلو : اما ان يكون المأخوذ هو مفهوم الذات والشيئية المطلقة أو مصداقها والشيئية الخاصة ، وعلى التقديرين لايمكن دعوى اخذ الذات في مفهومه ومعناه لعدم خلوه عن المحذور ، وذلك اما على الأول ( من فرض اخذ مفهوم الذات فيه ) فمن جهة لزوم دخول العرض العام في الفصل فيما لو كان المشتق من الذاتيات كالناطق وبطلان هذا المحذور انما هو من جهة استلزامه لعدم كون الناطق ذاتيا للانسان وفصلا له ، لأنه على هذا التقدير اما ان يكون جزئه الاخر ذاتيا أو لا وعلى التقديرين يصير
(147)
الناطق خارجا لان المركب من الخارجين كما يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان كذلك المركب من الخارج والداخل ، فهو أيضا يكون خارجا ولايكون فصلا ومقوما للانسان ، مع لزومه أيضا دخول العرض في النوع بنفس دخوله في الفصل وهو الناطق ، وهو واضح. واما على الثاني ( وهو ان يكون المأخوذ فيه مصداق الذات والشيئية الخاصة ) فمن جهة لزومه محذور انقلاب القضايا الممكنة في مثل الانسان ضاحك ضرورية ، لان مصداق الذات حينئذ لايكون الا الانسان وثبوته لنفسه ضروري ، بل ولزومه أيضا دخول النوع في الفصل في مثل الناطق. هذا ملخص ما أفيد من البرهان على بساطة المشتق وعدم تركبه. ولكن لايخفى عليك ان هذا البرهان لو تم فإنما هو على احتمال تركب المشتق من حيث المفهوم فإنه على هذا الاحتمال ربما يرد عليه هذه المحاذير : من لزوم دخول العرض في الفصل والنوع تارة ولزوم انقلاب القضايا الممكنة ضرورية أخرى ، ولكنك قد عرفت مفروغية بساطة مفهوم المشتق وحقيقته باصطلاح أهل المعاني والبيان عند الجميع وانه لايكون مفهوم العالم والضارب ونحوهما الا معنى بسيطا ، وان ما هو محل البحث والنزاع بينهم من حيث التركب والبساطة انما هو حقيقة المشتق بما هو مصطلح أهل المعقول بأنه علاوة عن بساطة أصل المفهوم هل هو بسيط أيضا بحسب الحقيقة عند الحكيم ومنشأ انتزاع هذا المفهوم ؟ أم لا ؟ بل هو بحسب الحقيقة مركب بحيث في مقام الانحلال ينحل إلى جهة مبدأ وذات ، كما في الانسان فإنه مع بساطة أصل مفهومه مركب بحسب الحقيقة عند التحليل ، ومن المعلوم بداهة انه على ذلك لو قلنا فيه بالتركب من المبدأ والذات والنسبة لايترتب عليه شيء من المحاذير من جهة ان القول بذلك لايقتضي دخول مفهوم الذات ولا مصداقه في طرف المفهوم. ثم على فرض الاغماض عن ذلك والبناء على جريان هذا الترديد في حقيقة المشتق وما هو منشأ انتزاع مفهومه نقول : بان ما أفيد من الاشكال من محذور دخول العرض العام في الفصل في فرض كون المأخوذ هو مفهوم الذات انما يرد بناء على إرادة القائل بالتركب دخول مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم من دون كونها عبرة ومرآة إلى ما هو المعروض الحقيقي والا فبناء على إرادة دخولها بما هي مرآة جمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما في قولك النامي ورابعة حيوانا كما في الماشي وخامسة انسانا وسادسة غير ذلك
(148)
على حسب اختلاف المبادي وما يناسبها من المعروضات ، فلايتوجه هذا المحذور إذ يمكن ان يقال حينئذ : بان ما هو المحمول والمعروض الحقيقي في مثل الناطق الذي يحكى عنه الذات انما هو النفس الناطقة ونحو الوجود الخاص وعليه فلا يلزم محذور دخول العرض العام في الذاتي والفصل بوجه أصلا كما لايخفى. ومن ذلك البيان أيضا نقول : بان ما افاده الشريف من الترديد بين الشقين بناء على التركب من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات وأخرى مصداقها ليس على ما ينبغي ، وانما الحري حينئذ هو الترديد بين الشقوق الثلاثة : من كون المأخوذ تارة مفهوم الذات بما هي هذا المفهوم ، وأخرى هذا المفهوم بما هي مرآة اجمالية لما هو المعروض الحقيقي الذي يختلف باختلاف المبادي حسب ما يناسبها ، وثالثة مصداق الذات ، ولقد عرفت انه على القول بالتركب كان المتعين هو الشق الأوسط من الشقوق الثلاثة. وعليه قد عرفت اندفاع الاشكالات بأسرها كما هو واضح من دون احتياج إلى التفصي عن الاشكال المزبور بما في الفصول بان كون الناطق فصلا مبني على عرف المنطقيين حيث اعتبروه مجردا عن الذات فلاينافي حينئذ مع وضعه لغة لذلك كي يتوجه عليه اشكال الكفاية ( قدس سره ) بأنه من المقطوع ان الناطق قد اعتبر فصلا بما له من المعنى دون تصرف فيه ، ولا إلى سلب الفصلية عن الناطق حقيقة والمصير إلى كونه من أظهر الخواص وانه فصل مشهوري كما في الكفاية ولا إلى التفصي عنه بوجه ثالث من دعوى ان المراد من النطق في الناطق انما هو النطق الجوهري كما افاده بعض الاعلام ، كيف وانه على الأخير يعود المحذور المزبور أيضا بأنه بناء على التركب فهل المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ؟ وعلى مقالة الكفاية من سلب الفصلية عن الناطق وجعله فصلا مشهوريا ومن أظهر الخواص يتوجه عليه محذور لزوم دخول الخارج المحمول في الخاصة التي هي من المحمولات بالضميمة من جهة ان مفهوم الذات لايكون الا أمرا اعتباريا منتزعا عن منشئه من دون ان يكون له ما بإزاء في الخارج أصلا ومعلوم أيضا ان محذور دخول الخارج المحمول في الخاصة لايكون بأقل من محذور دخول العرض في الذاتي. وهذا بخلافه على ما ذكرنا إذ عليه أمكن لنا ان نقول : بان الناطق فصل حقيقي للانسان ومع ذلك لايتوجه الاشكال لزوم دخول العرض في الذاتي وذلك بجعل المأخوذ هو منشأ انتزاع مفهوم الذات والشيء الذي تارة يكون جوهرا وأخرى عرضا وثالثة جسما و
(149)
رابعة حيوانا وخامسة غير ذلك حسب ما شرحناه آنفا فتدبر. هذا كله فيما افاده من الاشكال الأول من لزوم دخول العرض في الذاتي في مثل الناطق. واما ما افاده من الاشكال الثاني من لزوم محذور انقلاب القضايا الممكنة ضرورية في مثل الضاحك بناء على كون المأخوذ هو مصداق الذات والشيئية الخاصة ، فيمكن دفعه على هذا الفرض أيضا بما في الفصول : من أن المحمول إذا كان هو الذات المقيدة بالوصف دون الذات المطلقة فلا يلزم الانقلاب لأنه إذا لم يكن ثبوت القيد ضروريا فكذلك المقيد أيضا فلايكون ثبوته أيضا للموضوع ضروريا ، وعليه فقضية زيد كاتب أوضاحك قضية ممكنة لا ضرورية. ولا يرد عليه ما في الكفاية : من عدم اضرار ذلك بدعوى الانقلاب من تقريب ان المحمول حينئذ اما ان يكون هو الذات المقيدة بنحو خروج القيد ودخول التقيد بما هو معنى حرفي فالقضية تكون ضرورية لضرورة ثبوت الانسان المقيد بالضحك للانسان ، واما ان يكون هو المقيد بنحو دخول القيد أيضا فكذلك أيضا لان قضية الانسان ضاحك تنحل بحسب عقد الوضع والحمل إلى قضيتين : قضية الانسان انسان وهي ضرورية وقضية الانسان له الضحك وهي ممكنة ، وذلك من جهة ان الأوصاف قبل العلم بها اخبار والاخبار بعد العلم بها أوصاف. وتوضيح هذه الجملة التي أفادها هو ان النسبة كما تقدم سابقا على صنفين : ايقاعية ووقوعية والمراد من الأول هو حصول النسبة وتحققها خارجا من العدم إلى الوجود ومن الثاني هو وقوع النسبة وثبوتها فارغا عن أصل ثبوتها وتحققها ، فكانت النسبة الوقوعية دائما في رتبة متأخرة عن النسبة الايقاعية التي هي مفاد القضايا التامة بملاحظة ترتب الوقوع دائما على الايقاع ، وكانت القضايا المشتملة على النسبة الايقاعية مسماة بالقضايا التامة كزيد قائم وضرب زيد والقضايا المشتملة على النسب الثانية مسماة بالقضايا الناقصة والمركبات التقييدية كزيد القائم ، فعلى ذلك لو قيل ( الانسان ضاحك أو كاتب ) يتولد من هذه القضية الايقاعية قضية تقييدية وهي الانسان الذي له الضحك فإذا جعل ما هو الموضوع في هذه القضية محمولا في القضية الأولى يصير الحاصل الانسان انسان له الضحك فيعود محذور الانقلاب من جهة ضرورية ثبوت الانسان لنفسه ولو كان بلحاظ الاتصاف بالضحك فلا يجدي حينئذ تقيد المحمول بوصف امكاني في رفع غائلة الانقلاب هذا.
(150)
أقول : ولايخفى عليك انه لا مجال لا يراد هذا الاشكال على الفصول لان المحمول بعد أن كان عبارة عن المقيد بالوصف بما هو مقيد يلزمه لا محالة كونه أخص وأضيق من الموضوع ومعه لايكون ثبوت الخاص للعام ضروريا بل انما هو يكون بالامكان ، هذا بناء على فرض دخول التقيد. واما على فرض دخول القيد فكذلك أيضا من جهة ان دائرة المحمول لا محالة تكون أخص وأضيق من الموضوع ومعه يكون ثبوته له بالامكان لا بالضرورة. واما قضية الانحلال فأجنبية عن المقام إذ لايكاد يجدي تلك في المقام بعد عدم اقتضائه لجملتين مستقلتين في الحمل كما هو واضح. بل ولئن تدبرت ترى كونه كذلك ولو بناء على خروج القيد والتقيد جميعا من جهة وضوح ان ما هو المحمول حينئذ انما يكون أيضا عبارة عن الانسان التوأم مع القيد الامكاني دون الانسان المطلق وثبوت هذا المعنى التوأم للانسان أيضا يكون بالامكان لا بالضرورة. وحينئذ فما افاده في الفصول في اثبات عدم الانقلاب في غاية المتانة والصواب وان كان قد شطر هو قدس سره فيه ويا ليته لم يشطر في كلام نفسه.
تذييل ( وفيه إشارة إلى ما سبق )
وهو انه قد عرفت فيما تقدم اختيار المعنى الثاني من المعاني الأربعة المتصورة في المشتق وهو الانحلال إلى المبدأ ونسبة ناقصة مع وحدة أصل المفهوم وبساطته. وحينئذ نقول : بأنه كما على القائل بالتركب من المبدء والنسبة والذات تعين ان المأخوذ هو مفهوم الذات أو مصداقها ، كذلك علينا أيضا تعين ذلك وان الذات التي هي طرف هذه الإضافة والنسبة هل هو مفهوم الذات والشيء أو مصداقها ؟ بل ولابد أيضا ذلك على المعنى الثالث. نعم القائل بالمعنى الرابع في فسحة عن ذلك فإنه على ذلك المسلك لم يؤخذ الذات في المشتق ولم تلحظ أصلا إذا المشتق عليه عبارة عن صرف المبدء المقابل للذات ولذا التجأ في مقام الفرق بين المشتق والمصدر بالتفرقة بينهما باعتبار اللابشرطية والبشرط لائية. وحينئذ نقول مقدمة : بان العناوين المأخوذة في لسان الدليل موضوعا للحكم تارة تكون مأخوذة في نفسها وبنحو الاستقلال بلا كونها مرآة لشيء آخر وأخرى تكون مأخوذة مرآة إلى الغير كما في قولك : أكرم من في الصحن مشيرا به إلى الأشخاص الخاصة
(151)
من زيد وعمرو وبكر وعلى الثاني فتارة يجعل ذلك مرآة إلى الأشخاص والمصاديق الخاصة على كثرتها وأخرى لا بل يجعل ذلك مرآة إلى الأنواع والأصناف. والفرق بينهما واضح كوضوح الفرق بينهما وبين الأول حيث تظهر الثمرة في عالم قصد الامتثال بالخصوصية من حيث التشريع وعدمه كما في صورة اكرام زيد العالم بقصد الخصوصية الزيدية لا بعنوان انه فرد من افراد العالم في مثل خطاب أكرم العالم فإنه على بعض التقادير فعل تشريعا محرما وعلى بعضها الاخر تحقق منه الامتثال بذلك. وبعد ما عرفت ذلك نقول : بان تلك المحتملات الثلاثة وان كانت جارية في الذات ولكن المتعين منها هو الاحتمال الأخير من كونها مرآة إلى الأنواع والأصناف ، فان الاحتمال الأول مما لايمكن الالتزام به من جهة عدم خلوه عن المحاذير التي منها لزوم دخول العرض في الفصل في مثل الناطق ، ومنها عدم المناسبة لإضافة بعض الأحكام إليه كما في قوله : أكرم العالم ، ومنها غير ذلك. وكذا الاحتمال الثاني فإنه أيضا بعيد في نفسه غاية البعد لما يلزمه من محذور دخول جميع المصاديق بخصوصياتها في المشتق الواحد كالعالم والضاحك ، مع أنه ليس كذلك قطعا. وحينئذ فبعد بطلان الوجهين الأولين يتعين الوجه الثالث من كونه مأخوذا مرآة إلى الأنواع والأصناف بما يناسب في كل مشتق حسب اختلاف المبادي المأخوذة فيها وما يناسبها ، وبذلك نجمع بين اتحاد المشتقات من وجه واختلافها من وجه فنقول : بأنها في عين اتحاد وضعها تنسبق من كل مشتق خصوصية دون الأخرى. وحينئذ فما هو الموضوع للأحكام من نحو وجوب الاكرام والاطعام في كل مشتق كالعالم والقائم والضارب ونحوها عبارة عن نفس المرئي بهذا العنوان غايته بما هو موجه بوجه المبدء المأخوذ فيه ، كما أنه هو المحمول أيضا في كلية القضايا ، ولذلك أيضا دفعنا ما أورده المحقق الشريف من الاشكال في مثل الناطق فقلنا : بان ما هو الفصل الحقيقي في مثل الناطق عبارة عن النفس الناطقة الانسانية لكونها هي الموجهة والمتصفة بوجه المبدأ دون نفس المبدأ كي نحتاج إلى جعله عبارة عن النطق الجوهري فتدبر.
|