شبهات مهدي الحائري
ينكر مهدي الحائري كون الحكومة من حقّ النبيّ والإمام بتعيين من اللَّه تعالى فضلا عن أن تكون لفقيه أو لأيّ نائب خاصّ أو عامّ عن الإمام عليه السلام ، وإنّما الحكومة للناس، وهذا لا ينافي ما نراه في التاريخ من ممارسة بعض الأنبياء والأئمة: الحكم، لأنّه كان بتقليد الناس إيّاهم قلادة الحكم، ولم يكن بما هم أنبياء أو أئمة ومالكين لهذا المنصب من قبل اللَّه تعالى، وذلك لأنّ الناس قد يصلون في مستوى الرشد والفهم إلى حدّ يدركون أنّ المعصومين: هم أدرى بمصالح الناس وأفهم من ناحية، وهم بعيدون عن تأثير الهوى والشهوات في تصرّفاتهم من ناحية اُخرى، فحكومتهم أصلح من حكومة غيرهم بلا إشكال، ولهذا يقلّدونهم الحكم، وهذا غير كون الحكم لهم نصبا من قبل اللَّه تعالى، بل الحكم للناس يقلّدونه من يشآؤون، وليس الحكم بمعنى سياسة البلاد والعباد من تشريع الدين أو من شأن الأنبيآء والمرسلين والأئمة المعصومين:
واستشهد لهذا المدّعى بوجوه:
الوجه الاُول:
أنّ إدارة البلاد وسياسة العباد من القضايا الجزئية والصغروية التي تختلف في وضعها من يوم إلى يوم تبعا لاختلاف الظروف والأوضاع، وليس لها حال ثبات، في حين أنّ الدين عبارة عن عدد من كبريات عامّة نزلت من اللَّه تعالى بالوحي إلى الأنبياء والمرسلين، ويعلم بها الأئمة: ولا يتطرّق إليها شيء من التغيير والتبديل لمجرد مرور الزمان، وحلال محمد صلى الله عليه واله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، فلا يعقل أن تكون السياسة أو الحكومة أو إدارة البلاد والعباد من شأن الدين، أو من شأن النبيّ والإمام بما هو نبيّ وإمام
أقول: إن هذا الكلام قد اُغفلت فيه حلقة مفقودة، وتوضيح ذلك: أنّه فرضت في هذا الكلام حلقتان: الاُولى: حلقة الكبريات والدساتير العامّة والتي قال عنها: إنّها من اللَّه ومن الدين النازل من السماء بالوحي. والثانية حلقة سياسة البلاد والعباد والتي يجب أن تكون في إطار الكبريات العامّة، وهي راجعة إلى تطبيق العباد على أنفسهم ما يناسب تلك الكبريات، وذلك يختلف في الاُسلوب من يوم إلى يوم.
أمّا الحلقة التي تربط بين تلك الكبريات من ناحية وتلك التطبيقات من ناحية اُخرى فهي محذوفة في هذا الدليل.
فقد يقال: لا حاجة لنا إلى حلقة وسطى من هذا النمط، لأنّ الكبريات ثبتت عن طريق الوحي وإبلاغ النبيّ والإمام، وهي وظائف وتكاليف نازلة على العباد، والتطبيقات هي شأن نفس العباد الذين وُظِّفوا بتلك الوظائف.
ولكن هذا الكلام ينشأ من توهّم كون المطبِّق والمطبَّق عليه شخصية واحدة في حين أنّهما شخصيّتان، فحتّى لو أخذنا بأوسع أساليب الديموقراطية حرّيّةً وفرضنا أنّ ذلك يعني حكم المجتمع أنفسهم بأنفسهم أو آمنّا بأيّ وجه من الوجوه بأنّ الحكم بيد المجتمع يقلّده من يشاء فلا إشكال في أنّ المجتمع كمجتمع تركيبي شخصيّة تختلف عن الأفراد بما هم مستقلّون، وعلى هذا الأساس يقع التضارب كثيرا بين مصالح المجتمع ومصالح الأفراد، فإذا فرضنا في أوسع أنحاء الديموقراطية في العالم حريّةً أنّ الأفراد يجب أن يخضعوا لدستور صدر من المجتمع كمجتمع يجب أن نفتّش نحن المسلمون كمسلمين عن أنّ هذه الولاية للمجتمع أو لأصوات الأكثرية - ولو بهذا المقدار - من أين نشأت ؟ ومَن الذي يجبر العاصين لرأي الأكثرية على الخضوع لرأيهم، وعلى الأقل بمقدار حفظ أمن البلاد؟ وعلى الخصوص قد توجد في بعض المجتمعات أقلية لا تؤمن حتّى بأصل كبرى لزوم الأخذ برأي الأكثرية، فَمن الذي يرغمهم على ذلك؟ أم هل لا يُرغمون على ذلك حتّى يتحقّق منهم الفوضى في البلاد، ويبطل النظم والاستقرار؟! وعليه فالحلقة المفقودة في هذا الاستدلال عبارة عن كبرىً واحدة يجب أن تلحق بالكبريات التي قال عنها: إنّها دائمية، وتكون هي الواصلة بين تلك الكبريات وما أشار إليه من التطبيقات، وتلك هي كبرى من بيده ولاية هذا التطبيق، فهل هو النبي أو الإمام أو الفقيه أو الأكثرية كأكثرية؟ وأيّا كان فهو غير الأفراد كأفراد مستقلين.
فالنتيجة : أن هذا الوجه حياديّ تجاه الإيمان بولاية النبيّ أو الإمام أو الفقيه وعدمه، لأنّ الإيمان بها وعدمه مرتبط بطبيعة تلك الحلقة المفقودة.
الوجه الثاني :
أننا لئن فرضنا التنفيذ بيد من نسمّيه وليّ المجتمع من نبيّ أو إمام أو نائب عن الإمام خاصّة مع فرض حقّ الإجبار له سقطت المسؤولية عن المكلّفين، وكذا الأوامر والنواهي والثواب والعقاب، وتوضيح ذلك: أنّ الإرادة التشريعية من قبل اللَّه تعالى إنّما تعني تحريك المكلفين وترغيبهم إلى العمل عن شوق واختيار. ولو كان التنفيذ بيد غيرهم، بل الإجبار كذلك فقد سقط إحساسهم بالمسؤولية، ولغت الأوامر والنواهي النازلة إليهم، وبزوال الاختيار وحلول الإجبار تسقط الوظائف الأخلاقية والأحكام العقلائية والتكاليف الشرعية والثواب والعقاب، فإنّ كل هذه قد اُخذ في موضوعها الاختيار وعدم الجبر.
ولا يخفى أن الاختيار والجبر بمعناهما الفلسفي يختلفان عن الاختيار والجبر بمعناهما الاجتماعي أو العسكري أو السياسي أو الحكومي، فالثاني هو الذي يزيد وينقص وفق اختلاف الحكومات والنُظم والقوانين، والأول هو الثابت وفق إدراك العقل وإثبات الفلسفة، إلّا أنّ فرق أحدهما عن الآخر في الحقيقة عبارة عن أن الجبر والاختيار الفلسفيين هما الجوهر الكامن في حقيقة وجود الإنسان، وهما بطون لنفس المعنى السياسي، وأنّ الجبر والاختيار السياسيين هما ظهور لذاك البُطون وبروز ظاهري لذاك الجوهر المكنون
أقول: إنّ هذا الكلام ينبغي نقاشه من زوايا ثلاث:
فأوّلا : هل حقٌ أنّ الجبر والاختيار الفلسفيين مع السياسيين أو الاجتماعيين بطون وظهور لشيء واحد، فالاُول بطون لهذا الظهور وجوهر لهذه الظاهرة، والثاني ظهور لذاك البطون وظاهرة من مظاهر ذاك الجوهر، أو لا ؟
وثانيا: هل هذا الإشكال مختصّ بفرض ولاية الأنبياء والأئمة والفقهاء، أو مشترك بين ذلك وبين أوسع النظم الديموقراطية التي يمكن افتراضها في العالم، وأيّ صورة من الصور التي تفترض للحكومة.
وثالثا: ما هو جواب الإسلام عن هذا الإشكال؟
أمّا الأول: فالصحيح أنّه لا علاقة لأحد المعنيين بالآخر على الإطلاق، فالمعنى الفلسفي للجبر والاختيار لا يمتّ إلى المعنى السياسي أو الاجتماعي لهما بصلة، وليس أحدهما بطونا والآخر ظهورا، وذلك لأنّ مصبّ أحدهما مباين لمصبّ الآخر، فكيف يمكن أن يتلاقيا؟!
فمصبّ الجبر الاجتماعي أو السياسي هو ما بعد الشوق، فالحكومة الجابرة تحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، وترغم الإنسان على صرف النظر عمّا اشتاق اليه.
في حين أنّ الجبر الفلسفي لا يحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، بل يسير سيرا موازيا للشوق، فإنّ الجبر الفلسفي يعني أنّ الإنسان لا يحصل له الشوق إلّا بالجبر، لأنّه يتصوّر الفوائد المترتّبة على الفعل تصوّرا قهريا، فيحصل له الشوق قهرا وقسرا، فيتحرك نحو ما اشتاق إليه جبرا وإلزاما، ولا يستطيع أن يفعل غير ذلك، فترى أنّ الجبر الحكومي حال بين الإنسان وما يشتاق إليه، في حين أنّ الجبر الفلسفي لا يحول بين الإنسان وما يشتاق إليه، بل يفترض الجبر على نفس الشوق وعلى ما اشتاق إليه، فأين هذا من ذاك؟!
وأمّا الثاني : فهذا الإشكال لو تمّ لا يختصّ بمثل ولاية النبي أو الإمام أو الفقيه، بل يرد حتى على أوسع ما يمكن أن يفترض في العالم من ديموقراطية، وذلك لأنّ الديموقراطية ولو بأوسع معانيها تفترض أنّ هناك دائرتين اجتماعيتين بين الناس: إحداهما: دائرة الحريّة الشخصية لكل فرد، والاُخرى: دائرة تعدّي بعضهم على حريّة البعض الآخر. والحكومة لئن كانت لا تمنع أحدا عن عمل في دائرة حرّيته الشخصية فهي تمنع وتحول دون التعدّي على حريّة الآخرين. وأيّ حكومة اُخرى تُفتَرض لا يمكن أن تخلو من منعٍ وإجبارٍ.
فإن كان مقصود المستشكل في المقام أنّه لا حاجة إطلاقا إلى الجبر من قبل الحكومة فهذا ما لا تقرّه كل المجتمعات حتى الديموقراطيات، إذ لا أقلّ من الجبر في الردع عن التعدّي على حريّات الآخرين، وإلّا لاختلّ الأمن والنظام، ولا أظنّ عاقلا يدّعي هذا الادعاء ما عدا ما ينقل عن الشيوعيين من أنّه متى ما سادت الشيوعية في العالم استغنى الناس عن أيّة حكومة من الحكومات، وهذا ما فنّده المحقّقون.
وإن كان مقصوده: أنّ الحكومة الديموقراطية مثلا بما أنّها نابعة من الناس وبالتصويت وبرأي الأكثرية فلا جابر ولا مجبور في البين، لأنّ الحاكم والمحكوم واحد، وهم الناس، وهذا بخلاف فرض ولاية النبي أو الإمام أو نائب إمام، فجوابه ما عرفت من أنّ المجتمع غير الأفراد المستقلين، ورأي الأكثرية غير رأي الفرد خصوصا أنّ بعض الأقلّيات لا تشترك في الاقتراع ولا تؤمن أصلا بنفوذ رأي الأكثرية، وعليه فالجابر غير المجبور، ولابدّ للحاكم من الجبر برّا أو فاجرا.
وأمّا الثالث: وهو جواب الإسلام على هذا الإشكال فالإسلام أحرص نظامٍ على تكامل العباد، وهدفه النهائي هو ذلك، وحتى العبادة التي فرضت في القرآن غاية لخلق الجن والإنسإنما كانت لتكاملهم ومن كفر فإنّ اللَّه غنيّ عن العالمينوانفتاح باب التكامل على البشر متوقف بشكل كامل على الاختيار بمعناه الفلسفي فإنّ المجبور لا ثواب له ولا عقاب عليه ولا مسؤولية على عهدته ولا يستحق مدحا ولا ذمّا أما الاختيار أو الحريّة بالمعنى الاجتماعي أو السياسي فلانفتاح باب التكامل على الناس ارتباط وثيق به، ولكن ليس ارتباطا كاملا، والإسلام فَتَحَ باب حفظ أجواء الحرية والقدرة على التحرك أمام الناس إلى حدّ حرّم التجسّس في اُمورهم الشخصيّة، فلا يجوز للحكومة ولا لغيرها التجسّس على الناس فيها لكي يبقوا على حرّيتهم في اختيار ما يختارون من سبيل الرشاد والخير، أو سبيل الضلال والشرّ ما دام الشرّ شرّا على نفسه فحسب. قال اللَّه تعالى: ولا تجسّسوافليبق الشخص على حرّيته بل ومع حفظه ماء وجهه ما دام لا يعمل الحرام إلّا سرّا فما دام كذلك يحرم التجسّس عليه، بل واغتيابه.
نعم ينتهج الحكم الإسلامي منهج الإجبار في موردين:
الأوّل: في ظلم الآخرين والاعتداء على حقوقهم. وهذا الإجبار - حتّى لو فرضناه مانعا عن تكامل الشخص المجبَر - لابدّ منه حفاظا على حقوق الآخرين، وهذا يوازي ما يقوله الديمقراطيون في مذاهبهم من ضرورة وضع الحدّ على تصرّف من يتعدّى على حرّية الآخرين.
والثاني: لو اتّفق صدفةً انكشاف أمر المجرم إجراما شخصيّا لدى الحاكم عزّره الحاكم أو أجرى عليه الحدّ، بل قد يتعرّض للقتل أيضا، ورغم أن ذاك الإجرام لا يرى ظاهرا تعدّيا على حقوق الآخرين يكون لهذا النمط من الإجبار أحد ملاكين:
أ - إنّ الإجرام الشخصي إذا انكشف كان في معرض السراية إلى الآخرين، ومنع الآخرين عن التكامل، فلابدّ من الردع عنه ولو جبرا وتهديدا بالتعزير أو الحدّ أو بالقتل أحيانا، ولو فرض كون ذلك مانعا عن تكامل الُمجَبر على ترك الجرم، فمع ذلك لابدّ منه حفظا لحقوق الآخرين الذين يحتاجون إلى الجوّ المساعد للتكامل والذي يختلّ بإجرام المجرمين رغم افتراض إجرامهم شخصيّا بحسب الظاهر، وأخصّ بالذكر الشرك الذي يعتبره الإسلام ظلما للبشرية بشكل عامّ، ولا يكتفي في مجازاته بأقلّ من القتل، ويرى الإسلام أنّه لا يوجد حقّ الحياة للمشرك أصلا وإن كان يوجد حقّ الحياة للكتابي مع إعطاء الجزية عن يد وهو صاغر.
ب - إنّ الإجبار الاجتماعي على ترك الجرم الشخصي ليس بشكل عامّ مانعا عن التكامل، فربّ إنسان طغت عليه نفسه وجرّته إلى مسيرة الإجرام والظلم على نفسه، ولا يمكن ردعه عن ذلك إلّا بالإجبار الذي يبعده عن أجواء الزلّة والخطأ، وربّما يؤدّي ذلك بالتدريج إلى اتّخاذه طريق الرشاد بالرغبة والشوق.
الوجه الثالث:
أنّ القرآن قد حصر وظيفة الرُسُل في الإبلاغ ونفى عنهم - كرُسُل - أيّ وظيفة اُخرى كوظيفة الحكم والسياسة. قال اللَّه تعالى: ما على الرسول إلّا البلاغوقال أيضا: فذكّر إنّما انت مذكّر لست عليهم بمصيطروقال كذلك: وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد
أقول: إنّ فهم الآيات - حتّى لو افترضنا قطع النظر عن سنّة العترة الطاهرة - يتوقّف في أقلّ تقدير على ضمّ الآيات بعضها إلى بعض، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، فلا معنىً لتفسير هذه الآيات المباركات بمعزل عن آيات اُخرى كقوله عزّوجلّ: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهمفهذه الآية لوحدها صريحة في أنّ النبي 9وليّ على المؤمنين بمعنىً لا يبقي مجالاً لنفوذ رأي الأكثرية عليه في الاُمور لأنّه أولى من أنفسهم بهم. ولو كان المفروض أن يستمدّ شرعية حكمهم وإدارتهم منهم لكانوا أولى بأنفسهم منه صلى الله عليه واله ولم يكن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
وقد أجاب مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية المباركة بوجهين:
الأوّل: أنّ كلمة: الأولى تعتبر صيغة التفضيل، فالمفروض أن تحمل علىمورد ثبوت الولاية للمؤمنين على بعض النفوس كي يكون الرسول أقوى ولاية منهم، وذلك في المحجورين كالصبيان والمجانين الذين لهم أوليآء من نفس المؤمنين، فالأولوية هنا إن كانت بمعنى الولاية دلّت الآية على انه متى ما وقع التزاحم في الولاية بين النبيّ صلى الله عليه واله وأوليآء المجانين والصغار كان النبيّ صلى الله عليه واله أولى في ذلك، وهذا مسلّم عندنا، إلّا أنّه أجنبيّ عما نحن فيه.
والثاني: أنّ كلمة: أولى لو كانت هنا بمعنى الولاية لزم أن تتعدّى بعلى لا بمِن كما يقال: الأب وليّ على الابن، ولا يقال: الأب وليّ من الابن، في حين أنّ الآية تقول: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ولم تقل: على أنفسهم
أقول: إنّ جوابه الأول كأنّه مبتنٍ على تخيّل أنّ الاستدلال بهذه الآية متوقّف على تفسير كلمة أولى بمعنى الأفضلية في الولاية وأقوائية الولاية، وهذا يتوقّف على افتراض وليّ ومولّىً عليه قبل الحكم بولاية النبي صلى الله عليه واله كي تكون ولاية النبيّ أفضل وأقوى من تلك الولاية، وكأنّه افترض أنّ هذا متوقف على افتراض انفكاك الوليّ عن المولّى عليه في ما فرضناه قبل الحكم بولاية النبي صلى الله عليه واله لأنّ الولي والمولّى عليه لا يمكن أن يتحدا، ولا نجد ذلك إلّا في ولاية العقلآء على مثل المجانين والقُصّر، فيكون معنى الآية لو حملناها على الولاية: أنّ ولاية النبي صلى الله عليه واله على مثل المجانين والقصّر أقوى من ولاية العقلاء عليهم.
وجوابه الثاني أيضا مبتنٍ على تخيّل أنّ طريق الاستدلال بهذه الآية عبارة عن تفسير الأولوية بمعنى الأفضلية في الولاية، وعندئذٍ من الواضح أنّ الولاية تتعدّى بعلى كما يقال: الأب وليّ على الطفل، في حين أنّها في الآية المباركة لم تتعدَّ بعلى.
وقد أخطأ في افتراض كلمة: على مكان كلمة: مِن، وذلك لأنّ كلمة: من واقعة في محلّها، باعتبار أن صيغة التفضيل تُتعدّى بمِن فيقال مثلا: زيد أفضل من عمرو، ولا يقال: زيد أفضل على عمرو، وبكلمة اُخرى: أنّ حرف الجر هنا متعلّق بهيئة التفضيل لا بمادّة الولاية وكان الاُولى به أن يجعل كلمة: على مكان حرف البآء، ويقول: لو كانت الاُولوية بمعنى الولاية للزم أن تكون الآية هكذا: النبيّ أولى على المؤمنين من أنفسهم، في حين أنه قال: أولى بالمؤمنين من أنفسهم.
والواقع: أنّنا لا نفترض أصلا كون كلمة أولى بمعنى التفضيل في الولاية بمعناها المقصود لنا، فإن كلمة: أولى لم تستعمل أصلا في لغة العرب بهذا المعنى، وإنّما الكلمة تعطي معنى أجدر وألصق وأحقّ ونحو ذلك ممّا يُتعدّى بالباء لا بعلى، قال اللَّه تعالى: ثمّ لنحن أعلم بالذين هم أولى بها صليّاوطبعا ليس معنى الآية: أنّهم أوليآء جهنم، وإنّما معناها أنّهم أجدر بجهنم من غيرهم، وقال اللَّه تعالى: إنّ أولى الناس بإبراهيم لَلَّذين اتبعُوهيعني: أنّهم أجدر الناس به ولا يعني أنّهم أوليآءه بالمعنى المقصود في المقام.
وفهمنا لمعنى الولاية بالمعنى المصطلح لدينا من قوله تعالى: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم ليس من كلمة: أولى، بل من مجموع الجملة، إذ لا يعقل أن يكون شخص أجدر بشخص آخر من نفسه إلا إذا كان وليّا له، وإلّا فكل شخص أجدر من غيره بنفسه كما هو واضح.
وبعد هذا البيان لم تبق أيّ نكتة لتخصيص الآية بمثل موارد الأطفال والمجانين.
وأيضا يدلّ على المدّعى قوله تعالى: وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى اللَّهُ ورسولُه أمرا أن يكون لهم الخِيَرَةُ من أمرهِمفهذه الآية المباركة واردة في الأوامر الولائية أو قل: الحكومية لا في الأوامر الإلهية فحسب بدليل عطف الرسول على اللَّه حيث قال: إذا قضى اللَّه ورسوله ونحن نعلم: أنّ الأحكام الإلهية كثيرا ما تكون مشرّعة من قبل اللَّه مباشرة فحكم اللَّه لا يُنسب للرسول، في حين أن حكم الرسول ينسب للَّه، لأنّ الرسول منصوب من قبل اللَّه، فإشراك الرسول مع اللَّه في القضاء دليل على أنّ النظر ليس إلى الأحكام الإلهية فحسب، بل إلى الأحكام السلطانية فالآية واضحة في أنّ أحكام الرسول السلطانية واجبة الاتّباع من قبل المؤمنين.
يبقى احتمال أن يكون صدور الأحكام السلطانية من الرسول صلى الله عليه واله مشروطا بأخذه هو برأي الأكثرية.
وهذا يدفعه قوله تعالى: وإذا عزمت فتوكّل على اللَّه حيث نسب العزم إلى الرسول وحده ممّا دلّ على أنّ الشورى لم تكن لحجّيّة رأي الأكثرية عليه.
على أنّ إسناد سلب الخيرة عن المؤمنين إلى الرسول يدلّ على أنّ الرسول بعنوان الرسول موضوع لهذا الحكم لا بعنوان آخر كعنوان كونه مختارا للشعب.
وقد اعترض مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية المباركة بأنّ هذه الآية مخصوصة بباب قضاء التحكيم في المرافعات بقرينة قوله: (قضى) فلا علاقة لها بالأحكام الحكومية
وأجاب عنه سماحة الشيخ جوادي الآملي حفظه اللَّه: بأنّ عطف الرسول على اللَّه من دون تكرار كلمة: قضى يدلّ على أنّ القضاء هنا بالنسبة للَّه وللرسول بمعنىً واحد، وعليه فحمله على قضاء التحكيم غير صحيح، لأنّ قضاء التحكيم لا يسند إلى اللَّه تعالى، على أنّ المفسّرين ذكروا في شأن نزول الآية: أنّها نزلت في قصة زواج زينب الأسدية بنت جحش أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مع زيد بن حارثة، حيث أبت تلك الامرأة وأُسرتها عن العمل بأمر رسول اللَّه صلى الله عليه واله بهذا الزواج لعدم التكافؤ بين الزوجين في رأيهم، فنزلت هذه الآية المباركة فرضوا بهذا الزواج، وليست الآية مختصّة بهذه القصة لأنّ المورد لا يكون مخصّصا أو مقيّدا
أقول: الحكم القضائي لرسول اللَّه صلى الله عليه واله في المرافعات كالحكم الولائي له صلى الله عليه واله في الحكومة، إن صحّت نسبة الثاني إلى اللَّه تعالى لكونه هو الناصب لرسول اللَّه صلى الله عليه واله في هذا المنصب صحّت نسبة الأوّل أيضا إليه تعالى، وإلّا لم تصح النسبة في كليهما.
والأولى في الجواب عن إشكال مهدي الحائري أن يقال: إنّ القضاء مطلق لغةً، وله عدّة مصاديق كالقضاء التكويني مثل قوله تعالى: فقضاهنّ سَبع سماواتوالقضاء التشريعي كقوله تعالى: وقضى ربك ألّا تعبدوا إلّا إيّاه وبالوالدين إحساناوالقضاء التحكيمي كقوله عزّوجلّ: فلا وربّك لا يؤمنون حتى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت ويسلّموا تسليماويفهم المقصود في كل هذه الموارد بقرينة المتعلّق، وبما أنّ المتعلّق في قوله تعالى: إذا قضى اللَّه ورسوله أمرا مطلق الأمر، فتخصيصها بالقضاء التحكيمي في موارد المرافعة بلا موجب، بل يشمل مطلق الأوامر الولائية بما فيها الأوامر القضائية والحكومية.
وأيضا قوله سبحانه وتعالى: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكميدلّ على وجوب طاعة أوامر الرسول الحكومية والسلطانية، لأنّ عطف اُولي الأمر على الرسول قرينة على كون النظر إلى أحكام وليّ الأمر لا الأحكام الإلهية، أي: أطيعوا اللَّه في أحكامه الإلهية وأطيعوا الرسول واُولي الأمر في الأحكام الولائية، ولذا فصّل بين اللَّه والرسول بتكرار كلمة: أطيعوا، ولم يفصّل بين الرسول واُولي الأمر بتكرار تلك الكلمة، بل عطف اُولي الأمر على الرسول تحت أمر واحد بالإطاعة ممّا دلّ على أنّ إطاعتهما من سنخ واحد.
ويبقى هنا أيضا احتمال أن يكون قد اُخذ في موضوع الأوامر السلطانية للرسول عدم مخالفة رأي الأكثرية.
وهذا أيضا تبطله آية: وإذا عزمت فتوكّل على اللَّه الدالّة على أنّ العزم خاصّ بالرسول بالبيان الماضي، مع أنّ نسبة وجوب الطاعة إلى الرسول ظاهرة أيضا في كون الموضوع هو الرسول بما هو رسول لا بما هو منتخب الناس.
وقد اعترض مهدي الحائري على الاستدلال بهذه الآية بأن معنى اُولي الأمر في المقام ليس هو أولياء الاُمور، بل هو العالمون بالشريعة، وعطفه على الرسول من باب عطف العامّ على الخاصّ، والأمر بإطاعة اللَّه والرسول والعالمين بالشريعة وهم المعصومون أمر إرشادي لوجوب الامتثال عقلا، إذ لو كان الأمر بالامتثال مولويا لتسلسل
وأجاب عنه سماحة الشيخ جوادي الآملي في ما أجاب بأنّ تكرار كلمة: أطيعوا شاهد على أنّ محور إطاعة اللَّه ومحور إطاعة الرسول واُولي الأمر محوران، وليسا محورا واحدا، فمحور الاُولى الأحكام الكلية الإلهية، ومحور الثانية الأحكام الولائية والحكومية، وكذلك الأحكام الفقهية التي يصادف أن النبي صلى الله عليه واله يُصدرها عن طريق الإلهام والحديث القدسي لا عن طريق الوحي القرآني، وحمل كلمة: اُولي الأمر على العالمين بالشريعة خلاف الظاهر، فاُولئك يسمّون بمثل عنوان أهل الذكر كما في قوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر وأولياء الاُمور يسمّون باُولي الأمر
وعلى أيّة حال فهذه الآيات المباركات تدل على أنّ الحصر في مثل قوله: ما على الرسول إلّا البلاغ أو لست عليهم بمصيطر أو ما أنت عليهم بجبّار ليس في مقابل ولاية الأمر أو حقّ الجبر الحكوميّ الذي لا يمتدّ إلّا إلى ظاهر من يُجبَر، ويجبره على ترك الظلم أو ترك الإجرام، بل هو في مقابل الجبر الباطني والجوهري الذي يمتدّ إلى القلب، أي: أنّ عليك البلاغ ولست جبّارا له على الإيمان الذي هو أمر قلبي لا تناله يد القدرات الظاهرية، بل هو بمحض اختيار الفاعل.
ونظير ذلك في القرآن قوله سبحانه وتعالى: لا إكراه في الدينفهذه الآية لو كانت وحدها كان يحتمل حملها على الإكراه الظاهري، ولكن هذا الحمل مخالف لآيات إجبار المشركين على الإسلام أو القتل، قال اللَّه تعالى: برآءة من اللَّه ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي اللَّه وأن اللَّه مخزي الكافرين وأذان من اللَّه ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أنّ اللَّه بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن تولّيتم فاعلموا أنكم غير معجزي اللَّه وبشّر الذين كفروا بعذاب أليم إلّا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتمّوا إليهم عهدهم إلى مدّتهم إنّ اللَّه يحبّ المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم إنّ اللَّه غفور رحيمفهذه الآيات صريحة في أنّ المشرك إن كان ممن دخل العهد مع المسلمين فيما قبل نزول هذه الآيات ولم ينقض العهد بشكل وآخر وجب إتمام عهده الى مدّته ولكن بعد نهاية المدّة لا يجدّد معه العهد، بل يقتل لو لم يستعدّ للإسلام.
وأيضا قال اللَّه تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون باللَّه ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم اللَّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين اُوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرونفهذه الآية أيضا صريحة في أنّ المشركين مهدورو الدم، إذ لو كانوا مصونين لسألنا: هل صيانة أنفسهم مشروطة بالجزية أو لا ؟ فإن قيل: نعم، فلماذا قيّدت الآية الكريمة الجزية بكونها من الذين اوتوا الكتاب ؟ وإن قيل: لا، لزم كون المشرك أحسن حالا من الكتابي.
وكلّ هذايجعلنا نحمل قوله تعالى: لا إكراه في الدين على الإكراه الباطني، أي أنّ من يسلم إسلاما حقيقا فإنما يُسلم باختياره، ولا سبيل للسيطرة على القلوب، وإنّما المهمّ تبين الرشد من الغيّ.
وآيات كون وظيفة الرسول صلى الله عليه واله هي الإبلاغ لا السيطرة أو الجبر كلها تكون بهذا المعنى.
ووزان هذه كلها وزان قوله تعالى: أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنيينوقوله تعالى: أفأنت تسمع الصمّ ولو كانوا لا يعقلونوقوله عزّوجلّ: إنّك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصمّ الدعاء إذا ولّوا مدبرينوقوله عزّ من قائل: أفأنت تسمع الصمّ أو تهدي العمي ومن كان في ضلال مبين
وكلّ هذا لا يعني أنّ اللَّه سبحانه يريد أن يخبر نبيّه بعجزه عن جبر الجنان والقلوب على الإيمان حتى يقال: إنّ هذا إخبار عن أمر بديهي وواضح، بل يعني أنّه سبحانه وتعالى بصدد تسلية الرسول صلى الله عليه واله وبيان أنّك أدّيت ما عليك من البلاغ، أمّا عدم أيمانهم فليس به بأس عليك، لانّك لست مصيطرا على القلوب. فوزان هذه الآيات جميعا وزان قوله تعالى: فإن اللَّه يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء فلاتذهب نفسك عليهم حسراتوقوله تعالى: إنّك لا تهدي من أحببت ولكن اللَّه يهدي من يشاءوقوله تعالى: ليس عليك هداهم ولكن اللَّه يهدي من يشاء
وما حملنا عليه الآيات المباركات من أنه ليس على النبي صلى الله عليه واله هداهم والسيطرة على القلوب لعطفها إلى الإيمان دون نفي ولاية الرسول صلى الله عليه واله والحصر في التبليغ إضافي لا حقيقي إن لم يكن هو المنصرف إليه الآيات ابتداءً بالمناسبات العرفية فلا أقلّ من أن آيات الولاية التي أشرنا إليها قرينة على ذلك.
الوجه الرابع :
أنّ الدليل على أصل النبوّة العامة والإمامة والتشريع لدى علماء الكلام قاعدة اللطف، وقد قالوا: إنّ الأحكام الشرعية ألطاف في الأحكام العقلية، أي أنّ العقل يحكم بضرورة الأخذ بكلّ حسن وبكل ما فيه المصالح، والتجنّب عن كل قبيح وكل ما يشتمل على المفاسد، ولكن عقولنا قاصرة عن إدراك الجزئيات من ناحية، وتتستّر أحيانا تحت غبار الشهوات والميول من ناحية اُخرى، فاحتجنا إلى لطف اللَّه تعالى بإنزال الأحكام الشرعية التي ترشد العقل إلى التفاصيل وتنفض عنه غبار الشهوات، حتى نختار نحن بأنفسنا وباختيارنا تطبيق ما هو صالح ورفض ما لا يصلح.
وهذه القاعدة كما ترى لا مساس لها بالتنفيذ الذي هو من شأن الناس وشأن الحكومات، وإنّما هي راجعة إلى التشريعات العامّة، فوظيفة النبيّ والإمام - بما هو نبيّ أو إمام - إنّما هو إيصال تلك التشريعات، وأمّا الحكومة والسلطة فهي خارجة عن وظائفهما.
وقال في ما قال: إنّ كون الأحكام الشرعية ألطافا في الواجبات العقلية إنّما يتم في غير العبادات ممّا يكون للعقل فيها حكم إجمالي، ولكنه لا يعرف التفاصيل، فالأحكام الشرعية ليست في واقعها اُمورا تأسيسية، بل هي إرشاد إلى نفس الأحكام العقلية، ولا يتم في العبادات، فإنّ حكم الشرع فيها تأسيس بحت لأنّها مشروطة بالقربة ولا موضوع للقربة قبل الأمر، فقبل الأمر لا حكم للعقل في المقام
أقول: إن كان مقصوده بذلك خروج قسم العبادات من بين التشريعات عن قاعدة اللطف كان هذا نقضا عليه في استدلاله لعدم اشتمال التشريع على الحكومة والسلطة بخروجها عن قاعدة اللطف، فإنّ التشريع مشتمل على العبادات رغم خروجها في فرضه عن قاعدة اللطف. وإن لم يكن مقصوده ذلك لم يرد عليه هذا النقض.
وعلى أيّ حال فمجرد عدم دلالة قاعدة اللطف التي هي دليل النبوة العامّة على لزوم تشريع الحكومة أو السلطة لا يدلّ على عدم تشريع ذلك، فإنّ عدم الدلالة ليست دلالة على العدم، بل يجب علينا بعد أن ثبت لدينا أصل النبوّة والتشريع بقاعدة اللطف أو غيرها أن نرجع الى نفس التشريع لكي نرى هل يشتمل على تشريع حكومة مّا أو لا، وهل شرّع ولاية النبيّ أو الإمام أو الفقيه أو لا ؟ فإن اقتنعنا بالعدم نتيجة باقي أدلّة مهدي الحائري أو نتيجة أيّ دليل آخر فهذا لا يمتّ إلى بحثه لقاعدة اللطف بصلة، وإن اقتنعنا بتشريع ذلك بطل مدّعاه.
كما أن دليل النبوّة الخاصّة وهو الإعجاز بثبت لنا أيضا أصل التشريع، ولكن لا يثبت لدينا مقدار حدوده وسعته، فنرجع إلى نفس التشريع كي نعرف حدوده ومقدار سعته، ولو زاد على المقدار الذي لابدّ منه بلحاظ أصل الإعجاز ودعوى النبوة.
الوجه الخامس :
قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط...
فهذه الآية واضحة في أنّ شأن الأنبياء إنّما هو تعليم الكتاب والعدل وإراءة البيّنات. وأمّا القيام بالقسط وهو عبارة اُخرى عن إقامة الحكومة العادلة فهو عمل الناس أنفسهم وليس عمل الأنبياء بما هم أنبياء
أقول: لو فسّرنا القيام بالقسط بمعنى التلبّس بالعدل بمعناه الواسع والذي يكون أحد أفراده إقامة الحكم العادل كما يكون أحد أفراده أداء آحاد المكلفين للأمانة وترك الخيانة، وأحد أفراده العمل بباقي الوظائف الشرعية والتي تختلف من الرجل الى المرأة، ومن فئة إلى فئة، ومن فرد الى فرد لاختلاف الوظائف الشرعية ومصاديق العدل بين الناس، فمن الواضح أنّ الآية تكون انحلالية بعدد أفراد الناس، ويكون معنى الآية: أنّ الهدف من بعث الأنبياء بالبيّنات والكتاب والميزان هو أن يقوم كل أحد بما عليه من القسط، أمّا ما هو مصداق القسط لكل واحد واحد؟ فليست الآية بصدده، ومن جملة مصاديق القسط هو الحكم بالعدل، ولكن لم تكن الآية بصدد بيان أنّ هذا المصداق وظيفة من؟ فهل هو وظيفة الناس بمجموعهم عن طريق انتخاب حاكم عادل مثلا، أو وظيفة النبيّ أو الإمام أو الفقيه أو غير ذلك؟ وكل ذلك خارج عن مفاد هذه الآية المباركة، ويكون وزان هذه الآية وزان قوله تعالى: إنّي جاعل في الأرض خليفةبناءً على كون المقصود بذلك خلافة البشرية لا خلافة شخص آدم عليه السلام ولو بقرينة تخوّف الملائكة من فساده في الأرض وسفكه للدماء، فإنّ هذا التخوّف لم يكن من شخص آدم عليه السلام ، بل كان من الإنسانية، فقد يقال على هذا التفسير: إنّ أوضح مصاديق الخلافة هي النبوّة، ومن الواضح أنّها ليست للإنسانية بل لشخص آدم وباقي الأنبياء:، والجواب عن ذلك هو أن بالإمكان أن تكون الخلافة وصفا للإنسانية ويكون المقصود أن الإنسانية بمجموعها يجب أن تقوم بوظيفة الخلافة كلٌّ بحسب ما يناسبه، فمنهم من يحرث الأرض، ومنهم من يستخرج خيرات الأرض وبركاتها، ومنهم من يساعد المحتاجين، ومنهم من يتكفّل عبء النبوّة، ومنهم من يعمّر الأرض، ومنهم من يفعل غير ذلك. وأمّا من يعمل ما يخالف مقتضى الخلافة فهذا عصيان منه للعهد، وخيانة منه للأمانة، وهذا لا يعني أنّه لم يكن جزءا مما هو بمجموعه خليفة للَّه وهي الإنسانية، وإنّما يعني عصيان الخليفة لأمر المستخلف وعدم قيامه بوظائف الاستخلاف، فلتكن الآية في المقام أيضا من هذا القبيل، أي أنّ القيام بالقسط يكون من شأن الإنسانية ككل، وكلٌّ يعمل وفق حصّته من القسط، ولا يعرف من ذلك أنّ الحكم العادل حصّة مَن؟
وأمّا إذا قلنا: إن المقصود بقوله تعالى: ليقوم الناس بالقسط هو إقامة الحكم العادل ولو بقرينة قوله بعد ذلك: وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد فالآية دلّت على أنّه يجب على الناس بمجموعهم إقامة الحكم العادل، ولكن هذا لا يدلّ على ما يريده المستدل من أنّ الحكم حقّ للناس يقلّدونه من يشآؤون، وذلك لأنّ الآية إنّما هي بصدد بيان أن تنفيذ الحكم العادل على الناس، وهذا واضح الصحة، لأنّ اللَّه تعالى لا يأتي هو للتنفيذ مباشرة بل التنفيذ الخارجي على الناس وحتى لو قلنا بولاية النبيّ أو الإمام فالذين ينفّذون هذه الولاية خارجا هم الناس، ولهذا حينما عصوا ولم ينفّذوا ولاية عليّ عليه السلام أصبح جليس البيت.
والخلاصة: أنّ تنفيذ الناس للحكم لا يدلّ على أنّ حقّ الحكم كان بيدهم، فلعل حقّ الحكم قد أعطاه اللَّه للنبيّ، ولكن التنفيذ على أيّ حال يكون بيد الناس، وعلى أكتافهم، فلو أجمعوا على مخالفة الاُوامر الولائية للنبيّ أو الإمام لعجز النبيّ أو الإمام عن الحكم، ولو نصروه ودعموه وأيّدوه جلس على منصّة الحكم وعمل بالوظيفة.
ويكفي في إبطال الاستدلال بهذه الآية مجرّد احتمال صحة التفسير الذي ذكرناه، إذ لا دليل على أنّ الآية بصدد بيان قضيّة حقوقية، أي من له حقّ الحكم لا بصدد بيان التنفيذ الخارجي فحسب.
الوجه السادس :
أنّ السياسة والحكومة - كما قلنا - عبارة عن تنفيذ الأحكام الجزئية التي تختلف من زمان إلى زمان ويستحيل دلالة الأحكام الكلية والتشريعات على ذاك التطبيق والتنفيذ، لأنّ التطبيق والتنفيذ أو عدمه يكون من مرحلة العصيان والامتثال، وهما متأخران عن مرحلة التشريع فكيف تتعلق بذلك مرحلة التشريع؟! إلّا أن يفترض تعلّق تشريع آخر بالامتثال والتنفيذ، وعندئذٍ فلابد من امتثال ذاك التشريع الآخر وتنفيذه، ونحتاج أيضا إلى تعلّق التشريع بهذا الامتثال والتنفيذ الجديدين وهكذا إلى أن يتسلسل الأمر
ومن هنا تتضح وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيضا، فهي ليست إلّا مجرّد أمر ونهي دون الإجبار والتنفيذ، وأمر الشريعة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن هو إلّا إرشادا إلى حكم العقل بذلك، إذ لو كان أمرا مولويا وخالقا لمعروف جديد ومنكر جديد لاحتاج أيضا إلى أمر الشريعة بالأمر به أو النهي عنه، وهكذا إلى أن يتسلسل
أقول: إنّ الذي يكون الأمر به مستلزما للتسلسل إنّما هو امثتال الشخص للأمر الأول، وهو آخر حلقات تطبيق المعروف، فلو احتاج آخر الحلقات وهو الامتثال إلى تجديد أمر ولم يكفِ الأمر الأوّل للإيصال إلى حلقة الامتثال بواسطة حكم العقل فكان لابدّ من أمر آخر بالامتثال لزم التسلسل أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الإجبار الحكومي فهذه كلها حلقات وسطية للانتهاء إلى الحلقة النهائية وهي عمل المأمور والمنهي أو المحكوم بالمعروف وتركه للمنكر، والأمر بهذه الحلقات الوسطية يكون للانتهاء إلى تلك الحلقة الأخيرة، فإن لم تحتج تلك الحلقة الأخيرة إلى أمرٍ انقطع التسلسل. نعم، نفس الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو الإجبار الحكومي حلقات أخيرة وتعتبر امتثالا بالقياس الى أمر الشريعة بهذا الأمر أو النهي أو الإجبار، ولم يقل أحد: إنّ امتثال الأمر بهذه الاُمور بحاجة إلى أمر آخر.
الوجه السابع :
قوله سبحانه وتعالى: لقد رضي اللَّه عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرةفالبيعة التي هي بمنزلة الانتخاب لرئيس الحكومة وقعت من الناس لرسول اللَّه صلى الله عليه واله واللَّه تعالى بارك لهم ذلك، فمنصب الحكم إذن من الناس ولا ينشأ من ذات النبوّة والرسالة
والتاريخ أيضا يشهد على وقوع البيعة للنبيّ صلى الله عليه واله ولعليّ عليه السلام فأوجب ذلك جلوسهما على منصّة الحكم، في حين أن النبوّة أو الإمامة كانت ثابتة لهما من قَبل
أقول: إنّ البيعة لها تفسيران:
الأوّل: ماقصده المستدل من أنّ البيعة هي التي منحت الولاية والحكم، فلميكن للنبي صلى الله عليه واله أو للإمام عليه السلام هذا المنصب قبل البيعة من قبل اللَّه.
والثاني: أن البيعة تعهّدٌ للطاعة يوجد للمبايَع بالفتح نوع وثوق بأنّهمسيوفون به، فيكون عاملا من عوامل عدم الفشل في الأمر، فيقُدِم النبي صلى الله عليه واله أو الإمام على مزاولة الاُمور عملا، إذ لا معنى للقيام بالأمر من دون أنصار، ولا دليل على أنّ النبي صلى الله عليه واله أو الإمام عليه السلام قَبِلَ البيعةَ بلحاظ المعنى الأوّل، بل الدليل في بيعة الغدير وقع على العكس، لأننا بعد أن عرفنا في ما سبق أنّ آية: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم تدل على الولاية نقول: إنّ قوله صلى الله عليه واله في يوم الغدير: (ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: فمن كنت مولاه فعليّ مولاه)دلّ على ثبوت ولاية الحكم لعليّ عليه السلام قبل البيعة، لأنّ البيعة وقعت بعد هذا الكلام لا قبله.
الوجه الثامن :
قوله تعالى: أمرهم شورى بينهمفقد دلّت الآية المباركة على أنّ أمر الحكم والسياسة تعيّنه الاُمّة نفسها عن طريق التشاور في ما بينهم، وليس أمرا خاصا بالنبي أو الإمام باعتباره نبيّا أو إماما
والجواب: أنّ الشورى في الآية المباركة يمكن أن تقصد بها حجية رأي الأكثرية على الأقلية، وهذا ما قد نسمّيه شورى الولاية، ويمكن أن تقصد بها شورى الاستضاءة، أي أنّ المؤمنين يديرون اُمورهم عن طريق استضاءة البعض بأراء البعض وتضارب الآراء التي تنتج الاسترشاد إلى الرأي الأصوب من دون افتراض حجية لرأي الأكثرية، أو افتراض كون رأي الأكثرية هو الأصوب دائما.
وعلى الثاني تكون الآية اجنبيّة عمّا نحن فيه، ولم نرَ في الآية المباركة ما يعيّن المعنى الأوّل، بل يوجد في القرآن ما يبطل المعنى الأول بلحاظ زمان حياة النبي صلى الله عليه واله من قبيل آية الشورى الاُخرى، وهي قوله: وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على اللَّه ومن قبيل الآيات الثلاث التي أشرنا إلى دلالتها على ولاية النبي صلى الله عليه واله وتقدّم رأيه على رأي المؤمنين ووجوب طاعته عليهم، فإذا بطل هذا المعنى بلحاظ زمن النبي صلى الله عليه واله قلنا: إنّ إخراج ذاك الزمان من آية: أمرهم شورى بينهم يكون من سنخ إخراج المورد عن تحت العام، وهذا لا يجوز، فينحصر الأمر في تفسير الآية بالمعنى الثاني من المعنيين اللذين ذكرناهما للشورى.
الوجه التاسع :
قوله عليه السلام في نهج البلاغة: (لابدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلّغ اللَّه فيها الأجل، ويُجمَع به الفيء، ويقاتَل به العدوّ، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح برّ ويستراح من فاجر)
فهذا الكلام واضح في أن العامل الذي لابدّ منه في تعيين الأمير أو السلطة التنفيذية هو أن تكون له الرؤية والقدرة الكاملتان في تدبير الاُمور، وحفظ البلاد، وحراستها بحدودها عن الأعداء، ولا يشترط في أصل الإمرة أن لا يكون فاسقا فاجرا ما لم يضرّ فسقه بتدبيره لاُمور البلاد والإمرة، فإنّ الهدف من قوّة الحكومة أن يتمكن المؤمن من القيام بوظائفه الإيمانية، والكافر أيضا من أخذ متعته من نظم البلاد مع التزامه هو بالنظام والمقررات. وهذا تماما كحال الطبيب الذي يكون الشرط في طبابته مراعاة الأمانة والدقّة في العلاج كي لا يخاطر بحياة المريض وسلامته وإن كان غير متقيّد بموازين الأخلاق والمذهب ما دام لم يضرّ ذلك بأمانته بشأن المريض.
فهذا خير دليل شرعي على انفصال الحكومة عن الدين
أقول: إنّ هذا النصّ المبارك إنّما أشار إلى حاجة الناس إلى أمير من هذا القبيل. أمّا أنّ هذا الأمير هل تقمّص قميص الأمارة بحقّ أو لا، فلا توجد في هذا النص من قريب أو بعيد الإشارة إليه، ولهذا نرى أن هذا النصّ إنّما اقتصر على ذكر إدارة الاُمور والأمن واستراحة البرّ واستمتاع الكافر وتقوية الضعيف، ولم يذكر مجيء الأمير عن طريق انتخاب الناس، فربّما يأتي أمير عن طريق القهر والغلبة، ولكنه حينما يسيطر بالقهر والغلبة يحقّق البنود المذكورة في هذا النصّ أفيصبح هذا الأمير عندئذٍ مُحقّا في أمارته ؟ أو ليست حقّانيّته منافية لما يؤمن به هذا المستدل من أن حقّ الحكم للناس يقلّدونه من يشآؤون؟! وهل كان حكم معاوية والذي هو مورد هذا النص من هذا القبيل؟! أم هل عمل الحكَمان حقّا بالانتخاب بالنيابة عن الناس حتى ورد هذا الكلام من قبله عليه السلام ردّا على الخوارج الذين رفضوا نفوذ حكم الحَكَمين؟! أو ليس التأريخ حدّثنا بشكل قطعي عن خيانة الحَكَمين أو تزوير عمرو بن العاص على أبي موسى الأشعري؟!
ثم إننا إلى هنا كان هدفنا إبطال شبهات مهدي الحائري في ولاية النبي والإمام، ولم نكن بصدد إثبات ولاية النبي والإمام والتي تعتبر لدى الشيعة من الواضحات، إلّا أننا أشرنا بالمناسبة إلى بعض الآيات التي تدلّ على ولاية النبي، وبتبع علمنا بقيام الإمام مقامه دلّت على ولاية الإمام أيضا وهي قوله تعالى: النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقوله تعالى: أطيعوا اللَّه وأطيعوا الرسول واُولي الأمر منكم وطبعا المتيقن من اُولي الأمر بعد النبيّ صلى الله عليه واله هم الأئمة: وقوله تعالى: ما كان لمؤمن ولا مؤمنةٍ إذا قضى اللَّه ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم.
ونحن نتعدّى من النبيّ والإمام في الولاية إلى الفقيه في عصر الغيبة بالتوقيع المرويّ عن الحجّة عجّل اللَّه تعالى فرجه: (أمّا الحوادث الواقة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجّتي عليكم وأنا حجّة اللَّه عليهم).
وقد تكلّمنا عن تفصيل الاستدلال بهذا الحديث على ولاية الفقيه في كتابنا أساس الحكومة الإسلامية وكتابنا ولاية الأمر في عصر الغيبة، ولسنا هنا بصدد تكرار ما مضى في الكتب السابقة.
وقد أورد مهدي الحائري على الاستدلال بهذا التوقيع لولاية الفقيه بأنّنا يجب أن نفهم أوّلا ما معنى الحجّة في هذه الرواية، وهل كلمة: الحجّة أو الحجيّة تشتمل على معنى إدارة البلاد؟
فنقول: قد ذكروا للحجّة عدّة معانٍ:
1 ـ الحجّة بمعنى الدليل، فإنْ قصد بالدليل البرهان المنطقي كان معنى ذلكالقياس البرهاني المشتمل على الصغرى والكبرى والنتيجة مع فرض الصغرى والكبرى من اليقينيّات.
2 ـ الدليل العيني، وهو غير الدليل اللفظي بمعنى القياس الذي ذكرناه فيالمعنى الأوّل، وذلك من قبيل العلّة التي هي دليل لمّي على المعلول، أو المعلول الذي هو دليل إنّي على العلّة.
3 ـ الحجّة بالمعنى الذي يكون موضوع علم اُصول الفقه أو قل: هو العرضالمحمول في علم الاُصول على ذات الحجج، فيقال: الشهرة حجّة في الفقه، والاستصحاب كذلك، والكتاب والسنّة والإجماع كذلك، وما إلى ذلك.
4 ـ أفاد الشيخ الأنصاري؛: أنّ الحجّة بمعناها الاُصولي تعني الحدّ الأوسطالمثبت للأكبر على الأصغر.
5 ـ أفاد اُستاذنا الأعظم أنّ الحجّة التي يبحث عنها الفقيه في علم اُصول الفقه هو ما يحتجّ به العبد على المولى والمولى على العبد في الطاعة والعصيان، وكلّ من يعتبر مسؤولا مع من يعتبر أعلى منه ووليّا عليه دينيا أو أخلاقيا أو اجتماعيا، فمثلا من يعتقد بحجيّة الاستصحاب اجتهادا أو تقليدا وأثبت الاستصحاب حكما إلزاميا عليه وخالف كان للَّه تعالى أن يحتجّ عليه بالاستصحاب، ولو نفى الاستصحاب الإلزام عنه فترك وكان الإلزام ثابتا في علم اللَّه تعالى كان للعبد أن يحتج بهذا الاستصحاب كعذر لتركه ونحو ذلك سائر الحجج لعلم الفقه التي ثبّتوا حجّيتها في علم الاُصول، بل وحتّى القطع فإنّه حجّة يحتجّ به اللَّه على عباده وبالعكس، فحجيّة القطع تعتبر من مسائل علم الاُصول خلافا للمحقّق الخراساني؛.
والحجة في التوقيع الماضي تكون بهذا المعنى الأخير، فكما أنّ كلام الإمام في الأحكام الكلية الشرعية حجة يحتج به المولى على العبد وبالعكس، كذلك الحال في فتوى الفقيه، وبما أنّنا أوضحنا أنّ المسائل الجزئية السياسية والحكومية المتغيّرة من زمان إلى زمان ليست داخلة في الفقه الذي يكون كلام الإمام فيه حجة بين العبد والمولى ففتوى الفقيه أيضا كذلك، فعلى كل حال نقول: إنّ الأحكام الفقهية إن هي إلّا أحكاما كليّة ثابتة. أمّا الجزئيات المتغيّرة فلا يمكن أن ترتبط بالفقه والفقيه.
وأساسا مسألة ربط الحادث بالقديم التي تعتبر من المسائل صعبة العلاج في فلسفة ما وراء الطبيعة عبارة عن ربط المتغيّرات بالثوابت: والارتباط الوحيد الذي يمكن أن يفترض بين الفقاهة والسياسة إنما هو ارتباط المفهوم بالمصداق أو الكليّ بالجزئي، ومقام الفقاهة إنّما هو مقام تشخيص الكبريات، أمّا تشخيص المصاديق والموضوعات الجزئية ومتغيّرات الطبيعة فلا امتياز للفقيه على غير الفقيه في ذلك
أقول: أمّا ما جاء في ذيل كلامه من ربط المقام بمسألة ربط الحادث بالقديم أو المتغيّر بالثوابت فمن أطرف الاُمور، فإنّ المقصود بما في بحث فلسفة ما وراء الطبيعة هو ربط الحادث بالقديم أو المتغير بالثابت في العلّية التكوينية لا في التشريعات، إلّا أنْ يقول: إنّ مسألة ربط الحادث بالقديم هو البطون، ومسألة ربط الجزئيات المتغيرة بالكبريات الثابتة في الفقه هو الظهوركما قال في ما سبق: إنّ الجبر الفلسفي هو البطون، والجبر الاجتماعي والسياسي هو الظهور.
وأما أصل إشكاله على الاستدلال بالتوقيع فقد رجع في الحقيقة إلى نفس مطالبه السابقة حول عدم إمكان شمول التشريع السماوي للسياسة المتغيرة، وقد عرفت الجواب عن ذلك مفصّلا.
وخلاصة الكلام: أنّ الأحكام الفقهية وإن كانت أحكاما كلّية وثابتة في حين أنّ القضايا السياسية خارجية وجزئية ومتغيّرة، والفقيه حينما يُبدي فتاواه الفقهيّة لا علاقة له في تلك الفتاوى بالجزئيات الخارجية والمتغيّرات، وشأنه فيها شأن أيّ إنسان آخر، لكن من جملة المسائل الكلية التي لابدّ من البحث عنها في الفقه أنّه هل للفقيه ولاية في تلك القضايا الجزئية أو لا ؟ فإن ثبت بالبحث أنّ له الولاية فيها أصبحت هذه الكبرى هي الرابط بين سائر الكبريات الفقيهة في القضايا الاجتماعية وتلك السياسات الجزئية المتغيّرة، وقد عرفت حجّية كلام النبيّ والإمام في هذه الجزئيات والأحكام الحكومية والولائية بحكم الآيات الثلاث المباركات التي شرحناها، وقد دلّ التوقيع الشريف على قيام الفقيه مقام الإمام في كل ما كان الإمام حجّة فيه، فتثبت بذلك ولاية الفقيه في تلك الأحكام الحكومية كما تثبت بذلك حجّيّة رأي الفقيه، أي فتاواه في الأحكام الكلية الإلهية، والاحتجاج بكلام النبيّ والإمام بين العبد والمولى ثابت في الأحكام الإلهية والولائية معا.
وصحيح أن الصغريات السياسية والمتغيرة لا تعطى من قبل الكتاب أو السنّة، ولا من قبل فتاوى الفقهاء، ولكن أصل أنّه من هو الذي يجب أن يميّز تلك الصغريات ويدير اُمور البلاد وفق ذاك التمييز أمر كلّيّ له حكم إلهيّ يجب أن يعطى من قبل الفقه والشريعة. وهذه الكبرى هي حلقة الوصل بين باقي كبريات الفقه والسياسة في ما تطبَّق على السياسة تطبيق الكبرى على المصاديق، ولا أقصد بذلك أن الفقيه لابدّ وأن يفتي بمبدأ ولاية الفقيه وإنّما أقصد بذلك أنّ الفقيه لابدّ وأن يفتي بمبدأ للولاية سواء ينتهي أمر اجتهاده إلى مبدأ ولاية الفقيه أو ينتهي إلى مبدأ حكم المجتمع وولايته على الأفراد، أو الى أيّ مبدأ آخر، وذلك لما مضى منّا من أنّ المجتمع كمجتمع غير الأفراد كأفراد مستقلين، فعلى كل تقدير لا يتم الاتحاد بين الولي والمولّى عليه، فنكون على كل حال بحاجة إلى ولاية شرعية، وبما أنّنا عبيد للَّه تعالى لابدّ أن نعرف حكم اللَّه في تشخيص تلك الولاية بدليل عقليّ أو نقلي. فإنّه ما من واقعة إلّا ولها حكم، وأصل الحكم والحكومة ممّا لابدّ منه لدى جميع العقلاء عدا رأي شاذّ نقل عن الشيوعيين بلحاظ ما بعد زمان فرض وصول المجتمع إلى الشيوعية المحض فلابدّ أن نعرف أن الحكم والحكومة لمن؟ وعليه فإنكار ولاية الفقيه لا يحلّ مشكلة ما هو الارتباط بين الكبريات الفقهية والسياسة؟ لأنّ من ينكرها لا يمكنه أن ينكر أصل الضرورة إلى الحكومة، ومن فرض أن الحكومة هي المجتمع لا يمكنه افتراض أنّ المجتمع عين الأفراد المستقلين، فانتهى بالنتيجة إلى ولاية مّا ولو للمجتمع كمجتمع على الأفراد في تصرفاتهم الاجتماعية أو قل: ولاية الأكثرية على المجتمع وذلك عن طريق الانتخاب الذي هو أيضا واقعة من الوقائع يجب على العبد المؤمن أن يعرف رأي الشرع فيه.
|