الأجوبة العامّة عن الروايات المانعة من الخروج
أمّا بالنسبة للأجوبة العامّة فهي ثلاثة أجوبة:
الجواب الأول: ما اتّضح من الأبحاث السابقة حول روايات شرط العصمة، وروايات العجز عن تحقيق الانتصار، وزمان التقية. فأحاديث هذه الطائفة إمّا هي ملحقة بالطائفة الأولى أو هي ملحقة بالطائفة الثانية أو بكليهما معاً. وقد مضى الحديث عن هاتين الطائفتين.
الجواب الثاني: نشير فيه إلى قصّتين تأريخيّتين، لكي نعرف حقيقتيهما. وستكون هاتان القصّتان جواباً على الشبهة التي تثيرها هذه الطائفة من الروايات.وهاتان القصّتان هما:
ــ قصّة زيد بن علي (رضي الله عنه).
ــ قصّة الحسين بن علي (رضي الله عنه) صاحب واقعة الفخ.
أمّا بالنسبة لقصّة زيد بن علي(رضي الله عنه) فالروايات الواردة بشأنها كثيرة وهي تنقسم إلى طائفتين هما:
الأولى: المانعة عن الخروج.
الثانية: المادحة للخروج. وتمتاز بكثرتها، وضعف سندها كلّها إلاّ واحدة، وهي رواية عيص بن القاسم وهي مفصّلة نختار منها: «.. لا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يكن يدعكم لنفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»[18].
أمّا الروايات الذامّة فتمتاز بقلة عددها، وضعف سندها كلها إلاّ واحدة أيضاً ــ حسب تتبّعي ــ.
ففي رواية غير تامّة السند جاء: عن بكر بن أبي بكر الحضرمي قال: «دخل أبو بكر وعلقمة على زيد بن علي، وكان علقمة أكبر من أبي، فجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره، وكان بلغهما أنّه قال: ليس الإمام منّا من أرخى عليه ستره، وإنّما الإمام من شهر سيفه، فقال له أبو بكر ــ وكان أجرأهما ــ يا أبا الحسين (كنية زيد) أخبرني عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) أكان إماماً وهو مرخ عليه ستره، أو لم يكن إماماً حتّى خرج وشهر سيفه؟ فسكت فلم يجبه فردّ عليه الكلام ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبه، فقال له أبو بكر: إن كان علي بن أبي طالب (عليه السلام) إماماً فيجوز أن يكون بعده إمام مرخ عليه ستره، وإن لم يكن إماماً وهو مرخ عليه ستره فأنت ما جاء بك ها هنا. فطلب أبي علقمة أن يكفّ عنه، فكفّ عنه»[19].
فمن هذه الرواية يتّضح أنّ زيداً لم تكن واضحة عنده إمامة أخيه الباقر (عليه السلام) أو أبن أخيه الصادق(عليه السلام).
وبما أنّ هناك روايات واضحة الدلالة على أنّه (رضي الله عنه) كان يعرف الإمام (عليه السلام). فزيد كان عالماً عالي الشأن لا يحتمل في حقّه عدم معرفة إمام زمانه (عليه السلام). فإذن يحتمل أنّ ظهور مثل هذا المعنى في بعض كلامه (رضي الله عنه) كان بسبب تستّره على إمامة الإمام (عليه السلام) في وقته؛ خصوصاً وهو قد خرج (رضي الله عنه) بالسيف. فأراد أن يعدم الصلة بينه وبين الإمام (عليه السلام) لخشيته على الإمام (عليه السلام) من بطش السلطة وظلمها.
وعلى فرض ثبوت عدم معرفته (رضي الله عنه) لإمام زمانه، فلا دخل لمثل هذا الأمر الخاصّ بعقيدته بما نبحثه نحن؛ لأنّنا نبحث في أنّه هل ورد منع في هذه الروايات عن الخروج أم لا؟ وهذا الأمر لا يمكن إثباته في مثل هذه الروايات في الواقع.
وفي رواية ثانية من روايات الذمّ وهي صحيحة السند. «أخبرني الأحول[20]: أنّ زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) بعث إليه وهو مستخف، قال: فأتيته فقال لي: يا أبا جعفر ما تقول إن طرقك طارق منّا أتخرج معه؟ قال: فقلت له: إن كان أباك أو أخاك خرجت معه، قال: فقال لي: فأنا أريد أن أخرج أجاهد هؤلاء القوم فاخرج معي، قال: قلت: لا ما أفعل جعلت فداك. قال: فقال لي: أترغب بنفسك عنّي؟ قال: قلت له: إنّما هي نفس واحدة، فإن كان لله في الأرض حجّة فالمتخلّف عنك ناج والخارج معك هالك، وإن لا تكن لله حجّة في الأرض فالمتخلّف عنك والخارج معك سواء.
قال: فقال لي: يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان ــ سفرة الطعام ــ فيلقمني البضعة السمينة ويبرّد لي اللقمة الحارة حتّى تبرد، شفقة عليَّ، ولم يشفق عليّ من حرّ النار إذاً أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟ فقلت له: جعلت فداك من شفقته عليك من حرّ النار لم يخبرك، خاف عليك أن لا تقبله فتدخل النار، وأخبرني أنا، فإن قبلت نجوت وإن لم أقبل لم يبال أن أدخل النار.
ثم قلت له: جعلت فداك، أنتم أفضل أم الأنبياء؟ قال: بل الأنبياء، قلت يقول يعقوب ليوسف: {يا بنيَّ لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً}، لِمَ لم يخبرهم حتّى كانوا لا يكيدونه ولكن كتمهم ذلك، فكذا أبوك كتمك لأنّه خاف عليك.
قال: فقال: أما والله لأن قلت ذلك لقد حدّثني صاحبك بالمدينة أنّي اُقتل واُصلب بالكناسة وأنّ عنده لصحيفة فيها قتلي وصلبي. فحججت فحدّثت أبا عبد الله (عليه السلام) بمقالة زيد وما قلت له، فقال لي: أخذته من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوق رأسه ومن تحت قدميه ولم تترك له مسلكاً يسلكه»[21]. ولا دلالة في الرواية على حرمة خروج زيد أصلاً. وفي الرواية دلالة نهاية الرواية عندما أخبر عن إخبار الإمام (عليه السلام) له بصلبه بالكناسة.
أمّا الروايات المادحة فهي كثيرة وقد ذكرنا رواية صحيحة السند آنفاً. والآن نذكر روايتين غير صحيحتي السند هما:
ــ أنّ زيداً كان يعرف الإمام حقّاً لكنّه كان يكتم ذلك، والدليل على ما في رواية فضيل عن الصادق (عليه السلام) قال: قال الإمام الصادق «.. يا فضيل شهدت مع عمّي قتال أهل الشام؟ قلت: نعم، قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة، قال: فلعلّك شاكٌّ في دمائهم؟ قال: فقلت لو كنت شاكّاً ما قتلتهم، قال: فسمعته وهو يقول: أشركني الله في تلك الدماء مضى والله زيد عمّي وأصحابه شهداء مثل ما مضى عليه علىُّ بن أبي طالب وأصحابه»[22].
ــ وعن الباقر عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال الرسول (صلى الله عليه وآله) للحسين (عليه السلام): «يا حسين يخرج من صلبك رجل يقال له زيد يتخطّى هو وأصحابه يوم القيامة رقاب الناس غرَّاً محجّلين يدخلون الجنّة بلا حساب»[23].
والنتيجة هي أنّنا حين نقرأ الروايات المادحة لخروج زيد (رضي الله عنه) والذامّة له، نكاد نقطع بأنّ الروايات الصحيحة هي الروايات المادحة له. وذلك بملاحظة طبيعة وضع وتاريخ وظرف صدور هذه الروايات. فواقعة زيد (رضي الله عنه) وقعت في زمن من أحرج الأزمان على الشيعة، وكان الإمام (عليه السلام) آنذاك في أشدّ ما يكون من التقية.
وعلى هذا، فإنّ عمل زيد حتّى وإن كان صحيحاً فإنّ اشتراك الإمام فيه مباشرة لم يكن صحيحاً؛ لأنّه (عليه السلام) سيتعرّض مباشرة لبطش السلطة الجائرة. وعليه نقول: إنّ خروجه (رضي الله عنه) كان إمّا مرضيّاً من قبل الإمام (عليه السلام) أو مرفوضاً.
فإن كان مرضيّاً، فلابدّ أن نتوقّع ورود روايات كثيرة ذامّة له تبعاً للظروف المعادية آنذاك مع احتمال وضع روايات كثيرة ذامّة له. وهذا لا يمانع ورود بعض الروايات المادحة له أيضاً على لسان الأئمة (عليهم السلام) وفي ظروف معيّنة.
وإن كان خروجه مبغوضاً لدى الإمام (عليه السلام) فإننا نتوقع أن تكثر الروايات الذامّة له ولا نتوقع رواية واحدة مادحة له ولو ضعيفة السند. وذلك لأنّ الإمام لا يصدر منه إلاّ الذمّ في حق مثل هذا الخروج. وكذلك السلطة ووعاظ السلاطين والكذّابون، سوف لا يضعون إلاّ روايات الذمّ في حقه لأنّه خروج ضد السلطة.
وخروج زيد هو أمر مفروغ عنه وثابت تاريخياً، فإذن نقطع بأنّ خروجه كان مرضيّاً من قبل الإمام (عليه السلام)، ولو كان غير مرضي لما وصلتنا رواية واحدة مادحة له. فكيف وروايات المدح أكثر من روايات الذمّ.
وأمّا ثورة الحسين بن علي (صاحب واقعة الفخ) فالروايات المادحة لخروجه (رضي الله عنه) كثيرة ولا توجد رواية واحدة ذامّة له. لكن نقطة الضعف في الروايات الواردة بمدحه هي أنّ أكثرها رواها أبو الفرج الأصفهاني (صاحب مقاتل الطالبيين) وهو زيدي المذهب. ولا تستثنى من ذلك إلاّ رواية واحدة أو اثنتين وردت إحداهما في الكافي، فيكون هذا الأمر مدعاة لاحتمال الوضع والاختلاق لهذه الروايات.
ولكن بالمقابل، فإنّ النكتة التي بينّاها بشأن قصّة زيد ترد هنا وبشكل أوضح. وللإيضاح نقول: إنّ أصل خروج صاحب واقعة الفخ (رضي الله عنه) يعد من مسلّمات التاريخ الإسلامي. لكن هل خروجه كان برضا الإمام المعصوم (عليه السلام) أم بغير رضاه (عليه السلام)؟ وهنا أيضاً نقول: إن كان خروجه مبغوضاً، فإنّنا نتوقع أن تنهال عليه روايات الذم عن طريق الإمام المعصوم (عليه السلام). وكذلك ستكون روايات أعدائه روايات ذم بلا شكّ؛ لأنّه خرج عليهم. وبذلك لا نتوقّع رواية مدح واحدة في حقّه (رضي الله عنه).
وإن كان خروجه برضا الإمام المعصوم (عليه السلام) فإنّنا نتوقع أن ترد روايات المدح وروايات الذم أيضاً، إمّا كذباً من قبل أعدائه أو تقيّة من قبل الإمام المعصوم (عليه السلام). بينما في الواقع نرى أنّه لا توجد لدينا ولا رواية ذم واحدة له ولا لخروجه (رضي الله عنه).
وهذا شاهد قطعي على أنّ خروجه كان مرضياً من قبل الأئمة (عليهم السلام).
ــ من الروايات المادحة، ما ورد في الكافي عن عبد الله بن المفضّل قال: «لمّا خرج الحسين بن علي المقتول بــ(فخ) واحتوى على المدينة، دعا موسى بن جعفر إلى البيعة، فأتاه فقال له: يا ابن العم لا تكلّفني ما كلّف ابن عمك عمك أبا عبد الله فيخرج منّي ما لا أريد كما خرج من أبي عبد الله ما لم يكن يريد. فقال له الحسين إنّما عرضت عليك أمراً فإن أردته دخلت فيه وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان. ثمّ ودّعه، فقال له أبو الحسن موسى بن جعفر حين ودّعه: يا ابن عمّ إنك مقتول فأجدّ الضراب فإنّ القوم فسّاق يظهرون إيماناً ويسترون شركاً وإنّا لله وإنّا إليه راجعون، احتسبكم عند الله من عصبة. ثم خرج الحسين وكان من أمره ما كان، قتلوا كلهم كما قال (عليه السلام)»[24].
فإنّ صحّ خروج زيد بن علي والحسين بن علي صاحب (فخ) تاريخياً، وأنّ خروجهما كان برضا الإمام المعصوم (عليه السلام)، وقد أثبتنا هذا. نعود إلى روايات الطائفة الثالثة المانعة للخروج منعاً يمتدّ إلى زمن ظهور الحجة (عج) لنرى أزمنة صدورها.
فنرى أنّ قسماً منها يعود إلى زمن الباقر (عليه السلام) تاريخياً، وهو تاريخ متقدّم على قضيتي زيد والحسين رضوان الله عليهم. فنقطع بأنّ ذلك المنع الصادر من الإمام (عليه السلام) هو:
ــ إمّا منع تقية.
ــ أو مختص بفترة معيّنة.
ــ أو أنّ الرواية مجعولة وكاذبة.
ــ أو تُردّ إلى أهلها فهم أعلم بمرادهم.
ولا نؤمن بأنّ منعها يحمل على ظاهره، وأنّه مستمر إلى قيام الحجة؛ لأنّنا نرى أنّ خروج زيد والحسين كان بعد ذلك التأريخ وكان خروجهما مرضيّاً عند الأئمة (عليهم السلام).
وأمّا القسم الآخر من روايات المنع من الخروج فيعود إلى زمن الصادق (عليه السلام) والكاظم (عليه السلام). وهذه الروايات وإن كانت قد وردت بعد خروج زيد (رضي الله عنه) إلاّ أنّها كانت قبل خروج الحسين صاحب (فخ). ولذا، فإنّ شأنها شأن الروايات السابقة الصادرة في زمن الباقر (عليه السلام). ولم يشذّ عنها إلاّ رواية عن الإمام الرضا (عليه السلام). وقد صدرت تاريخياً بعد ثورتي زيد والحسين.
فعن الحسين بن خالد عن الرضا (عليه السلام): «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقية له، وإنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، قيل: يا ابن رسول الله إلى متى؟ قال: إلى قيام القائم...»[25].
فظاهر هذه الرواية المنع من الخروج إلى قيام القائم (عج) ويحتمل فيها أيضاً أنّ الخروج كان مرضيّاً عند الأئمة (عليهم السلام) إلى زمن خروج الحسين بن علي صاحب الفخ. أمّا بعد ذلك ومنذ زمان الإمام الرضا (عليه السلام) وإلى قيام القائم (عج) فإنّ الخروج غير مرضي.
إلاّ أنّه لا يبعد القول، بأنّ هذه الرواية وإن صدرت بعد قصتي زيد والحسين (رضي الله عنه) فمن المفهوم عرفاً منها أنّها تريد أن تقول فيما عدا زمان خروج الإمام المعصوم لابدّ من التقية، ولا خصوصية لزمان الصادق أو الرضا أو السجّاد (عليهم السلام). أي أنّها أرادت قاعدة عامّه وهي: عند جلوس الإمام المعصوم (عليه السلام) وعدم خروجه فإنّ العمل بالتقية لابدّ منه.
وسيكون جواب هذا حينئذ، بأنّنا نعلم قطعاً بأنّ خروج زيد بن علي والحسين بن علي (رضي الله عنه) كان مرضياً عند الأئمة (عليهم السلام).
وعندئذ، فإنّ هذه الرواية إمّا أن تحمل على (التقية) أو تحمل على (خلاف ظاهرها) أو كونها (كاذبة) أو ما شابه ذلك. هذا بالإضافة إلى كون هذه الرواية غير تامّة السند.
وهناك رواية أخرى وردت بشأن زمن غيبة الإمام (عج)، فعن جابر عن الباقر (عليه السلام) أنّه قال: «يأتي على الناس زمان يغيب عنهم إمامهم، فيا طوبى للثابتين على أمرنا في ذلك الزمان، إنّ أدنى ما يكون لهم من الثواب أن يناديهم الباري جل جلاله فيقول: عبادي وإمائي آمنتم بسرّي وصدّقتم بغيبي، فابشروا بحسن الثواب منّي، فأنتم عبادي وإمائي حقّاً، منكم أتقبّل، وعنكم أعفو، ولكم اغفر، وبكم أسقي عبادي الغيث وأدفع عنهم البلاء ولولاكم لأنزلت عليهم عذابي، قال جابر: فقلت: يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) فما أفضل ما يستعمله المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: حفظ اللسان ولزوم البيت»[26].
وقد يقال هنا، بأنّ هذه الرواية غير مشمولة للجواب الذي قلناه، إذ لعلّ زمان الغيبة يختلف عن الزمان الذي كنّا نتحدّث عنه وهو زمان حضور المعصوم (عليه السلام). ومع هذا، فإنّ هذه الرواية يمكن مناقشتها من عدّة جهات، فهي ساقطة من ناحية السند أولا، ولو أردنا التمسّك بها لكان مقابلها روايات عديدة ضعيفة السند أيضاً وتدلّ على وقوع ثورات عديدة زمن الغيبة وكلها مرضية عند الأئمة، بالإضافة إلى إطلاقات الروايات الحاثّة على الجهاد ودفاع الظلمة.
الجواب الثالث: ولا نتكلّم فيه عن الخصوصية التاريخية الراجعة إلى ثورتي زيد والحسين صاحب (فخ) رضوان الله عليهما. وإنّما نقسّم الروايات كلا وطرّاً إلى قسمين سواء الروايات الواردة في زيد أو الحسين أو الروايات العامّة التي لم ترد بصدد شخص معيّن، فنقول: إنّ الروايات:
1 ــ إمّا روايات دلّت على مذمّة الخروج ومنعت عنه.
2 ــ أو روايات دلّت على وجود ثورات شرعيّة ومدحت الخروج وحثّت عليه.
وحينئذ فإننا نستفيد من نفس روح الجواب الثاني، والذي طبّقناه على القصّتين وبغضّ النظر عن ثورات أشخاص معيّنيين فنقول: ليست طريقة فهم الحق من هذه الروايات هو إثبات السند أو كونه ضعيفاً فقط.
إنّنا نقول: في دراسة الروايات أنّ الخروج ضد الظلم وعلى وفق شروط مواتية هو أمر إمّا مرضي من قبل المعصوم (عليه السلام) أو غير مرضي؟ أو قل: إمّا جائز أو حرام.
فإن كان حراماً ــ في علم الله ــ فالمترقَّب أن لا نرى حديثاً يدلّ على الجواز، إلاّ النادر الصادر عن الزيديين ومن شاكلهم؛ لأنّ هذه الروايات إمّا:
ــ يصدرها الصادقون، ولا يتوقّع صدور ما يحلّل الحرام عنهم.
ــ أو يصدرها الكاذبون، وهم دائماً في خدمة السلطة ولا يتعقّل أن يروق للسلطات حديث يدلّ على حليّة الخروج عليهم. وبذلك سوف لا ينقلون روايات تحثّ على الخروج وتمدحه.
ولو كان في ــ علم الله ــ أنّ الخروج حلال أو واجب فنحن نترقّب صدور الروايات الكثيرة المانعة عن الخروج؛ لأنّ الصادقين يصدرونها تقية والكاذبين يصدرونها كذباً.
والذي وصلنا من الروايات، وبغضّ النظر عن السند هو:
ــ روايات تمنع عن الخروج.
ــ وروايات تجوّز الخروج.
فنقطع بأنّ الروايات التي تطابق الواقع هي روايات الجواز، والأخرى هي إمّا روايات تقية أو كاذبة أو مؤوّلة على خلاف ظاهرها.
وهناك رواية تدلّ على أنّ روايات المنع هي روايات تقية، وقد استخدمنا هذه الرواية (كقرينة ناقصة) للدلالة على المراد.
كتب يحيى بن عبد الله بن الحسن إلى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: «أمّا بعد فإنّي أوصي نفسي بتقوى الله وبها أوصيك فإنّها وصية الله في الأولين ووصيّته في الآخرين، خبَّرني من ورد عليّ من أعوان الله على دينه ونشر طاعته بما كان من تحنّنك مع خذلانك، وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديماً ادّعيتم ما ليس لكم وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله، فاستهويتم وأضللتم وأنا محذّرك ما حذّرك الله من نفسه»...
فكتب إليه أبو الحسن موسى بن جعفر: «من موسى ابن أبي عبد الله جعفر وعلىّ متشركَين في التذلّل لله وطاعته إلى يحيى بن عبد الله بن حسن، أمّا بعد:
فإنّي أحذّرك الله ونفسي وأعلمك أليم عذابه وشديد عقابه، وتكامل نقماته، وأوصيك ونفسي بتقوى الله فإنّها زين الكلام وتثبيت النعم، أتاني كتابك، تذكر فيه أني مدّع وأبي من قبل، وما سمعت ذلك منّي (وستُكتب شهادتهم ويُسألون)، ولم يدع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلباً لآخرتهم، حتّى يُفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم، وذكرت أني ثبّطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغباً ضَعفٌ عن سنّة ولا قلة بصيرة بحجة، ولكن الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجاً وغرائب وغرائز فأخبرني عن حرفين أسألك عنهما: ما العترف في بدنك وما الصهلج في الإنسان؟ ثم أكتب إليَّ بخبر ذلك. وأنا متقدّم إليك أحذّرك معصية الخليفة وأحثّك على بره وطاعته وأن تطلب لنفسك أماناً قبل أن تأخذك الأظفار ويلزمك الخناق من كل مكان فتروّح إلى النفس من كل مكان ولا تجده، حتّى يمنَّ الله عليك بمنّه وفضله ورقّة الخليفة أبقاه الله فيؤمنك ويرحمك ويحفظ فيك أرحام رسول الله. والسلام على من اتّبع الهدى {أنّا قد أوحي إلينا أنّ العذاب على من كذّب وتولّى}. قال الجعفري ــ وهو الراوي ــ: فبلغني أنّ كتاب موسى بن جعفر (عليه السلام) وقع في يد هارون فلمّا قرأه قال: الناس يحملوني على موسى بن جعفر وهو بريء مما يرمى به»[27].
ففي هذه الرواية أكثر من عبارة دالّة على التقية على فرض صحّة صدور مثل ذلك الكتاب من الإمام إلى يحيى بن عبد الله.
أمّا الرواية الحاثّة على الخروج والثورة ضد الظلم والمبتلاة (بضعف السند) والتي تقابل تلك الروايات المانعة للخروج والضعيفة السند أيضاً، فهي:
1 ــ عن كتاب أبي عبد الله السياري، عن رجل قال: «ذكر بين يدي أبي عبد الله (عليه السلام) من خرج من آل محمد (صلى الله عليه وآله)، فقال: لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد، ولوددت أنّ الخارجي من آل محمد خرج وعليّ نفقة عياله»[28].
2 ــ عن أيوب بن يحيى الجندل، عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) قال: «رجل من أهل قم يدعو الناس إلى الحق، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، ولا يملّون من الحرب، ولا يجبنون، وعلى الله يتوكّلون، والعاقبة للمتقين»[29]. وهذا يقبل الانطباق على ما تحقّق من قيام السيّد الإمام الخميني تغمّده الله برحمته.
3 ــ في غيبة النعماني، عن أبي خالد الكابلي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه قال: «كأني بقوم قد خرجوا بالمشرق، يطلبون الحق فلا يعطونه ثم يطلبونه فلا يعطونه، ثمّ يطلبونه فلا يعطونه، فإذا رأوا ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتّى يقوموا، ولا يدفعونها إلاّ إلى صاحبكم، قتلاهم شهداء، أمّا إني لو أدركت ذلك لأبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر»[30].
4 ــ عن جابر قال: «حدّثني من رأى المسيّب بن نجبة قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) ومعه رجل يقال له ابن السوداء، فقال له: يا أمير المؤمنين إنّ هذا يكذب على الله وعلى رسوله ويستشهدك، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): لقد أعرض وأطول يقول ماذا؟ فقال: يذكر جيش الغضب، فقال: خلِّ سبيل الرجل، أولئك قوم يأتون في آخر الزمان قزع كقزع الخريف والرجل والرجلان والثلاثة، من كل قبيلة حتّى يبلغ تسعة، أما والله إني لأعرف أميرهم واسمه ومناخ ركابهم، ثم نهض وهو يقول: باقرا باقرا باقرا، ثم قال: ذلك رجل من ذريتي يبقر الحديث بقرا»[31].
فهذه الروايات دالّة إذن على أنّه وفي آخر الزمان ستحدث ثورات ضد الحكّام الظلمة وستكون هذه الثورات مرضية من قبل المعصومين (عليهم السلام).
[18] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 50.
[19] السيد أبو القاسم الخوئيّ، معجم رجال الحديث، ج 7، طــ إيران، ص 350.
[20] وهو مؤمن الطاق.
[21] الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، كتاب الحجة، ص 174.
[22] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 46، ص 171.
[23] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 46، ص 170.
[24] الأصول من الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، كتاب الحجة، ص 366.
[25] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 16، ص 211.
[26] كمال الدين، مصدر سبق ذكره، ج 1 ــ 2، باب 32، ح 15، ص 330.
[27] أصول الكافي، مصدر سبق ذكره، ج 1، كتاب الحجة، ص 366 ــ 367.
[28] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ، ج 15، باب جهاد العدو ص 54.
[29] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 60، ص 216.
[30] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 116، ص 243.
[31] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 128، ص 247 ــ 248.
|