متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
تفصيل المبنى الرابع: هو أنّ الفقيه قد اُعطي الولاية العامّة من قبل المعصوم‏ ووكالة عنه
الكتاب : المرجعية والقيادة    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

تفصيل المبنى الرابع

هو المبنى الذي بنى عليه السيد الإمام الخميني وهو أنّ الفقيه قد اُعطي الولاية العامّة من قبل المعصوم ووكالة عنه

 

وهو مبنى الإيمان بولاية الفقيه لا على أساس الانتخاب ورأي الأكثريّة، بل على أساس نصّ الإمام المعصوم (عليه السلام) على الفقهاء، وهو الذي جعلهم وكلاء له، وبإمكانهم النهي والأمر لأنّهم وكلاء عن المعصوم (عليه السلام).

وهذا المبنى هو المبنى الذي يتبنّاه سماحة الإمام الخميني (قدس سره)[1].

 

الروايات التي استدّل بها على هذا المبنى

وقد استدّل على هذا المبنى بروايات منها:

الرواية الأولى:

وهي مقبولة عمر بن حنظلة: «عن عمر بن حنظلة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دَين أو ميراث فتحاكما إلى السلطان وإلى القضاة، أيحلّ ذلك؟

قال (عليه السلام): من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتاً، وإن كان حقّاً ثابتاً له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت، وقد أمر الله أن يكفر به، قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}.

قلت: فكيف يصنعان؟

قال (عليه السلام): ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخف بحكم الله وعلينا ردَّ، والرَّادُّ علينا الرادٌّ على الله وهو على حدّ الشرك بالله... إلخ»[2].

وقد فسّر العلماء قوله (عليه السلام): ممن روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا أنّ المراد منه هو الفقيه.

واستفادوا من عبارته (عليه السلام): (فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً) أي قد جعلته عليكم ولياً، فهو ولي أمركم وأمره نافذ فيكم.

ولا يرد على ذلك أنّه كيف تكون للفقيه ولاية مع وجود المعصوم (عليه السلام)، وذلك لأنّ المقصود من كلامه (عليه السلام) هو الوكالة والنيابة للفقهاء.

وقد قال البعض أنّ هذه الولاية المذكورة في الرواية لا علاقة لها بالولاية العامّة وإنّما هي مختصّة بالقضاء.

إلاّ أنّ الإمام الخميني (قدس سره)، يستظهر من الرواية أمر الولاية العامّة، ببيان هو:

إنّ الرجوع إلى الحاكم لدى النزاع يمكن تصوّره على نحوين:

الأول: أنّ يكون الرجوع إلى الحاكم لأجل أن يبيّن الجهة التي لها الحق والتي عليها، وهذا هو ما يسمّى (بالقضاء).

الثاني: أنّ المراجعة قد لا تكون بصدد معرفة الجهة التي لها الحق والتي عليها، وإنّما بصدد إرغام من عليه الحق (الظالم) ليؤدّيه.

وهذا العمل ــ أي الأخذ بالقهر والغلبة والقوة ــ غير مربوط بالقاضي إذ أنّ تكليفه هو تحديد الحقّ ومن له ومن عليه وحسب، أمّا أخذ الحقّ بالقهر والغلبة فهو من شؤون الوالي والأمير.

ويؤكّد الإمام الخميني أنّ الرواية مطلقة في الرجوع إلى الفقيه، في كلا نوعي الرجوع، إذ يرجع إليه في تعيين الحق كما يرجع إليه في تنفيذ أمر القاضي.

وعلى هذا فإنّ المستفاد من الرواية أنّ كلا الموقعين أي موقع القضاء، وموقع الولاية، هما من اختصاص الفقهاء.

الرواية الثانية:

عن عبد الله بن جعفر الحميري بسند صحيح، قال: «اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو (رحمه الله) ــ أي عثمان بن سعيد العمري ــ عند أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمّي، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلَف. فقلت له: يا أبا عمرو إنّي أريد أن أسألك وما أنا بشاك فيما أريد أن أسألك عنه، فإنّ اعتقادي وديني أنّ الأرض لا تخلو من حجة إلاّ إذا كان قبل القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رفعت الحجّة وغُلّق باب التوبة فلم يكن ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً، فأولئك أشرارٌ من خلق الله عزّ وجلّ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة ولكن أحببت أن ازداد يقيناً، فإنّ إبراهيم (عليه السلام)سأل ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى، فقال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئنَّ قلبي، وقد أخبرني أحمد بن إسحاق أبو علي عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: سألته فقلت له لمن أعامل وعمن آخذ؟ وقول من اقبل؟ فقال له: العمرىُّ ثقتي فما أدّى إليك فعني يؤدِّي، وما قال لك فعني يقول، فاسمع له وأطع فإنّه الثقة المأمون.

قال وأخبرني أبو علي أنّه سأل أبا محمّد الحسن بن علي، عن مثل ذلك فقال له (عليه السلام): العمريُّ وابنه ثقتان، فما أدَّيا إليك فعني يؤدِّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان. فهذا قول إمامين قد مضيا فيك «الهادي والعسكري».

قال: فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكى، ثم قال: سل. فقلت له: أنت رأيت الخلَف من أبي محمّد (عليه السلام)، فقال: أي والله ورقبته مثل ذا وأمأ بيديه، فقلت له: فبقيت واحدة، فقال لي: هات، قلت: فالاسم، قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، وليس لي أن اُحلِّل واُحرِّم ولكنّ عنه (عليه السلام)، فإنّ الأمر عند السلطان أنّ أبا محمّد (عليه السلام) مضى ولم يخلّف ولداً، وقُسّم ميراثه وأخذه من لا حقّ له وصبر على ذلك، وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتقوا الله وامسكوا عن ذلك»[3].

وفي رواية أخرى جاء: «عن أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن (عليه السلام)قال: سألته وقلت: من أعامل؟ وعمّن أخذ؟ وقول من أقبل؟ فقال (عليه السلام): العمري ثقتي، فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنّه الثقة المأمون»[4].

فالذي يستفاد من  قوله (عليه السلام):

«العمري ثقتي، فما أدّى إليك عني فعني يؤدّي وما قال عنّي فعني يقول، فاسمع له  وأطع».

وكذلك من قوله (عليه السلام): «العمري وابنه ثقتان، فما أدَّيا إليك فعني يؤدِّيان وما قالا لك فعني يقولان، فاسمع لهما وأطعهما فإنّهما الثقتان المأمونان». إنّ العمري وابنه واجبا الطاعة لأنّهما فقيهان، ثقتان.

ولكني أرى أنّ هذه الرواية غير تامّة الدلالة؛ لأنّ التفريع في السمع وجعل الطاعة لهما راجع إلى قبول رواية وفتوى العمري وابنه. فكأنّ الرواية تريد أن تقول: اسمعوا واطيعوا العمري وابنه فيما ينقلانه عن الإمام، أي في الرواية والفتوى.

فالمقام إذن مقام توضيح حقّ الرواية والفتوى للفقيه الثقة ووجوب السمع والطاعة له في ذلك لا مقام بحث الولاية والإمرة له، وأنّه هل من حقّه وهل تجب طاعته في الأوامر والنواهي الولائيّة أم لا؟

وهناك فرق بيّن بين مقام الفتوى ومقام الولاية، إذ مقام الفتوى هو مقام الإيضاح عن حكم الله تعالى الوارد عن المعصوم (عليه السلام).

أمّا مقام الولاية، فهو مقام يمنح صاحبه بما هو ولي للأمر حقّ إنشاء الأمر والنهي، فهو يأمر وينهى، اعتماداً على دلالة الآية {وأطيعوا اللهَ وَأطيعُوا الرسولَ وَأولي الأمرِ مِنكُم...}.

والظاهر من الرواية ــ كما سبق ــ أنّ لا علاقة لهما بمقام الولاية للفقيه بل تتحدّث عن مقام الفتوى له.

الرواية الثالثة:

ما رواه الكليني (قدس سره) عن إسحاق بن يعقوب الكليني، قال: «سألت محمّد بن عثمان العمريَّ (رضي الله عنه) أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان (عج)، قال: أمّا ما سألت عنه أرشدك الله وثبّتك من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا وبني عمّنا فاعلم أنّه ليس بين الله وبين أحد قرابة، ومن أنكرني فليس مني وسبيله سبيل ابن نوح (عليه السلام)، أمّا سبيل عمّي جعفر وولده فسبيل اُخوة يوسف. أمّا الفقاع فشربه حرام، ولا بأس بالشلماب. وأمّا أموالكم فلا نقبلها إلاّ لتطهروا فمن شاء فليصل ومن شاء فليقطع فما آتاني الله خير مما آتاكم. وأمّا ظهور الفرج، فإنّه إلى الله تعالى ذكره، وكذّب الوقّاتون.

وأمّا قول من زعم  أنّ الحسين (عليه السلام) لم يقتل فكفر وتكذيب وضلال.

وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجّتي عليكم وأنا حجّة الله عليهم»[5].

والشاهد في قوله (عج) (فإنّهم حجتي عليكم...)، أي أنّ هؤلاء هم بدل عني ووكلاء لي، ففي كل ما أنا فيه حجة، هم فيه حجة أيضاً. وهذا هو معنى إعطاء الوكالة والنيابة العامّة، والولاية العامّة للفقهاء على الأمة.

 

الإشكالات الواردة على الرواية ومناقشتها

وعمدة الإشكالات على هذه الرواية هي:

الأول: قد يقال بأنّ قوله (عج): (فارجعوا..) ظاهر في الأمر بانتخاب الفقيه وأنّ الانتخاب بيدكم ، أي بيد الأمة.

فالأمة ترجع إلى الفقهاء وتنتخبهم، وبعد رجوعها إليهم وانتخابها لهم تتحقّق الولاية لهم وليس قبل ذلك.

الثاني: قد يقال بأنّ (الألف واللام) في كلمة (الحوادث)  هي (ألف ولام) العهد. فهي تشير ــ حينئذ ــ إلى الحوادث التي كتبها ذلك الرجل وسأل الإمام (عج) عنها، لا أي حادثة أخرى.ولأنّنا لا نعرف بالضبط ما هي الحوادث التي سأل ذلك السائل عنها، فهل سأله عن جميع الحوادث الواقعة والتي ستقع بعد ذلك ليدلّ جوابه (عج) على الولاية العامّة للفقهاء. أم سأله عن بعضها ليدلّ جوابه (عج) على غير الولاية العامّة لهم، فالنتيجة تتبع أخسّ الاحتمالات ولا تثبت بذلك الولاية العامّة.

الثالث: وهو مستفاد من كلمة (رواة حديثنا) ولعلّنا أشرنا ــ سابقاً ــ إلى أنّ المراد بالرواة ليس كل من يحفظ لفظ الرواية ويرويها، بل المقصود بها الفقيه الذي يعرف عامّها من خاصّها ومطلقها من مقيّدها، وناسخها من منسوخها وضعيفها من قويّها وصحيحها من سقيمها وإلاّ لكان حال الراوي كحال أي كتاب مطبوع.

وخلاصة الإيراد هنا هو، أنّ الرجوع إلى (رواة الحديث) أي الفقهاء يعني الرجوع إليهم بما هم رواة لأحاديث أهل البيت، وفي الأمور التي تختصّ بالرجوع إلى الروايات لا في كل شيء. فلا تدلّ الرواية حينئذ على (الولاية العامّة) للفقهاء.

إلاّ أنّ هذه الإشكالات غير تامّة، وجوابها هو:

الجواب على الإشكال الأول:

هو الإشكال القائل بأنّ المراد من كلمة (ارجعوا) أي أنتم تشخّصون وتنتخبون من ترونه صالحاً للولاية من الفقهاء. وبعد ذلك تكون له الولاية عليكم وليس قبل ذلك.

وجواب هذا الإشكال هو: أننا لا نتمسّك بكلمة (ارجعوا) بل دليلنا هو عبارة (فإنّهم حجتي عليكم...) فقد علّل الإمام (عج) الرجوع إلى الفقهاء بأنّهم حجته (عج) على الناس، فالرجوع إذن معلول لحجيتهم على الناس. وعلى هذا فإنّ الولاية ثابتة لهم قبل الرجوع إليهم ولا يتصوّر أن تكون متوقّفة عليه، إذ كيف يمكن تعقّل توقّف العلّة على معلولها وسبقه لها وتقدّمه عليها.

الجواب على الإشكال الثاني:

وهو الإشكال القائل بأنّ المراد بــ (الحوادث الواقعة) هو خصوص الحوادث المكتوبة في كتاب إسحاق بن يعقوب إلى الإمام. ولا نعلم علماً تفصيلياً بها وهل هي كل الحوادث الواقعة والتي ستقع فتكون ولاية الفقهاء عامّة أم بعضها فلا تدلّ على ولايتهم العامّة؟

فجواب ذلك: إنّنا نتمسّك بإطلاق الجواب وعموم التعليل الذي أورده الإمام (عج) بقوله (.. حجتي عليكم..) فالرجوع معلول لحجيتهم علينا. ولا يهمنا بعد ذلك، ما هي الحوادث تلك التي وردت في رسالة إسحاق بن يعقوب، لأنّ المورد لا يخصّص الوارد.

ومثل هذا ما لو قال الطبيب: لا تأكل الرمّان لأنّه  حامض.

فإنّنا نستفيد من ذلك النهي عن كل حامض لا عن الرمّان بما هو رمّان، وبناءاً على هذا القول: كل حامض ممنوع.

الجواب على الإشكال الثالث:

وهو القول بأنّ الرجوع إلى (رواة الحديث) أي الفقهاء بما هم رواة لأحاديث أهل البيت، وفي الأمور التي تختصّ بالرجوع إلى الروايات لا في كل شيء، هذا القول، قول يرد إذا اقتصرنا في فهم الرواية على معناها اللفظي فقط وقلنا بأنّ حيثيّة (رواة الحديث) هي حيثية تقييديّة لا حيثية تعليليّة. أي ارجعوا إلى الفقهاء في خصوص الروايات لأنّهم رواة لأحاديثنا. إلاّ أنّه لا يكفي في فهم معنى الرواية معناها اللفظي فقط، بل لابدّ من ملاحظة ظرف صدور الرواية أيضاً.

وعلى هذا فإنّ ظرف صدور هذا الحديث الشريف هو عصر الغيبة.

وفي هذا الظرف، يحسّ الفرد الشيعي، بأنّ وليّه المعصوم (عليه السلام) قد غاب عنه، وهو يعيش حالة اليتم لفقده وليّه ولا ملجأ له ولا مرجع. وعندئذ، يسأل الإمام (عج) عن المرجع بعه؟ فيجيبه الإمام (عج): (ارجعوا إلى رواة حديثنا).

وحينئذ وفي مثل هذا الظرف، لا نفهم من قوله (عج) (ارجعوا إلى رواة حديثنا) أنّ الرجوع يكون إليهم في ما يرتبط بالروايات فقط، بل في كل ما يخصّ الإمام (عج). ومما يؤكّد إرادة هذا المعنى، ما ورد في ذيل الرواية (.. وأنا حجة الله عليهم..)، ومثل هذا ما لو أراد أحد السفر الطويل وله أموال، ونحن بصدد تعامل ما معه. فلو قال مثل هذا الرجل (ارجعوا إلى فلان فإنّه وكيلي) فإنّنا لا نفهم منه بأنّه وكيله بشأن هذا التعامل الخاصّ الذي بيننا وبينه فقط. وإنّما نفهم من كلامه ووفق ظروفه الخاصّة وهي ظرف السفر الطويل، بأنّ هذا الوكيل هو وكيل عنه في كل أمواله.

والخلاصة: أنّ ما يفهم من الرواية وعلى وفق ظروف صدورها هو تلك الولاية العامّة للفقهاء ولا تكون حينئذ حيثيّة (الرواية عنهم (عليهم السلام)) حيثيّة تقييديّة بل حيثيّة تعليليّة.

ولا يضعّف هذا، وجود النّواب الخاصّين للإمام المهدي (عج) زمن الغيبة الصغرى، فيقال بأنّه لا ولاية عامّة لغيرهم.

إذ يبدو ومن خلال تتبّع  تاريخ تعامل الأئمة (عليهم السلام) مع شيعتهم أنّهم قد مهّدوا للنيابة العامّة للفقهاء منذ زمن العسكريين (عليهما السلام) زمن الغيبة الصغرى، كي لا تفاجئ صدمة الغيبة الكبرى شيعة أهل البيت مما قد يؤدّي إلى ارتداد كبير وارتباك في أوساطهم.

 

الجواب على الإشكالات الأخرى

ومن الإشكالات الأخرى التي ترد على هذا الحديث الشريف إشكال سندي بشأن (إسحاق بن يعقوب) فإنّ سند الحديث ينتهي إليه ولابدّ من إثبات وثاقته ليتمّ السند بذلك.

لكنّنا بخصوص إثبات صحّة صدور هذا التوقيع وأنّه كان بخطّ الإمام (عج) ينبغي أخذ ظروف صدور الحديث بنظر الاعتبار.

ومن هذه الظروف، أنّ الإمام الهادي والإمام العسكري والإمام الحجة (عليهم السلام) كانوا يخطّون بخطّ واحد، وفي هذا حكمة ربانيّة واضحة.

ومدّعى الراوي هو: أنّ التوقيع كان بخطّ الإمام (عج)، ويطرح هذا الادّعاء على مثل الكليني (رحمه الله) من دون أن يخشى احتمال مطالبة الكليني إيّاه لإرادة الخط مع عدم إمكان تزوير خطّه على اتباعه وشيعته الموثوقين لمعرفتهم به، ووضوحه عندهم؛ لأنّه خطّ تعاملوا معه طيلة حياة ثلاثة أئمة (عليهم السلام).

والناقل هو الكليني (قدس سره)، وهو ثقة لا يشكّ فيه ولا يمكن أن ينقل الحديث عن التوقيع الشريف قبل أ ن يتحقّق من ذلك. خصوصاً مع قدسيّة خطّه (عليه السلام) وقدسية التوقيع لدى الشيعة وقتئذ وأهميته، وضرورة معرفة صحّة صدوره آنذاك، وسهولة معرفة خطّه (عج) عن غيره، وسهولة كشف صدق التوقيع وكذبه كذلك.

وهذه أمور كان يدركها ويدرك أهميتها الكليني (قدس سره) وبقدر كاف.

 

الإشكال المشترك وأجوبته

وهناك إشكال مشترك، يرد على هذه الرواية، وعلى غيرها من الروايات التي تثبت الولاية للفقهاء، وهو مسألة تعدّد الفقهاء.

حيث يقال: مع تعدّد الفقهاء المتصدّين، وغالباً ما يكون الأمر كذلك، كيف يمكن افتراض تنصيبهم كلهم من قبل الإمام (عليه السلام) للولاية العامّة من دون أن يكون ذاك مؤدّياً إلى فساد الوضع العام وكيف يمكن تماسك هذا الوضع في مثل هذه الحالة؟!

فهل يكون منصب الولاية ثابتاً لأحدهم؟ وهذا ترجيح بلا مرجّح.

أم هل يكون المنصب لكلهم وفي عرض واحد؟ وهذا هو الذي يؤدّي إلى التعارض والفساد.

والجواب الابتدائي على هذا الإشكال هو أن نقول: لو أنّ الفقهاء الذين استعدوا للتصدّي كانوا متعدّدين، فإنّ تعدّدهم هذا لا يعني تعدّد المتصدّين بل تعدّد مستعدي التصدّي، وحينئذ، قد يتصدّى أحدهم ويكتفي بذلك، مع ثبوت الولاية لهم.

ومع افتراض أنّ الفقهاء المتصدّين قد تعدّدوا، فإنّ أول ما نذكره وكبداية للجواب هو أن نتحوّل قهراً إلى مبدأ (شورى القيادة)[6] ، وتتمّ حينئذ تمشية الأمور وفق رأي الأكثريّة.

وهذا باعتبار ثبوت القيادة لكل واحد منهم في عرض ثبوتها للآخر.

وهناك من يحل الإشكال عن طريق الانتخاب فالفقيه الذي حاز أكثريّة الأصوات يكون هو الولي دون الآخرين، ولكن في حالة انقسام الأكثريّة المصوّتة إلى قسمين متساويين أو ثلاثة أقسام متساوية لفقيهين أو ثلاثة فقهاء فعندئذ ننتهي إلى شورى الفقهاء.

ثم إنّنا نقول: إنّ لدينا دليلين من أدلّة النصّ قد يترائى أنّهما متعارضان ولا بدّ من الجمع بينهما بغض النظر عن أدلّة الانتخاب وهما:

1 ــ قوله (عليه السلام): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم..»[7].

2 ــ النصوص التي استعرضناها سابقاً والتي يظهر منها أنّ من يلي أمر المسلمين يجب أن يكون أفضلهم، من قبيل قوله (صلى الله عليه وآله):

ــ «ما ولّت أمة أمرها رجلاً قطّ وفيهم من هو أعلم منه إلاّ لم يزل أمرهم يذهب سفالاً حتّى يرجعوا إلى ما تركوا»[8].

ــ وفي أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام): «.. الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدلٌ، ولا له مثل ولا نظير...»[9].

وقلنا سابقاً أنّ هذه الروايات على قسمين، قسم ورد في (الوالي) وقسم ورد في (الإمام) بمعناه المصطلح عند الشيعة.

وقلنا حتّى الروايات الواردة في المعصوم (عليه السلام)، فإنّها وإن كانت كذلك إلاّ أنّها كانت واردة أيضاً بصدد شجب ولاية خلفاء الجور، فتحمل ــ إذن ــ على قاعدة عرفيّة عقلائيّة وهي: من يلي أمور المسلمين يجب أ ن يكون أفضلهم.

غاية ما في الأمر أنّه في زمن المعصوم (عليه السلام) يكون هو ولي الأمر لتحقّق الأفضليّة فيه دون غيره.

وعلى كل حال، فهل النصب العامّ الذي يستفاد من قوله (عليه السلام): (... فإنّهم حجتي عليكم...) هو الصحيح أم انحصار الولاية بالأفضل وهو ما يستفاد من جملة من الروايات عنهم (عليهم السلام) هو الصحيح؟

إنّ الجمع بين الدليلين يمكن أن يتمّ لو قلنا بانّ الإمام (عج) حينما قال: (فإنّهم حجتي عليكم...) لم يكن يقصد حصر قوله في فرض دولة إسلاميّة وإنّما كان ينظر أيضاً إلى حالات عدم وجود دولة إسلاميّة صحيحة، كأمثال تدخّل الفقهاء في الأمور الموضعيّة والجزئيّة وعلى مستوى الأمور الحسبيّة التي درج الفقهاء التدخّل فيها. وحينئذ، وفي مثل هذه الحالات، لا توجد حالة تزاحم في إعمال الولاية لأكثر من فقيه، فكل فقيه يُعمِل ولايته في دائرة حدود منطقته وتابعيه فيقوم بأعمال الإرشاد والنهي وتولّي الأمور الحسبيّة ولا يضر ــ في مثل هذه الحالة ــ وجود الأفضل.

وأمّا في حالة إقامة الدولة الإسلاميّة، فإنّ من يلي الأمور يجب أن يكون الأفضل بدلالة ما استظهرناه من جملة من الأحاديث كقوله (عليه السلام): (ما ولّت أمة أمرها رجلاً..) الحديث.

فتحصّل، أنّ الإطلاق في قوله (عليه السلام): (فإنّهم حجتي عليكم..) قد خصّصته مثل هذه الروايات التي يستظهر منها إرادة ولاية الأفضل على الناس في زمن قيام دولة الحقّ.

وبناءاً على هذا، فإنّ الأفضل هو الذي تتعيّن قيادته للأمة، وذلك بناءاً على اختيار الأمة له اختياراً كاشفاً لا اختياراً مانحاً للولاية.

ويتمّ هذا الاختيار وفق مقياس الأفضليّة المتعارف عليه في مثل هذه الحالات، ولا يمكن أن يكون المتصوّر هو وجوب إصابة الواقع في تعيين الأفضل وبصورة قاطعة وإلاّ لما صحّ الاختيار لأنّ هذا الأمر غير ممكن إلاّ في حالات التعيين السماويّة، كما في النصّ على الإمام المعصوم (عليه السلام).

فالمفروض أن يكون العامل في تعيين الأفضل هو تعيين من يتراءى بشكل عامّ من الفقهاء هو الأفضل.

وهذا معناه الرجوع إلى الأمة في تعيين الأفضل ومن لم تثق الأمة بأفضليّته لا يمكنه أن يفرض نفسه بالقهر والغلبة عليها. وبهذا المعنى من الاختيار يكون الانتخاب ثابتاً للأمة.

فالانتخاب ــ إذن ــ كاشف عن الولاية لا خالق لها، إذ أنّها ثابتة في الواقع، ولا يرجع إلى الأمة إلاّ في مقام تشخيص الولي الواقعي لها. وهذه الفكرة هي غير فكرة أنّ الولاية مصدرها ابتداءاً هو الانتخاب، كما هو واضح. ومع هذا تبقى مشكلة تعدّد الفقهاء قائمة، وهذا الحلّ لا يحلّها تماماً بل يضيّق دائرة المشكلة ويحدّدها بالفقهاء الذين استطاعوا تحصيل ثقة الأمة بهم، في حالة تعدّدهم. ثمّ في هذه الدائرة الضيقة تصل النوبة إلى شورى القيادة مرّة أخرى.

على أنّ شورى القيادة أيضاً لا تحلّ الإشكال نهائياً؛ لأنّ شورى القيادة لو كانت عمليّة فإنّما تكون عملية بين عدد من الفقهاء الذين عرفنا بالانتخاب أنّ الأمة وضعت ثقتها فيهم، في حين أنّ هذا لا يعني بالمرّة أنّ من لم تنتخبه الأمة من الفقهاء فإنّه غير موثوق به قطعاً فليست له الولاية.

والصحيح في الحلّ: أنّ دليل ولاية الفقيه بعد تقييد إطلاقه بكلّ ما افترض وروده من القيود في الأدلّة الأخرى من الأفضليّة أو غيرها يدلّ على ضرورة رجوع الأمة في أمر ولايتها إلى فقيه مّا على سبيل الإطلاق البدلي لا الشمولي، فإنّ مناسبات الحكم والموضوع تناسب في الولاية البدليّة لا الشموليّة المنتهية إلى التعارض والتساقط، كما أنّ مناسبات الحكم والموضوع في (توضّأ بالماء) تناسب البدليّة إذ لا معنى للوضوء بكلّ المياه، والإطلاق البدلي يعني التخيير، والتخيير في الخطاب المتوجّه إلى الفرد كما في (توضّأ بالماء) معناه تخيير الفرد وفي الخطاب المتوجّه إلى الأمة كما في الأمر بالرجوع إلى الفقهاء معناه تخيير الأمة، وتخيير الأمة كأمة، لا معنى له إلاّ الأخذ برأي الأكثريّة بالانتخاب، إلاّ أنّ هذا لا يعني نفي ولاية أحدهم لو تصدّى وحده للأمور قبل الانتخاب؛ لأنّ المفروض ثبوت الولاية قبل الانتخاب، وإنّما الانتخاب أصبح علاجاً لمشكلة التشاحّ.

 

الجمع بين المبنيين الثالث والرابع

لو أنّ أحداً رأى تماميّة دليل كلا المبنيين الثالث والرابع أعني النصّ الدالّ على ولاية كلّ فقيه جامع للشرائط ابتداءاً وأدلّة الانتخاب فهنا يواجه مشكلة التعارض بين الدليلين.

فالنصّ يؤشّر إلى أنّ كل الموثوق بهم من الفقهاء هم أولياء. والانتخاب يؤشّر إلى أنّ أحدهم هو الولي دون غيره فكيف يتمّ الجمع بينهما؟.

الحل المقترح هو أنّ مبدأ النصّ قد جعل كل الفقهاء الموثوق بهم أولياء وفي عرض واحد وليس لأحدهم ولاية على الآخر. فالوالي ولي الناس ما عدا الفقهاء، وأمّا الفقهاء فليست لأحدهم ولاية على الآخر، بل كلهم في عرض واحد.أمّا الانتخاب، فإنّه جعل دائرة الولاية للفقيه التي تتولّد له نتيجة انتخابه هي دائرة أوسع من دائرة ولاية النصّ.

فمن انتخب من الفقهاء من قبل الأمة يصبح ولياً حتّى على غيره من الفقهاء.

وإذا أصبح الفقيه الآخر مولى عليه فإنّ له حقّ الولاية في حدود ما لا يتعارض مع ولاية الولي العامّ. وبالتالي تصبح وظيفته أن يسكت في دائرة ولاية ذلك الفقيه المنتخب ولا يُعمِل ولايته ضمنها.

وحتّى لو اعتقد الفقيه غير المنتخب بأنّه هو الأكفأ وهو الولي الواجد للشرائط دون ذلك المنتخب، فلا يحقّ له إعمال ولايته وفق هذه الرؤية والاعتقاد، لأنّ هذا الإعمال والتصدّي للولاية يؤدّي عملاً إلى  فساد الأمور ولا يكون إصلاحاً. ومن يقوم بمثل هذا العمل يسقطه عمله هذا عن العدالة، وأول شرط من شروط الولاية هو (العدالة)، فإذا سقطت انتفى شرط من شروط الولي، وبذلك ينتفي حقّ ذلك الفقيه في ولاية الأمة.

 


[1]  وقد كتبه الإمام في «المكاسب المحرّمة».

[2]  الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، باب اختلاف الحديث، ص 67، وكذلك وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 136 ــ 137.

[3]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 51، ب أحوال السفراء، ص 347 ــ 348.

[4]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 27، الباب 11، ص 138.

[5]  كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سبق ذكره، ج 1 ــ 2، الباب 45، ص 483 ــ 484.

[6]  ويكون ذلك بعد أن يرفض كل منهم الانسحاب وترك التصدّي لغيره ليتحقّق بذلك تصدّي واحد منهم فقط بعد انسحاب غيره، وبعد أن يرفض الفقهاء المتصدّون أيضاً اختيار أحدهم بالقرعة ليكون هو ولي الأمر الفعلي، وسيرد ذكر هذه الحلول في ما يأتي أيضاً.

[7]  كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سبق ذكره، ج 1 ــ 2، الباب 45، ص 483 ــ 484.

[8]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 10، الباب 9، ص 143.

[9]  الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، باب فضل الإمام وصفاته، ص 201.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net