القسم الثالث: التنصيب، الولاية، الانتخابات
37 ـ ما معنى التنصيب؟
الجواب:
التنصيب يعني تعيين الفقيه الحائز على الشروط العلمية والعملية من قبل الأئمة المعصومين عليهم السلام لمنصب الإفتاء والقضاء والولاية في عصر الغيبة، أي تنصيب صاحب العنوان في المنصب والمقام، وهذا بمعزل عن إعلان الشرائط. ان الأمة لا تنتخب الفقيه لمنصب الإفتاء والقضاء ليكون وكيلا عنهم لاستحصال الفتوى أو لغرض استنباط الأحكام القضائية وتطبيقها، وهكذا الحال بالنسبة للولاية التي تمثل المنصب الثالث للفقيه فلا يتخذه الناس وكيلا لهم للحكم، ان الفقيه نائب الإمام المعصوم "ع" من هنا فهو ولي الإفتاء، وولي القضاء، وولي الحكومة.
ان رواية عمر بن حنظلة مقبولة من حيث الدراية رغم الإشكال الوارد عليها من ناحية رجال السند، وهذه المقبولية بين الأصحاب دليل على ان الرواية المذكورة تنطوي على مجموعة من القرائن والشواهد بها تثبت صحة الرواية وتؤيدها، ولقد جعلها علماء الإسلام موضع استدلال في مبحث الفتوى والقضاء، فهي إذن حجة، ففي هذه الرواية يقول الإمام "ع":" فارضوا به حكماً فإني قد جعلته عليكم حاكما"[1].
فلم يقل الإمام "ع": " فارضوا به حكماً واتخذوه وكيلا " وإنما قال: فإني قد جعلته عليكم حاكما،.
ان عبارة " فارضوا به حكماً " تتعلق بالقضاء، أما عبارة " فإني قد جعلته عليكم حاكما" ـ وهي تعليل ـ فإنها ترتبط بالحكم والولاية، ولقد شابه الشيخ الأنصاري "رض" صاحب الجواهر "رض" بالقول بأن مهمة الحاكم سواء في ما مضى من زمان أو في عصر صدور هذه الرواية تتمثل في شيئين أحدهما فض النزاع والقضاء والآخر حكم ولائي وإجرائي، وهكذا كان الأمر في العصر العباسي فقد طبق الإمام المعصوم "ع" كلا المنصبين الواردين في المقبولة وعين الفقيه الحائز على الشرائط لذلك.
بناءاً على ذلك فإنّ الأئمة المعصومين عليهم السلام جعلوا المناصب الثلاثة ـ الإفتاء، القضاء، الولاية والحكومة ـ حقّاً للفقيه الحائز على الشرائط، بل مسؤولية له، والملاحظة الأخرى هي ان هذه المناصب الثلاثة متبلورة في الفقيه قبل تأييد الأمة أيضاً، وبتأييد الأمة تتحقق على الصعيد العملي والخارجي.
ملاحظة: ان ما يجب وضعه من قبل الشارع المقدس متحقق بالنسبة للفقيه الحائز على الشرائط بالفعل، ولم يكن بحد القوة ـ على العكس من الفقيه المتجزىء فإنّ ذلك متوفر فيه بالقوة لا بالفعل ـ بيد ان التطبيق الفعلي والتحقق العلمي لتلك المناصب يتوقف على قبول الأمة، أي ان القوة العينية من ناحية التحقق الفعلي للعنوان والمفهوم الإضافي للأمة من ناحية يسبق قبول الأمة في التحقق بالقوة ويبلغ مرحلة الفعلية به.
38 ـ هل الفقيه الأعلم هو المنصوب فقط للولاية والحكومة في عصر الغيبة أم يشمل جميع الفقهاء؟
الجواب:
ان التنصيب على نحوين، خاص وعام، والخاص يعني تعيين شخص محدد من قبيل مالك الاشتر "رض" الذي عينيه أمير المؤمنين "ع" للولاية على مصر، وكذلك مسلم بن عقيل "رض" المنصوب والمبعوث من قبل الإمام الحسين "ع" أما التنصيب العام فيعني تعيين الفقيه الحائز للشرائط المقررة في الفقه لمنصب الإفتاء والقضاء والقيادة دون تحديد شخص معين، أو عصر معلوم أو مصر معهود.
من الواضح ان تنصيب الفقيه الجامع للشرائط المذكورة هو تنصيب عام وليس خاص، إذ لم ينصب شخص معين من قبل الإمام المعصوم "ع".
وهنالك فرضان فيما يتعلق بفقهاء زمان واحد وهما:
الأول: هو ان يكون فقيه أفضل من الآخرين في المواصفات المقررة للقيادة واتقى واعلم وأفضل إدارة وتدبيرا وسياسة، ويفوق الآخرين في رؤيته السياسية والاجتماعية. فعلى ضوء هذا الفرض واستناداً للضوابط الاجتماعية الإسلامية يكون هو المنصوب على نحو "التعيين" لمنصب القيادة في عصر الغيبة نصبا عاماً لا خاصاً. وفي مثل هذه الحالة هناك ثلاث مسائل واحدة مسألة كلامية واثنان فقهيتان، فالمسألة الكلامية هي ان مثل هذا الشخص منصوب من قبل الله سبحانه أما المسألتان الفقهيتان فإنّ أحداهما تتمثل في وجوب تقبل هذا الشخص لهذا المنصب الإلهي وجوبا عينياً والعمل في ضوء ذلك، والمسألة الفقهية الثانية هي وجوب تقبل ولايته واجباً تعيينيا من قبل الآخرين سواء الفقهاء أو الأمة.
أما الفرض الثاني هو ان لا يكون أحد فقهاء العصر اعلم وافقه واعدل من الآخرين ويكون الجميع على مستوى واحد سواء في المسائل المتعلقة بالقيادة أو الفقهية أو التقوى. ففي مثل هذه الحالة ثمة مسألة كلامية ومسالتين فقهيتين أيضاً. والمسألة الكلامية هي ثبوت تعيين منصب القيادة ـ عن طريق العقل والنقل ـ للفقيه الجامع للشرائط والذي يمكن ان ينطبق على أي من هؤلاء.، أما المسألتان الفقهيتان، فإحداهما هي: نظراً لتساوي الفقهاء فإنّ التصدي لهذا المنصب يمثل واجباً كفائياً وليس عينياً على أي منهم. والثانية هي ان وجوب قبول ولاية أحد هؤلاء الفقهاء يكون واجباً تخييريا على الأمة لا تعيينيا.
من هنا يتصدى أحد الفقهاء يسقط الواجب عن الآخرين لأن رجوع الأمة لأحدهم يعني عدم رجوعها لغيره، وبذلك يتم القضاء على الفوضى. ان هدف الحكومة القضاء على الفوضى ولا يصح ان ينقسم المجتمع إلى جماعات وزرافات كل منها ينتخب قائدا له.
وخلاصة القول، إذا ما تفوق أحد الفقهاء على الآخرين في السياسة والإدارة والتدبير فإنه يتحمل عبء القيادة، وإلاّ فإنّ أحدهم ينبرى للتصدي للأمر في ضوء الواجب الكفائي، لا يزاحمه الفقهاء في ذلك، إذ ذاك يتحول الواجب التخييري للأمة إلى واجب تعييني، ولغرض الحيلولة دون وقوع الفوضى فإنّ الأمة ترجع لذلك الفقيه المتصدي وتذعن لولايته، وليس ثمة محذور بتعدد المراجع، أما فيما يخص إدارة البلد أثناء الحرب والسلم وما شابه ذلك فلا بد من وحدة القيادة لا ان يمزق البلد بتعدد القيادات التي تحكمه.
سؤال: إذا كان التنصيب شاملا لجميع الفقهاء، فلماذا يكون التصدي للحكم واجباً عينياً على الفقيه لا كفائياً في الفرض القائل بأعلمية وأفضلية أحدهم؟
جواب: ان ولاية الأعلم وولاية غير الأعلم تسيران طوليا كما هو الحال في المرجعية. أي مع وجود الأعلم فإنّ الدور لا يصل لغير الأعلم. وعلى ذلك. في حالة أعلمية أحدهم على صعيد الفقه السياسي وما شابه ذلك فإنّ الفقيه الأعلم هو المنصوب. أما في حالة عدم وجوب الأعلم وكان الجميع بنفس المستوى إذ ذاك يكون الجميع منصوبين بنحو الواجب الكفائي.
ثمة قاعدتين وقانونين لفرضين وشرطين، وهذان القانونان منفصلان في الدائرة والحدود ويسيران طويلا، ويصبح الفصل بين هذه القانونين أكثر جلاء في مسألة المرجعية، أي لو كان أحد الفقهاء اعلم من الآخرين فإنّ المرجعية تتعين فيه ولا نصيب لغير الأعلم بها. أما إذا لم يتوفر الأعلم حينذاك يحل قانون آخر، أي ان التصدي للمرجعية يتحول إذ ذاك إلى واجب كفائي على الفقهاء، وعلى الأمة إلى واجب تخييري، وهي تسقط عن سائر الفقهاء بمبادرة أحدهم وقيامه بها قياما معقولا. وفي مثل هذه الحالة، أي بعد تعيين وثبوت ولاية فقيه، يتحول الواجب التخييري للأمة في المرجعية وعدم بقائه في الرجوع للقائد، أي لا يصح ان يكون لكل فصيل قائده الخاص، وذلك لمنع تناسب الحكم والموضوع وسائر الشواهد عن التخيير وبالتالي الحيلولة دون وقوع الفوضى والهرج في جميع الحالات سواء بالنسبة للفقهاء أو الأمة.
39 ـ هل المراد من الأعلم في بحث ولاية الفقيه، ذلك الأعلم في المرجعية؟
الجواب:
ورد في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين "ع" قوله: " أيها الناس ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه"[2].
وفي بعض النسخ جاءت كلمة " أعملهم " [3] بدلا من " أعلمهم "، وفي تلك الحالة تكون كلتا الصفتين متعلقتان بالعمل والتنفيذ والإدارة، أما إذا كانت الكلمة، " أعلمهم " فإنّ أحداهما ناظرة إلى العلم والأخرى إلى العمل.
لقد تقدم القول في الأبحاث السابقة بتقدم الفقيه الأعلم على سائر الفقهاء وهو المنصوب من قبل الأئمة المعصومين عليهم السلام للولاية والحكومة، والمراد من " الأعلم " هنا ليس الأعلم بالإحكام الفقهية وحسب. بل ان " الأعلم بهذا الأمر " هو من تميز بالإدارة والتدبير والإحاطة الكاملة بأوضاع البلد والعالم، والدراية التامة بأعداء الإسلام ومؤامراتهم، ولديه القدرة على اتخاذ القرار في الوقت المناسب، بالإضافة إلى تميزه بالفقاهة والعدالة والتقوى، فمن كان أستاذاً بارعا ومصنفا مقتدرا، لكنه يتميز بجهله على الصعيد السياسي وفقدانه للأعلمية في شؤون إدارة البلد حتى وان كان الأعلم في الفقه العبادي والمعاملاتي، فإنه لا يستطيع الإمساك بقيادة النظام الإسلامي، لأنه الأعلم في الفقه لا بهذا الأمر، وإذا ما أصبح مثل هذا الفقيه قائدا فإنه ورغم اعلميته وتقواه ربما يعجز عن الدفاع عن البلد الإسلامي إذا ما داهمه الأجانب.
في حالة حصول التزاحم في مواصفات القائد، فمن كان سياسياً إسلاميا بكل معنى الكلمة وهو الأعلم من بين الفقهاء بهذا الأمر يكون هو المقدم عليهم، لأن أساس الحكم الإسلامي يرتكز على الفقه السياسي وفطنة السياسي.
40 ـ هل لمفردات "الولي"، "المنصوب"، "النائب"، "الوكيل" معنى واحدا على صعيد بحث ولاية الفقيه؟ وهل تصدق هذه التعابير بشأن الفقيه الحاكم؟
الجواب:
إذا ما قال قائل ان الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة هو وكيل الإمام المهدي "ع" ونائبه ومنصوب من قبله، وله الولاية على الناس من قبله "ع" فإنّ هذه التعابير جميعها تكون صحيحة، أما إذا قيل بأن الفقيه الجامع للشرائط هو وكيل الأمة ونائب عنها ومنصوب من قبلها وقد حصل على هذا المنصب من قبل الأمة فلا صحة لهذا الكلام.
ان هذه المفردات ليست مترادفة كما هو شأن كلمتي الإنسان والبشر، وثمة فارق دقيق بينها يفضي إلى اختلاف في الأثر الفقهي والحقوقي لها، وان لم تكن موضع اهتمام من قبل البعض أحياناً أو لم يتم رعايتها عمليا. فعلى سبيل المثال هنالك فرق بين " الوكالة " و"النيابة" إذ ان الثانية تعود إلى شخص " ا لفاعل " فيما تعود الوكالة إلى " العمل "، فإذا ما تعذر على شخص ما الذهاب إلى مكان ما أو يعجز عن ذلك فإنه يستنيب شخص آخر يتولى النيابة عن المنوب، ولكن ربما ينتدب المرء من ينجز الأعمال له، فالمهم هنا هو العمل وانه الوكيل ليس نائباً عن الموكل بل ان عمله بمثابة عمل الموكل، والخلاصة: إذا ما كان الفاعل بمنزلة الفاعل تكون نيابة، أما إذا كان الفعل بمنزلة الفعل إذ ذاك تكون وكالة.
وثمة فارق أيضاً بين "الولاية" و "الوكالة" إذ ان الوكالة تبطل بموت الموكل، وليس الولاية كذلك، أي لو جعل أحد الأئمة المعصومين عليهم السلام شخصاً وكيلا له في أمر ما فإنّ وكالة ذلك الشخص تنتهي بشهادة ذلك الإمام أو رحيله، إلا إذا وافق الإمام اللاحق على استمرار وكالته، بيد ان الأمر ليس كذلك على صعيد الولاية، فإذا ما نصب شخص ما من قبل الإمام والياً على الأوقاف مثلا فإنّ ولايته لا تبطل بوفاة ذلك الإمام أو رحيله، إلا إذا عزله الإمام اللاحق عن الولاية.
والملاحظة الأخرى هي ان هذه الأمور ليس مانعة الجمع، أي مقدور الإمام المعصوم "ع" توكيل شخص في أمر ما، وجعله والياً في شؤون أخرى، وإنابته في مكان آخر.
41 ـ ما هي الطريقة التي نُصِّبَ فيها الفقهاء من قبل الإمام صاحب العصر "ع" هل انه "ع" نصبهم لفظيا، أم تنصيبهم من قبله "ع" يثبت بالدليل العقلي؟
الجواب:
عندما تثبت ولاية الفقيه بالدليل النقلي فذلك يعني انه "ع" هو الذي منحه الإذن وصدر التنصيب عنه "ع"، وإذا كانت مقولة عمر بن حنظلة تامة وهي كلام الإمام الصادق "ع"، فإنّ هنالك حديث للإمام صاحب الزمان "ع" أيضاً، وثمة كلام رائع لفقهائنا في هذا المجال. يقول المرحوم صاحب الجواهر "ع": "لأن كلامهم جميعا بمنزلة كلام واحد يفسر بعضه بعضا"[4].
وروي في بعض النصوص ان الإمام الصادق "ع" سئل: إذا ما سمعت عنكم شيئاً فهل لنا ان ننسبه إلى آبائك وأجدادك؟ قال: نعم[5].
على هذا الأساس، لو أراد امرؤ إثبات ولاية الفقيه بالدليل النقلي يصح القول بأن الإمام صاحب الزمان "ع" هو الذي نصب الفقهاء، أما إذا أردنا إثباتها بالدليل العقلي سواء عن طريق قاعدة الحكمة أو عن طريق قاعدة اللطف فلأنها تنطوي على الإرادة الحتمية لله سبحانه وان إرادة المعصومين عليهم السلام تابعة لارادة الله، إذ ذاك ستتجسد فيه.
42ـ في ضوء الطابع الكلامي لولاية الفقيه، فهل ان متعلقات بحث ولاية الفقيه من قبيل طريقة تنصيب الفقهاء من حيث وحدانية أو تعددية الفقيه المنصوب، شروط الولي الفقيه، إطلاق صلاحياته.. الخ تثبت تبعا للأصل بالدليل العقلي والكلامي، أم ان بعضها يمكن إثباته بالإرادة اللفظية والنقلية؟
الجواب:
ان مسائل ولاية الفقيه تثبت تارة بالدليل العقلي الصرف، وتارة بالدليل النقلي المحض، وأخرى بالدليل الملفق من العقل والنقل، والوصف في ضرورة القيادة في الدين وما يحتاجه النظام، فإنه يثبت بالدليل العقلي والكلامي، ونظراً للتعقل في الدليل العقلي وإمكانية عدم إطلاقه، ربما لا يستطيع إثبات كافة خصوصياتها في المسائل الجزئية، فإنّ كل ما يعود إلى اصل النظام من بحث ولاية الفقيه، ينضوي في مجموعة ذلك الدليل العقلي، أما إذا لم يرجع إلى اصل النظام فربما تثبته اطلاقات الأدلة اللفظية.
ملاحظة: ان عبارة "ممكن " أو "ربما" الواردة في الإجابة ناظرة إلى الخصوصيات الإيجابية للدليل العقلي والكلامي، و إلا فإنّ اصل دلالة الدليل العقلي والكلامي على ولاية الفقيه تام، ولكن نظراً لفقدان مثل هذا الدليل للفظ فإنه فاقد للإطلاق، ولا بد من الاستعانة بإطلاق الأدلة اللفظية لتأمين الجوانب المشكوك فيها منه.
43ـ استناداً للدليل العقلي، فإنّ الإمام المهدي "ع" منصوب من قبل الله سبحانه لإقامة الحكومة الإسلامية، ومع تنصيبه:
أولاً: ما هي الضرورة في تنصيب الفقهاء؟
ثانياً: نظراً لعدم عصمة الفقهاء فإنهم يتعرضون للخطأ على الصعيد العلمي والعملي، من هنا فإنّ تلك الموارد ستكون مخالفة لعلم الإمام "ع" وعمله، فهل ان وجود تنصيبين ومنصوبين ربما يتناقضان في العلم والعمل، يعد أمراً ممكنا عقلياً؟
الجواب:
عند حضور الإمام المهدي"ع" وظهوره حيث يملأ الأرض قسطا وعدلا: "فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا" [6]، لم يعد هنالك مجال لتصدي الفقهاء لأمر الحكومة الإسلامية إلا ان يقوم هو "ع" بتنصيب الفقهاء في مناصب داخل الدولة الكريمة، أما في زمن الغيبة الصغرى فقد عين "ع" عدة نواب خاصّين، فإذا ما عيّن الفقهاء في عصر الغيبة الكبرى فإنما لعدم حضوره أو ظهوره، وهو لا يمثل أمراً متعذرا بل هو ضروري أيضاً وذلك لضرورة عدم إهمال شؤون الإمامة والقيادة.
ملاحظة: حيث ان المعصوم "ع" لا يفعل ما لم يأمر به الله سبحانه، فإذا ما نصب الإمام "ع" الفقيه الجامع للشرائط. إذن يتضح ان تنصيبه للفقيه إنما هو من قبل الله سبحانه.
وجدير بالانتباه ان ولاية الفقهاء والحائزين على الشرائط في عصر الغيبة لا تسير بالعرض مع ولاية الإمام المعصوم "ع"، وإنما تسير معها طولياً، أما ما يقال من إشكالية وجود منصوبين أحدهما معصوم والآخر غير معصوم فإنّ الأمر ليس كذلك، فهذه الحالة كانت على عهد أمير المؤمنين "ع" حينما نصب مالك الاشتر "رض" للولاية وكذلك الحال بالنسبة لتعيين الإمام الحجة"ع" للنواب الأربعة.
وتثار هذه الشبهة على صعيد قضية المرجعية والقضاء أيضاً، ومن المسلم به على نحو الإجمال وجود اشتباه في الأمر، لأن التفاوت في الفتيا أو القضاء سيكون دليلاً على خطأ أحدهما، إذن بالرغم من خطأ الفقهاء أحياناً غير ان أحداً لا يناقش حول قضية تنصيبهم للإفتاء والقضاء.
ملاحظة: حيث ان المرجعية في الفتوى والقضاء لم تكن موضع اختلاف بين علماء الأصول، لذا فقد طرقت قضية الحكومة الولائية على هذا الأساس، وإذا ما كان لأحد نقد حول اصل منصب الإفتاء والقضاء بالنسبة للفقيه الجامع للشرائط فلا بدّ له من دخول البحث عبر قاعدة أخرى.
44ـ هل ان دليل التنصيب يشمل كافة الفقهاء المتضلعين بالفقه وان جهلوا المسائل السياسية وافتقدوا القدرة على الإدارة، أم انه يقتصر على الفقهاء العارفين بالسياسة ومقتضيات الزمان والمكان؟
الجواب:
ان تنصيب الفقهاء لقيادة وولاية الأمر في المجتمع الإسلامي ينحصر في الفقهاء العارفين بالسياسة، وبالإضافة إلى امتلاكهم الرؤية السياسية لابد ان يتمتعوا بالقدرة الادراية الضرورية لإدارة المجتمع الإسلامي، وقد وردت الشروط الواجب توفرها في الفقيه المنصوب للقيادة في القانون الأساسي.
أما الفقهاء الذين تعوزهم هذه الشرائط فلم يتم تنصبيهم للقيادة ويمكن تنصبيهم للإفتاء والقضاء، وقد جمعت الشرائط التفصيلية الواجب توفرها لمنصب الإفتاء والقضاء في موضوع الفقه.
45ـ هل ان ولاية الفقيه الحاكم تقتصر على الأمة أم أنها تشمل سائر الفقهاء أيضاً؟
الجواب:
تعتبر الولاية على القاصرين والأموات أو العاجزين عن تدبير شؤونهم خارجة عن إطار البحث، إذ باستطاعة كل فقيه جامع للشرائط ممارسة ولايته والتدخل في الشؤون الشخصية للمحجورين ما لم يخالف بذلك دور القانون الرسمي للبلاد، أما بالنسبة للأعمال الهامة في البلاد فليس من الصواب التدخل وممارسة الولاية فيها، كما يتعيّن على كل فقيه الالتزام بقوانين البلد ومقرراته الرسمية فيما يخص أفعاله الشخصية وان لا ينقض أيّاً منها.
بناء على ذلك فإنّ الفقهاء شأنهم شأن الآخرين أيضاً فيما يتعلق بالشؤون الرسمية للبلد إذ تشملهم ولاية الزعيم الإسلامي، وان حرم عليهم التقليد، حتى وان كانوا جميعا على مستوى واحد في هذا المقام قبل تصدي أحد الفقهاء، فعندما يقوم النظام الإسلامي واستلم أحد الفقهاء زمام الأمور في البلاد، يتعيّن على جميع الفقهاء الالتزام بنظام الدولة ويحرم عليهم نقض القوانين الحكومية، فعلى سبيل المثال: لو كان قانون البلاد يقضي بوجوب حصول الجميع على جواز السفر لغرض التوجه إلى الحج فلا يجوز لأي فقيه السفر إلى مكة بدونه، وهكذا الحال بالنسبة لقضية مقررات السياقة والمرور وغيرها.
46ـ ما هو موقف ولاية الفقيه ازاء سائر البلدان، وهل يصح ان تكون في كل بلد ولاية الفقيه؟ وما هو الموقف إذا كان أحد الفقهاء أعلم من سائر الفقهاء؟
الجواب:
مثلما لا تستطيع الجغرافيا تحديد فتوى المجتهد ومرجع التقليد من الناحية الشرعية، فهي كذلك لا تحد ولاية الفقيه شرعاً. فمن الناحية الشرعية بمقدور ولي فقيه واحد إدارة كافة الشعوب المسلمة على وجه الأرض في حالة عدم وجود قيود خارجية.
أما في الظروف الراهنة فإنّ مثل هذا الأمر يعتبر متعذرا على النطاق الخارجي من الناحية العملية، لأن زعماء سائر الدول الأخرى يعتبرون ذلك تدخلا في شؤون دولهم ويحولون دون تحقق ذلك، فلم يعد بإمكان فقيه يعيش في بلد يقع في الشرق وضع خطط لبلد يقع في غرب الأرض وبالعكس.
ان ولاية الفقيه مثلها كالنيابة عن أولي العزم وخلافة الرسول الأكرم "ص" لا حدود لها ذاتيا إلا ان يكون هنالك مانعاً طبيعيا أو سياسياً، وفي القرون المنصرمة كان هنالك موانع طبيعية، كأن يعيش الناس على طرفي محيط فأمّا ان يجهل بعضهم بعضا، أو كان يتعذر إقامة اتصال بينهم، في مثل هذه الحالة حيث الموانع الطبيعية والسياسية يقوم كل فقيه تتوفر فيه شروط القيادة والولاية إدارة البلد الذي يقطن فيه.
ويصح هذا الكلام إذا تساوى الفقهاء، أما إذا كان أحدهم هو الأعلم في الفقه السياسي أو سائر شروط القيادة، فلا ولاية لسائر الفقهاء إلا ان يكون هنالك مانع سياسي ويعتبر المنع من التدخل بمثابة فقدان الأعلم، إذ ذاك لا مانع من تصدي سائر الفقهاء لإدارة شؤون بلدانهم، ولكن لو نصب الفقهاء العدول في الدول الأخرى من قبل الفقيه الأعلم ولم يقم حكام العالم بالتصدي لهذا التنصيب ولو باللسان ويفسدونه فإنه سيكون اقرب إلى الصواب وابعد عن الخطأ والانحراف ويكون هذا النحو هو المتعين.
على أية حال، يجب الاحتراز عن الاختلاف الفاحش في الرأي الذي يشوه صورة الإسلام على صعيد العلاقات الدولية.
47ـ هل يتمتع المنصوبون من قبل القائد في مختلف المراكز بالولاية كما هو شانه؟
الجواب:
لا ولاية للمنصوب من قبل القائد في الحكومة الإسلامية، كما هو شأن الناصب أي القائد، فتارة يعين ولي المسلمين شخصاً نائباً عنه وقد يعينه وكيلا عنه، وهنا لا يرد الحديث عن ولاية ذلك الشخص بالمرة، وذلك أما ان يكون نائباً أو وكيلا لا وليا، وقد يجعل لأحد ولاية من قبيل التولية على المراكز المهمة الخاصة بالوقف والوصايا، في مثل هذه الحالة يستطيع ذلك المنصوب ممارسة ولايته في دائرة عمله " لا خارجها" وفي حدود مجال ولايته المجعولة له لا أكثر منها.
ورد في الأصل 110 من القانون الأساسي: " للقائد تفويض بعض مسؤولياته وصلاحياته لشخص آخر"، فإذا ما نصب الولي الفقيه أفراداً للنيابة عنه فإنما يعينهم في ضوء تعاليم وأنظمة ومقررات خاصة ويكون لكل من هؤلاء المنصوبين دائرته القانونية الخاصة كما هو حال سائر العاملين، لا ان تكون ولايتهم كولاية القائد.
48ـ هل يتعارض انتخاب القائد من قبل الأمة أو مجلس الخبراء مع الولاية والتنصيب؟
الجواب:
بادىء ذي بدء لا بد من توضيح طبيعة الدور الذي تقوم به الأمة في الحكومة الإسلامية.
ان للأمة دورا جوهريا في مقام الإثبات والتحقيق والتطبيق، سواء فيما يتعلق بأصل الدين، أو النبوة، أو الإمامة، أو التنصيب الخاص، ناهيك عن ولاية الفقيه التي هي تنصيب عام فإذا رفضت الأمة ـ معاذ الله ـ اصل الدين، عندئذ يصبح الدين نسياً منسياً، وإذا ما رفضت النبي"ص" يكون مهجوراً، وإذا رفضت الإمام فإنه يتحول إلى مهجور حتى ولو كان الإمام علي بن أبي طالب"ع".
لا بد فصل مقام الثبوت والشرعية والحقّاًنية عن مقام الإثبات والقدرة العينية ... الخ، فإذا ما أريد للدولة ان تدار، فإنّ أياً من النبوة والإمامة والنيابة الخاصة والعامة لن تتحقق خارجياً ما لم تنشأ الأمة ويكون لها حضورها. ان الدولة لا تدار عن طريق الرأي العلمي، وان الدور الجوهري هو بيد الأمة مقام التطبيق، والحكومة الإسلامية ليس حكومة تسلط وقهر، وإذا ما اتصفت بالإجبار والقهر فإنّ مصيرها الانقراض ولو بعد حين كالحكم الأموي والمرواني .
ان المسلمين يختلفون عن غيرهم الذين لا يؤمنون بدين أو قانون إلهي، ويضعون أنفسهم موضع المقنن، فالمسلمون يقرون بجهل الكثير من أسرار الكون وخفاياه ومكنونات ابن آدم وما بعد الموت، وتفاصيل الحياة الأخروية. ولا بد ان يرسم الدين ومن يبلغه طريق الحياة، وان المسلمين يقبلون بولاية الدين ويطبقون حدودها.
في النظام الديمقراطي ـ الذي لا يعدو كونه أمراً موضوعا سلفا ولا شأن للناس بالدين اطلاقاً إلا فئة منهم وبحدود الأمور الشخصية والفردية- فإنّ الدين معزول عن السياسة والحكومة وكل ما يحكم تفكيرهم هو العلمانية- والناس هم الذين يضعون القوانين، والحاكم بمثابة الوكيل عنهم وتابع محض لآرائهم.
أما في النظام الإسلامي حيث يتميز الناس بالتدين ويصبون إلى مواءمة حياتهم على الصعيدين الفردي والاجتماعي مع الدين وقوانينه، فإنهم يبادرون في عصر الغيبة ـ حيث لا حضور للإمام المعصوم "ع" ـ إلى البحث عن العالم الذي يناظرهم الاعتقاد والعمل بالدين ومنصوب من قبل الشارع تنصيبا عاماً للولاية على المجتمع الإسلامي، ويلتزمون بولايته، وان قبلوهم له لا لشخصه بل انهم يقبلون ولاية الفقاهة والعدالة التي يلتزم بها الولي الفقيه بدوره ان يناظرهم في المواطنة والإنسانية. ويسير في خط القانون الإلهي أي العدالة والفقاهة، وقد ورد ذلك في الأصل 107 من القانون الأساسي: " القائد أمام القانون على حد سواء مع سائر المواطنين".
وعليه، فإنّ القائد الإسلامي يتمتع بالولاية من قبل الدين وليس وكيلا عن الأمة كما في الدول الشرقية أو الغربية.
الآن حيث اتضحت صورة الحكم الإسلامي وطبيعته من الناحية العلمية، نورد ألفاظا لبيان هذه المفاهيم، ومن ذلك كلمة " انتخاب " التي ان كانت تعني الاجتباء والاصطفاء فإنها تنسجم مع التنصيب والولاية والتولي.
ان كلمة الانتخاب الواردة في النصوص الدينية ترادف الاصطفاء والاجتباء والاختيار، والأمة في انتخابها للوالي المنصوب، إنما تمارس هذا المراد القرآني والروائي ولا شأن له بالوكالة، فإذا ما اتخذنا من الانتخابات بمعنى قبول ذلك الولي الأصلح، فإنّ ذلك من الصواب، ولا يؤدي معنى الانتخاب يصطلحه النظام الديمقراطي.
ان مفردة الانتخاب التي تستخدم فيما يتعلق برئاسة الجمهورية وأعضاء مجلس الخبراء وأعضاء مجلس الشورى، والمجالس البلدية.. الخ إنما تعني جميعها التوكيل، وان هؤلاء الأفراد هم وكلاء عن الناس، وتفهم الوكالة من كلمة انتخاب المتدوالة عرفيا، أو ان ذلك هو المسلم به وما يشابهه، من هنا فلا يصح استخدام هذه الكلمة في التعاريف العلمية على أنها توهم بالوكالة للحاكم.
سؤال: في ضوء التأكيدات على الولاية الواردة في القانون الأساسي، فلا يمكن لكلمة الانتخاب ان تعطي معنى التوكيل وان تكون موهما بالوكالة. أليس كذلك؟
الجواب: ان كملة انتخاب " الواردة في القانون الأساسي " فيما يتعلق بالقيادة إنما تعني القبول، وان كانت تحتفظ بمعناها المتعارف المتداول في غير القيادة.
سؤال: ألا يمكن القول بقبول الأمة لأصل ولاية الفقيه، غير أنها تبادر إلى انتخاب أحد الفقهاء المنصوبين في حالة عدم وجود الأعلم؟
الجواب: نظراً لعدم توفر الخبرة لدى غالبية الناس لتشخيص المعايير الفقهية، فمن الطبيعي ان يرجعوا لذوي الخبرة فيما يتعلق بالقيادة كما هو الحال بالنسبة للمرجعية والقضاء، فإذا ما وجد الخبراء ان أحد الفقهاء الحائزين على الشرائط يتمتع بأعلمية في مسائل القيادة، والرؤية السياسية المتميزة، والاقتدار الإداري ... الخ، فإنهم يطرحون ولايته على الناس، ليعلم انه ولي الأمة التي تبادر بدورها إلى توليه، أما إذا لم يبرز أحد الفقهاء وتساوى الجميع "بفرائض " القيادة إذ ذاك يتطرق الخبراء إلى " نوافل " القيادة مما يقر القائد من القبول العام، أو تسهل عملية قبوله، وإذا تفاوت البعض في كافة المواصفات، وامتاز بعض على بعض في غير الضروريات، حينها يتم انتخاب أحد الفقهاء قائدا ويعلن ذلك للأمة.
ملاحظة: ان ما جاء في القانون الأساسي تحت عنوان المقبولية العامة. إذا ما اقترن بسائر شروط القيادة فإنه يعني القبول الشعبي لا التوكيل الشعبي، على هذا الأساس فإنّ آراء الأمة تبقى محافظة على مكانتها في تولّي الولي وليس في توكيل الحاكم والذي ينبغي عدم نسيانه هو ذاك الفارق بين المشروعية والاقتدار، فبدون الأمة لن يتحقق لولي المسلمين أي اقتدار، وتسلب منه القدرة على أي فعل وان كان يحظى بالشرعية الإلهية في مقام الثبوت.
49ـ لو لم يؤمن مسلمو عصر ما بولاية الفقيه وتنصيب الفقهاء من قبل الإمام المهدي "ع" وفي نفس الوقت يبادرون لإقامة حكومة إسلامية فهل تعتبر هذه الحكومة شرعية؟
الجواب:
في حالة وجود الفقيه الجامع للشرائط وحيازته على الصلاحية للقيادة فإنّ الرفض العمدي لولايته يعد ذنباً كبيراً، وكذلك لو رفضت ولايته نتيجة الجهل والتقصير فإنّ ذلك يمثل معصية، ولكن في حالة اغتصاب اصل الحكم من قبل غير الفقيه، يتعيّن على العدول من المؤمنين التصدي لإقامة الحكم لغرض القضاء على الفوضى، ولإبعاد الخسائر التي يسببها إفساد الحكومة غير الدينية.
ملاحظة: قبل المبادرة لإقامة الحكومة ينبغي للمسلمين التعرف على الخطوط العامة للحكومة الإسلامية والدور الحيوي لولاية الفقيه وسائر العناصر الجوهرية في النظام الإسلامي، وذلك لأهمية تعلم الأحكام الإسلامية وإجرائها أيضاً.
بناء على ذلك، أن الجهل العلمي الذي يتصف به بعض الناس في عصر من العصور أن يكون سبباً في إيقاف التعليم والإجراء.
50ـ لو لم يؤمن فقهاء عصر ما بولاية الفقيه، فما هو واجب الأمة بشأن الحكومة الإسلامية؟
الجواب:
ليس لدينا فقيهاً لا يؤمن بولاية الفقيه على نحو الإطلاق، أما أولئك القائلين بعدم وجود ولاية للفقيه فإنّ مرادهم هو عدم جعل هذا المنصب للفقيه ابتداءاً ليبادر إلى إقامة الحكومة، غير ان هؤلاء الفقهاء أنفسهم يقولون بولاية الفقيه من باب الحسبة، فإذا ما كان قوم على استعداد لتنفيذ القوانين والتعاليم الإلهية تكون الأرض ممهدة وعلى هذا الفرض فإنّ إقامة الحكومة الإسلامية تعتبر من أهم الفرائض الإلهية وليس هنالك من يقول بنفي المسؤولية عن الفقيه وعدم ضرورة التعاليم الإلهية في حالة توفر الظروف المناسبة، بل ان أدنى ما يتداول من أفكار تخالف ولاية الفقيه بين العلماء والفقهاء هو انهم يقولون بوجوب ولاية الفقيه بشروطها وظروفها الآنفة الذكر من باب الحسبة، ولم يصرح أحد بحرية الأمة في ان تفعل ما تشاء وتتعطل التعاليم الدينية والسماح بتطبيق قوانين الشرق والغرب بدلا من القوانين الإسلامية.
أما لو كان الافتراض سالبا فإذا ما وقع مثل هذا الأمر فإنّ الأمة الإسلامية تبادر إلى اختيار فقيه لإقامة الحكم، فإذا لم يكن يرى حرمة تصديه للحكومة ـ وان لم يؤمن بوجوب إقامة الحكومة ـ فيبادر هو للقبول وإلاّ فيتصدى عدول المؤمنين ويليهم فسّاقهم لإقامة الحكومة، وفي كل الأحوال تكون الحكومة الإسلامية قد اتخذت طابعها الإسلامي طبقا لتفاصليها المعلنة ـ لا يمكن تعطيل أحكام الدين في ظل أية ظروف.
51ـ ما هي طبيعة "البيعة"؟ وهل هي " عقد " أم " قبول "؟
الجواب:
ان البيعة هي من سنج الولاية والتولي لا التوكيل، وتعني البيعة التي مصدرها اللغوي "بيع" ان يبيع شخص أو جماعة أنفسهم وأموالهم للمبدأ الديني، وهذا المعنى مستفاد من الآية الكريمة: {ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل فَيَقتلون ويُقتَلون وعداً عليه حقّاً في التوراة والإنجيل والقران ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به}[7].
ففي هذه الآية الكريمة يتحدث الباري تعالى في بادئ الأمر عن عملية بيع وشراء نفوس المؤمنين وأموالهم ثم يبشر المجاهدين بأنفسهم وأموالهم ويشجعهم على البيع، وهنا حيث اتضح الأصل اللغوي لمفهوم البيعة في القرآن الكريم، يتضح مغزى الآيات التي ذكرت البيعة بصراحة من قبيل {ان الذين يبايعونك...} [8]و {يبايعنك على ان لا يشركن...}[9].
جواب:
المستفاد من ظواهر الآيات هو ان البيعة ثنائية الأطراف {أوفوا بعهدي أوف بعهدكم}[10]. وليس عبثا التعبير بمعاهدة الله، فالتولي والتوكيل ثنائيا الطرف، والتبادل في طرفي الإضافة لا يتناقض مع التولي، وان كلاًّ من التولي والتوكيل عقد لا ايقاع، بيد ان العقد والثنائية في الأطراف ليست سواء على الدوام، من هنا فإنّ بين عقد التولي وعقد التوكيل فوارق عديدة جرى بيانها في الفصل الرابع من الكتاب. وإذا ما قلنا ان البيعة عقد فإنّ المراد من العقد بالمعنى الأعم العهد لا ما يصطلح عليه بالعقد المتعارف من قبيل الإجارة والصلح.
يتضح مما تقدم أمران:
الأول: هو ان البيعة الصادقة مع الفقيه الجامع للشرائط في عصر الغيبة تمثل علامة حاكميته وولايته لا علتها، أي ان روح مبايعة الفقيه الجامع للشرائط تمثل الالتزام بولايته الشرعية لا لوكيله للقيادة فتصبح بمنزلة إضفاء الشرعية على حاكميته، فمثلما ان قبول الدين والإذعان لحقّانية القرآن وحاكمية النبي"ص" وإمامة الأئمة المعصومين عليهم السلام ومبايعتهم تمثل علامة شرعيتهم لا علتها، فالأمر كذلك بالنسبة لولاية الفقيه بالتبع، وان القول بالتباين بين الاثنين بأن يكون أحدهما توليا والآخر توكيلا، يفتقد الدليل.
أما الثاني فهو ان مبايعة الفقيه الجامع للشرائط كالبيعة التي بذلها العقلاء على مر التاريخ للأنبياء والأئمة عليهم السلام، لا تعد سبباً في إضعاف وشل عقول العلماء والعقلاء، بل على العكس من ذلك فإنّ الإذعان للحق والقانون وقبول حاكمية الزعماء الربانيين دليل تعقلهم.
52ـ ألا يمثل الانتخاب المؤقت للقائد عاملا في تقوية القيادة في النظام الإسلامي، فلو آخذت قابلية القائد بالتضاؤل مع مرور الزمن أو تنامت قدرات فقيه آخر، في مثل هذه الحالة إلا تعد دائمية الولاية والقيادة عاملا في إضعاف قيادة النظام؟
الجواب:
ان أحد الفوارق بين ولاية الفقيه ووكالة الفقيه هو ان زمان الوكالة بيد الموكل الذي يعزل وكيله متى شاء حتى في الظروف التي يتمتع الوكيل بالصلاحية الضرورية، إما الولاية فليست كذلك فهي منصب اقره الشارع المقدس وهي شبيهة بالمرجعية، وان مؤقتية ولاية الفقيه إنما تكون في توفر الشروط والصلاحية في القائد، وهي بذلك لا تناظر الحكومات الملكية حيث يستحوذ الملك على العرش دائما أحسن أم أساء، قدر أم عجز، فإذا ما طرأ عارض طبيعي للقائد كالعرض المستعصي المزمن إذ ذاك يبادر الخبراء إلى تعريف قائد جديد وطرحه كي تتولاه الأمة. أما إذا كان العرض مؤقتا ـ أي يجمع الأطباء تقريبا على ذلك ـ وهناك إمكانية في علاجه ولكن بعد مدة يعتد بها، في مثل هذه الحالة يبادر الخبراء أيضاً إلى تسليم أمر القيادة إلى مجلس قيادة ثلاثي كما ورد في الأصل 111 من القانون الأساسي، إذ لا يمكن إبقاء البلد الإسلامي دون قيادة.
كما ان في قضية تضاؤل مراتب الكمال في القائد أو ارتفاعها عند بعض الفقهاء تخضع لإشراف مستمر من قبل الخبراء، وفي مثل هذه الحال إذا تمتع الفقيه الجديد بالاقتدار وحاز المواصفات الرئيسية للقيادة والتي وردت في القانون الأساسي، فإنه يحل محل القائد، لقد جرى مراعاة هذه المصالح في عدم تنفيذ القيادة بالوقت، وحيث ان توقيت قضية القيادة لا شرعية له في الإسلام لم يرد في القانون الأساسي.
53ـ في ضوء "الحقوق المشاعة للناس" في مقابل البلد ومائه وترابه، يمكن القول بأن قائد النظام وحاكمه هو وكيل الأمة؟
الجواب:
ان من يعرف الإنسان من خلال العقل والوحي سوف يجد ان للإنسانية صدر وعجز، فصدرها العقائد وجسدها الأخلاق والأفعال والتكاليف وعجزها الماء والتراب، والولي في النظام الإسلامي هو من يتحمل بالدرجة الأولى مهمة المحافظة على معتقدات الناس وأخلاقهم وصيانة الأحكام الفقهية وفي الدرجات الدنيا يتولى الحفاظ على ماء البلد وترابه ويوفر المصالح الطبيعية للمواطنين، ان المحافظة على المصالح المادية للأمة تمثل جزء من مسؤوليات النبوة العامة والإمامة والولاية وليس جميعها.
بناء على ذلك بالرغم من قدرة المسلمين على توكيل شخص واحد كرئيس للجمهورية أو أشخاص كأعضاء ونواب مجلس الشورى... الخ لغرض ضمان المصالح المادية لبلدهم، بيد ان جانباً مهماً من مسؤولية النظام والحاكم الإسلامي تفوق الماء والتراب أهمية وتتعلق بالمحافظة على الدين، وقد اتضح خلال البحوث المتقدمة انه لا وجود للوكالة في الأمور المختصة بالإمامة التي تخرج عن حدود خيارات الأمة.
في رواية عن الفضل بن شاذان عن الإمام علي بن موسى الرضا"ع" يسأله فيها عن الفلسفة في جعل أولي الأمر وفرض طاعتهم، فيبادر الإمام "ع" إلى بيان ضرورة وجود الإمام والحاكم الإسلامي من زوايا متعددة، فلم يصف الإمام "ع" الحكومة على أنها المحافظ على دماء الناس ونواميسهم أو للتصدي للفوضى وحالة الهرج فحسب لأن مثل هذه الأمور يجري تداولها في البلدان غير الإسلامية أيضاً، فالمحور الأصلي لاستدلال الإمام "ع" في هذا البيان هو ضرورة المحافظة على الدين من التحريف وحراسة التعاليم والعقائد والأخلاق والأحكام الإلهية، وان كانت مسؤولية الحاكم الإسلامي تمتد لتشمل المحافظة على أرواح الناس وأموالهم أيضاً، ففي جانب من حديثه يقول "ع": " ومنها انه لو لم يجعل لهم إماماً قيماً[11] أميناً حافظاً مستودعا، لدرست الملة وذهب الدين وغُيّرت السنة ـ أو الأحكام ولزاد فيه المبتدعون ونقص منه الملحدون وشبهوا ذلك على المسلمين، لانا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كافين مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت حالاتهم " أنحائهم ـ خ" فلو لم يجعل لهم قيماً حافظاً لما جاء به الرسول "ص" لفسدوا على نحو ما بيّنا وغيرت الشرائع والسنن والأحكام والإيمان وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين" [12].
إن شؤون البلد الإسلامي على ثلاثة أنحاء، الشؤون الشخصية للأفراد والشؤون العامة، الشؤون الولائية، ففي دائرة الشؤون الشخصية وكذلك الشؤون العامة، بإمكان الأمة اتخاذ وكيل لادراة شؤونهم واستيفاء حقوقهم ومصالحهم، وهذا هو المعمول به في النظام الإسلامي أيضاً، ولكن كما تقدم القول فإنّ الشؤون المختصة بالإمامة والولاية لا تقبل الوكالة وهي بيد الإمام أو خليفته.
ملاحظة: حيث ان الأعمال الشخصية وكذا العامة والوطنية في ضوء الدين الإسلامي ينبغي ان لا تتعارض مع الموازين الدينية ـ للضرر الذي يسببه التعارض ـ والغرض الحيلولة دون وقوع التعارض فلا بد ان تخضع كافة شؤون الدولة لإشراف الفقاهة والعدالة سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة وهذا ما يعبر عنه بولاية الفقيه الجامع للشرائط أما تشخيص أي من الأعمال ينبغي ان ترتبط بالقائد مباشرة وأنها بصورة غير مباشرة، فذلك يقع على عاتق خبراء الأمة ووكلائها، وهذا المنوال ما جرى تدوين القانون الأساسي في إيران عليه إلى حد ما.
54ـ لمسألة " النصب " خمسة افتراضات باطلة بأجمعها، والافتراض المتداول هو عبارة عن "تنصيب كافة الفقهاء" الجامعين للشرائط وحقهم في اعمال ولايتهم بصورة مستقلة وتنفيذها بشكل فعلي وهو فرض باطل، وذلك لأن تصدي عدة فقهاء للقيادة بسبب الفوضى والهرج وبالتالي انهيار النظام الإسلامي .
الجواب:
تقدم القول في المواضيع السابقة في حالة وجود الفقيه الأعلم بشؤون القيادة فهو المنصوب للولاية ولا ولاية لسائر الفقهاء، وهي من قبيل مرجعية الأعلم، واما في حالة فقدان مثل هذا الفقيه وتساوي كافة الفقهاء في المواصفات الضرورية للقيادة، إذ ذاك تثبت الولاية للجميع وفيما يلي ترد الإجابة على الشبهة أعلاه وكذلك الرد على شبهة " تنوّع التنصيب والثنويّه في التعيين".
أولاً: من النادر جدا الافتراض بعدم وجود الفقيه الأعلم بشؤون القيادة، وغالبا ما يظهر بين الفقهاء فقيه يفوق الآخرين في المواصفات اللازمة للقيادة، وإذا لم يكن هو المقدم في "المواصفات الضرورية للقيادة" فإنه سيكون متفوقا على الآخرين في " المواصفات الكمالية للقيادة" وان لم يصل حد النصاب في مستوى الكمال الزائد، فإنّ حكم هذا الافتراض يشابه الافتراض بتساوي الفقهاء المتعددين.
ثانياً: ثمة أدلّة تروى لإثبات وحدة القيادة واتخاذ القرار في النظام الإسلامي، لم تسبق لها دلالة على عدم وجود مجال للشراكة والكثرة في مقام التنفيذ وممارسة الولاية، لا عدم وجود مال للشركة والكثرة في مقام الكفاية والتنصيب وجعل اصل المنصب، ثمة نصوص تمثل أفضل الأدلة على امكان فعلية الصلاحيات المتعددة إذ أنها تصرح: " قلت: يكون إمامان؟ قال "ع" لا، إلا وأحدهما صامت"[13].
تفيد مثل هذه الروايات إمكانية توفر الصلاحية الشأنية في أكثر من إمام وقائد، فولاية الفقيه وقيادته كالإفتاء والقضاء قابلة للتعدد في مقام اصل الصلاحية،وبطبيعة الحال لا إشكال في التعدد الفعلي للمفتي والقاضي في الإفتاء والقضاء وإذا ما جرى الرجوع لقاضٍ ولمفتٍ على حدة، فلا يمكن القول بفقدان سائر الفقهاء لحق الإفتاء والقضاء ولا فرق بينهم وبين عوام الناس، على العكس من القيادة حيث تؤدي التعددية فيها إلى وقوع الفوضى والهرج.
ثالثا: لم يوضع منصب الولاية والإمامة للشخصية الحقيقة أو العنصر الخارجي، بل هي موضوعة أولاً وبالذات لمرتبة كمال العقل النظري والعقل العلمي، وثانياً بالعرض للعناصر العينية التي هي بمثابة المصاديق لذلك العنوان الكمالي.
على هذا الأساس، فإنّ جعل منصب الولاية لتلك المرتبة الوجودية التي لها مصاديق متعددة لا يوجب الفوضى والهرج، وإنما ممارسة ذلك المنصب في حالة التعددية والتعارض يؤدّي إلى اختلال النظام، وبالرغم من أن إعمال الولاية يعد واجباً كفائياً على الفقهاء المتساومين. بيد أن المحافظة على النظام الإسلامي والاحتراز عن وقوع الفوضى والخلل النظام يعد واجباً عينياً على الجميع، ولا فرق في ذلك ان صغرت المنطقة أو اتسعت، والولاية واجب كفائي كالقضاء والحكم بين طرفي الدعوى إذا ما شهدت التعددية في الأعمال. أما المحافظة على النظام وتجنب الفوضى والهرج فهو واجب عيني.
رابعاً: بالإضافة إلى ندرة تساوي الفقهاء من جميع الجهات، فإنّ من النادر وقوع التزاحم في حالة التساوي، لأن الولاية والقيادة ليست كصلاة الجماعة أو الجمعة أو الإفتاء والقضاء بأن يطمع بها الكثيرون فقلّما يطمع الآخرون بالولاية وقيادة الأمة ومقارعة الظالمين والإطاحة بالطاغوت وتحمل التهم والتهديدات والنفي ودخول السجن، ومن النادر ان يستطيع أحد النهوض بهذا السبيل، وتاريخ الألف سنة الأخيرة خير شاهد على هذا الكلام، وبطبيعة الحال ربما يحلم البعض بها بعد استقرار النظام وسيادة الأجواء الإسلامية المنفتحة وحصول الرفاه والأمان النسبي.
خامسا: مثلما يندر احتمال التزاحم في " الولاء الانتصابي" فإنّ الأمر كذلك في "الولاء الانتخابي"، انه إشكال مشترك له جواب مشترك، فإذا كان هذا الإشكال يمثل دليلاً على إبطال الولاء الانتصابي فإنه سيكون دليلاً على إبطال الولاء الانتخابي أيضاً، وإذا ما ادعى القانون بالولاء الانتخابي بأن آراء الجمهور سواء على نحو الإجماع أو الأكثرية المطلقة أو النسبية يمثل مصدر حماية ودفاع عن قرارات الولي المنتخب وترد المزاحم، فإنّ في الولاء الانتصابي سيكون قبول الأمة وطاعتها لأحد الولاة المنصوبين من قبل الشرع، مدافعاً عنه ودافعاً للمزاحم، وبالطبع إذا لم يشترط قبول الأمة في مجال إعمال ولاية الفقهاء الجامعين للشرائط، ستقوى إمكانية وقوع الفوضى والهرج وبروز المزاحم.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ تنصيب الشارع وتنصيص صاحب الرسالة يمثلان أفضل سند له، لأنه في الولاء الانتخابي إذا ما ادعى مَن لم يَنتَخب عدم كفاءة المنتخَب، فإنّ مثل الأمر يكون ضعيفاًً على صعيد الولاء الانتصابي.
55ـ الولاية من الأمور الاعتبارية والتعاقدية، من هنا فليس من الصواب الحديث عن "كشف النصب والولاية الإلهية".
الجواب:
الأمور الاعتبارية على نحوين، فبعضها ذات أساس تكويني، والبعض الآخر اعتباري صرف ونابع من عادات وأعراف الأمة وثقافتها العامة التي تتبلور نتيجة مجموعة من التناسبات أو الارتجاليات. منها على سبيل المثال الألوان والأشكال التي تتخذ كعلامات للمرور، كلها وضعية وتعاقدية، أو الطلب من السواق في بعض البلدان سلوك الجانب الأيمن من الطريق، وفي بعضها الآخر سلوك الجانب الأيسر منه وما شابه ذلك فإنّ كل ذلك اعتباري صرف، بيد ان الأمور الاعتبارية كذلك على صعيد الدين والأخلاق والحقوق ليس كذلك وذلك لنشأتها التكوينية من حيث المبدأ، ولظهورها التكويني في المعاد، كما هو شأن السم في انه أمر تكويني وله اثر تكويني، والكذب أيضاً هو سم الروح وله اثر تكويني، فالسم نوعان بدني وروحي، وفي القيامة تتجلى سُمِّية الكذب بالنسبة لروح الإنسان، ولو تفتحت للمرء بصيرته في هذه الدنيا لرأى سمّيته، وقد كتب اعلامنا أو صرحوا لخواصهم بأنهم كانوا يرون البعض والنيران تندلع من أفواههم حين الحديث، أو انهم كانوا يرون بعض المذنبين على هيئة الحيوانات، ان العاصي مريض في حقيقته:
{في قلوبهم مرض}[14] وليس اعتبارا ويعد مريضا بالجعل والتعاقد.
من غير الممكن ان تكون القوانين الدينية تعاقدية صرفة وهي المطابقة لفطرة الإنسان، وإنما هي أمور ضرورية وواقعية لتكامل الإنسان جرى بيانها بلسان الاعتبار، من هنا فإنّ آثارها تظهر يوم القيامة، مثلما ان البعض يحشرون مبيضة وجوههم وآخرون يحشرون مسودة وجوههم: {يوم تبيض وجوه وتسود وجوه} [15] وما ذلك إلا نتيجة الأثر التكويني للعمل أو عدم العمل بالقوانين الإلهية.
ملاحظة: ان ما قيل لحد الآن يتعلق بالولاية الاعتبارية وهو ذو اصل تكويني، من هنا فإنّ ذلك الأصل خاضع للدليل الفلسفي والكلامي، وكذلك للشهود العرفاني أيضاً، كما يخضع للكشف الاصولي، ـ أصول الفقه ـ أيضاً، أما الولاية التكوينية التي تدعم الولاية الاعتبارية للائمة عليهم السلام فلها حيثية في ضوئها تأبى هذه الولاية التكوينية النصب الاعتباري ولا ان تقع في مجال الغصب، فإنّ الولاية التكوينية للإمام علي بن أبي طالب "ع" ـ مثلا ـ لم تنصب في يوم الغدير ولم تغصب في يوم السقيفة، بل ان ذلك المقام العيني جزءاً من المواهب الإلهية الغيبية التي لا تطالها أيدي العاديين من الناس، وان دائرة بحثها أيضاً خارجة عن مدار هذا الحديث أيضاً.
56ـ ان لازمة "قاعدة اللطف" و "برهان الحكمة" وجود الهداية العملية والتشريعية وليس تنصب الولي أو الحاكم عن طريق جعل الولاية والحكومة لعنوان معين، وحتى لو كانت لازمة ذينك الدليلين تنصيب الولي أو الحاكم، فإنهما يستلزمان تنصيب الإمام المعصوم"ع" فقط لا الفقهاء العدول.
الجواب:
للإجابة على هذا الإشكال ينبغي الانتباه إلى بعض الأمور هي:
أولاً: ان قاعدة اللطف ليس تامة لوحدها، وهي ليست كافية ما لم ترجح برهان الحكمة، من هنا فقد وردت رواية في كتاب الحجة من أصول الكافي عن الإمام الصادق "ع" استند إلى برهان الحكمة في إثبات وجود الحجة[16].
ثانياً: ربما يرد إشكال على قاعدة اللطف، بأن هذه القاعدة ان كانت صحيحة فلا بد والحالة هذه ان يكون الناس بأجمعهم أو أكثرهم على اقل تقدير صالحون وسعداء، في حين يصرح القرآن الكريم بفساد أكثر الناس وشقائهم. إذن قاعدة اللطف تقصر عن إثبات هذا المطلب، وهذا الإشكال الكلامي يسري إلى علم الأصول أيضاً.
وبالإمكان الرد على هذا الإشكال بالقول ان اللطف يقع في ضوء النظام قبل الدنيا وفيها وبعدها، من هنا لا يمكن الاستناد إلى قاعدة اللطف في جانب هذه السلسة والطمع بنتائجها بشكل مباشر وفوري.
ثالثاً: يتمسك المرحوم النراقي في كتابه العوائد بقاعدة اللطف ويرى تماميتها[17]، ولكن ينبغي معرفة ان ما يجب صدوره عن الله هو اللطف الواقعي لا اللطف الذي نحدده، من هنا فإنّ ما نراه لطفا لا يصح القول بوجوب صدوره عن الله.
سؤال: هل ان النبوة لا تعد لطفا قطعياً في نظره؟
جواب: ليس هذا هو مراد ابن سينا "رض" بحيث لا نستطيع إدراك أي لطف، وإنما مراده إننا ربما لا نستطيع إدراك جميع موارد اللطف، ولا يكفي مجرد انتظارنا وتوقعنا، ان النبوة والإمامة لطف ندرك ضرورته ولا مجال فيه للبطلان، إذن صدور مثل هذه الألطاف عن الله واجب.
رابعاً: ان لازمة برهان الحكمة وقاعدة اللطف، تنصيب الولي أو الحاكم وجعل الولاية والحاكمية له، ولا يكفي مجرد وجود الهداة على الصعيدين العلمي والمعنوي، لأن تطبيق الدين والقوانين الإلهية دون وجود الولاية لن تتعدى الوجود اللفظي أبداً، من هنا فإنها تفتقد الأثر الجوهري في هداية الأمة، لأنها "سواد على بياض" ليس إلا.
خامسا: لغرض إكمال اللطف والحكمة الإلهيين ثمة شيئين لازمين هما:
الأول: ان تخضع مختلف الأقاليم في زمان المعصوم "ع" لمن يعينهم النبي "ص" أو الإمام"ع".
أما الثاني: فهو ان يتواجد المنصوبون من قبل المعصوم وينوبون عن النبي "ص" والإمام "ع" ويمارسون هذه النيابة عمليا.
ملاحظة: المستفاد من القاعدة العقلية ـ اللطف والحكمة ـ من ناحية، ومن القاعدة النقلية {إنما أنت منذر ولكل قوم هاد}[18] و {لو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} [19]، هو استمرار القيادة في كل عصر ومصر، بيد انه ونتيجة لتجبر الطواغيت وتمردهم تقصر أيدي الناس عن القادة الدينيين أو ان هذه القيادة تصبح مهجورة، وفي مثل هذه الحالة يكون البعض قاصراً ومعذوراً ويكون البعض الآخر مقصراً ومأزوراً.
57ـ لازمة ولاية الفقيه محجورية الأمة وسلب الرشد عنها في الأمور الاجتماعية، فالعلماء الذين يقولون بولاية الفقيه في الأمور الحسبية، وأولئك الذين يقبلون بالولاية العامة للفقهاء، لم يصرحوا بالتباين بين ولاية الفقيه وبين الولاية على المحجورين، وان التباين في الولاية لا يمكنه بنفسه ان يكون سبباً في حصول التفاوت في معنى الولاية بهذه الموارد.
الجواب:
تقدم القول في مباحث الكتاب ان ولاية الفقيه الوارد في الروايات وفي الفقيه الإسلامي على قسمين، الأول: ولاية على المحجورين والقاصرين، والثاني: هي الولاية على العقلاء وجرى بيان نماذج منها، وقيل: لو استقصى المرء المواضع التي وردت فيها مفردة الولاء في مصادر الدين سواء العقلية منها أو النقلية، في القرآن والسنة، ومنها سيرة المعصومين "ع"، سيجد نوعين من الولاء: أحدهما: ناظرا للولاية على المحجورين والآخر: ناظراً للولاية على الأمة الإسلامية. وذلك ما يسمى بولاية أمر المسلمين.
أما عدم تصريح بعض المؤمنين بولاية الفقيه، باختلافها عن الولاية على المحجورين، فإنه من المعلوم عدم إمكانية الإدلاء بكافة المطالب العلمية لأنها تكتمل تدريجيا، ولقد سبق التلميح إلى هذا التفاوت بينهما في مجلة الحكومة [20]، وجرى الحديث في الفصل السادس من هذا الكتاب، بأن ولاية الفقيه شأنها كبعض المسائل المحورية في الفقه تعيش حالة التطور، وقد تكاملت بالنهضة والتطبيق العملي والجهاد العلمي الذي خاضه الإمام الخميني "قده" حيث خرج بولاية الفقيه من حدود الغيب والقصر الدارجة، وتوسع بها من مرحلة "الفقه الجامد" إلى مرحلة "الفقه المتحرك" وبلغ بها الموقع والمكانة الأصلية لها أي علم الكلام الذي يتولى المسائل الإسلامية الهامة، ولطالما أشاد سماحته ببسالة الشعب المسلم، وذلك للأسباب التالية:
أولاً: من وسط الأمة الواعية ينطلق الفقه الإسلامي المتحرك والحيوي.
ثانياً: من بين الأمة يبرز مشاهير الفقهاء والمجاهدون الصالحون.
ثالثاً: يتم الفصل بين الولاية على المحجورين وولاية القادة الربانيين على الأمة الواعية.
رابعاً: تطبيق آيات ولاية المعصومين عليهم السلام على الأمة الإسلامية عملياً.
خامسا: خضوع الولي الفقيه الجامع للشرائط ـ كالآخرين ـ لولاية الفقاهة والعدالة التي يتميز بها الدين الإلهي.
58ـ ليس هنالك تلازما بين الفقاهة والولاية، ولا تحظى الولاية بالفعلية قبل الرجوع للأمة، وإنما يحصل الفقيه الجامع للشرائط الذي يمتلك الكفاءة والقابلية للولاية بالفعل عن طريق "الانتخاب الشرعي" من قبل الأمة.
الجواب:
ان الولاية كالمرجعية والقضاء منصب مجعول للفقيه الجامع للشرائط من قبل الشارع المقدس، أي ان الفقيه الجامع للشرائط هو مرجع في الفتيا ويمتلك الصلاحية للإفتاء وسواء رجع إليه أم لا، وإذا تم الرجوع إليه يصبح مرجعاً بالفعل من باب المفهوم الاضافي للمرجعية، أما إذا لم يتم الرجوع فإنه يصبح مرجعاً بالقوة لا بالفعل بالرغم من فعلية جميع مناصبه المعنوية وصلاحياته الدينية، وكون الأثر الخارجي لمرجعيته بالقوة أيضاً، وهذا لا يعني ان ذلك الفقيه يكون وكيلا عن الأمة وينوب عنها في المرجعية، وهكذا شأنه في القضاء أي أن القضاء منصب منحه الشارع المقدس للفقيه الجامع للشرائط، فإذا ما رجعت الأمة إليه أصبح قاضياً بالفعل من حيث لحاظ المفهوم الإضافي للقضاء، وكذلك هو قاضي بالقوة من حيث الأثر العيني للقضاء.
وهكذا الأمر بالنسبة لمنصب الولاية، فإنّ ولاية الفقيه هي بالقوة من حيث المفهوم الإضافي للولاء قبل مبايعة الأمة.
أما بعد ذلك فتتحول إلى الفعلية غير ان ذلك يختلف عن الوكالة حيث توكل الأمة الفقيه في أمر الحكومة، لأن الصلاة في التوكيل للموكل، أما الوكيل فهو ينفذ ما يريده الموكل، في حين يتعيّن في الحكومة الإسلامية تطبيق القانون الذي يضعه الشارع المقدس لا غير.
59ـ الخطابات العامة في القرآن الكريم من قبيل {السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}[21] و{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}[22]، تفيد ان تشكيل الحكومة واختيار الحاكم أنما يقع على عاتق الأمة وليس هنالك منصوب من قبل الله سبحانه.
الجواب:
ان الخطابات العامة في القرآن الكريم لا تفيد ان انتخاب الحاكم وتوكيله هي من مهمة الأمة، وان قائد المسلمين هو وكيل الأمة، بل ان الله سبحانه وجه الخطاب للأمة على نحو العموم للأغراض التالية:
أولاً: لتفهم الأمة وجوب تطبيق هذه القوانين.
ثانياً: لمساندة ولي أمر المسلمين في تطبيق هذه القوانين التي وضعها الله سبحانه، لأن عماد هذه الخطابات من قبيل{جاهدوا...}[23] و {فقاتلوا أئمة الكفر}[24] ليس في متناول أيدي عامة الأمة، كي يتخذوا وكيلا لهم في مقام التطبيق، وذلك ما يوضحه حصر القرآن الكريم لأصل الحكم والتقنين في الله سبحانه تعالى {ان الحكم إلا لله} [25] وإناطة تطبيق تلك القوانين الذي يعد أهم شؤون المجتمع الإسلامي بولاية ولي أمر المسلمين.
ففي الآية الكريمة {أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}[26]، تفيد عبارة "أطيعوا الله " اختصاص الحكم بالله سبحانه فيما تفيد عبارة " أطيعوا الرسول أولي الأمر منكم " تطبيق الأحكام الإلهية على يد المنصوبين من قبل الله سبحانه، أي رسول الله "ص" أولي الأمر المعصومين عليهم السلام فهؤلاء أولياء الأمر، وفي عصر الغيبة أناب المعصومون عليهم السلام ـ المنصوبون من قبل الله ـ الفقهاء الجامعين للشرائط في قضية ولاية الأمر.
والأمر الآخر الذي يثبت ان مسألة الحكومة ليست مسألة وكالة هو ان الآيات الآنفة وما شابهها إنما تتعلق بالحدود التي لن ترى التطبيق ما لم يتم إثباتها في المحكمة القضائية، فثبوت الزنا والسرقة ـ على سبيل المثال ـ لا يتم إلا عند القاضي فقط، وبطبيعة الحال بإمكان من علم بنية السارق في التجاوز على ممتلكات الآخرين ان يقف بوجهه من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما إذا وقعت السرقة فإنه لا يستطيع تنفيذ حد السرقة بحقه لأن حد السرقة ليس كالقصاص بحيث يستطيع صاحب المال تطبيقه، وإنما هو من الحدود ولا بد من إثبات اصل السرقة أمام القاضي العادل أو المجتهد الجامع للشرائط المنصوب من قبل الشرع المقدس، ومن ثم تطبيقه على يد ولي الأمر وذلك ما يرتبط بالولاية أيضاً، وبالطبع فإنّ ولي أمر المسلمين ـ في ضوء التشكيلات القضائية المعاصرة ـ يحيل مهمة تطبيق الحدود إلى الجهاز القضائي.
وتدلل الروايات الواردة في باب الحدود بأن تطبيقها إنما يتم على يد الإمام، وورد في بعض الروايات المختصة بباب الحدود بإمكانية التوسط والشفاعة قبل ان يقع الحد بين يدي الإمام كي لا ينال المجرم جزاءه، أما إذا وصل الحد بين يدي الإمام فلا حق في الشفاعة ولا بد من تنفيذ حكم الله [27]، وهذا ما يتعلق بـ" حق الله " وليس "حق الناس " ففي الثانية فإنّ العفو بيد الناس أنفسهم، فيسقط الحد إذا ما تنازل الناس عن حقوقهم، لأنهم يستطيعون التغاضي عن الحد الإلهي، من هنا فإنّ مسألة السرقة تختلف عن مسألة الزنا أو القذف وما شابههما.
ورد في كتاب وسائل الشيعة عن حفص بن قياس قوله: سألت الصادق "ع": من يقيم الحدود، السلطان أو القاضي؟ قال "ع": " أما إقامة الحدود إلى من إليه الحكم " [28]، فليس للناس إقامة الحدود فقط،. وإنما القاضي لا يحق له ذلك أيضاً، فالذي بيده زمام الحكم أي ولي أمر المسلمين هو الذي يقيم الحدود، لأن التعبير بـ "من إليه الحكم" يعني من سُلّمت بيده زمام الأمة وهو غير القاضي، وهو ليس من عامة الناس.
ولغرض توفيق المسألة بوسعنا إيراد ما قاله الشيخ المفيد "رض" قبل أحد عشر قرنا في كتاب المقنعة فيما يخص ولاية الفقيه، حيث يقول "رض": "فأمّا إقامة الحدود فهو لسلطان الإسلام المنصوب من قبل الله وهم أئمة الهدى من آل محمد عليهم السلام ومن نصبوه لذلك من الأمراء والحكام وقد فوضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان. [29]
في ضوء ما تقدم اتضح ان الحدود الإسلامية سواء في مقام الثبوت أو في مقام الإجراء، تحتاج إلى الولي المنصوب من قبل الأئمة عليهم السلام وهذا ما لا يمكن اعتباره منسجماً مع الوكالة، ووجهها القضائي هو ان العفو والتخفيف ربما يجدان طريقهما في الحدود الإلهية، أما زمام الحدود الإلهية فإنه بيد الدين فقط، ولا دور للناس فيه كي يعفوا أو يحفظوا الحد الإلهي الذي هو حق الله، من هنا يتضح ان زمام العفو عن الحد أو تخفيفه يقع بيد المنصوب من قبل صاحب الحق ـ الشارع المقدس - .
ووجهه العسكري هو في إعلان الحرب لصد المهاجمين أو للدفاع عن حياض الدين، وكيفية القبض على الأسرى وطريقة إطلاقهم واخذ الفدية وما شابه ذلك، فلا تخضع أي من هذه الأمور لتصرف عامة الناس، من هنا فقد صرح القرآن الكريم: {ما كان لنبي ان يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض هذا الأدنى والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم}[30].
لقد أراد البعض تأمين الجوانب الاقتصادية بإطلاق أسرى الحرب واخذ الأموال منهم في قبالة ذلك وبالتالي توفير ميزانية الدولة، غير ان الإرادة الإلهية رفضت هذا المراد النابع من التفكير البشري معتبرة هذه الأطماع الاقتصادية الساذجة مضرة باستقلالية الدولة، وجرى إبلاغ مسؤولية تعيين مصير أسرى الحرب إلى النبي الأكرم"ص" عن طريق الوحي، بناء على ذلك، فإنّ ولي أمر المسلمين ليس وكيلا عن الأمة كي ينفذ إرادته.
60ـ ان امتلاك الفقيه للولاية على عقلاء الأمة ليس أمراً معقولا، وليس هنالك من عاقل يوافق على قيمومة الآخرين عليه.
الجواب:
ليس ثمة عاقل يسلم زمام أمره بيد من يديرون المجتمع في ضوء ميولهم الشخصية جهلة كانوا أم عقلاء، بيد ان التصويت لصالح الحكومة التي يقرها الدين الإلهي وتطبيقها على يد الصالحين والعقلاء والعلماء المنصوبين من قبل الأئمة عليهم السلام سواء كان التنصيب عامّاً أو خاصأ، لا يعد أمراً بعيدا عن التعقل بل هو نابع من صميم العقل وصلبه، وكما تقدم القول فإنّ ولاية الفقيه العادل لا تعني ولاية شخص أو أهوائه أو طموحاته النفسية وإنما هي ولاية الفقاهة والعدالة، أي حكومة الدين والتعاليم الإلهية وما الولي الفقيه إلا منفذ لها وحسب، ولا يمتلك الأذن بالتدخل والتصرف في تلك الأحكام أبداً.
ومن ناحية ينبغي عدم التوهم بأن ولاية الفقيه تتعلق بالجوانب الشخصية لحياة أبناء المجتمع وهي تتخذ القرارات من اجلهم، فلقد تقدم القول ان ولاية الفقيه تتعلق بالشؤون الاجتماعية وإدارة المجتمع الإسلامي، أما تدخل الولاية في حياة الأمة فيكون في المواضع التي لها مساس بالمصالح العامة.
بناء على ذلك مثلما ان مبايعة الأمة للنبي "ص" وأمير المؤمنين "ع" تمثل عين الصواب والتعقل، فإنّ التصويت لصالح الفقيه الجامع للشرائط المنصوب من قبلهم ويطبق الأحكام الإلهية هو عين الصواب أيضاً، ومثل هذا النظام يعد أفضل نظام سياسي وأكثر الأنظمة ضمانة في عالمنا المعاصر .
ان قبول ولاية مالك الاشتر "رض" كانت تمثل دليلاً على عقلانية المؤمنين في ذلك الزمان لا جهلهم، من هنا فإنّ القبول بولاية الفقيه تعتبر دليلاً على العلم والتعقل، فلا فرق في هذا الاتجاه بين المنصوب نصباً خاصاً والمنصوب نصباً عاماً لأنّ المعيار في التنصيب هو الفقاهة والعدالة لا شخص الإنسان.
61ـ لو صحت الولاية على عقلاء الأمة، فإنها تستلزم التسلسل، لأن الولي نفسه يحتاج إلى ولي آخر.
الجواب:
لا يصدق هذا القول بحق ولاية الرسول الأكرم "ص" وأهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام، وذلك لتحصنهم عن سلوك طريق الخطأ بسبب تمتعهم بـ" العلم الكامل " و "العصمة" في مقام العلم والعمل فلا يحتاجون إلى ولي وان الله سبحانه هو وليهم.
أما في زمن الغيبة، وعصر ولاية الفقيه فنظراً لتمتع الفقيه أو الحاكم الإسلامي بشرطي الفقاهة والعدالة، وسائر المواصفات اللازمة للقيادة من ناحية، وقبول أكثرية الأمة العاقلة أو الأخيار أو علماء الإسلام ولوجود مستشاري القيادة في مجلس تشخيص مصلحة النظام وغيره من ناحية أخرى، فتتضاءل احتمالات وقوع مثل هذا القائد في الخطأ، هذا أولاً، أما ثانياً، فإنّ مجلس الخبراء الذي يعتبر كافة أعضائه ممثلين عن الشعب وهم خبراء وعلماء في العلم والعمل، جرى تشكليه لغرض البت في الحالات النادرة فيما لو افتقد القائد الإسلامي القدرة على إنجاز مهامه أو بعض المواصفات الضرورية للقيادة، فيبادر إلى عزله، حيث يقوم بتحديد عزله عن الولاية ومن ثم الإعلان عن ذلك وتشخيص القائد الجديد وتعريفه للأمة، ولمجلس الخبراء مهمة الإشراف وتنبيه القائد أيضاً، وهذا ما سيأتي أثناء الرد على الأسئلة القادمة.
على هذا الأساس، لا حاجة للجميع لشخص القيم كي تثار شبهة الدور، بل ان الجميع بحاجة للدين الإلهي الذي لا يحتاج إلى شخص أو أي شيء آخر، من هنا فن نتيجة البحث حول ولاية الفقيه العادل ترتبط بـ "ولاية الفقاهة والعدالة" ومن المستحيل ان تبرز فتنة الدور أو التسلسل.
ملاحظة: لو كانت الحاجة للولي تستلزم التسلسل فإنّ الحاجة للوكيل تقترن بهذا التسلسل أيضاً، لأن القائد نفسه نظراً لكونه مواطناً متحضراً يحتاج إلى وكيل، والأصل في ذلك بطلان شبهة التسلسل من الأساس.
استناداً إلى ما تقدم من قول فإنّ حكماً يحظى بالضمان كنظام ولاية الفقيه بإمكانه توفير السلامة والسعادة للمجتمع إلى ان يظهر المعصوم "ع" .
63ـ الولاية أمر تكويني ولا يمكن نقلها، من هنا لا يمكن القول بسراية الولاية من المعصوم إلى الفقيه.
الجواب:
ان ولاية الفقيه ليست ولاية تكوينية، بل هي "ولاية تشريعية" وتنفيذية، وهي ولاية اعتبارية مجعولة لغرض تطبيق الأحكام وإقامة معارف الدين في إطار التشريع الإلهي، وبالرغم من استحالة سراية الولاية من الله سبحانه ـ وهو الولي الأصلي بالذات ـ إلى غيره، بيد ان جعل الولاية التكوينية والتشريعية من قبله تعالى للولي المعصوم يعد أمراً ممكنا، ومن المتيسر الجعل الخاص للولاية التشريعية للفقيه العادل، وان جعل الولاية التكوينية للمعصومين عليهم السلام يأتي عن طريق الإضافة الاشراقية، أما الجعل الوجودي الخاص وطريقة جعل الولاية التشريعية فإنه جعل اعتباري وهو بالأصالة للمعصوم وبالتبع لمن ينوب عنه.
64ـ ان لجميع الناس عقلاً نظرياً وعقلًا عملياً، وهم في غنى عن الولي، فتقدم عقل نظري وعقل عملي على الآخرين بمثابة ترجيح بلا مرجح.
الجواب:
أولاً: ان امتلاك جميع الناس للعقل النظري والعقلي العملي لا يغنيهم عن الحكومة والحاكم، وان سيرة العظماء في العالم والتي هي مورد إمضاء الشارع المقدس تقتضي بضرورة وجود حاكم على المجتمع.
ثانياً: بالرغم من امتلاك كافة أبناء النوع الإنساني للحكمة النظرية والعملية، "وفي الجملة" فإنهم لا يتمتعون بهما "بالجملة" أي ليس الجميع يتوفرون على أعلى الدرجات فيهما، من هنا فإنّ الذي يفوق الآخرين في المزايا العلمية والعملية هو المقدم عليهم، وليس تعيينه للقيادة من قبيل آلـ "ترجيح بلا مرجح" بل هو من سنخ" ترجيح الراجح على المرجوح".
ثالثاً: بالإضافة إلى جمع القائد في النظام الإسلامي إلى منزلتي العلم والعمل فإنه يلجأ إلى استشارة العلماء والمتخصصين في المجتمع والذين يتمتعون بأعلى المستويات العلمية والعملية مستنداً في ذلك إلى اصل المشورة الوارد في القرآن الكريم {و شاورهم في الأمر}[31]
من هنا فإنّ للعقل النظري والعقل العملي الذي يتمتع به المفكرون والصفوة في البلد دوراً هاماً في إدارة شؤون المجتمع الولائي والحكومة الإسلامية، فالقانون الأساسي يحتم على القائد في نظام الجمهورية الإسلامية مشاورة مجمع تشخيص مصلحة النظام الذي يضم أعضاءاً أما هم من علماء الدين أو من المتخصصين في سائر الفروع المختلفة أو من العاملين ذوي التجربة، والاستفادة من وجهات نظرهم.
ان أعضاء مجلس الشورى الإسلامي، أعضاء مجلس صيانة الدستور، أعضاء المجلس الأعلى للثورة الثقافية... الخ، كل هؤلاء نماذج تمثل طليعة المجتمع ولهم دور أساسي في إدارة الحكومة الإسلامية.
رابعاً: ربما يكون منشأ الشبهة أعلاه هو التصور الخاطىء بأن لازمة ولاية الولي هي محجورية الأمة، في حين تقدم القول في البحوث الماضية ان الأمر ليس كذلك، والولاية هي إدارة المجتمع الإسلامي في ضوء قوانين الإسلام وتعاليمه، وان الفقيه الجامع للشرائط هو ذلك المدير المقتدر العادل الأمين والعالم بشؤون الدين المنصوب من قبل المعصومين عليهم السلام لإدارة شؤون المسلمين، وتقدم القول أيضاً ان الولاية على المحجورين تختلف عن ولاية القادة المسلمين على عقلاء المسلمين.
64ـ إذا كانت ولاية الفقيه تنصيب من قبل الله تعالى سبحانه فلا حاجة لرأي الأمة وقبولها، أما إذا كانت بحاجة لرأي الأمة فإنها تصبح وكالة وليس ولاية، إذن ينبغي القول بـ"وكالة الفقيه" لا "ولاية الفقيه".
الجواب:
بالرغم من وجوب القبول في عقد الوكالة بيد انه ليس من الضروري ان تكون وكالة حيثما يلزم القبول، وان شرعية ولاية الفقيه رغم صدورها عن الله سبحانه والنبي الأكرم "ص" والأئمة عليهم السلام غير ان اقتدارها العيني وتحققها الظاهري على صعيد المجتمع وإدارة الحكم مشروط بقبول الأمة، لأن طبيعة الحكم في الإسلام شعبي وليس استبدادي ويرتكز على أساس المشاركة الشعبية وتسامي الأمة، ومن هنا لا بد من الفصل بين دائرة الشرعية الصادرة عن الشارع المقدس وبين دائرة الاقتدار الشعبي.
ان قبول الأمة بولاية الرسول الأكرم"ص" والأئمة عليهم السلام يعني القبول بحق ثبتت شرعيته قبل ان ترتضيه الأمة، وهذا يختلف عن القبول الذي يتضمنه عقد الوكالة، وذلك لافتقاد الوكيل لأي حق شرعي قبل عقد الوكالة يستلزم بموجبه قبول الموكل أو الموكلين، بل ان الوكيل يصبح ذا حق بمجرد الانتخاب اوالتوكيل.
لقد ثبتت مناصب النبوة والرسالة والإمامة التي يمنحها الله لمن اصطفى "الله اعلم حيث يجعل رسالته"[32] قبل ان ترضيها الأمة، بيد ان تحقق الأهداف الإلهية وقيادة المجتمع البشري مشروطة بمعرفة الأمة الإسلامية لهذه المناصب والإيمان بها ومواثقتها والثبات على الإيمان بها وتجنب الدخول في عداد الناكثين أو المارقين أو القاسطين.
على هذا الأساس، مثلما ان مبايعة الأمة للنبي الأكرم "ص" وأمير المؤمنين "ع" في صدر الإسلام لم تكن عقد وكالة وإنما القبول بولايتهم الإلهية، فإنّ التصويت لصالح الفقيه الجامع للشرائط تعني القبول بولايته وليس عقد وكالة، قبول حق بولاية شرعية مستند لكشف عقلي وظهور نقلي عن الأئمة عليهم السلام الذين نصبوا الفقهاء الجامعين للشرائط تنصيباً عاماً بقولهم: من كان من الفقهاء صائناً لنفسه مطيعاً لمولاه وعالماً في أحكام الدين فهو الحاكم عليكم.
من الواضح ان تشابه ولاية الفقهاء مع ولاية الأئمة عليهم السلام لا يعني تساويهما لأن المعصومين عليهم السلام الذين انتدبهم الله سبحانه يتمتعون بمقام رفيع بحيث لا يمكن قياس أي إنسان غير معصوم بهم، ناهيك عن القول بموازاتهم:
"لا يقاس بآل محمد "ص" من هذه الأمة أحد"[33] سواء على صعيد العقل النظري أو مراتب القلب البصري أو مراتب العقل العملي.
65ـ العلاقة التي تربط الأمة بالحاكم الإسلامي في عصر الغيبة ليس من باب الولاية ولا الوكالة وإنما من باب التعهد المتبادل الذي يشمله الدليل القرآني {أوفوا بالعقود}[34] أو الدليل الروائي "المؤمنون عند شروطهم"[35]، ومن هنا فهو لا يشابه عقد الوكالة الاصطلاحي في عدم جوازه، بل هو عقد واجب، وبذلك فهو يخلو من الخلل الذي يعتري الحكم ذا الطابع التوكيلي.
الجواب:
بوسعنا تقسيم الحكومات إلى ثلاثة أقسام هي: الحكومة المستبدة، حكومة الشعب على الشعب، الحكومة الإلهية.
1- الحكومة المستبدة: وهي تقوم على القهر وشعارها " الحكم لمن غلب " ولقد كانت حكومة فرعون تقوم على أساس هذا النوع فقد كان يقول: قد أفلح اليوم من استعلى}[36].
2ـ حكومة الشعب للشعب: وهي من قبيل الحكومات المتعارف عليها في عالمنا المعاصر التي تتحدث ظاهريا عن حرية الشعب، وتتسع دائرة تدخل هذه الحكومات وتصرفها لإدارة وتنظيم أعمال البشر، وان الحكّام هم ممثلون عن الناس ويمارسون الحكم وفقاً لما يفكر به الناس ويريدونه.
3ـ الحكومة الإلهية: وهي التي يحكم بها الدين والمشيئة الإلهية على الناس بل وحتى على الحكام، وهذه الحكومة تهتم بأخلاق الناس وعقائدهم أيضاً بالإضافة إلى أفعالهم، والحاكمية فيها لله رب العالمين.
ونظراً لعدم استبدادية هذه الحكومة فإنها تتميز بالشعبية غير ان شعبية النظام تقوم على أساس محورية القانون الإلهي لا كما هو المتعارف في دول الشرق والغرب حيث يضعون القانون وفقاً لأهوائهم ورغباتهم دون الاعتماد على أي معيار أو اصل ديني، ولان الحاكمية لله وسيادة قانونه في الحكومة الإلهية فليس هنالك فارق بين الحاكم سواء كان نبياً أو إماماً أو مجتهدا عادلاً وبين سائر الناس سواء على صعيد التقنين والإفتاء أو في القضاء والولاية والقيادة، أي ان الولي والرعية مكلفون بتطبيق الأحكام الإلهية على حد سواء. من هنا فقد صرح أمير المؤمنين "ع": " أيها الناس، إنى والله ما أحثكم على طاعة إلا وأسبقكم إليها ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها"[37].
إذا ما جرت السيرة العقلائية لغير المسلمين على تنصيب فرد أو فئة لإدارة بلدهم ويتعهد الطرفان بالالتزام بهذا النظام المفروض، فإنما ذلك لما يرون من جميع شؤون هذا النظام سواء التقنين أو الاجراء أو القضاء وليدة أفكارهم وان تعيين مسؤولي البلاد بيدهم أيضاً، وفي مثل هذه الأنظمة لا يمكن العثور على نظام يخرج عن أيديهم ثبوتاً أو نفياً، من هنا فلا يمكن مقارنة الولاية والإمامة في النظام الإسلامي مع مسؤولي الأنظمة غير الإسلامية واعتبار بعض الظواهر النقلية على أنها إمضاء لسيرة العقلاء، وكما تقدم القول في البحوث السابقة فإنّ الإسلام قد وضع أحكاماً خاصة للولاية والإمامة تخرج عن تصرف الناس ثبوتاً ونفياً، وهي كذلك خارجة عن تصرف الولي أو الإمام نفسه أيضاً. بناء على ذلك فإنّ الذي يتولى قيادة الأمة الإسلامية هو القائد الإسلامي المنصوب من قبل الله سبحانه بالذات وبالاصالة هو المعصوم "ع" يليه في عصر الغيبة النواب المنصوبون تنصيباً خاصاً أو عاماً من قبله.
وخلاصة القول: في الحكومات غير الاستبدادية التي يسودها نوع من التراضي والتعاهد المتبادل، قد يكون محور التراضي والتعاهد هو الاعتماد على رأي الأمة والالتزام بإرادتها، وقد يكون العنصر الرئيس للتراضي والتعاهد هو الالتزام بالقانون الإلهي والإرادة الإلهية اللذين يثبتان تارة بالعقل البرهاني وأخرى بالنقل المعتبر، لذلك لا يمكن النظر للتعاهد المتبادل في الحكومة الإسلامية بمعزل عن ولاية الفقيه، لأن محور التراضي والتعاهد المتبادل في الأمة الإسلامية ليس سوى حاكمية الفقاهة والعدالة فهما ركنان أصيلان في الحكومة الإسلامية.
من هنا فإنّ طرفي التعهد، أي الفقيه الجامع للشرائط من ناحية والأمة الإسلامية من ناحية أخرى، يصوتان لصالح الدين الإلهي، ومن خلال ذلك يقومان بمواءمة الشرعية الإلهية مع الاقتدار الشعبي.
66ـ تفيد آية الشورى {و آمرهم شورى بينهم}[38] بإلقاء مهمة تشكيل الحكومة على الأمة، وتحقيقها استناداً إلى اصل الشورى.
الجواب:
ان التمسك بهذه الآية لإثبات حكومة الشعب على نفسه ونفي حاكمية المنصوب من قبل الله، هو تمسك بالعام في المقطوع العدم وهو باطل، وإذا ما بدا للوهلة الأولى التمسك بهذه الآية تمسك بالعام في الشبهة المصداقية، ولكن بعد التأمل والتمعن يظهر ان الأمر ليس كذلك، وإنما يريد المستدل التوسل بهذه الآية لإثبات مدعى لا صلة له ببلاغ الآية.
لو كان الحكم في هذه الآية عاماً فهو يقضي بتشاور المؤمنين حول شؤونهم، والاستدلال بهذه الآية حول قضية الحكم والقيادة إنما يصح إذا ما ثبت بادىء الأمر ان الحكومة تعد جزءاً من شؤون الناس. إذ ذلك يمكن القول: حيث ان الحكومة جزء من شؤون الناس وان المؤمنين يتشاورون حول قضاياهم، فالحكومة إذن تقام بتشاور الناس فيما بينهم، وان الحاكم يعين بعد تشاور الجمهور، بيد انه لا يصح الاستدلال بهذه الآية ما لم يثبت كون الحكومة من شؤون الناس لأنه تمسك بالعام في مقطوع العدم، ولو تنزلنا وقلنا انه من باب التمسك بالدليل فهو نفس الدليل في الشبهة المصداقية.
ان الله سبحانه يوعز لنبيه "ص" قائلاً: {و شاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}[39]، ولم يقل " فإذا عزموا " أو " فإذا عزمتم " وهذا دليل على ان القرار النهائي بيده "ص" وان المشورة ذات جنبة تمهيدية أو خبروية وما شابه ذلك، وفي سورة الشورى يحدد دائرة الشورى حيث يقول تعالى: {و آمرهم شورى بينهم} أي ان دائرة الشورى هي أمر الناس وليس "أمر الله "، فالقانون والقضاء والحكم هي من أمر الله الذي لا يخضع للمشورة، فتعيين الحلال والحرام والواجب إنما يخضع لارادة الله وحسب، وتتجلى عن طريق القرآن والسنة من ناحية وبالعقل البرهاني من ناحية أخرى،.
هنالك ثلاث فعاليات في المجتمع الإسلامي أولها التقنين والثاني تطبيق القانون والثالث الإشراف على حسن تطبيق القانون ومواكبة الأعمال للقانون، لابد من وجود سلطة تقوم بعملية مطابقة بين إجراء القانون والعمل به وبين القانون نفسه لرؤية ما إذا جرى العمل به بصورة صحيحة أم لا، وإنزال العقاب في حالة عدم التطبيق الصحيح، ففي النظام الإسلامي تعد السلطة المقننة والسلطة القضائية من "أمر الله" أما تنفيذ القانون الإلهي فهو "أمر الناس". فإذا ما أراد الناس التنفيذ كما في حالة وجوب استثمارهم للمصادر الطبيعية على أحسن وجه والمحافظة على استقلالهم، فإنّ للمشورة دورها المصيري في مثل هذه الحالة حيث يجري البحث فيمن يحتل الأولوية في التنمية هل هي الزراعة أم الثروة الحيوانية أم الصناعة، وفي كيفية بناء البلد والاستثمار وطريقة معالجة المشاكل الاقتصادية من قبيل التضخم، وقضايا المدن من قبيل مشكلة المرور وسائر الأمور المتعلقة بإعمار البلاد ثقافياً اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
سؤال: في مجلس الشورى الإسلامي ـ وهو السلطة التشريعية ـ تكون المشورة ورأي الأغلبية هي المعيار!
الجواب:
ان القانون الإسلامي بنفسه لا يخضع لمشورة ورأي الأكثرية، وان الله سبحانه هو الذي يحدد القانون الإسلامي، أما في تشخيص القانون الإلهي حيث يفتقد الوضوح على وجه الدقة فإنّ المشورة ورأي أكثرية الفقهاء يصبح هو المعيار.
ان تشخيص القانون لا يعني وضع القانون، فالتشخيص من أمر الناس وليس من أمر الله، أما القانون فهو أمر الله المحقق والمدون، وعلى الناس ان يفهموا ما هو قانون الله، وإذا ما كان هذا التشخيص متعلقاً بالحكم فإنه يتحقق بتشاور الفقهاء، وان كان متعلقاً بموضوع فإنه يتحقق بتشاور الخبراء. من هنا فقد ورد الإيعاز في أحاديث المعصومين عليهم السلام إذا ما أردنا تشخيص صحة أو سقم الروايات المتناقضة فعلينا ان نأخذ بمهورها وترك شادها و ناذرها[40].
67ـ إن قول أمير المؤمنين "ع": " لابد من أمير براً أو فاجر "[41] دليل على انفصال الدين عن السياسة، من هنا فإنّ الحاكم تعينه الأمة لا ان يكون منصوبا من قبل الله.
الجواب:
لقد كان قول أمير المؤمنين "ع" ذاك بعد سماعه لقول الخوارج: " لا حكم إلا لله " حيث قال "ع": "كلمة حق يراد بها باطل نعم انه لا حكم إلا لله ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة إلا الله، لا بد للناس من أمير بر أو فاجر.
ان قوله "ع" كان ردّاً على الخوارج الذين كانوا ينفون حكم كل إنسان، لذلك فقد أكّد "ع" على ضرورة الحكومة والولاية، وليس كلامه دليلاً على انفصال الدين عن السياسة أبداً.
ورد في نهج البلاغة قوله "ع": "أما الإمرة البرّة فيعمل فيها التقي وأما الإمرة الفاجرة فيتمتع فيها الشقي "[42].
الأمر الذي من الضرورة التنويه له في هذا المجال ان العدو يصبوا إلى إخراج الولاية من الميدان قبل الولي، وعزل الفقاهة قبل عزل الفقيه عن الساحة.
لقد تفوه الأجانب الأبالسة وصدقهم السذج أو يصدقونهم بأن تعيين الحاكم يأتي عن طريق انتخاب الأمة لا الشريعة، فلم يستطع الأعداء إبعاد الإمام والقائد وعزله في داره قبل ان يعزلوا الإمامة والقيادة، فإذا ما استطاعوا عزل أمير المؤمنين "ع" في داره فإنما ذلك لقولهم ان تعيين الإمام بيد الأمة وذلك ما يقع نتيجة انتخابهم وليس بالتنصيب الإلهي. فقالوا "منا أمير ومنكم أمير"[43] لقد انزلوا الإمامة من موقعها في الملكوت إلى حضيض الطبيعة ومن التنصيب الإلهي إلى الانتخاب، وعندما اخرجوا تعيين الإمام من النص النبوي إلى سقيفة بني صاعدة إذ ذاك أصبح أمير المؤمنين "ع" جليس الدار، فأعلن المعارضون للولاية: انه لم يقر بالانتخابات.
68ـ قال أمير المؤمنين "ع" حينما بايعه الناس "دعوني والتمسوا غيري"[44] و "أنا لكم وزير خير لكم مني أمير "[45]، كما انه "ع" وصف "أصحاب الخراج" بأنهم وكلاء الأمة"[46]، ومثل هذه الموارد تدل على انتخاب الحاكم هو حق للأمة وبيدها.
الجواب:
في كثير من المواطن وصف أمير المؤمنين "ع" نفسه بـ "والي المسلمين"، "ولي المسلمين"، "ولي الأمر " و "صاحب الأمر"، وورد بعضها في نهج البلاغة، وذكرت في الرد على إحدى الشبهات التي وردت آنفاً ولا حاجة لإعادتها.
أما قوله "ع": "دعوني والتمسوا غيري " فقد جاء بعد ان انحرفت الحكومة الإسلامية عن مسارها الحقيقي وارتد الناس عن الخط الصحيح للولاية: "ارتد الناس إلا ثلاثة"[47]، وبالطبع ارتدوا عن الولاية لا عن الدين ـ وقد عزل الناس الحق لما يقرب من ربع قرن وحرفوا الحق وطرحوه مغلفاً بلباس الباطل، ثم جاؤوا لينصبوا أمير المؤمنين أميراً عليهم فيما كان "ع" يرى أوضاع مثل هذه الحكومة غير مناسبة فقال لهم: "حيث إنكم وصلتم إلى هذا الحال جئتم إليّ ".
أما تعبيره "ع" عن عمال الخراج: وكلاء الأمة" فلأنهم كانوا وكلاء عن ولي أمر المسلمين وإلاّ فلم تكن لهم وكالة عن الأمة.
سؤال: إذا كان أمر الحكم قد تعين في أمير المؤمنين "ع" فلماذا كان يريد إناطته بشخص آخر؟
الجواب: ورد في نهج البلاغة قوله "ع": " لا رأي لمن لا يطاع " [48] فالحكومة التي لا تحظى بطاعة الأمة ليست بحكومة ولا فائدة ترتجى منها.
من هنا فإنّ قوله "ع" لعماله: "فإنكم خزّان الرعية ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة "[49] ليس لأنهم اخذوا الوكالة عن الأمة وهي التي منحتهم حق الحكم في هذه الأمور، وإنما لأن الأمة هي التي تستلم هذه الأموال فإنهم وكلاء عن المستهلكين، فإذا ما وصلت بأيديهم فكانما وصلت بأيدي المستهلكين.
سؤال: ما هي طبيعة الوكالة عن المستهلكين؟ أي كيف أصبح هؤلاء وكلاء الفقراء؟
الجواب: يقوم ولي أمر المسلمين بانتخاب وكيل نيابة عن الفقراء الذي يستحقون الوجوه البِّرية، ولولي أمر المسلمين حق سواء على من يعطي الزكاة وعلى مستحقيها أو على أصحاب الخراج أيضاً، فله الحق على أصحاب الخراج وقام بتعيينهم في هذا المنصب، وله الحق على الذي يعطون الزكاة فيقوم بأخذ الزكاة منهم، وله الحق على مستلميها، فقام بتعيين وكيل نيابة عنهم.
ان وصفه "ع" لأصحاب الخراج بأنهم "سفراء الأئمة" دليل على انهم ليسوا وكلاء الأمة بالمعنى الذي يفيد حصولهم على حق الحاكمية والتنصيب من الأمة، ففي موضع آخر يقول "ع" لعماله في جباية الصدقات: " ثم تقول عباد الله أرسلني إليكم ولي الله وخليفته لآخذ منكم حق الله في أموالكم فهل لله في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه فإنّ قال قائل: لا، فلا تراجعه"[50].
بناء على ذلك، فإنّ الحكم لمن نصبه الله تعالى، والحديث هنا عن حق الله والتأدية لولي الله وخليفة الله، لا حق الناس والتأدية لوكيل الناس، وان أصحاب الخراج هم سفراء ولي الله وليسوا وكلاء الأمة بالمعنى الذي يفيد ان الانتخاب بيد الأمة.
وخلاصة القول: ان الجمع بين السفارة عن الإمام والوكالة عن الأمة في ضوء ما هو مستفاد من العبارة المتقدمة يكون بأن للعاملين في جمع الوجه الشرعي مَنصِبَين، أحدهما اخذ المال وهذا بيد ولي أمر المسلمين وهم وكلاء عن الولي، والآخر المحافظة على الأمانة وضبطها وهذا حق الفقراء وعامة الناس، وبامكان هؤلاء ان يكونوا وكلاء الأمة من هذا الباب أما تعيين الوكيل فهو مسؤولية الولي.
69ـ ان احتجاج أمير المؤمنين "ع" بمبايعة الأمة له دليل على كونه منتخبا من قبل عامة الناس، وهذا دليل على ان تعيين الحاكم بيد الناس.
الجواب:
ما ورد في نهج البلاغة أو في غيره كاحتجاج من أمير المؤمنين "ع" بالبيعة فهو من باب قاعدة الإلزام، كالأمر الذي يصدره الباري تعالى للمؤمنين بالالتزام بما ألزموا به أنفسهم أي العمل بالقران واتباع النبي "ص" وإذا ما خالفوا ذلك فإنه يؤاخذهم على ذلك، وهذا يختلف عما إذا كانت مبايعة الأمة له "ع" تمثل مصدر حاكميته، وانه "ع" إنما يستدل ببيعة الأمة لتشخيص اصل الحق ومن ثم تعزيز مكانته السياسية.
ان هذه الاحتجاجات ناظرة إلى مقام الإثبات لا الثبوت، أي انه "ع" يقول: إنكم إذا قبلتم إمامتي وخلافتي فلماذا تنقضونها أَوَ لم تقبلوا بولايتي عن طيب خاطر ورغبة منكم، فلماذا أصبح منكم الناكث والمارق والقاسط؟
على هذا الأساس فإنّ الاحتجاج بالبيعة لا يعد دليلاً على تصويب الأمة عن طريق توكيل الأمة، إذ ان احتجاج الباري تعالى بالميثاق الذي أبرمه مع الناس حول ربوبيته وعبوديته حيث يقول: {ألست بربكم قالوا بلى}[51] لا يستلزم انشاء الربوبية ومنح منصب الربوبية إلى الله من قبل الناس، مثلما لا يعد الميثاق الذي ا خذه على الناس فيما يخص رسالة النبي "ص" وتبعية الأمة له دليلاً على اعتباريتها وتصويب رسالته من قبل الأمة.
وأفضل شاهد على هذا الكلام، الرواية المشهورة الواردة بحق الحسن والحسين عليهما السلام: " الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا "[52]، لأن رأي الأمة ناظراً إلى مقام الإثبات والتعهد الإيماني وتحقيق الاقتدار، ليس ناظرا إلى مقام الثبوت وإنشاء الإمامة، من هنا فقد كان الإمام الحسين "ع" إماماً وان لم تبايعه الأمة، وإذا ما كان ظاهرا بعض النصوص يفيد التولية ومنح الولاية، بيد ان المراد منه القبول والتولي، إذ ان ولاية أمير المؤمنين "ع" سبقت قبول الناس في الثبوت: "وقد كان رسول الله "ص" عهد إلي عهدا فقال: يا بن أبي طالب: لك ولاء أمتي فإنّ ولوك في عافية واجتمعوا عليك واجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم وان اختلفوا عليك فدعهم وما هم فيه"[53]
ان اصل الولاية تثبت لعلي "ع" كعهد إلهي من الله سبحانه له "ع" وان ما يتعيّن ضمنه إلى شرعية هذا المقام وثبوته هو القبول الشعبي الذي يقترن بالاقتدار الشعبي الديني، ونظيره ما حدث للإمام الحسين "ع"، إذ كانت إمامته حقّاً ثابتاً وشرعياً، غير أنها لم تصل مرحلة الاقتدار لعدم مبايعته وعدم تحقق تولّي الأمة وقبولها.
والوجه الآخر للاحتجاج بالبيعة والميثاق هو المجادلة بالتي هي أحسن وتبريره: بالرغم من عدم تحقق ولايته عن طريق الانتخاب أو الشورى، غير انه "ع" يتحدث معهم وفقاً لما شهده عصرهم وما يتبنونه فيقول لهم: إذا كان متبناكم الانتخاب وفي ضوئه بادرتم لانتخابي، فلماذا تفعلون خلافاً لما تتبنوه وترونه وتنحرفون عنه؟
ملاحظة: هنالك قرائن في كلمات الإمام علي "ع" تعد دليلاً على ولاية إمام المسلمين ولا وكالته، نشير هنا إلى بعض منها على سبيل المثال:
1 ـ قوله "ع": " يا أيها الناس ان لي عليكم حق، فآما حقكم علي فالنصيحة لكم وتوفير فيئكم عليكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا وتأديبكم كيما تعلموا، واما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب والإجابة حين ادعوكم والطاعة حين أمركم"[54].
من الواضح ان الوكيل لا يملك حق الإمرة كي تجب طاعته من قبل الموكل أو الموكلين.
2 ـ قوله "ع" "ان الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم"[55]، فإذا لم تكن الإمامة نصبية وكان تعيين الإمام أو القائد حقّاً بيد الأمة لم يكن مناسباً حصرها في هؤلاء القوم على نحو الخصوص، ويتضح من وصول فئة خاصة من الناس إلى منصب الأمة، تعيينها من قبل الشارع المقدس.
ملاحظة: بالرغم من هذا القول يختص بالإمام المعصوم بيد انه يفيد ان تعيين القائد في الإسلام ليس من مسؤولية الأمة وإذا ما نصب الإمام المعصوم شخصاً تنصيبا خاصاً أو عاماً، فعلى الأمة القبول به.
3 ـ قوله "ع": "وإنما الأئمة قوام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة إلا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار إلا من انكرهم وانكروه"[56].
يتضح من تعبير: الأئمة قوام الله على خلقه ان الإمام ليس وكيلا عن الخلق بل هو قائم بأمرهم ومديرهم ومدبر أمورهم وفقاً للخط الإسلامي الصحيح.
4 ـ يقول "ع" في وصف خلفاء رسول الله "ص": " وهم أزمّة الحق وأعلام الدين وألسنة الصدق"[57].
من هنا فإنّ على الأمة السير في طريق الحق في ضوء حاكميتهم، لا ان الأمة تأخذ بزمام الحق وتتخذ من أهل البيت عليهم السلام وكيلاً لتنفيذ الرغبات الشخصية أو تحقيق مطامع فئة معينة.
_______________________
[1] البحار: 2/221،ح1.
[2] نهج البلاغة: الخطبة: 173البند1.
[3] نفس المصدر: الخطبة 173، البند3.
[4] جواهر الكلام:
[5] الوسائل: 26/104، ح86.
[6] البحار: 3/268،ح3.
[7] التوبة: 111.
[8] الفتح: 10.
[9] الممتحنة: 12.
[10] البقرة: 40.
[11] القيّم في ضوء المصطلح القرآني والروايات هو الشيء أو الإنسان القائم بنفسه والذي يقود الآخرين نحو القيام، من هنا فإنّ الإمام أو القائد أو الزعيم قيم على لناس بهذا المعنى وينبغي عدم الخلط بين هذا المعنى والمعنى الفقهي في الأبواب المتعلقة بالمحجوزين.
[12] البحار: 6/60،ح1.
[13] البحار: 23/53،ح113.
[14] البقرة: 10.
[15] آل عمران: 106.
[16] الكافي: 1/168،ح1.
[17] عوائد الأيام: 705.
[18] الرعد7.
[19] الفرقان: 51.
[20] مجلة الحكومة الإسلامية، السنة الأولى، العدد الأول ص55.
[21] المائدة: 38.
[22] النور: 2.
[23] التوبة: 41.
[24] التوبة: 12.
[25] يوسف: 67.
[26] النساء: 59.
[27] الوسائل: 28/38، ح1،18/ح1.
[28] الوسائل: 27/300،ح33794.
[29] المقنعة: 810.
[30] الأنفال: 67.
[31] آل عمران: 159.
[32] الأنعام: 124.
[33] نهج البلاغة: الخطبة2، البند12.
[34] المائدة: 1.
[35] بحار الأنوار:49/162،ح1.
[36] طه: 64.
[37] البحار: 44/192،ح1.
[38] الشورى:38.
[39] آل عمران:159.
[40] البحار: 2/245،ح57.
[41] نهج البلاغة: الخطبة40البند1.
[42] نهج البلاغة، الخطبة 40 البند 4.
[43] شرح ابن أبي الحديد: 2/274.
[44] شرح ابن أبي الحديد: 2: 274.
[45] نهج البلاغة الخطبة 92.
[46] نفس المصدر الرسالة 51 البند2.
[47] البحار: 22/352،ح80.
[48] نهج البلاغة الخطبة 27، البند16.
[49] نفس المصدر، الرسالة 51،البند 21.
[50] نهج البلاغة: الرسالة 25، البند 3.
[51] العراف: 172.
[52] البحار43/39/،54.
[53] كشف المحجة: 180.
[54] نهج البلاغة الخطبة 34 البند 9.
[55] نهج البلاغة الخطبة 124،البند 4.
[56] البحار: 6/233،خ26.
[57] نهج البلاغة، الخطبة 87،البند 14.
|