التفصيل في المباني الأربعة لمبدأ ولاية الفقيه
تفصيل المبنى الأول
هو المبنى المنكر لمثل هذه الولاية للفقهاء أساساً
وهذا المبنى متقوّم بركيزتين هما:
الركيزة الأولى: منع وإنكار نصب الفقيه من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام).
الركيزة الثانية: منع حصر الانتخاب بالفقيه الجامع للشرائط من قبل الأمة. وعلى هذا، فمن أنكر أنّ الفقهاء منصوبون نصباً عامّاً للولاية من قبل المعصوم (عليه السلام)، وأنكر أنّ المسلمين يجب عليهم انتخاب الفقيه الجامع للشرائط دون غيره، فستكون نتيجة هذا الإنكار، إنكاراً لمبدأ ولاية الفقيه أساساً.
أمّا الركيزة الأولى: وهي منع نصب الفقيه من قبل المعصوم (عليه السلام)، فسنبطلها ــ إن شاء الله تعالى ــ في بحثنا في المبنى الرابع، إذ سنثبت هناك، وجود نصّ يثبت أنّ الفقهاء منصوبون من قبل المعصوم (عليه السلام) نصباً عامّاً. والرواية التي اعتمدها في هذا الصدد، هو التوقيع الشريف: «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنّهم حجتي عليكم وأنّا حجة الله عليهم»[2].
وأمّا الركيزة الثانية، فنبطلها، بأحد طريقين تبعاً لما يتبنّاه المنكر لمثل هذه الولاية، وهما:
الطريق الأول: أنّ المنكر لا يؤمن بأصل الانتخاب، فيكون إبطال متبنّاه بإثبات صحّة أصل الانتخاب بالنسبة لغير المعصوم، وإن لم يصحّ بالنسبة للمعصوم لتعيّنه من قبل الله تعالى. ويكفي دليلاً لإثبات صحّة الانتخاب في غير المعصوم حكم العقل بأنّه لدى فرض تعدّد من سيستعدّ لتولّي الأمر مع تساويهم أو تقاربهم في الشروط، لا مرجّح أفضل من الانتخاب، ولا يقاس الأمر بفرض وجود المعصوم، فإنّنا في ذلك الفرض إنّما ننكر الانتخاب على أساس أنّه مع المتعيّن من قبل الله لا معنى للانتخاب.
الطريق الثاني: أنّ المنكر يؤمن بالانتخاب، ولكن لا يؤمن بشرط الفقاهة فيه، إذ بإمكان الأمة انتخاب شخص مؤمن ورع مقلّد يأخذ أحكامه من الفقيه المرجع. وهذا الشخص وبعد بيعة الأمة له يصبح هو الولي ويجب إطاعة أمره وفق هذا المبنى.
إنّ إبطال هذا المتبنى يكون بإثبات شرط الفقاهة فيمن تبايعه الأمة من خلال متابعة ومراجعة الروايات بأحد منهجين أو طريقين:
المنهج الأول: التفتيش عن الروايات التي لا يفهم منها أنّها بصدد بيان منصب الإمامة المصطلحة لدى الشيعة، وإنّما يفهم منها بيان منصب الوالي والحاكم على الناس، المشترط فيه العلم والفقاهة. فإذا عثرنا على مثل هذه الروايات فقد ثبت لنا المقصود. أي لا يجوز أن يقع الانتخاب على غير من يعلم الشريعة ومن يعلم الشريعة هو (الفقيه).
ففي رواية مفصّلة وتامّة السند رواها الكليني في الكافي. وفيها: جاء جماعة وفيهم عمرو بن عبيد إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وأرادوا أن يعيّنوا ولياً لهم هم ارتأوه وهو محمّد بن عبد الله. فوقع بينهم وبين الإمام (عليه السلام) حديث مفصّل محل الشاهد فيه: «ثم أقبل ــ أي الإمام (عليه السلام) ــ على عمرو بن عبيد، فقال: يا عمرو اتق الله وأنتم أيّها الرهط فاتقو الله، فإنّ أبي حدّثني وكان خير أهل الأرض وأعلمهم بكتاب الله وسنّة نبيه (صلى الله عليه وآله) أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من ضرب الناس بسيفه ودعاهم إلى نفسه وفي المسلمين من هو أعلم منه فهو ضال متكلّف»[3].
فهذه الفقرة لا تحمل ــ كما يبدوا ــ على منصب الإمامة المصطلح عليها لدى الشيعة وإنّما راجعة إلى مسألة القيادة والولاية على الناس. خاصّة، وأنّ الخطاب كان موجّهاً إلى هؤلاء الذي لا يعرفون الإمامة بالمعنى الشيعي الخاصّ، وإنّما يعرفونها بمعنى الولاية على الناس.
إذن الفكرة المستخلصة من هذه الرواية أنّ البيعة يجب أن تعقد لأعلم الناس وهو الفقيه.
ورواية أخرى، عن الفضيل بن يسّار، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع، ومن ادّعى الإمامة وليس بإمام فهو كافر»[4].
وفي هذه الرواية فقرتان:
الأولى: (من خرج يدعو الناس وفيهم من هو أعلم منه فهو ضال مبتدع) وهذه واردة كما هو واضح بخصوص (الإمرة) على الناس. وشرط الأعلميّة فيها، يدلّ أيضاً على ثبوت شرط الفقاهة فيمن يبايع.
الثانية: (ومن ادّعى الإمامة وليس بإمام فهو كافر).
وهذه الفقرة راجعة إلى من يدّعي الإمامة بمعناها المصطلح عند الشيعة. أي يدّعي بأنّه إمام معصوم.
المنهج الثاني: دراسة الروايات الواردة بشأن تعيين الإمام بمعناه المصطلح. ثم نستفيد منها المقصود، وهو شرط الفقاهة فيمن يلي أمور الناس.
في أصول الكافي عن الرضا (عليه السلام) «.. الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد، ولا يعادله عالم، ولا يوجد منه بدل، ولا له مثل ولا نظير... فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل، وراع لا ينكل... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر الله عزَّ وجلّ، ناصح لعباد الله، حافظ لدين الله»[5].
فهنا، وإن كانت هذه الرواية محمولة على بيان شرائط الإمامة بالمعنى المصطلح لدى الشيعة، لكنّها وردت بصدد الردع لخلفاء الجور والشجب على ولايتهم، في حين أنّهم لم يكونوا يدّعون الإمامة لأنفسهم بمعناها المصطلح عند الشيعة، وإنّما كانوا يريدون الإمرة والقيادة.
وإذا أضفنا إلى هذا، ما شرحناه سابقاً، وهو أنّه غير معقول اشتراط العصمة في كل وال بعد أن أثبتنا ضرورة وجود الوالي على طول الخط وحتّى في زمن الغيبة الكبرى، يتبيّن لنا أنّ الوالي لابدّ وأن يكون أفضل أفراد الأمة، فإن كان المعصوم (عليه السلام) موجوداً وظاهراً تتعيّن الولاية به دون غيره. وأمّا في غيبة المعصوم، فإنّ أفضل الأفراد هو الفقيه الجامع للشرائط، الذي جمع أفضل الصفات وأهمها كالعلم بالأحكام والفقاهة والعدالة والشجاعة....إلخ.
وعلى هذا، فإنّ هذه الرواية وإن كانت واردة في شأن الإمامة، ولكنّها كانت ناظرة إلى واقع عملي وهو واقع ولاية حكّام الجور آنذاك، مما ساعد على أن نفهم منها فهماً أوسع وأشمل من إمامة المعصوم بالمعنى المصطلح عند الشيعة، إذ استفدنا منها ولاية الأفضل على الأمة وهو المعصوم في زمن حضوره والفقيه في زمن غيبته.
ولو أصررنا على المبدأ الأول: وهو مبدأ إنكار ولاية الفقيه نقول: مع إنكار ولاية الفقيه أو مبدأ الانتخاب فكيف نتصوّر قيام دولة إسلاميّة؟ وهل نتخلّى عن أصل قيام دولة إسلاميّة؟
إنّ الحل الوحيد لمثل هذا المسلك، ينحصر بفكرة (الأمور الحسبيّة) وهي الفكرة الموجودة عند فقهائنا.
ويقصدون بالأمور الحسبيّة تلك الأمور التي نقطع بأنّ الشريعة لا ترضى بزوالها وعدم الاهتمام بها كأمور الأوقاف والمساجد والأيتام.... إلخ، وقد جعلوا أمرها والبت فيها بيد الفقهاء لا على أساس الولاية[6] بل على أساس تحصيل القدر المتيقّن بتولّيهم لمثل هذه الأمور دون غيرهم ممن هم ليسوا بفقهاء.
فلئن كانت الشريعة لا ترضى بإهمال أمور المساجد والأيتام والسفهاء... فكيف ترضى بإهمال أمور الدولة وشؤونها؟!
إنّ القدر المتيقّن حين عدم تعيّن من بيده أمور الدولة وعندما يدور الأمر بين الفقيه وغيره هو الفقيه، فالفقيه الجامع للشرائط أولى بالحكم من غيره على ثغرة لا يمكن سدّها وهي أنّ الإطاعة الكاملة في كل صغيرة وكبيرة في الأمور الراجعة إلى صلاحيات الدولة والتي بها تتم مصالح البلاد والعباد يصعب إثباتها عند إنكار مبدأ ولاية الفقيه والانتخاب. لأنّ كل ما يمكن إثباته، هو ما يختصّ بتولّي الفقهاء لإدارة الأمور الحسبيّة فقط ولا يتعدّاها إلى غيرها حسب نظرية الأمور الحسبيّة.
[2] كمال الدين وتمام النعمة، مصدر سبق ذكره، ج 1 ــ 2، الباب 45، ص 484.
[3] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 42.
[4] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 28، الباب ( 10 )، ص 350.
[5] الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، كتاب الحجّة، ص 201 ــ 202.
[6] إذ إنّ الأصل عند الشكّ في الولاية هو عدمها.
|