(2) حركة السفر الجوية في تأصيل حضاري
تطورت حركة السفر بين الأقطار والأقاليم ، فانتقلت من الوسائل البدائية إلى السيارات والقاطرات والطائرات ، واستقر التنقل في المسافات البعيدة بل وحتى القريبة على الخطوط الجوية بمختلف وسائلها العاديّة المحركات والنفاثة التصميم ، وما يدرينا فلعل هذا النوع من التنقل الذي أصبح اعتيادياً ، أن يتطور في قفزة أخرى إلى ما هو أكثر سرعة قد لا تحد بحدود ، وكان هذا التقدم الحضاري في المواصلات قد فرض كيانه في استحصال طائفة من الأحكام المتعلقة به ، فكان الفقه الحضاري مواكباً لهذا الازدهار الحضاري . وقد حدب سماحة السيد دام ظله الشريف أن يتعقب ما يجري على الساحة التكنولوجية والصناعية متابعاً تطورها وتسابقها في مجال التأهيل الصناعي واقعاً وافتراضاً باحتمال تطوره أكثر فأكثر ، وكان هذا الالتفات يشكل انعطافاً فقهياً جديداً يحقق آمال المعنيين في الشؤون الدينية طلباً لأحكامهم الشرعية في ضوء هذه المستجدات المعاصرة ، لأنها تفرض بطبيعتها مرونة جديدة تسايرها فيها
( 139 )
الأحكام مسايرة الظل للشاخص ، وهي تؤثر في ديناميكية الحكم الشرعي في ضوء ظروفه الجديدة ، لا سيما في الأركان التي يقوم عليها الدين في أصوله الأولى كالصلاة والصيام وجزئيات أحكامهما التي يعنى بها المسلمون تعبداً وتكليفاً ، فكان لا بد للشرع الشريف أن يعطي رأيه في ذلك لأنه محل ابتلاء العاملين بمسائل الدين ، ولقد استقصى سماحة السيد دام ظله الوارف احتمالات هذا التطور ، وقلّب الأمر على وجوهه كافة ، فخرج بطائفة يعتد بها من المسائل والأحكام التي قد تعرض للمسلم المعاصر ، فوضع في نصابها ، وترجمها بأبوابها ، فكان منها : 1ـ لو سافر الصائم في شهر رمضان جواً بعد الغروب ـ ولم يفطر في بلده ـ إلى جهة الغرب ، فوصل إلى مكان لم تغرب الشمس فيه بعد ، فهل يجب عليه الإمساك إلى الغروب ؟ الظاهر عدم الوجوب وإن كان ذلك أحوط. 2ـ لو صلى المكلّف صلاة الصبح في بلده ، ثم سافر إلى جهة الغرب فوصل إلى بلد لم يطلع فيه الفجر بعد ، ثم طلع. أو صلى صلاة الظهر في بلده ، ثم سافر جواً فوصل إلى بلد لم تزل الشمس فيه بعد ، ثم زالت. أو صلى صلاة المغرب فيه ، ثم سافر فوصل إلى بلد لم تغرب الشمس فيه ، ثم غربت. فهل تجب عليه إعادة الصلاة في جميع هذه الفروض ؟ وجهان : الأحوط الوجوب ، والأظهر عدمه. 3ـ لو خرج وقت الصلاة في بلده ـ كأن طلعت الشمس أو غربت ولم يصل الصبح أو الظهرين ـ ثم سافر جواً فوصل إلى بلد
( 140 )
لم تطلع الشمس فيه ، أو لم تغرب بعد ، فهل عليه الصلاة أداءً أو قضاءً أو بقصد ما في الذمة ؟ فيه وجوه ، والأحوط هو الاتيان بها بقصد ما في الذمة ، أي الأعم من الأداء والقضاء. 4ـ إذا سافر جواً بالطائرة وأراد الصلاة فيها ، فإن تمكّن من الإتيان بها إلى القبلة واجداً لشرطَي الاستقبال والاستقرار ولغيرهما من الشرائط صحّت ، وإلا لم تصح ـ على الأحوط ـ إذا كان في سعة الوقت ، بحيث يتمكن من الإتيان بها واجدة للشرائط بعد النزول من الطائرة. وأمّا إذا ضاق الوقت ، وجب عليه الإتيان بها فيها ، وعندئذٍ إن علم بكون القبلة في جهة خاصة صلى إليها ، ولا تصح صلاته لو أخلّ بالاستقبال إلاّ مع الضرورة ، وحينئذٍ ينحرف إلى القبلة كلّما انحرفت الطائرة ، ويسكت عن القراءة والذكر في حال الانحراف ، وإن لم يتمكن من استقبال عين القبلة فعليه مراعاة أن تكون بين اليمين واليسار ، وإن لم يعلم بالجهة التي توجد فيها القبلة بذل جهده في معرفتها ، ويعمل على ما يحصل له من الظّن ، ومع تعذره يكتفي بالصلاة إلى أي جهة يحتمل وجود القبلة فيها ، وإن كان الأحوط الإتيان بها إلى أربع جهات. هذا فيما إذا تمكن من الاستقبال ، وإن لم يتمكن منه إلاّ في تكبيرة الإحرام اقتصر عليه ، وإن لم يتمكن منه أصلاً سقط. والأقوى جواز ركوب الطائرة ونحوها اختياراً قبل دخول
( 141 )
الوقت وإن علم أنه يضطر إلى أداء الصلاة فيها فاقداً لشرطي الاستقبال والاستقرار. 5ـ لو ركب طائرة كانت سرعتها سرعة حركة الأرض ، وكانت متجهة من الشرق إلى الغرب ، ودارت حول الأرض مدة من الزمن ، فالأحوط الإتيان بالصوات الخمس بنية القربة المطلقة في كل أربع وعشرين ساعة ، وأما الصيام فيجب عليه قضاؤه. وأما إذا كانت سرعتها ضعف سرعة الأرض فعندئذٍ ـ بطبيعة الحال ـ تتم الدورة في كل اثنتي عشر ساعة ، وفي هذه الحالة هل يجب عليه الإتيان بصلاة الصبح عند كل فجر ، وبالظهرين عند كل زوال ، وبالعشائين عند كل غروب ؟ فيه وجهان : الأحوط الوجوب. ولو دارت حول الأرض بسرعة فائقة حيث تتم كل دورة في ثلاث ساعات مثلاً أو أقل ، فالظاهر عدم وجوب الصلاة عليه عند كل فجرٍ وزوالٍ وغيروب ، والأحوط حينئذٍ الإتيان بها في كل أربع وعشرين ساعة بنية القربة المطلقة ، مراعياً وقوع صلاة الصبح بين طلوعين ، والظهرين بين زوال وغروب بعدها ، والعشائين بين غروب ونصف ليل بعد ذلك. ومن هنا يظهر حال ما إذا كانت حركة الطائرة من الغرب إلى الشرق ، وكانت سرعتها مساوية لسرعة حركة الأرض ، فإن الأظهر حينئذ الإتيان بالصلوات في أوقاتها. وكذا الحال فيما إذا كانت سرعتها أقل من سرعة الأرض ، وأما إذا كانت سرعتها أكثر من سرعة الأرض بكثير ، بحيث تتم
( 142 )
الدورة في ثلاث ساعات مثلاً أو أقلّ ، فيظهر حكمه مما تقدم. 6ـ من كانت وظيفته الصيام في السفر ، وطلع عليه الفجر في بلده ، ثم سافر جواً ناوياً للصوم ، ووصل إلى بلد آخر لم يطلع في الفجر بعد ، فهل يجوز له الأكل والشرب ونحوهما ؟ الظاهر جوازه. 7ـ من سافر في شهر رمضان من بلده بعد الزوال ووصل إلى بلد لم تزل فيه الشمس بعد ، فهل يجب عليه الإمساك وإتمام الصوم ؟ الأحوط ذلك. 8ـ من كان وضيفته الصيام في السفر ، إذا سافر من بلده الذي رؤي فيه هلال رمضان إلى بلد لم يُرَ فيه الهلال بعد ، لاختلافهما في الأفق ، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم. ولو عيّد في بل رؤي فيه هلال شوال ، ثم سافر إلى بلد لم يُرَ فيه الهلال ، لاختلاف أفقهما ، فالأحوط له الإمساك بقية ذلك اليوم وقضاؤه. 9ـ إذا فُرِضَ كون المكلّف في مكان نهاره ستة أشهر ، وليله ستة أشهر مثلاً ، فالأحوط له في الصلاة ملاحظة أقرب الأماكن التي لها ليل ونهار كل أربع وعشرين ساعة ، فيصلي الخمس على حسب أوقاتها بنية القربة المطلقة ، وأما في الصوم فيجب عليه الانتقال إلى بلد يتمكن فيه من الصيام إمّا في شهر رمضان او من بعده ، وإن لم يتمكن من ذلك فعليه الفدية بدل الصوم. وأما إذا كان في بلد له في كل أربع وعشرين ساعة ليل
( 143 )
ونهار ـ وإن كان نهاره ثلاثاً وعشرين ساعة ، وليله ساعة أو العكس ـ فحكم الصلاة يدور مدار الأوقات الخاصة فيه. وأمّا صوم شهر رمضان فيجب عليه أداؤه مع التمكن منه ، ويسقط مع عدم التمكن ، فإن تمكن من قضائه وجب ، وإلاّ فعليه الفدية بدله(1). ____________ (1) السيستاني | منهاج الصالحين 1|464 ـ 467.
( 144 )
|