في تعريف الوضع :
ثم انه مما ذكرنا ظهر حال حقيقة الوضع وانه عبارة عن نحو إضافة واختصاص خاص توجب قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه فناء المرآة في المرئي بحيث يصير اللفظ مغفولا عنه وبالقائه كان المعنى هو الملقى بلا توسيط امر في البين ، لا انه من قبيل اختصاص الامارة لذيها كما في النصب الموضوعة في الطريق للدلالة على وجود الفرسخ ، كيف ولازمه ان يكون انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ من شؤون الانتقال إلى اللفظ ولازمه كون انتقال الذهن إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث كان في الذهن انتقالان عرضيان : انتقال إلى اللفظ وانتقال منه بواسطة الملازمة إلى المعنى نظير الانتقال من الدخان إلى وجود النار ، مع أن ذلك كما ترى مما يحكم بفساده بداهة الوجدان ، ضرورة وضوح انه بالقاء اللفظ لايكاد في الذهن الا انتقال واحد إلى المعنى بلا التفات إلى شخص اللفظ الملقى بنحو كان المعنى بنفسه قد ألقى بلا توسيط لفظ ، كما هو الشأن في الكتابة أيضا فان الناظر فيها بمقتضى الارتكاز لايرى الا نفس المعنى بلا التفاته في هذا النظر إلى حيث نقوش الكتابة تفصيلا ، ومن المعلوم انه لايكون الوجه في ذلك الا جهة شدة العلاقة والارتباط بينهما التي أوجبت قالبية اللفظ للمعنى وفنائه فيه. ومن جهة هذا الفناء أيضا ترى بأنه قد يسرى إلى المعنى ما للفظ من التعقيد مع أن المعنى لايكون
(26)
فيه تعقيد وانما التعقيد للفظ ، كما أنه قد يكون بالعكس فيسري إلى اللفظ ما للمعنى من الحسن والقبح ، فيرى اللفظ قبيحا وحسنا مع أن اللفظ لايكون فيه حسن ولا قبح وانما الحسن والقبح للمعنى ، كما هو واضح. كما أنه من التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا انه ليست تلك العلاقة والارتباط الخاص من سنخ الإضافات الخارجية التي توجب احداث هيئة خارجية كهيئة السريرية الحاصلة من ضم الأخشاب بعضها ببعض على كيفية خاصة وكالفوقية والتحتية والتقابل ونحوها من الإضافات والهيئات القائمة بالأمور الخارجية التي كان الخارج ظرفا لنفسها ولولا لوجودها ، ولا من سنخ الاعتباريات التي لايكون صقعها الا الذهن كما في النسب بين الاجزاء التحليلية في المركبات العقلية في مثل الانسان والحيوان الناطق ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين ، فكانت سنخها من قبيل الاعتباريات التي كان الخارج موطن منشأ اعتبارها ، كما نظيره في الملكية والزوجية ونحوهما من الاعتباريات مما لايكون الخارج موطن نفسها بل موطن مصحح اعتبارها من الانشاء القولي أو الفعلي ، ولكن مع ذلك لها واقعية بمعنى ان صقعها قبل وجود اللفظ في الخارج وان لا يكن الا الذهن الا انها بنحو ينال العقل خارجيتها عند وجود طرفيها تبعا لها بنحو القضية الحقيقية بأنه لو وجد اللفظ وجد العلاقة والارتباط بينه وبين المعنى نظير الملازمات كالملازمة بين النار والحرارة ، فكما ان صقع هذه الملازمة قبل وجود النار في الخارج لايكون الا الذهن وبوجود النار وتحققها تصير الملازمة تبعا لوجود طرفها خارجية ، كذلك تلك العلاقة والارتباط الخاص بين اللفظ والمعنى ، فان العلقة الحاصلة بينهما بالجعل لما كانت بين الطبيعتين ، يعنى طبيعة اللفظ وطبيعة المعنى ، فقبل وجود طرفيها خارجا لايكون صقعها الا الذهن ولكن بعد وجود طرفيها تبعا لهما تصير الملازمة بينهما أيضا خارجية فكلما وجد اللفظ في الخارج يتحقق العلقة والارتباط بينه وبين المعنى ، ويكفي في خارجيتها كون الخارج ظرفا لمنشأ انتزاعها. وبالجملة المقصود من هذا التطويل هو بيان ان هذا النحو من الإضافة والارتباط مما لها واقعية في نفسها وانها لا تكون من سنخ الاعتباريات المحضة التي لايكون صقعها الا الذهن ولا كان الخارج ظرفا لمنشأ اعتبارها ، ولا من سنخ الإضافات الخارجية الموجبة لاحداث هيئة في الخارج ، بل وانما هي متوسطة بين هاتين فلها واقعية يعتبرها العقل عن منشأ صحيح خارجي ، ولئن أبيت عن تسميتك هذه إضافة وتقول بان
(27)
المصطلح منها هي الإضافات المغيرة للهيئة في الخارج فسمها بالإضافة النحوية أو بغيرها مما شئت ، إذ لا مشاحة في الاسم بعد وضوح المعنى. وكيف كان فبعد ما عرفت ذلك نقول : بأنه لا شبهة في أن مثل هذا النحو من الإضافات النحوية في غاية خفة المؤنة حيث لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة فيكفي في تحققها أدنى ملابسة فتحصل بمجرد الجعل كما في قولك : المال لزيد والغلام لعمرو والجل للفرس ، حيث إنه بنفس تخصيصك المال بزيد والجل بالفرس يتحقق بينهما تلك الإضافة والاختصاص ، بل ربما تتحقق بمجرد نسبة شيء إلى شيء من دون منشأ خارجي لذلك ، كما في اعتبارك غولا ونسبة أنياب إليه ، غايته انه من جهة عدم وجود منشأ صحيح خارجي له لايكون من الاعتباريات الصحيحة القابلة لإضافتها إلى الخارج ، كما هو واضح. ومن ذلك البيان ظهر فساد ما يظهر من بعض الاعلام : من الالتزام بالتعهد وانكار استناد العلقة والارتباط التي بين اللفظ والمعنى إلى جعل الجاعل ووضعه ، والعمدة في ذلك انما هو تخيل قصر الإضافة بالإضافات الخارجية والملازمات الواقعية الذاتية ، فإنه من هذه الجهة أنكر استناد العلقة والارتباط المزبور إلى جعل الجاعل ووضعه بل ادعى استحالته وقال : بأنه من المستحيل جعل العلقة والارتباط بين الامرين اللذين لا علاقة بينهما بحيث تكون تلك العلقة مجعولا ابتدائيا للجاعل تكوينا بدون جعل طرفيها أو تغيير وضع فيهما. ثم انه بعد انكاره لذلك التزم بالتعهد وقال : بان ما يمكن تعقله ويبنى عليه هو ان يلتزم الواضع ويتعهد تعهدا كليا بأنه من أراد معنى وتعقله وأراد افهام الغير تلفظ بلفظ كذا ، لان ما هو الممكن انما هو جعل الارتباط بين إرادة المعنى وإرادة التلفظ بلفظ كذائي لا جعل الارتباط تكوينا بين اللفظ والمعنى ، فإذا التفت المخاطب حينئذ إلى هذا الالتزام والتعهد المزبور الذي مرجعه إلى الاعلام بإرادة المعنى الكذائي عند التكلم بلفظ كذا وعلم به ، فلا جرم ينتقل ذهنه إلى ذلك المعنى عند سماع اللفظ منه ، وحينئذ فكان مرجع الوضع إلى مثل هذا الالتزام والتعهد الكلى وكانت العلقة المزبورة بين اللفظ والمعنى نتيجة لذلك التعهد ، لا انها مجعولة تكوينا ابتداء للواضع بوضعه وجعله. ثم انه من هذا الأساس أيضا أنكر الجعل في الوضعيات والتزم بأنه ليس في البين في ذلك المقام أيضا الا الأحكام التكليفية والإرادات الخاصة وانها انما كانت منتزعة عن الاحكام
(28)
التكليفية ، فكان مثل الملكية منتزعة عن حكم الشارع بجواز تصرف شخص في عين وحرمة تصرف غيره فيه بدون اذنه ورضاه ، والزوجية منتزعة عن حكمه بجواز وطي شخص امرأة وعدم جواز وطيها على غيره بمثل قوله : من عقد على امرأة يجوز له وطيها ولايجوز لغيره ذلك ، حيث كان العقل ينتزع في الأول من حكم الشارع نحو إضافة بين المال وبين الشخص نعبر عنها بالملكية ، وفى الثاني إضافة بين الشخصين يعبر عنها بالزوجية ، وهكذا غيرهما من الوضعيات ، فكان الكل منتزعا عن الأحكام التكليفية بلا كونها مجعولة بوجه أصلا ، هذا. وتوضيح الفساد يظهر مما قدمناه من وجه الفرق بين نحوي الإضافة وعدم كون العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى من سنخ الإضافات الخارجية بين الامرين الخارجيين من نحو الفوقية والتحتية ونحوهما مما يتوقف تحققها على تغيير وضع في طرفيها ، بل وانها من سنخ الاعتباريات التي تحققها كان بالجعل كالملكية والزوجية ، على أن ارجاع الوضع إلى تعهد الواضع بذكر اللفظ عند إرادة المعنى أيضا غير مستقيم ، فإنه بعد أن كان مرجع التعهد المزبور إلى إرادة ذكر اللفظ عند إرادة المعنى نقول بأنه يسأل عنه بان تلك الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لا تخلو : اما ان تكون إرادة نفسية ، واما ان تكون إرادة غيرية توصلية إلى ابراز المعنى باللفظ نظرا إلى قالبية اللفظ له ، وعلى الأول فاما ان يكون الغرض من تلك الإرادة ايجاد العلقة والارتباط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة ، واما ان لايكون الغرض من توجيه الإرادة إلى ذكر اللفظ ذلك بل وانما الغرض من توجيه الإرادة إليه هو جهة مطلوبيته ذاتا في ظرف إرادة تفهيم المعنى. فان كان المقصود هو هذا الأخير فلا سبيل إلى دعواه فإنه مع منافاته لما يقتضيه الوجدان والارتكاز في مقام إرادة التلفظ باللفظ من كونها لأجل التوصل به إلى تفهيم المعنى المقصود لا من جهة مطلوبية التلفظ به نفسا ـ مناف أيضا لما يقتضيه الطبع والوجدان في مقام الانتقال إلى المعنى عند سماع اللفظ ، لان لازم البيان المزبور هو ان يكون الانتقال إلى اللفظ في عرض الانتقال إلى المعنى بحيث يكون في الذهن انتقالان : انتقال بدوا إلى اللفظ عند سماعه وانتقال منه بمقتضى الملازمة والإناطة إلى المعنى نظير الانتقال من اللازم إلى ملزومه ، مع أن ذلك كما ترى مما يأبى عنه الوجدان والارتكاز ، فإنه يرى بالوجدان انتقال الذهن إلى المعنى عند سماع اللفظ بدوا مع الغفلة عن جهة اللفظ بحيث كأنه كان المعنى هو الملقى إليه بلا
(29)
توسيط لفظ في البين أصلا ، كما لايخفى. وان كان المقصود الأول فله وان كان وجه الا انه يرجع إلى ما ذكرنا من القول بالوضع ، فان القائل بالوضع لا يدعى أزيد من ذلك ، ولقد تقدم ان هذا النحو من الإضافة والارتباط لايحتاج تحققها إلى كثير مؤنة ، فيكفي في تحققها مجرد الجعل والإرادة. نعم على ذلك تكون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعد في طول تلك الإرادة الكلية ومترتبة عليها نظرا إلى تحقق العلقة والربط بين اللفظ والمعنى بنفس تلك الإرادة والتعهد الكلى ، فينا في حينئذ ما هو مسلك هذا القائل من كون الإرادات الاستعمالية المتحققة فيما بعده من شؤون تلك الإرادة الكلية وفعليتها. واما ان كان المقصود هو الأخير الذي فرضناه من كون الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ إرادة غيرية توصلية لابراز المعنى المقصود باللفظ باعتبار ما للفظ من المبرزية عن المعنى ، فعليه نقول : بان جهة مبرزية اللفظ عن المعنى بعد أن لم تكن مستندة إلى اقتضاء ذات اللفظ كما يدعيه القائل بذاتية دلالة الألفاظ على معانيها ، فلا جرم لابد وأن يكون نشؤها اما من قبل وضع الواضع وجعله أو من قبل تلك الإرادة الغيرية المتعلقة بذكر اللفظ أو من قبل إرادة أخرى ، ولا سبيل إلى الأخيرين لان الأول منهما بديهي الاستحالة وكذا الثاني ، فإنه مع أنه لا سبيل إلى دعواه للقطع بعدم إرادة أخرى في البين يجيء فيها ما ذكرناه من الاحتمالات من كونها إرادة غيرية أو نفسية ، فيتعين حينئذ المعنى الأول وهو المطلوب. لايقال : انما يرد هذا المحذور لو أريد تحقق العلقة والارتباط من قبل الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ في مقام الاستعمال وليس كذلك بل المقصود كونها نتيجة لذلك التعهد الكلى. فإنه يقال : كلا فان الإرادات الاستعمالية على مسلك هذا القائل عين تلك الإرادة الكلية المسماة عنده بالتعهد الكلي ، وهو تعهده كليا التلفظ بلفظ كذا عند إرادة تفهيم معنى كذا ، إذ حينئذ تكون الإرادات الاستعمالية المتعلقة بذكر اللفظ عبارة عن فعلية ذلك التعهد الكلي ، والا فقبل إرادة التفهيم لايكون في البين الا مجرد البناء على إرادة اللفظ عند إرادة تفهيم المعنى ، وعليه يتوجه الاشكال المزبور بأنه بعد غيرية الإرادة المتعلقة بذكر اللفظ لابد من الالتزام بان جهة مبرزية اللفظ كانت مستندة إلى وضع الواضع وجعله كما هو واضح. ثم إن من لوازم هذا المسلك انحصار الدلالة في الألفاظ بالدلالة التصديقية لأنه لا
(30)
ظهور للفظ حينئذ حتى يكون وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ، بخلافه على مسلك الوضع فإنه عليه يكون للفظ وراء الدلالة التصديقية دلالة أخرى تصورية ناشئة من قبل الوضع والجعل ، وربما ينتج هذا المعنى في بعض المباحث الآتية كما في مبحث العام والخاص. وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا ظهر أيضا بطلان ما أسسه على هذا الأساس من انكار الجعل في مطلق الوضعيات والتزامه بان مثل الملكية والزوجية انتزاعية صرفة من الأحكام التكليفية ، إذ نقول : بان في مثل قوله : الناس مسلطون على أموالهم ، وقوله : لايجوز التصرف في مال أحد بدون اذن صاحبه ، لايكاد يتم هذا المقالة لان جهة الملكية وإضافة المال إلى الغير حينئذ انما كانت مأخوذة في موضوع هذا الحكم أعني حرمة التصرف ، ولازمه كونه في رتبة سابقة عنه كنفس المال كما هو الشأن في كل موضوع بالقياس إلى حكمه ، وحينئذ نقول : بان مثل هذه الإضافة بعد ما لايمكن نشؤها من قبل هذا الحكم التكليفي المتأخر عنها رتبة فلا بد وأن يكون نشؤها اما من قبل حكم تكليفي آخر في رتبة سابقة عنها واما من قبل الجعل ، والأول بديهي الفساد فإنه ـ مضافا إلى القطع بأنه لا حكم آخر في البين غير هذا الحكم المترتب عليها ـ يلزمه اجتماع الحكمين المتماثلين في نحو قوله : لايجوز التصرف في مال الغير بدون اذن صاحبه ، أحدهما في رتبة سابقة عن الإضافة والآخر في رتبة لا حقة عنها ، وحينئذ فبعد القطع أيضا بعدم نشؤ إضافة الملكية من مجرد جواز تصرف الانسان في شيء ـ بشهادة جواز تصرف كل شخص في المباحات الأصلية يتعين الثاني من كون نشؤها من قبل الجعل. وكيف كان فبعد ما ظهر بطلان القول بالتعهد نقول : بان العلاقة والربط بين اللفظ والمعنى في الأوضاع التخصيصية كما يتحقق بالانشاء القولي من قول الواضع ( جعلت هذا اللفظ لمعنى كذا ) كذلك يتحقق أيضا بالانشاء الفعلي وبنفس الاستعمال قاصدا به تحقق العلقة والربط بينهما ، كقولك عند تسميتك ولدك : جئني بولدي محمد قاصدا به حصول العلقة الوضعية بهذا الاستعمال ، كما نظيره في المعاطاة التي هي انشاء فعلى لحصول الملكية لزيد ، وعدم كون مثل هذا الاستعمال من الاستعمال في المعنى الحقيقي أو المجازى غير ضمائر فيما نحن بصدده من تحقق العلقة والربط بمثل هذا الاستعمال. واما ما قد يقال : من امتناع ذلك من جهة استلزامه لمحذور اجتماع اللحاظين
(31)
في اللفظ : اللحاظ العبوري الآلي تارة ، واللحاظ الاستقلالي إليه أخرى ـ نظرا إلى اقتضاء الوضع لان يكون النظر إليه نظرا استقلاليا ـ فمدفوع بان النظر إلى شخص هذا اللفظ لايكون الا عبوريا إلى طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلاقة والربط بينها وبين المعنى ، وحينئذ فمتعلق اللحاظ الاستقلالي انما كان هو طبيعة اللفظ التي قصد تحقق العلقة بينها وبين المعنى ، ومتعلق اللحاظ الآلي كان هو شخص هذا اللفظ ، ومعه لم يجتمع اللحاظان في موضوع واحد كي يتوجه عليه محذور الاستحالة المزبورة ، كما هو واضح. وحينئذ فلاينبغي الاشكال في صحة هذا القسم من الوضع وامكانه. بل قد يدعى كما عن المحقق الخراساني ( قدس سره ) لزوم انتهاء الأوضاع التخصصية أيضا إلى مثل هذا النحو من الوضع التخصيصي وانه لابد في تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى من القصد إلى تحققها في أحد تلك الاستعمالات والا فبدونه لايكاد يجدي مجرد الاستعمال في تحققها ولو بلغ الاستعمال في الكثرة ما بلغ ، فلذلك أورد على تقسيم المشهور للوضع بالوضع التعيني تارة وبالتعييني أخرى وقال : بأنه لا مجال لهذا التقسيم وان الحري هو حصره بخصوص التعييني بالجعل والانشاء غايته بالأعم من الانشاء القولي والفعلي. ولكن يرد عليه بأنه انما يتوجه هذا الاشكال فيما لو كان سنخ هذا النحو من العلاقة والربط بجميع أفراده جعليا بحيث يحتاج في تحققها إلى توسيط انشاء وجعل في البين ، ولكنه ممنوع بل نقول بأنها كما تتحقق بالانشاء القولي أو الفعلي كذلك تتحقق بواسطة كثرة الاستعمال كما نشاهد بالوجدان والعيان في استعمالنا الألفاظ في المعاني المجازية حيث نرى بأنه بكثرة الاستعمال يحدث مرتبة من العلاقة بينه وبين المعنى الثاني وبهذا المقدار يضعف علاقته عن المعنى الأول بحيث كلما كثرت الاستعمالات تضعف علاقته للمعنى الأول ويشتد في قباله العلاقة بينه وبين المعنى الثاني إلى أن تبلغ بحد يصير المعنى الأول مهجورا بالمرة وتصير العلاقة التامة بينه وبين المعنى الثاني بحيث لو أريد منه المعنى الأول لاحتاج إلى إقامة قرينة في البين ، ومع هذا الوجدان لا مجال لانكار هذا القسم من الوضع ، كما هو واضح. نعم لهذا الاشكال مجال فيما لو أريد تحقق تلك العلقة والارتباط دفعة واحدة لا بنحو التدريج ، ولكنه لم يدع أحد مثل ذلك بل وان كل من يدعى وجود هذا القسم من الوضع يدعى تحققها شيئا فشيئا بنحو التدريج ، ومن المعلوم ان مثل هذا المعنى امر ممكن بل واقع كما ذكرنا.
(32)
|