المقدمة
شهد الفقه الإسلامي في غضون العشر وبضعة سنين الماضية تطوّراً كبيراً في مجال بلورة النظرية السياسية الإسلاميّة على صعيد تأسيس الحكومة وقيادة الدولة وفق مبدأ ولاية الفقيه، وقد كان لتأسيس الدولة الإسلاميّة على يد الإمام الخميني (رض) التأثير الكبير في دفع عجلة التنظير في هذا الاتجاه، من حيث كون التنظير أصبح حاجة عملية وضرورية يمليها الواقع المعاش للنظام السياسي الإسلامي، ومجمل التحدّيات التي تواجههه، وهي تحدّيات تجد حلولها في التأسيس الفقهي الذي يضطلع به الفقهاء الواعون.
إنّ أصل التفكير في المسألة السياسية من قبل الفقيه كان يواجه عقبات كثيرة من قبل الذين لا يرون أنّ ثمّة جدوى من هذا التفكير طالما أنّ السياسة بنظرهم لا تتلاقى مع الفقه أو وظيفة عالم الدين حيث إنّ أمرها متروك للسياسيين، وللفقه والفقيه مجالاتهما الخاصّة التي ليس بينها التصدّي لقيادة المجتمع وسياسة الأمة، وإنّ أمر إصلاح شؤون الرعية متروك للمعصوم الغائب بعد ظهوره (عج).
وكان مقتضى الأمر هو إرجاء التعاطي مع السياسة إلى زمن ظهور المعصوم(عليه السلام)، وترك الأمور على ما هي عليه ولمزيد من العبثيّة والفوضى والانحلال، فلربّما تعجّل الفوضى (والفساد) بظهور المنقذ الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً!؟
وكان أخطر ما في هذا الاتجاه أنّه يتشبّث بمبرّرات (شرعيّة) ويدّعي استمداده مرجعيّته الفكريّة والتشريعيّة من ذات العقيدة الإسلاميّة، أو من موروث فقهي وكلامي قديم قرر إرجاء العمل السياسي إلى حين بعيد المدى وربّما لا متناهي!.
لقد كان وراء هذا الاتجاه أسباب ــ ظرفيّة ــ كانت قائمة وقت صدور هذه الآراء منها ما هو موضوعيّ ومنها ما هو نفسيّ ومنها ما هو حكومىّ (سلطانيّ) نجم عنها بشكل عام هذا التداعي الخطير على صعيد المعرفة الإسلاميّة والواقع الاجتماعي السياسي للأمة.
فالأسباب الموضوعيّة لمدرسة الإرجاء السياسي، تتمثّل في القمع الحكومي الذي كانت تمارسه السلطات الحاكمة في العالم الإسلامي ضد أتباع مدرسة أهل البيت حيث كانوا يمثّلون الطريقة الصحيحة في المنهج والفكر والعقيدة، الأمر الذي جعلهم مستهدفين من قبل تجارب الحكم المنحرف الذي حكم المجتمع الإسلامي بعد وفاة رسول الله (ص)، وكان طبيعيّاً أن ينكفأ العمل السياسي ويتضائل تدريجياً إلى أن وصل إلى حالة نكوص شبه مطلق في عصر الغيبة الكبرى انعكس سلباً حتّى على مسألة التعاطي النظري مع القضايا السياسية.
أمّا الأسباب النفسيّة فتتمثّل بما يمكن تسميته بــ (صدمة الغيبة) التي نجمت عن غيبة الإمام الثاني عشر (عليه السلام) رغم أنّه خفّفت شيئاً مّا شدّتها الغيبة الصغرى الممهّدة للتحوّل الكبير في مسار الإمامة، إلاّ أنّ تلك الصدمة النفسيّة انعكست بهيئات عدّة كان أبرزها تصوّر عدم إمكانية الانتصار بغير المعصوم (عليه السلام)، تطوّر بعدئذ إلى تبريره فكرياً وعقائدياً، فصار كل قيام وثورة وتعاط مع السياسة قبل ظهور المعصوم ــ في زمن الغيبة الكبرى ــ يعد عملاً غير صحيح وربّما انحرافيّاً، محكوم عليه بالفشل.
على أنّ ثمّة من كان يغذي هذا الاتجاه ويكرّسه أكثر فأكثر، ولأغراض تتمثّل في إقصاء التشيّع عن ساحة الفعل التاريخي العمل السياسي والاجتماعي، هو حكومات الجور والانحراف التي كان من مصلحتها ظهور هذه الآراء والاتجاهات في حركة التشيّع لإقصائه نهائياً من الحياة. فتكرّس الخوف من السلاطين مع الصدمة الناجمة عن غيبة الإمام (ع) لانتاج نمط جديد وفريد للحياة الإسلاميّة (الشيعيّة) جعلها في نهاية المطاف محجورة مقصية مستسلمة لأقدار السلاطين ومقتضيات القدر..
أمّا السبب الحكومي السلطاني فهو ما كانت تمارسه سلطات الجور من تحريف مقصود للفكر الإسلامي في محاولة منها لاكتساب شرعيّة الحكم وإسكات المعارضة من خلال عملية معقدة من تزييف الحقائق والمبادئ سُخّر لها فقهاء وشعراء ومبتدعون، وكانت تسير جنباً إلى جنب مع سياسة البطش والقمع لكل معارضة مهما بدت ضئيلة، فنتج عنه تراث ضخم من الفقه السلطاني (الحكومي) الذي تكرّس يوماً بعد آخر إلى أن امتد إلى عصرنا الحاضر بهيئة نظريات وقوالب تميل باتجاهها العام إلى تبرير سلطة الحكّام وسلوكهم من خلال عملية شرعنة مزيفة وخاطئة فيما سحبت بساط الشرعيّة من كل معارضة!؟
وكانت النتيجة العملية أن برزت مدرسة فقهيّة ــ كلاميّة متحالفة مع الأنظمة السياسيّة الجائرة أخذت على عاقتها إجراء أكبر عملية تحريف (تزييف) فكري (فقهي وكلامي) في تاريخ المسلمين، وقد زاد في زخم تأثيراتها وانتشارها خلوّ الساحة من معادل نوعي معارض على صعيد المسألة الفقهيّة في الجوانب السياسيّة والاجتماعيّة للأسباب المذكورة آنفاً. ممّا جعل الطائفة الشيعيّة التي ولدت في رحمها (مدرسة الإرجاء السياسي) فقيرة ــ إلى حد ما ــ في الإنتاج الفكري عموماً والفقهي على وجه الخصوص.
خلافاً للطائفة الأخرى التي ولدت في رحمها مدرسة (الفقه السلطاني) والتي اعتنت بالأفكار والآراء والنظريات على هذا الصعيد.
إنّ جهاد وعطاء العلماء الشيعة في التاريخ المعاصر ليؤكّد على عظيم المسؤوليات التي نهضوا بها وتحمّلوا أعباءها في خضمّ التحولات الكبيرة التي طرأت على مجتمعاتنا الإسلاميّة خصوصاً بعد بروز الظاهرة الاستعماريّة وما نجم عنها من تداعيات كثيرة على صعيد الجغرافيّة السياسيّة، وقضايا المجتمع، وعلى صعيد الوعي والالتزام.
وكان باكورة جهادهم مقاومة الاستعمار والتغريب وبلورة الموقف الإسلامي الخالص من خلال تغلغلهم التربوي والثقافي في الأوساط الشعبيّة والذي أتاح لهم تأسيس الظاهرة السياسيّة التي لم تكن قد تبلورت في أشكال اجتماعيّة ملموسة رغم وجود النشاط الحزبي النخبوي، والذي ما انفكّ يقلّل من شأن العلماء المجاهدين ويقدح في وطنيتهم ونضالاتهم، ويطرح البدائل النخبويّة لإزاحتهم من ساحة الفعل التاريخي، وصولاً إلى تحطيم الأرضيّة التي أقاموها والتي تحولّت بمرور السنين إلى برنامج عمل واضح انتج في نهاية المطاف الكيان المؤسسي الإسلامي متمثّلاً في الدولة الإسلاميّة، وفي بلورة النظريّة السياسيّة الإسلاميّة المعاصرة.
لقد كان ولم يزل أمام الفقهاء مهمات واسعة وخطيرة، ولعل أبرز تلك المهمات كسر طوق الجمود الفكري والفقهي الذي نجم عن الأوضاع التاريخية وموروث التجارب السابقة، والاستجابة لمتطلبات العصر، والدولة الإسلاميّة التي أمست وجوداً حضارياً تجاوز المسألة السياسية، بل وتجاوز جميع العقبات الموروثة من التاريخ في الاتجاهات التي مرّ ذكرها.
والمسألة المطروحة اليوم على بساط البحث هي مسألة التحديات الجديدة التي أفرزتها تجربة تطبيق الإسلام المعاصرة من جهة، والتحديات التي وفدت من التجربة الأوربية والتي وصلت موجاتها إلى مجتمعاتنا على هيئة دعوات لعزل الدين عن السياسة وعلمنة الدولة والمجتمع على وفق (ما لله لله وما لقيصر لقيصر)، وعلى هيئة تداعيات امتدت إلى داخل الكيان الإسلامي ذاته من جهة أخرى، وهذا هو مكمن الخطورة في الوقت الراهن.
وقد قررت تلك التداعيات مماهاة موجة التغريب والعلمنة وشعاراتها في النهضة والتقدم والحداثة والعصرنة والتشبّه بها تحت ضغط هاجس اللحاق بالعصر ــ إذا ما أحسنا الظن بدعاتها ــ، أو تحت تأثير غير مباشر (أو مباشر) من الأورَبَة والتغريب الممتدين إلى داخل الكيان الإسلامي واللذين تبشّر بهما وتحمل تداعياتهما طبقة ثقافية سياسية نخبوية تشكلت على غرار تشكل النخبة العلمانية، وتعيش على هامش الإسلام، فتفكر خطأً وتنفث سمومها في أوساط المجتمع على هيئة إشكالات وطروحات تتحدث عن عزل «طبقة العلماء» عن السياسة والفكر، واستبدالهم تارة بمشروع النخبة الإسلاميّة المتحالفة في إطار سياسي[2] (حزب)، أو في أي إطار آخر (جامعي ــ أكاديمي)[3]، وتارة أخرى من خلال طرح عناوين بديلة أو منافية من أمثال (المثقف الإسلامي) و (المفكر الإسلامي)[4] في غمرة الانفلات الفكري ــ الذي لا يخضع لأية محدّدات وموازين ــ الذي يمثّل إحدى حالات التثاقف الطارئة والشاذة، وتحت طائلة دعاوى قاصرة تتمحور حول فكرة أنّ النهضة الأوربية لم يصنعها علماء الدين وإنّما صنعها المثقف والمفكر المتحرر والمتنور بأفكار الحداثة ومرجعيات العصر الحديث، وهي مرجعيات أهون ما يقال عنها (وفيها) أنّها تنحو منحىً انحرافياً يبتعد بها عن السماء. وهي إن كانت ملائمة للمجتمعات الغربية فلا يمكن أن تتجانس مع مجتمعاتنا أو تكون مقبولة من قبلها.
وقد تظهر هذه التحديات بهيئة مقولات فكرية متوترة وعصابية أكثر من ظهورها العلمي والمعرفي إذ هي تزعم ــ مثلاً ــ خلو الإسلام من تشريعات لنظام دولة سياسية، وأنّ الدولة لا يشترط فيها إسلاميتها بل يشترط فيها أن تكون (ديمقراطية) تمثل جمهورها الذين هم من المسلمين.
أو يقول البعض بأنّ مبدأ ولاية الفقيه هو مبدأ ابتدعه فقهاء الشيعة المعاصرين لتطوير النظرية السياسية الشيعية التي واجهت طريقاً مسدوداً مع طول غيبة الإمام الثاني عشر (عج)، فكان هذا المبدأ بمثابة نظرية جديدة وبديلة لفكرة الانتظار التي سأمها الشيعة إلى آخر هذه الترّهات التي لا يمكن حملها على الفكر وعلى الإسلام، ولا يُحكم على قائليها بأقلّ من الشطط والانحراف والانتهازية الفكرية والعقائدية.
ولكن وعلى رغم ذلك فإنّ ما يمكن به وصف هذه الآراء أنّها تتحدى مشاعر وعقيدة الطائفة وربما تهدد المجتمع بالافتراق وخلق البلبلة الفكرية من خلال محاولة نسف الأسس والمرتكزات التي قام علها المجتمع الشيعي ــ والتى هي أحد أبرز خصائصه ــ والتي أكسبته صبغته المعينة وقوّته إزاء أعاصير الأعداء الموجّهة ضدها ــ أي الأسس والمرتكزات ــ، وهذا ما يجعل المسؤولية مضاعفة لمواجهة هذه التداعيات بطرح علمي بديل يجيب على الاستفهامات المثارة من أجل تحصين المجتمع من تأثيراتها الضارة.
أمّا التحديات التي تتّسم بالموضوعية والطرح العملي، أو التحديات التي يفرزها تطور الواقع الاجتماعي، فهي التي تحتاج إلى إجابات علمية ودراسات موضوعية تقع مسؤوليتها أولاً وأخيراً على عاتق الفقهاء.
وإنّنا وجدنا سماحة آية الله السيد كاظم الحائري (دام ظله) قد وعى هذه المسألة مبكراً فكتب في مجال الفقه السياسي الإسلامي ما كانت الساحة الاجتماعية، والمكتبة الإسلاميّة بحاجة ماسة إليه، وقد كان باكورة أعماله الفكرية ــ السياسيّة كتاب «أساس الحكومة الإسلاميّة» الذي صدر عام 1979 م، ثم أعقبه بكتاب «الكفاح المسلّح في الإسلام»، ثم كتاب: «ولاية الأمر في عصر الغيبة»، ثم هذا الكتاب: «المرجعية والقيادة»، والذي هو في أصله سلسة محاضرات تمّ تجميعها وإعدادها بالشكل الماثل حالياً في الكتاب، ذلك غير عشرات الدراسات والمحاضرات المنشور منها وغير المنشور، في هذا المجال.
إنّ جلّ ما حوته هذه الإصدارات في مجال الفقه السياسي الإسلامي هو مناقشة الأسس التي تستند إليها النظرية السياسية الإسلاميّة في الحكومة وقيادة الدولة وإدارة المجتمع، ودحض النظريات الأخرى ومناقشة أدلّتها، وترجيح الأساس الذي قامت عليه بحوث سماحة المؤلف، وهو أساس مبدأ ولاية الفقيه، وبأسلوب استدلالي مقارن ناقش النظريات الأخرى كالديمقراطية والشورى، وما إلى ذلك من نظريات وآراء فقهية مطروحة، وردَّ عليها مؤسّساً للنظريّة الإسلاميّة المتبناة.
لقد جاء كتاب «المرجعية والقيادة» حاوياً على جلّ الموضوعات المشار إليها آنفاً، فاحتوى على ثلاثة فصول، وكان الأول مكرساً لدراسة مبدأ الحكومة (الولاية) في الأنظمة السياسيّة العلمانيّة والإسلاميّة مفصّلاً في هذه الأخيرة على صعيد مفهومي الانتخاب والبيعة وأدلّتهما مع تركيزه البحث في البيعة لكثرة الشبهات المثارة حولها.
وفي الفصل الثاني كرّس البحث حول مبدأ ولاية الفقيه من حيث مبانيه العامّة وتعدّد الآراء فيه، ومناقشة كل رأي على حدة، سواء القائلين به أو المنكرين له، وتأكيده في نهاية المطاف على مبدأ الولاية مع بيان حدوده روائياً وعلى صعيد الواقع السياسي والاجتماعي.
وفي الفصل الثالث فقد كرّس البحث فيه للردّ على الشبهات والإشكالات المثارة ضد المرجعيّة الدينية خصوصاً تلك المثارة من قبل بعض الأحزاب الإسلامية، وبيان نمط العلاقة الصحيحة التي يمكن أن تربط تلك الأحزاب بالقيادة المرجعية مع بيان صفوة الإشكالات المثارة على نهج العمل الحزبي في الإسلام ومناقشتها بأسلوب علمي وشرعي متجرّد.
إنّ هذا الكتاب هو الكتاب الثاني في سلسلة إصدارات مكتب سماحة آية الله السيد كاظم الحائري (دام ظله)، ونأمل بتوفيق من الله تعالى أن تصدر الكتب الأخرى تباعاً، وأن تكون ذات فائدة وقبول من قبله تعالى، إنّه نعم المولى ونعم النصير.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين
المعد
زين العابدين البكري
[2] هذا رأي طرحته بعض الأحزاب الإسلاميّة.
[3] هذا الرأي طرحه أستاذ جامعي إيراني أثار ضجّة حول أفكاره في السنوات الأخيرة.
[4] راجع افتتاحيّة مجلّة التوحيد، تصدر عن مؤسسة التوحيد للنشر الثقافي، العدد (77)، ربيع الأول 1416هــ ــ آب 1995 م.
|