متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
شبهة عدم إراقة الدماء
الكتاب : المرجعية والقيادة    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

شبهة عدم إراقة الدماء

 

قد يقال: إنّه ومع تسليمنا بأنّ الإسلام بحاجة إلى حكومة وهو يدعو إلى إقامتها في كل زمان ومكان، ولكن ذلك يجب أن يكون بشرط عدم إراقة الدماء. فإذا انتهى الأمر إلى ذلك كانت إراقة الدماء أعظم، ومفسدتها أكبر من ترك إقامة الدولة، فيترك أمر إقامة الدولة، مع وجود المصلحة الحقيقية والمهمة في إقامتها. ولا يكون أمر إقامة الدولة مقدّماً على مصلحة حقن الدماء، إلاّ في حالة وجود المعصوم (عليه السلام) الذي لا يخطأ في تقدير الأمور لعصمته (عليه السلام).

إنّ من يؤمن بهذه الشبهة لا يفيد معه القول بأنّ الرسول (صلى الله عليه وآله) وعلياً (عليه السلام)ومسلم بن عقيل نيابة عن الحسين (عليه السلام) قد أكثروا من إراقة الدماء لأجل إقامة الحكم؛ لأنّ جوابه سيكون: أنّ أولئك كانوا معصومين أو مأذونين من المعصوم مباشرة وبالإذن الخاصّ، ولولا ذلك لما جاز لهم ذلك الفعل.

الجواب على الشبهة:

هناك منهجان للإجابة على مثل هذه الشبهة:

المنهج الأول (المنهج النصّي): وهو محاولة الحصول على إطلاق نصّ قرآني أو روائي يدلّ على جواز إراقة الدماء لتشكيل الحكومة الإسلاميّة حتّى في زمن غير المعصوم (عليه السلام).

المنهج الثاني (المنهج العقلي): بأن يقال: أنّنا في غنى عن النصّ، وذلك لسنخ البيان العقلي الذي بيّناه سابقاً حول ضرورة تشكيل الدولة. فنفس ذلك البيان باستطاعتنا توسيعه أو تطبيقه على المسألة محل البحث. وبه نثبت أنّه لابدّ من إقامة الدولة حتّى ولو أدّى ذلك إلى إراقة الدماء.

ونبدأ بالمنهج الثاني، فنقول: لئن لم تجز إراقة الدماء في سبيل تحكيم الإسلام في عصر الغيبة الكبرى، فعدم الجواز لا يكون إلاّ لأحد سببين:

1 ــ إمّا لأنّ المقايسة والموازنة بين مفسدة إراقة الدماء، وبين المصالح التي تتحقق حين تقام دولة إسلاميّة تظهر أنّ المفسدة أعظم وأكبر من المصلحة.

ولذا نغضّ النظر عن العمل لإقامة الحكومة الإسلاميّة إن استدعت إراقة الدماء حفاظاً على النفوس المسلمة.

2 ــ وإمّا لافتراض وجود حكم تعبّدي في المسألة، وهو اشتراط وجود معصوم لكي تباح إراقة دماء المسلمين في سبيل تشكيل حكومة إسلاميّة.

وفي هذا الفرض نغضّ النظر تماماً عن تلك المقايسة والموازنة المشار إليها في الفرض الأول.

أمّا دعوى أهميّة مفسدة إراقة الدماء على مصلحة إقامة الحكم الإسلاميّ فجوابها: أنّ التزاحم بين مفسدة إراقة الدماء ومصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة أمر واقعي ومتحقّق في كل زمان وحتّى في زمن المعصوم (عليه السلام)، مع أنّ الإمام المعصوم عمل على إقامة الدولة الإسلاميّة ورجّح هذا العمل في الأوقات المناسبة على السكوت والهدنة.

وأمّا دعوى افتراض وجود المعصوم كشرط تعبّدي فهذه الفرضية قد انتهينا من بطلانها في البحث السابق، حيث وضّحنا: أنّ شرط العصمة إنّما كان لأجل أنّ المعصوم هو أفضل الموجودين في زمن حضوره. فالشرط، إذن، هو شرط الأفضل، وعلى هذا فإنّ شرط العصمة لن يكون ــ بهذا البيان ــ شرطاً تعبّدياً.

وعليه فإنّ عدم حضور المعصوم (عليه السلام) حال غيبته لا يؤدّي إلى تجنّب ما يكون سبباً لإراقة الدماء في سبيل أمر ضروريّ كإقامة الدولة الإسلاميّة.

على أنّنا نقول: ما معنى تجنّب إراقة الدماء في سبيل إقامة حكومة الحقّ؟ هل نتصوّر أنّ إراقة الدماء ستكون أقل نسبة تحت سلطة الحكومات الجائرة؟

إنّ أصل افتراض كون عدم القيام والثورة ضد الطغاة أمراً يحفظ دماء المؤمنين، إنّما هو فرض عار عن الصحّة. إذ ما أكثر الأبرياء الذين يقتلون في كل آن وزمان تحت سياط هذا الظالم أو ذاك؛ نتيجة لعدم حاكميّة الإسلام. فمحاولة إقامة الحكم الإسلاميّ في الظرف المناسب، وكذلك محاولة إيجاد الظرف المناسب محاولة لحقن دماء المسلمين لا لإراقتها.

وأمّا المنهج الأول: وهو التفتيش عن إطلاق نصّ أو رواية لإثبات المدّعى فبيانه ما يلي:

أنّنا وبعد أن أثبتنا سابقاً أنّ الإسلام ــ بغضّ النظر عن مسألة إراقة الدماء ــ يدعو إلى إقامة الدولة الإسلاميّة، إمّا عن طريق ولاية الفقيه أو الانتخاب، قد بقيت لدينا مشكلة إراقة الدماء، فنقول: إنّ آيات وروايات الجهاد طراً وكلاً وآية محاربة البغاة، كلها نصوص مطلقة وتخاطب المجتمع كله. وهذه الآيات ليس شأنها، شأن آيات الصوم والصلاة وإن كانت هذه الأخيرة خطابات إلى المجتمع أيضاً.

إنّ الفرق بين آيات الصوم والصلاة وما شابهها، وآيات الجهاد والحدود هو: أنّ الخطاب في آيات الصوم والصلاة (خطاب انحلالي) أي ينحلّ إلى عدّة خطابات، فكأنّ الآية تقول: (يا زيد صل، يا حسن صل، يا فلان صل،... إلخ).

أمّا بالنسبة لآيات الجهاد أو آيات الحدود فهي خطابات غير انحلالية، وهي متوجّهة إلى المجتمع بوصفه مجتمعاً لا إلى أفراده فرداً فرداً. وواضح أنّ المجتمع لا يمكن أمره بإنجاز هذه التكاليف إلاّ إذا كانت على رأسه دولة أو فيه مشروع دولة. فلو كنّا قد عجزنا في بحوثنا السابقة وبغضّ النظر عن مشكلة إراقة الدماء عن إثبات مشروع دولة في زمن الغيبة، لم تفدنا هذه الآيات هنا لإثبات المقصود، إذ هي تخاطب المجتمع بما هو مجتمع وفيه دولة أو مشروع دولة. ولكن بما أنّنا نجحنا بغضّ النظر عن شبهة إراقة الدماء في إثبات أنّ الإسلام يدعو إلى إقامة الدولة الإسلاميّة وله مشروع ونظرية بهذا الخصوص، فإذن، لم يبق لدينا سوى التمسّك بآيات الجهاد ورواياته لإثبات جواز إراقة الدماء في سبيل تشكيل الحكومة الإسلاميّة.

إنّ الإطلاقات الموجودة في آيات وروايات الجهاد، دليل على جواز إراقة الدماء، كما جازت زمن المعصوم (عليه السلام) عيناً وبلا فرق. وبهذا نكون قد مهّدنا الطريق لمناقشة روايات منع إراقة الدماء في زمن الغيبة.

 

الروايات المانعة عن إراقة الدماء

إنّ روايات المنع هذه تقسم إلى ثلاث طوائف، تبعاً لما اتّضح ممّا سبق من أنّ حرمة إراقة الدماء في زمن الغيبة قد تكون بمعنى اشتراط وجود المعصوم إمّا تعبّداً أو لأقوائيّة مفسدة إراقة الدماء في زمن الغيبة، وقد يكون بمعنى أنّ الانتصار لا يمكن إلاّ في زمن المعصوم، وهذه الطوائف الثلاثة هي:

روايات الطائفة الأولى: وهي ما تكون ظاهرة في أنّ وجود المعصوم شرط في القتال وإراقة الدماء.

روايات الطائفة الثانية: وهي ما تكون ظاهرة في فرض العجز، أي يقال: بما أنّه كان واضحاً لدى الإمام (عليه السلام) أنّ القيام قبل ظهور الحجّة يؤدّي إلى الانكسار والعجز حرّم القيام ضدّ الطغاة قبل ظهور  الحجّة واعتبر أنّ مفسدة إراقة الدماء والانكسار أكبر من مصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة.روايات الطائفة الثالثة: وهي ما يحتمل فيها كلا الأمرين الواردين في الطائفة الأولى والثانية.

 

مناقشة الروايات

روايات الطائفة الأولى: وهي التي يستفاد منها ضرورة كون المعصوم (عليه السلام) على رأس العمل لكي يجوز القيام ضد الطغاة:

1 ــ لعل أفضل الروايات من ناحية السند هي رواية بشير الدهّان عن الصادق (عليه السلام): «قال: قلت له ــ أي للإمام (عليه السلام) ــ: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت لك إنّ القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام.. فقلت لي: نعم هو كذلك، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): هو كذلك هو كذلك»[1].

2 ــ وعن الإمام الرضا (عليه السلام): «.. والجهاد واجب مع الإمام العادل...»[2].

وحينئذ قد يقال بأنّ:

ــ الإمام المفترض الطاعة،

ــ والإمام العادل.

يُحمَلان على الإمام المعصوم (عليه السلام) فتكون العصمة شرطاً في الخروج.

وفي مقام مناقشة هذه الروايات نقول: إنّنا لو انتهجنا في ما مضى المنهج العقلي، وقايسنا بين مصلحة إقامة الدولة الإسلاميّة وبين مفسدة إراقة الدماء، فكما أشرنا هناك أنّ التوقّف والامتناع عن الخروج بالسيف في الظروف المناسبة عقلائيّاً لذلك؛ بحجّة أقوائيّة المفسدة ليس أمراً صحيحاً؛ وذلك بلحاظات متعددة، أهمها أنّ المعصومين (عليهم السلام) قد عملوا على تسلّم الحكم وإن أدّى ذلك إلى إراقة الدماء. وأمّا شرط العصمة تعبّداً فهو غير موجود أيضاً، وإنّما تحدّثت عنه الروايات من باب أنّ أفضل الموجودين آنذاك كان هو المعصوم (عليه السلام)، فيكون الشرط شرط (الأفضل). وعليه، فإنّ انتهاج هذا المنهج يستدعي في مناقشة الروايات أحد أمور:

1 ــ تأويل مثل هذه الروايات.

2 ــ أو حملها على التقية.

3 ــ أو ردّها إلى أهلها.

إضافة إلى كون هذه الروايات، أخبار آحاد في مقام المسلّمات.

أمّا لو نهجنا المنهج الآخر، وحاولنا الاستفادة من إطلاقات آيات وروايات الجهاد لإثبات صحّة الخروج وإن أدّى إلى إراقة الدماء. فقد يورد على ذلك بأنّ هذه الإطلاقات مقيّدة بوجود المعصوم وهذا هو سبب الفتوى باشتراط وجود المعصوم (عليه السلام) في الجهاد الابتدائي. (وإن كنت أرى جواز الجهاد الابتدائي في زمن الغيبة الكبرى).

وعلى كل حال، فإنّ الجواب على مثل هذا الكلام يكون:

أولاً: بنفي دلالة لفظة (الإمام) الواردة في مثل هذه الروايات على (الإمام المعصوم)  فقط. فإنّ المعنى الاصطلاحي لكلمة الإمام عند الشيعة تكّون بصورة تدريجية، وإلاّ فالمعنى اللغوي للإمام هو من يؤمّ ويقود الناس لا هو خصوص المعصوم صاحب المقام الذي لا يناله إلاّ الخواص المصطفون من قبل الله تعالى. وحتّى قادة الجور يسمّون بالأئمة، قال تعالى {قاتلوا أئمة الكفر...}.

فالإمام هو من يقود الناس ويؤمّهم على كل حال. وعلى هذا فإنّ رواية بشير، تشمل الإمام المعصوم (عليه السلام)، والولي الفقيه، والولي المنتخب ــ بناءً على كفاية الانتخاب في مشروعيّة الحكم ــ لأنّهم كلّهم مفترضو الطاعة.

ثانياً: لا ينبغي لنا الاقتصار على التفاسير اللغوية للعبائر في مقام معرفة معاني الروايات. وإنّما يجب أخذ ظرف صدور النصّ بعين الاعتبار.

فرواية بشير، مثلاً، وعلى وفق وجود خلفاء الجور آنذاك، جاءت لتطعن في ولاية أولئك الأئمة الظلمة الطغاة. إذ إنّ الإمام (عليه السلام) كان في مقام المقارنة بينه (عليه السلام) وبين خلفاء بني أمية وبني العباس، ولذا فلا يفهم منها مطلق منع القيام مع غير المعصوم ولو كانت من نواب الإمام بالعموم أيّ الذين نُصبوا بصورة عامّة من قبل الحجة المنتظر (عج) كالفقهاء.

ثالثاً: لو سلّمنا أنّ الروايات تقصد منع القتال إلاّ مع الإمام المعصوم، فحينئذ نضمّ هذا الدليل مع أدلّة ولاية الفقيه ــ التي سنبحثها فيما بعد إن شاء الله تعالى ــ ونجعلها حاكمة على هذا الدليل، ونقول: إنّ الفقيه بمنزلة المعصوم (عليه السلام) لأنّه منصوب من قبله، للنيابة عنه نيابة عامّة، فننتهي إلى نتيجة مفادها أنّ القتال مع الفقيه كالقتال مع الإمام المعصوم (عليه السلام)[3].

رابعاً: أنّ الأخذ بظاهر هذه الروايات غير ممكن على أي حال مع غضّ النظر عن الأجوبة السابقة. لأننا لو غضضنا الطرف عن الأجوبة السابقة، وأردنا الأخذ بالمعنى الحرفي للروايات، فإنّ القتال المشروع سيكون منحصراً في القتال الذي يكون المعصوم (عليه السلام) هو المشرف عليه، وعلى رأسه، وبمعية المقاتلين، ولا يكفي مجرّد إذنه بذلك.

فرواية، بشير حينئذ سوف تدلّ على أنّ القتال  الجائز إنّما هو القتال بمعية الإمام (عليه السلام) وبإشرافه فقط. وهذا واضح البطلان، ودليلنا على ذلك ــ على الأقلّ ــ هو القصة التأريخيّة الثابتة بشأن خروج الحسين بن علي (رضي الله عنه) صاحب ثورة الفخ[4] الذي خرج ضد السلطة الجائرة وبإذن من الإمام المعصوم (عليه السلام) لا بمعيّته وإشرافه.

وعلى هذا فإنّنا إذا عجزنا عن الأخذ بتفسير من التفاسير الثلاثة السابقة لهذه الروايات، وجب علينا حينئذ إرجاعها إلى أهلها، إذ لا يمكن الأخذ بمعناها الحرفي الظاهري كما اتضح.

روايات الطائفة الثانية: وهي الروايات التي تخبر عن أنّ من يخرج ضد الطاغوت قبل قيام القائم (عج) فسوف ينكسر ولن يحقق نجاحاً.

وروايات هذه الطائفة تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: هي التي أخبرت عن الانكسار فقط ولم تتضمن النهي عن الخروج.

القسم الثاني: هي التي نهت عن الخروج والقيام باعتبار أنّه يؤدّي إلى الانكسار دون مقابل.

أمّا روايات القسم الأول:

1 ــ فعن ربعي مرفوعاً عن السجاد (عليه السلام) قال: «والله لا يخرج أحدٌ منّا قبل خروج القائم إلاّ كان مَثَلُه كمَثَل فرخ طار من وكره قبل أن يستوي جناحاه فأخذه الصبيان فعبثوا به»[5].

2 ــ وعن الباقر (عليه السلام) قال: «مثل من خرج منّا أهل البيت قبل قيام القائم مثل فرخ طار ووقع من كوَّة فتلاعبت به الصبيان»[6].

3 ــ وعن الفضل الكاتب قال: «كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اُخرج عنّا، فجعل يسارُّ بعضنا بعضاً، فقال: أىَّ شيء تسارُّون يا فضل، إنّ الله عزّ ذكره لا يعجل لعجلة العباد. ولإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله، ثم قال: إنّ فلان بن فلان حتّى بلغ السابع من ولد فلان[7]. قلت: فما العلامة فيما بيننا وبينك جُعلت فداك؟ قال (عليه السلام): لا تبرح الأرض يا فضل حتّى يخرج السفيانيُّ، فإذا خرج السفيانىُّ فأجيبوا إلينا، يقولها ثلاثاً..»[8].

4 ــ وعن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): قال: «قلت له (عليه السلام): أوصني ــ إلى أن قال ــ واعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تعزّ ديناً إلاّ صرعتهم البليّة حتى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) لا يوارى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم، ولا يداوا جريحهم، قلت: من هم؟ قال: الملائكة»[9].

وعلى كل حال، فإنّ لحن الروايات لحن نهي عن الخروج بعلّة انكسار الخارجين وعدم حصولهم على ما يبغونه من تشكيل حكومة إسلاميّة.

وجوابنا على هذا هو أنّ تصريح الإمام (عليه السلام) بالانكسار هذا لا يدلّ على حرمة الخروج، فربّ خروج يؤدّي إلى ذلك وهو جائز لترتّب آثار ونتائج مهمة عليه، كما سيتبيّن ذلك عندما نروي الروايات المجوّزة للخروج فيما بعد. إضافة إلى أنّ هذه الروايات مقيّدة بقيد (منّا) والذي هو إشارة إلى أهل البيت بالمعنى الخاصّ لا كل من هو سيّد ومتصّل بالرسول (صلى الله عليه وآله) إلى يوم القيامة.

إنّ الذي يفهم من هذا القيد ــ وعلى حدّ التعبير الأصولي ــ سنخ قضية خارجية لا حقيقية، فلا يخبر (عليه السلام) عن كل قضية ولو قدّر وقوعها فيما بعد على سبيل الفرض. بل يخبر (عليه السلام) إخباراً غيبياً ويقول ما من أحد من أقربائنا الخاصّين قام إلاّ وانكسر. وكما تحقق ذلك بالفعل في قيام زيد بن علي (رضي الله عنه) والحسين بن علي  صاحب الفخ ويحيى بن عبد الله (رضي الله عنه) ومحمد بن عبد الله.

أمّا أنّ هذا يعني عدم جواز الخروج، فهذه مسألة خارجة عن عهدة الروايات. وكذلك الإخبار بأنّ كل من سيخرج سينكسر على نحو القضية الحقيقية الكليّة العامّة، فإنّ هذا معنى غير مستفاد من هكذا نمط من الروايات.

وأمّا روايات القسم الثاني: وهي التي نهت عن الخروج معللة ذلك بالانكسار فمنها:

1 ــ عن أبي الجارود بسند ضعيف جداً عن الباقر (عليه السلام)، قال: «قلت له أوصني: فقال (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله وأن تلزم بيتك وتقعد في دهماء هؤلاء الناس، وإياك والخوارج منّا فإنّهم ليسوا على شيء ولا إلى شيء، وأعلم أنّ لبني أمية ملكاً لا يستطيع الناس أن تردعه وأنّ لأهل الحق دولة إذا جاءت ولاّها الله لمن يشاء منّا أهل البيت، من أدركها منكم كان عندنا في السنام الأعلى، وإن قبضه الله قبل ذلك خار له، وأعلم أنّه لا تقوم عصابة تدفع ضيماً أو تُعزُّ ديناً إلاّ صرعتهم البلية حتّى تقوم عصابة شهدوا بدراً مع رسول الله، لا يوارى قتيلهم، ولا يرفع صريعهم ولا يداوا جريحهم، قلت: من هم؟ قال: الملائكة»[10].

فمن هذه الرواية قد يفهم النهي عن الخروج بقرينة صدر الرواية من قوله (عليه السلام): «وإن تلزم بيتك».

2 ــ والرواية الأخرى واردة في الصحيفة السجّادية عن متوكل بن هارون عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «ما خرج ولا يخرج منّا أهل البيت إلى قيام قائمنا أحدٌ ليدفع ظلماً أو ينعش حقاً إلاّ اصطلمته البلية وكان قيامه زيادة في مكروهنا وشيعتنا»[11].

وقرينة النهي في هذه الرواية هي قوله (عليه السلام) «زيادة في مكروهنا». فالخروج حرام وغير جائز لأنّه يزيد في مكروه وأذيّة أهل البيت (عليهم السلام). ولكننا وبلحاظ ورود لفظة (منّا) في الرواية يمكن أن نفهم منها أنّها خاصّة بأهل البيت (عليهم السلام) بالمعنى الخاصّ، كما في روايات القسم الأول.

3 ــ عن الحسين بن خالد، عن الرضا (عليه السلام)، قال: «لا دين لمن لا ورع له، ولا إيمان لمن لا تقيّة له، وإنّ أكرمكم عند الله أعملكم بالتقية، قيل: يا ابن رسول الله إلى متى، قال: إلى قيام القائم، فمن ترك التقية قبل خروج قائمنا فليس منّا...»[12].

إنّ هذه الروايات التي تمنع عن الخروج ومقاتلة الظالمين بحجة العجز عن الانتصار لا بحجة عدم وجود المعصوم (عليه السلام)، نعلّق عليها بتعليقة واحدة إلى حين ذكر الروايات الأخرى.

إنّ مفاد هذه الروايات هو النهي عن الخروج بعلّة الانكسار، ولنا أن نقول هنا بأنّ هذا ليس ممكناً وعلى نحو القضية العامّة الواسعة وإلى مدى بعيد من الزمن. وذلك لأنّ الإخبار عن حالة الانكسار المفترضة هنا لها أحد معنيين هما:

1 ــ إمّا الإخبار الغيبي عن الانكسار.

2 ــ أو الإخبار الغيبي عن الظروف والملابسات التي لا تؤدّي إلى الانتصار قبل الظهور.

ففي الفرض الأول، لوحظت مسألة الانكسار فقط، ولم تلحظ المؤشرات الظاهرية وأنّها هل تؤكّد الانتصار أو الهزيمة والانكسار. فالروايات تقول: متى ثرتم فسوف تنكسرون.

وفي الفرض الثاني: فإنّ الإمام (عليه السلام) لا يتكلّم إلاّ عن المؤشّرات الظاهرية، فيقول: إنّ الظروف غير مواتية للانتصار ولم تجتمع العوامل لذلك؛ ولذلك تكون وظيفة الخروج محرّمة ولا معنى لها.

أقول: إنّ كلا هذين المعنيين مقطوع الفساد.

أمّا الأول: فإنّ كون الإمام (عليه السلام) نظر إلى الواقع وأخبر إخباراً غيبياً عنه، بأنّه من خرج من شيعته سوف ينكسر، وإن أشّرت المؤشّرات إلى غير ذلك، فهذا أمر خلاف طبيعة الشرائع السماوية بما فيها شريعة الإسلام. لأنّ التكاليف والوظائف التي يكلّف بها الناس لا تدور مدار الواقع وإنّما تدور مدار المؤشّرات الظاهرية إلاّ ما شذّ وندر.

فأنبياء الشريعة ــ وبغض النظر عن موارد الإعجاز ــ كموسى وعيسى (عليهما السلام) ومحمد (صلى الله عليه وآله)، والأئمة الأطهار (عليهم السلام) والمؤمنون على طول خط البشرية كلهم أمروا بالتحرّك على وفق المؤشّرات الظاهرية لا على وفق بواطن الأمور وواقعها. فهذا موسى (عليه السلام) لم يجز قتل ذاك الطفل المعصوم على وفق ظاهر الحال وأجازه الخضر (عليه السلام)، الذي كان نبياً من غير أنبياء الشريعة، لأنّه تحرّك على وفق الواقع. وهذا نبينا محمد(صلى الله عليه وآله)، كان يحارب عندما يرى أنّ المؤشّرات تشير إلى احتمال الانتصار. وقد اتّفق أحياناً أن كانت النتائج ليست كما كان يتوقعها (صلى الله عليه وآله) فخسر بعض المعارك.

وهذا علي (عليه السلام)، كان يرى وبعين الواقع أنّ ابن ملجم (لعنه الله) قاتله، ولكنّه كان يتحرّك على وفق الظاهر ولم يقم (عليه السلام) بأي إجراء ضده قبل أن يرتكب جنايته.

وحارب الحسن (عليه السلام) عندما كان هناك أمل ظاهري بالنصر وصالح عندما أشارت الظروف إلى ضرورة الصلح، وهكذا...

فالشرائع قائمة على أساس المقاييس الظاهرية ولو أراد الله تعالى للناس أن يسيروا على وفق الملاكات الواقعية لكان حقاً عليه إرسال الممثلين عنه لإخبار الناس بأمور الغيب. ولمّا لم يحصل مثل هذا، فإنّ المقياس يبقى هو المقياس الظاهري.

وعلى هذا، فإنّ القول، بأننا لا يجوز لنا العمل والثورة لاستلام الحكم إلاّ بعد أن نضمن الفوز والانتصار قول مخالف لطبيعة الشريعة الإسلامية.

وأمّا الثاني: وهو أنّ كلام الإمام (عليه السلام) كان ناظراً إلى الظروف ويخبر عن الظاهر لا عن الواقع. فهذا أمر خلاف سنن الكون لا خلاف سنن الشريعة؛ لأننا قلنا سابقاً بأنّ الظروف والقدرات والإمكانات قد وزّعت من قبل الله تبارك وتعالى على الناس بشكل سواء. لأنّه تعالى أراد (أن يكون الناس أمة واحدة)، ولم يشأ أن يكون النصر إلى جانب الكفرة دائماً بحيث ترجح كفة الكفر على الإيمان في الدنيا دائماً.

قال تعالى {ولولا أن يكُونَ الناسُ أمةً واحِدةً لجعلنا لِمنَ يكفُرَ بالرحمنِ لِبُيوتهم سُقفاً مِن فِضة وَمعارجَ عليها يَظهرُون وَلِبُيوتِهم أبواباً وسُرراً عليها يتكئون وزُخرفاً وإِن كُلُّ ذلِكَ لمَّا مَتاعُ الحياةِ الدُّنيا والآخرةُ عِندَ ربِّك للمُتقينَ}[13].

فما معنى فرضية أنّه متى ما قام الكفّار انتصروا ومتى ما قام المؤمنون انكسروا؟ فهل معنى هذا القول هو أنّ الناس ليسوا أمة واحدة بل كل الفرص والكفاءات هي إلى جانب الكفرة؟! كلا فالأمر ليس كذلك كما أوضحنا سابقاً وكما دلّت عليه الآية المباركة آنفة الذكر.

والخلاصة: إنّ الروايات ومع ضعف سندها لا تُقبل وعلى كلا المعنيين، وإذا قبلناها فلا بدّ أن نقول:

1 ــ بأنّها ناظرة إلى فتره معيّنة من الزمن لا إلى هذه الفترة الطويلة بين الغيبة والظهور.

2 ــ أو أنّها ناظرة إلى الخارجين من أهل البيت(عليهم السلام) بالمعنى الخاصّ.

3 ــ أو أنّها صادرة على نحو التقية، أو ما أشبه.

روايات الطائفة الثالثة: هي الروايات التي تمنع عن الخروج والقيام ضد حكم الظلمة في زمن غيبة المعصوم، ويحتمل فيها احتمالان:

الأول: أن تكون ناظرة إلى شرط العصمة، فما دام المعصوم (عليه السلام) غير موجود ظاهراً ولا مشرف على القيام، فلابدّ من السكوت والسكون (ما سكنت السموات والأرض).

الثاني: أن تكون ناظرة إلى العجز وأنّ الظروف غير مواتية للقيام فلابدّ من التقية إلى حين ظهور الحجة (عج).

1 ــ عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم (عليه السلام) فصاحبها طاغوت يعبد من دون الله عز وجل»[14].

يستشف من الرواية أنّ صاحب هذه الراية طاغوت وذلك لأحد أمرين:

إمّا لأنّها تشترط العصمة في القيام، وصاحب الراية هنا غير معصوم، فلا يجوز له الخروج، ولو خرج مخالفاً النهي بالخروج فهو طاغوت.

وإمّا لأنّ الزمان زمان تقية والظروف غير مواتية للانتصار، ولأنّه تجاوز التقية وعرّض أرواح أنصاره للهلاك  فقد ارتكب محرماً وكان طاغوتاً.

2 ــ عن سدير قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «يا سدير الزم بيتك، وكن حِلْساً من أحلاسه، واسكن ما سكن الليل والنهار، فإذا بلغك أنّ السفياني قد خرج فارحل إلينا ولو على رجلك»[15].

فما دام السفياني لم يخرج فالزمان زمان سكوت، إمّا لأنّ العمل لابدّ له من معصوم (عليه السلام) على رأسه، أو لأنّ الظروف غير مواتية للانتصار، وهذا ما يوجب التقية وليس الخروج والثورة.

3 ــ عن جابر عن الباقر (عليه السلام): قال: «الزم الأرض ولا تحرّك يداً ولا رجلاً حتّى ترى علامات أذكرها لك، وما أراك تدركها: اختلاف بني فلان، ومناد ينادي في السماء، ويجيئكم الصوت من ناحية دمشق...»[16].

4 ــ عن عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: «خمس علامات قبل قيام القائم: الصيحة، والسفياني، والخسف، وقتل النفس الزكية، واليماني، فقلت: جعلت فداك إن خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات، أنخرج معه؟ قال: لا»[17].

إنّ الأجوبة على الشبهة التي تطرحها هذه الطائفة من الروايات نصنّفها إلى صنفين:

الأول: الأجوبة العامّة. والتي تعمّ هذه الروايات وأمثالها.

الثاني: الأجوبة الخاصّة. وهي أن تُدرس كل رواية على انفراد وتدقّق ليرى هل تدلّ على المدّعى أم لا؟

 

الأجوبة العامّة عن الروايات المانعة من الخروج

الأجوبة الخاصّة على الروايات المانعة من الخروج


[1]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 45.

[2]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 49.

[3]  وعلى هذا الأساس رجّح صاحب الجواهر (رحمه الله) جواز الجهاد الابتدائي للفقيه إن لم يتم الإجماع على خلاف ذلك. راجع الجواهر ج 21، ص 14.

[4]  ويقال لها ثورة الفخ.

[5]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 51.

[6]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، ح 48، ص 139.

[7]  فلان بن فلان إشارة إلى خلفاء بني العباس، ولعل قطع الجواب في هذا المقطع حصل بمقاطعة السائل للإمام أثناء تكلّمه.

[8]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 47، ص 297.

[9]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 41، ص 136.

[10]  بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 52، حديث 41، ص 136.

[11]  الصحيفة السجّادية المعروفة، نقلناه عن: «المعاني الجليّة في شرح الصحيفة السجاديّة، لنبيل شعبان، الطبعة الأولى، ص 26 ــ 27.

[12]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، باب وجوب التقيّة، ص 211.

[13]  سورة الزخرف، الآيتان:33 ــ 35.

[14]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.

[15]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 51.

[16]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 56.

[17]  وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 15، باب جهاد العدو، ص 52.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net