مناظرته مع زنديق : وخف زنديق متمرس في الزندقة والالحاد إلى الإمام الرضا ( عليه السلام ) وكان في مجلسه جماعة. والتفت الامام إليه قائلا : أرأيت إن كان القول قولكم ـ من انكار الله تعالى ـ وليس هو كما تقولون : السنا وإياكم شرعا سواء ، ولا يضرنا ما صلينا ، وصمنا وزكينا ، وأقررنا ؟ ... فسكت الزنديق ، أمام هذه الحجة الدامغة ، فإنه لو كان الامر كما يذهب إليه الزنادقة من انكار الله تعالى ، فما الذي يضر الموحدين من صلاتهم وصومهم. وأضاف الامام بعد ذلك قائلا : وان لم يكن القول قولكم ، وهو كما نقول : ألستم قد هلكتم ، ونجونا .... وأراد الامام انه إذا انكشف الامر لهم من وجود الخالق العظيم المدبر لهذه الأكوان ، فقد هلك الملحدون ، وباؤوا بالخزي والعذاب الأليم ، وفاز المؤمنون والمتقون. وقدم الزنديق إلى الإمام ( عليه السلام ) الأسئلة التالية : س 1 ـ رحمك الله ، أوجدني كيف هو ـ يعني الله ـ وأين هو ؟ .... ج 1 ـ ان الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أين الأين ، وكان ، ولا أين ، وهو كيف الكيف ، وكان ، ولا كيف ولا يعرف بكيفوفته ، ولا بأينونته ، ولا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ .... ان الله تعالى نور السماوات والأرض ، ويستحيل ان يتصف بالأين والكيف وغيرهما من صفات الممكن الذي مثاله إلى العدم ، فهو سبحانه لا يدرك بحاسة ، ولا يقاس بشئ. س 2 ـ إذن انه لا شئ إذا لم يدرك بحاسة من الحواس. ج 2 ـ ويلك لما عجزت حواسك عن ادراكه ، أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنا أنه ربنا ، وانه شئ بخلاف الأشياء ... (151) ان ادراك الحواس محدود كما وكيفا ، كما انها لا تدرك الأشياء الكثيرة من الممكنات ، فهي لا تدرك ـ مثلا ـ حقيقة الروح ، فكيف تدرك واجب الوجود تعالى وتقدس ؟ س 3 ـ اخبرني متى كان ؟ .... ج 3 ـ اخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان ؟ .... لقد سخر الإمام ( عليه السلام ) من سؤاله ، فالله تعالى حقيقة مشرقة يبصره كل أحد بآثاره ، وعظيم صنعه ، وبدائع مخلوقاته ففي كل مرحلة من الوجود ، هو موجود ، ويستحيل ان يقال انه متى كان. س 4 ـ ما الدليل عليه ؟ .... ج 4 ـ إني لما نظرت إلى جسدي ، فلم يمكني فيه زيادة ولا نقصان في العرض ، والطول ، ودفع المكاره عنه ، وجر المنفعة إليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وانشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر ، والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات علمت أن لهذا مقدرا ومنشئا ... ان كل ذرة في هذا الكون تدلل على وجود الخالق العظيم المكون لها. ان الانسان إذا نظر إلى نفسه ، والى ما فيه من الأجهزة والخلايا العجيبة ، فإنه يؤمن بالله تعالى. وفي الحديث من عرف نفسه فقد عرف ربه ، لقد خلق الله تعالى الانسان في أحسن تقويم ، فلا يمكن الزيادة أو النقصان في أعضائه ومن المعلوم ان خلق الانسان بهذه الدقة المذهلة يدل على وجود الله ، فان الأثر يدل على المؤثر والمعلول يدل على وجود علته ـ كما يقول المنطقيون ـ. ومن آيات الله تعالى دوران الفلك ، وانشاء السحاب ، وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر ، قال تعالى : ( لا الشمس ينبغي ان تدرك القمر ، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون ) فسبحان الله ما أكثر آياته التي تدلل عليه. س 5 ـ لم لا تدركه حاسة البصر ؟ ... ج 5 ـ للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الابصار ، منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجل من أن يدركه بصر ، أو يحيط به وهم ، أو يضبطه عقل ... ان حاسة البصر وغيرها من حواس الانسان محدودة فكيف تدرك الخالق
(152)
العظيم ، أو تبصره ، وتنظر إليه انما تدرك وتبصر بعض الممكنات. س 6 ـ حده ـ أي الله تعالى ـ لي ؟ .... ج 6 ـ لا حد .... إن الحد أنما هو للمكنات ، وأما واجب الوجود فإنه يستحيل عليه الحد. س 7 ـ لم ـ أي لماذا لا يحد ـ ؟ ... ج 7 ـ لان كل متناه محدود متناه ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، وإذا احتمل الزيادة احتمل النقصان فهو غير محدود ، ولا متزايد ، ولا متناقص ولا متجزي ، ولا متوهم .... لقد أقام الإمام ( عليه السلام ) البرهان على استحالة تحديد الواجب العظيم ، فان التحديد ـ كما ذكرنا ـ انما هو من شؤون الممكنات. س 8 ـ أخبرني عن قولكم : إنه لطيف ، وسميع ، وبصير ، وعليم ، وحكيم أيكون السميع لا بالاذن والبصير لا بالعين ، واللطيف لا بعمل اليدين ، والحكيم لا بالصنعة ؟ ج 8 ـ إن اللطيف منا ـ أي من المخلوقات ـ على حد ايجاد الصنعة ، أو ما رأيت أن الرجل اتخذ شيئا فيلطف في اتخاذه ؟ فيقال : ما الطف فلانا ، فكيف لا يقال للخالق الجليل ( لطيف ) إذ خلق خلقا لطيفا وجليلا ، وركب في الحيوان منه أرواحها وخلق كل جنس مباينا من جنسه في الصورة ، ولا يشبه بعضه بعضا ، فكل به لطف من الخالق اللطيف الخبير في تركيب صورته. ثم نظرنا إلى الأشجار ، وحملها أطايبها المأكولة منها وغير المأكولة ، فقلنا عند ذلك : إن خالقنا لطيف لا كلطف خلقه. وقلنا : إنه سميع لأنه لا يخفى عليه أصوات خلقه ما بين العرش إلى الثرى من الذرة إلى ما هو أكبر منها في برها وبحرها ، ولا يشتبه عليه لغاتها فقلنا : إنه سميع لا بأذن. وقلنا : إنه بصير لا ببصر لأنه يرى أثر الذرة السحماء (1) في الليلة الظلماء على الصخرة السوداء ، ويرى دبيب النمل في الليلة الدجية ، ويرى مضارها ومنافعها ومفاسدها ، وفراخها ونسلها ، فقلنا عند ذلك : انه بصير لا كبصر خلقه (2).
1 ـ السحماء : السوداء. 2 ـ هناك زيادة على هذه الرواية جاءت في الاحتجاج ولا يخالجنا شك في أنها منحولة وليست من كلام الامام ، وذلك لعدم الدقة في التعبير واعراض الشيخ الصدوق عنها.
(153)
|