البيعة ومصدر الولاية
إننا نطرح على فكرة البيعة الواردة في الآيات والروايات ثلاثة احتمالات هي:
الأول: أنّ البيعة شرط فعليّة الولاية ووجوب الطاعة.
فطاعة الرسول والأئمة (عليهم السلام) الفعليّة تجب بعد البيعة لا قبلها، وفرق المعصوم عن غيره هو أنّ المعصوم (عليه السلام) تجب بيعته هو لا غيره، أمّا في غير عصر ظهوره فالناس لهم الخيار في من يبايعونه. وإنّ البيعة تحدد مقدار الطاعة بمقدار مضمونها.
وإنّ هذه الفكرة تحلّ مشكلة تعدّد الفقهاء مع الإيمان بولاية الفقيه، فمن تبايعه الأمة فهو الولي الواجب الطاعة دون غيره.إنّ هذه الفكرة وفي هذا المقدار، برأينا غير صحيحة؛ لأنّها تقول: بأنّ ولاية الرسول (صلى الله عليه وآله) قبل البيعة ليست ولاية فعليّة، وأنّ فعليّتها هي فرع البيعة.
وهذا خلاف الآية المباركة: {مَا كانَ لمُؤمِن وَلا مُؤمِنة إذَا قَضى اللهُ وَرَسُولُهُ أمراً أنْ يكونَ لَهُمْ الخيَرةَ مِنْ أمرِهِم}[6]، والآية: {النَّبيُّ أولى بِالمؤمنينَ مِنْ أنفُسِهِم}[7]. فالولاية ثابتة مسبقاً من قبل الله وبقطع النظر عن البيعة، وأنّ البيعة جاءت كفرع للولاية.
فبعد أن كان المعصوم (عليه السلام) وليّاً، وكانت طاعته واجبة بايعه الناس، فالبيعة لم توجب الولاية، بل العكس صحيح والرسول (صلى الله عليه وآله) في يوم الغدير قال: «.. ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى يا رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه»[8].
فقد ثبّت الرسول (صلى الله عليه وآله) ولاية علي (عليه السلام)، ثم طلب البيعة له، فهي إذن، ولاية قبل البيعة لا بعدها.
الثاني: أنّ البيعة لا علاقة لها بالولاية، وإنّما البيعة مجرد عقد يجب تنفيذه، وأنّ أحد طرفي العقد لابدّ وأن يكون وليّاً قبل هذا العقد.
فهي تؤكّد الولاية، والعاصي لأوامر الولي بعد ذلك مذنب ذنبين: الأول لأنّه عصى الولي، والثاني لأنّه نكث العهد.
وبهذا يندفع الإشكال الوارد على الوجه الأول، لأنّ النبي كان وليّاً قبل البيعة.
والحقيقة أنّ هذا التفسير هو خلاف ظاهر الحال في أغلب البيعات التي وقعت، فإنّ المسلمين الذين بايعوا علياً (عليه السلام) بعد مقتل عثمان لم يكن أغلبهم يؤمن بإمامة علي (عليه السلام) منذ يوم الغدير، فأكّد هذه الولاية يوم بيعته له بعد مقتل عثمان. بل كانت بيعتهم له (عليه السلام) من سنخ بيعتهم لأبي بكر وعمر وعثمان. وكذلك الناس الذين بايعوا الحسن والحسين والرضا(عليهم السلام) فإنّ بيعتهم كانت من سنخ بيعتهم لغير هؤلاء الأئمة (عليهم السلام) وإن اختلفت في المصاديق. فتفسير البيعة، بأنّها مجرّد تأكيد للولاية، يستدعي كون الولاية ثابتة مسبقاً في أذهان الناس ولا معنى لها إن لم تكن كذلك، وهذا ما لم يكن حاصلاً فعلاً.
الثالث: أن يقال بوجود مصدرين للولاية، وقد يجتمعان على شخص واحد، وهما:
1 ــ النصّ من قبل الله أو النبي على ولي الأمر.
2 ــ الانتخاب أو الشورى أو البيعة.
وقد يجتمعان في شخص واحد، فيقال في مقام أخذ النبي (صلى الله عليه وآله) البيعة له (صلى الله عليه وآله) أو لعلي (عليه السلام)، بأنهما قد اختارا اجتماع سببي الولاية فيهما، النصّ والانتخاب.
وما يذكر لرد فكرة كون البيعة تخلق الولاية أنّ هناك نصوصاً وردت للردع عن مثل هذه البيعة وإبطالها ودفع فكرة أنّ البيعة تخلق الولاية.
وقد جاء الردّ في الروايات الكثيرة والمتظافرة والمتوافرة الدالّة على اشتراط (العصمة والنصّ) بالنسبة للإمامة. وهذا ردع عن اعتبار البيعة خالقة للولاية أو الإمامة.
عن الصادق (عليه السلام) قال: «عشر خصال من صفات الإمام: العصمة والنصوص...»[9].
عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «إنّما الطاعة لله ــ عز وجل ــ ولرسوله ولولاة الأمر، وإنّما أمر بطاعة أولي الأمر لأنّهم معصومون مطهّرون لا يأمرون بمعصية»[10].
فاشتراط العصمة في الإمام ردع مستمر عن فكرة البيعة لأنّها لو تحقّقت ــ أي الإمامة ــ بالبيعة لما اشترطت الروايات العصمة والنصّ، لأنّ المتبايعين قد يبايعون غير المعصوم لأنّهم لا يشخّصون المعصوم من غيره.
نعم، سكوت المعصوم (عليه السلام) عن البيعة وعدم ردعه عنها مع كونه هو الولي وقبل انعقادها، قد يفسّر على أنّه كان يرى بأنّ مثل هذه البيعة طريق ووسيلة لكي يصل هو إلى الحكم الفعلي وتتحقّق بذلك حكومة المعصوم (عليه السلام).
وعليه فالردع كان بلغة شرط العصمة وشرط النصّ بالنسبة للإمامة.
وهناك ردّان على هذا الجواب:
الأول: قد يقال بأنّ (الإمامة) التي اشترط فيها العصمة والنصّ هي غير (الإمامة) محل البحث.
فالولاية: هي أن يكون الشخص وليّاً لأمور المسلمين وحاكماً عليهم.
وهذا أعمّ من مصطلح الإمامة عند الشيعة، فقد يكون الفقيه الجامع للشرائط والياً وهو ليس إماماً بالمصطلح الشيعي الخاصّ الذي يعتبر فيه أنّ الإمام هو السبب المتصل بين الأرض والسماء. فهذه الروايات إنّما هي بشأن الإمامة بمعناها المصطلح عند الشيعة.
وأمّا الولاية والحكم فيكفي فيهما الفقاهة والكفاءة والعدالة... وأمّا العصمة والنصّ فلا. فكل من بويع على وفق الشروط المثبّتة في محلها يصبح والياً مع انحصار الولاية بالمعصوم (عليه السلام) في زمن حضوره. إلاّ أنّ هذا الجواب قد لا يُرتضى من قبل البعض الذي يقول بأنّ الإمامة هي الولاية عينها. أمّا المعنى الجديد للإمامة والذي يعتبر درجة فوق الولاية ومنصباً إلهياً خاصاً فهو معنى حديث تركّز بالتدريج في أذهان الشيعة. والمعنى اللغوي للإمامة هو الولاية والقيادة ولا معنى لحمل الروايات على المعنى الاصطلاحي، بل لابدّ من حملها على المعنى اللغوي.
فحينما تقول الرواية أنّ العصمة شرط في الإمامة، فهي شرط في الحاكم والوالي وولي الأمر.
الثاني: هو الرد الأركز والأتقن، يقال فيه: مع تسليمنا بأنّ الإمامة قد استعملت بمعناها الاصطلاحي الخاصّ، كما يظهر في لحن كثير من الروايات، وأنّها الإمامة التي اشتُرطت فيها العصمة والنصّ، ولكنّنا نستفيد من هذه الروايات في بحث (الولي) أيضاً. وذلك لأنّ هذه الروايات لم ترد لتحلّق في عالم المثال والمفاهيم، ولم تبحث الإمامة بحثاً تجريدياً كبحث علم الكلام لها، وإنّما وردت وهي تنظر إلى الواقع الخارجي المعاش آنذاك. فهي وردت في شأن الطعن بخلفاء بني أمية وبني العباس، ورادعة عمّا هو ثابت في الحال وعن البيعة الواقعة آنذاك، وتثبت أنّ الطاعة إنّما تكون على أساس النصّ والعصمة المتوفّرة في الإمام المعصوم آنذاك لا إلى هؤلاء الأمراء الطغاة، فهي إنّما تردع عن المصاديق الذين بويعوا وقتئذ، ولا تردع عن فكرة البيعة.
وهناك فرق بين إبطال (فكرة البيعة) المبحوث عنها، وبين إبطال (متعلّق البيعة). فمن بويع آنذاك وجاء لحن الروايات داعياً إلى عدم طاعته، لم يكن واجداً لشرائط البيعة. فردعت الرواية عن طرف البيعة، ولم تردع عن أصل مبدأ البيعة وأنّها تخلق الولاية.
ولنتحدث وبصورة أكثر تفصيلاً عن هذين الشرطين، شرط (العصمة والنصّ) الواردين في الروايات وأثرهما في إثبات أو نفي فكرة البيعة.
العصمة والبيعة
لابدّ من التفريق بين إثبات شرط من الشروط في البيعة، وبين إبطال أصل فكرة البيعة من الأساس. وفي الافتراض الثاني، سوف لا يكون لنا ولي تتم له الولاية منذ زمان الغيبة الكبرى وإلى اليوم.
أمّا في الافتراض الأول، فإننا نقول بأنّ المبايع يجب أن يكون معصوماً. والأمران يختلفان في نقطتين أساسيّتين:
الأولى: لو افترضنا ــ مجرد افتراض ــ بأنّ المعصومين قد تعدّدوا في زمان ما، ولم يكن هناك نصّ يعيّن أحدهم للإمامة، فإنّ المسلمين يكونون مخيّرين بينهم ولو بايعوا أحدهم لكان هو الإمام، ولمّا بطلت فكرة البيعة هنا، فالعصمة شرط لمن يبايع لا كرد لأصل فكرة البيعة.
الثانية: لو تعذّر هذا الشرط، وهو شرط العصمة في الإمام، لسقط؛ لأنّ الشرط حين تعذّره يسقط، فالوضوء كشرط لبعض الأفعال مثلاً إذا تعذّر يسقط ويتحوّل إلى التيمّم مثلاً، ولا تسقط الأفعال المشروطة بالوضوء. وكذلك شرط العصمة في الولي زمن غيبة المعصوم شرط لا يمكن تحقّقه فيسقط للعذر والعجز، وهنا يظهر أثر البيعة في تعيين ولي الأمر، إذ لم تبطل أدلّة العصمة أصل مبدأ البيعة، بل خلقت شرطاً في متعلّق الولاية. غاية ما في الأمر أنّ المفترض بالناس أن يبايعوا عندئذ أفضل الموجودين، وبذلك تتمّ له الولاية.
النصّ والبيعة
وقد يقال: إنّ العصمة ليست أمراً حسيّاً يدركه الناس، وإنّما هي أمر لا يعلمه إلاّ الله، فلابدّ من النصّ عليها من قبله سبحانه وتعالى لكي لا يخطأ الناس في اتّباع غيره لعدم معرفتهم به.
وعلى هذا، ففي الزمن الذي يسقط فيه شرط العصمة بالعجز لغيبة الإمام المعصوم (عليه السلام)، فإنّ شرط النصّ يزول قهراً لملازمته لشرط العصمة، إذ إنّه لم يكن شرطاً بحد ذاته.
ومسألة أنّ النصّ إنّما جعل شرطاً غير مستقل، بل كدلالة على باقي الشروط، مسألة مستفادة من بعض الروايات:
1 ــ معاني الأخبار، بسنده عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «الإمام منّا لا يكون إلاّ معصوماً، وليست العصمة في ظاهر الخلقة فيُعرف بها، فلذلك لا يكون إلاّ منصوصاً»[11].
2 ــ الاحتجاج، عن سعد بن عبد الله القمي، قال: سألت القائم (عليه السلام) في حجر أبيه، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم، قال: «مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح، قال: هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟ قلت: بلى، قال: فهي العلة...»[12].
فالإمام القائم (عج) لا يقول لسعد بأنّ هذا باطل على أساس (مناقشة كبرويّة)، وأنّ البيعة لا تخلق الولاية، وإنّما يناقش (مناقشة مصداقيّة) فيقول: لابدّ من النصّ لأنّ الأمة لا تستطيع تمييز الصالح من المفسد والمعصوم من غيره وقت وجوده ظاهراً، وأمــّا في غير هذا الزمان، فلا حاجة لنا فيه إلى النصّ، فإنّ فكرة البيعة تعود لحالها ولن تردع مثل هذه الروايات وقتئذ عنها لأنّها قالت إنّ البيعة لا تحصّن الأمة عن الخطأ في الاختيار ولم تردع عن أصل فكرة البيعة ومن الأساس.
فالروايات هنا في مقام تحديد شرائط الولاية بالمعنى العام. فهي تردع عن البيعة وذلك بواسطة تعيين شرط العصمة فلا يُبايع غير المعصوم حينئذ. ولكن إذا سقط الشرط بالعجز، كما هو في زمن غيبة المعصوم (عليه السلام)، فإنّ فكرة البيعة تبقى على أصلها، لأنّ الروايات لم تردع عنها.
العدالة والبيعة
نعم، سقوط شرط العصمة لا يعني التنزّل وانتخاب أي أحد وبأي مستوىً كان، وهذا الأمر يمكننا تحصيله أيضاً من لحن الروايات بصورة عامّة، إذ يستكشف منها أنّها تريد القول بأنّ وليّ المسلمين يجب أن يكون أفضلهم، وفي وقت المعصوم (عليه السلام) يتعيّن هو، إذ هو الأفضل، وفي وقت تعذّر وجوده ظاهراً، يتعيّن الأفضل فالأفضل، ممن يكون مؤهّلاً للولاية. ولعل هذا هو السبب في أنّ الروايات الواردة بشأن الإمامة والولاية ليست كلها تنصّ على شرط العصمة في الوالي والإمام، بل أغلبها، وأنّ القسم الآخر ينصّ على شرط العدالة لا العصمة.
فعن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «لا تصلح الإمامة إلاّ لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يملك به غضبه، وحسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم»[13].
ولئن كانت العدالة شرطاً فيمن يُقلَّد «فأمّا من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً على هواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلّدوه..»[14] مع كون التقليد شعبة من شعب الولاية وأدناها، فهي شرط ومن باب أولى فيمن تُسلّم إليه أعلى مراتب الولاية ويتحكّم في أموال ورقاب المسلمين.
وبمناسبة الحديث عن (العصمة) و (العدالة) نشير وباختصار إلى الفارق بينهما بأحد نحوين فنقول:
الأول: العصمة: هي تلك الدرجة العالية من الملكة التي تمنع صدور أي ذنب أو زلة من المعصوم طيلة عمره الشريف.
وأمّا العدالة: فهي تلك الملكة التي لا تمنع الإنسان العادل بصورة تامّة عن ارتكاب أي ذنب أو زلة طيلة عمره.
فقد يزلّ ويخطأ مع امتلاكه لتلك الدرجة من الملكة الرادعة، ولكنّه يعود فوراً وبعد صدور الذنب منه فيتوب ويستغفر، فإذا فعل ذلك عادت له تلك الملكة مرة ثانية بعد أن فقدها فترة ارتكابه الذنب وقبل توبته.
الثاني: العصمة: هي تلك الحالة النفسيّة التي تقف أمام كل مغريات العالم وبكل أشكالها وألوانها حتّى لو اجتمعت تماماً على سبيل الفرض في لحظة واحدة على شخص المعصوم الشريف.
فعن الإمام علي (عليه السلام):«والله لو أعطيتُ الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلُبُها جُلْبَ شعيرة ما فعلته..»[15]. ففي الرواية كفاية عن فرض اجتماع المغريات كلها على شخص الإمام دون أن تهزّه وتجرّه لارتكاب أصغر الذنوب وأدناها.
وأمّا العدالة: فهي ملكة تقف أمام المثيرات الاعتيادية وتمنعه من ارتكاب الخطأ والزلّة. وقد لا تستطيع الوقوف أمام المثيرات والمغريات الأكبر من هذه. والخلاصة فإنّ شرط العصمة وبالشكل الوارد في الروايات لم يمنع عن الأخذ بفكرة البيعة على أساس مبدأ ولاية الفقيه. فإنّ مبدأ ولاية الفقيه يعني افتراض شرط من الشروط فيمن يُبايع وهو (الفقاهة)، وإن توفّر هذا الشرط فيمن يُنتخب، بالإضافة إلى شروط أخرى تذكر في محلّها، نضمن وعلى وفق القدر المتيقّن، انتخاب أفضل الموجودين.
وعلى كل حال، فإنّ فكرة البيعة لو تمّت وبهذا الشكل لحلّت مشكلتين:
الأولى: مشكلة ولاية الفقهاء بعضهم على بعض، فلو كان مبدأ الولاية منحصراً بالنصّ، وهذا النصّ ورد على أنّ الفقهاء هم الحكّام زمن الغيبة، فكيف تثبت ولاية فقيه على فقيه آخر؟.
ففي قوله (عج): «وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجتي عليكم وأنا حجة الله عليهم»[16] فُسّر الرواة بالفقهاء، فالفقهاء إذن، هم الأولياء، ولو اقتصرنا على هذا النصّ، فكيف نثبت ولاية فقيه على فقيه آخر؟ فهل تكون الولاية لكل الفقهاء وفي عرض واحد؟ وأنّ لكل واحد منهم ولاية على الآخر بمعنى (الولاية المتبادلة) مع غرابة مثل هذه الولاية على أذهان العقلاء؟ أم أنّ لهؤلاء جميعاً ولاية على الناس، أمّا فيما بينهم فلا ولاية لهم مع ما في هذا القول من ثغرة، ولو حكم أحدهم حكماً ولائيّاً، فهل ينفذ هذا على باقي الفقهاء، وعلى أي أساس يكون هذا؟
إنّ البيعة تحلّ كلّ هذا. فمع أنّ كل واحد منهم وليّ بحكم الرواية تلك، إلاّ أنّ الذي تتمّ له البيعة؟ يتمّ له مصدر ثان للولاية دون غيره. وستعطيه هذه البيعة ولاية أوسع مما كانت له، وستكون له الولاية على كلّ الآخرين، فإذا أمر لابدّ للفقهاء الآخرين من طاعته.
الثانية: وكذلك فإنّ فكرة البيعة تملأ نقطة فراغ أخرى وتحلّ مشكلة أخرى، وهي مشكلة تعدّد الفقهاء المتصدّين.
فلو أنّ عدداً منهم تصدّى للأمر وكل منهم يريد أن يحكم فما هو الحال؟
وممّا يذكر كتصويب للجمع بين الولايات هو تشكيل مجلس (شورى القيادة) فهم جميعاً فيما بينهم يتوافقون على تشكيل مجلس قيادة بحيث لا يتفرّد أحدهم بالأمر.
ولكن هذا الحل، متوقّف على سعة مجلس الشورى وضيقه، وتتناسب قوة المجلس عكسياً مع ذلك. فكلّما اتسع ضعفت قوته وكلّما ضاق ازدادت قوته. وحينئذ، تلعب فكرة البيعة دوراً مهماً في هذا المجال، فإنّ البيعة إمّا أن تتمّ لفقيه واحد أو لفقيهين أو لأكثر قليلاً من بين جماعة الفقهاء المتصدّين ولا تتمّ لعدد كبير منهم وبشكل واسع، وهذه مسألة عمليّة أكثر منها نظرية، ويساعد عليها الواقع العملي كثيراً. وحينذاك، وبعد أن تتم البيعة لهذا العدد المحدّد من الفقهاء، يتمّ تشكيل شورى القيادة وبشكل معقول وعملي وقوي.
وفي خاتمة البحث نشير إلى صحيحة عيص بن القاسم إذ فيها ــ حسب رأينا ــ تأييد لفكرة البيعة.
فعن عيص بن القاسم عن الصادق (عليه السلام) يقول: «.. إن أتاكم آت منّا فانظروا على أي شيء تخرجون، ولا تقولوا: خرج زيد، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً، ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد (صلى الله عليه وآله) ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه...»[17].
والشاهد في قوله (عليه السلام): «ولم يدعكم إلى نفسه، وإنّما دعاكم إلى الرضا من أل محمد...» وأنا أفهم من (الرضا من آل محمد) أي من يُرتضى من آل محمد ويُختار، ففي العبارة إشارة إلى مبدأ الاختيار والارتضاء والبيعة.
صفوة القول في البيعة
وصفوة القول في البيعة: إنّ الذي يبدو لنا أنّ البيعات الواقعة في زمن المعصومين سواءاً ما كان منها مع أئمّة العدل أو ما كان منها مع أئمّة الجور، لم تكن تخلو من جذر عقلائي لها، ولم نجد ردعاً عن ذلك من قبل الشريعة، وغاية ما هنالك هي الردع عن بعض التطبيقات أو بيان شروط لابدّ منها في الولاية أو الإمامة.
وذاك الجذر العقلائي لا يوجد فيه عدا احتمالين
الأول: ما نُسب أخيراً إلى جان جاك روسو من فكرة العقد الاجتماعي بين الأمة والقائد ليدخل ذلك تحت الديموقراطيّة، وأنّ مصدر الولاية على الناس هم الناس أنفسهم.وعندئذ فالذي يعتقد بولاية المعصومين (عليهم السلام) قبل البيعة يستطيع أن يقول: إنّ البيعة تفيد في المعصوم تأكيد الولاية، وفي غير المعصوم تأسيس الولاية. والذي يسوّي بين المعصوم وغير المعصوم أو لا يعتقد أساساً بالعصمة يستطيع أن يقول: إنّ البيعة هي المصدر الوحيد للولاية.
ونحن بغضّ النظر عمّا أوضحناه في كتابنا أساس الحكومة الإسلاميّة من الأخطاء الكامنة في فكرة جان جاك روسو نقول هنا: إنّ الجذر العقلائي للبيعات التي وردت في تأريخ الإسلام لا يمكن أن تكون هي فكرة العقد الاجتماعي أو حكم الناس أنفسهم بأنفسهم، لأنّ تطبيق هذه الفكرة بحاجة ــ على الأقلّ ــ إلى بيعة أكثريّة الناس من ناحية وإمضاء الأقليّة لقانون نفوذ رأي الأكثريّة من ناحية أخرى؛ كي يصدق بذلك أنّ المجتمع ككل أصبح طرفاً لهذا العقد، فيتمّ عنوان حكم الناس أنفسهم بأنفسهم بتمام معنى الكلمة، ومجرّد بيعة ثلّة من الناس أو أهل الحلّ والعقد أو شورى عيّنها الخليفة السابق أو ما إلى ذلك لا يوجب صدق هذا العنوان. وهذا الشي بهذه الخصوصيات لم يقع في شي من البيعات الواقعة في التأريخ، ولعلّ أوسع بيعة وقعت في تأريخ الإسلام بلحاظ حضور النسبة المئويّة من المسلمين ومبايعتهم هي بيعة الغدير والتي لم يف بها المسلمون.
ولم أرَ مثل ذاك اليوم يوماً ولم أرَ مثله حقّاً أضيعا
وأمّا الخلفاء الثلاثة الذين تقدّموا على عليّ (عليه السلام) فلم يحدّثنا التأريخ بانتظار أيّ واحد منهم تحقّقت البيعة له من قبل أكثريّة المسلمين حتى يمارس الحكم، بل العكس هو الذي حدّثنا به التأريخ، وكذلك الحال لدى خلفاء بني أميّة وبني العباس؛ خاصّة من سار منهم ــ عملاً ــ على نهج وراثة المُلك.
والثاني: هو المناسب للبيعات التي وقعت في الإسلام وهو أنّ البيعة عقد وعهد بين المبايَع له من ناحية، والمتبايعين من ناحية أخرى ولو كانوا بلحاظ النسبة المئويّة للمسلمين أقلّ من الآخرين. وأثر ذلك هو أن يثق المبايَع له بوفاء عدد من المبايعين بتعهدهم، من دون فرق في ذلك بين افتراض المبايَع له وليّاً واجب الطاعة قبل البيعة كما هو رأي الشيعة في المعصومين، أو افتراضه حاكماً جائراً لا يملك الولاية حتى بعد البيعة، أو افتراضه ممّن تجب عليه كفايةً إدارة أمور المسلمين كالفقهاء لدى غيبة الإمام على رأي، وعدول المؤمنين على رأي آخر. وتكون البيعة شرعاً واجبة الوفاء في الفرض الأول والثالث لأنّها عقد وعهد تعلّق بأمر مشروع وقد أمرنا القرآن بالوفاء بالعقد والعهد، ولا يجب الوفاء في الفرض الثاني بل يحرم ذلك لأنّ متعلّق العقد والعهد كان أمراً غير مشروع ولا قيمة لعقد أو عهد تعلّق بأمر غير مشروع.
[6] سورة الأحزاب، الآية:36.
[7] سورة الأحزاب، الآية:6.
[8] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 28، ص 98.
[9] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25، ص 140.
[10] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25، ص 200.
[11] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 25 ص 194 و ص 200.
[12] بحار الأنوار، مصدر سبق ذكره، ج 23، ص 68.
[13] الأصول من الكافي ج 1، مصدر سبق ذكره، ص 407.
[14] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 27، ص 131.
[15] نهج البلاغة، مصدر سبق ذكره، الخطبة 224، ص 247.
[16] الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، طــ 2، 1395 هــ، ص 484.
[17] وسائل الشيعة، مصدر سبق ذكره، ج 11، باب جهاد العدو، ص 50.
|