مناظرته مع رأس الجالوت : وكان رأس الجالوت ، يمثل الطائفة اليهودية في ذلك المجلس الذي أعده المأمون لامتحان الامام. فقال له الامام : تسألني أو أسألك ؟ .... بل أسألك ، ولست أقبل منك حجة إلا من التوراة أو من الإنجيل أو من
(145)
زبور داود ، أو ما في صحف إبراهيم وموسى ... فأجابه الامام بالموافقة على هذا الشرط قائلا : لا تقبل مني حجة إلا بما نطق به التوراة على لسان موسى بن عمران ، والإنجيل على لسان عيسى بن مريم ، والزبور على لسان داود ( عليهم السلام ) .... س 1 ـ من أين تثبت نبوة محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ... ج 1 ـ شهد بنبوته موسى بن عمران ، وعيسى بن مريم ، وداود خليفة الله في الأرض ... وطلب رأس الجالوت اثبات ذلك قائلا : أثبت قول موسى بن عمران .... فقال الامام : تعلم يا يهودي أن موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنه سيأتيكم نبي فيه (1) فصدقوا ، ومنه فاسمعوا فهل تعلم أن لبني إسرائيل أخوة غير ولد إسماعيل ؟ ان كنت تعرف قرابة إسرائيل من إسماعيل ، والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم. واعترف رأس الجالوت بذلك قائلا : هذا قول موسى : لا ندفعه ... والزمه الامام بالحجة والبرهان قائلا : هل جاءكم من اخوة بني إسرائيل غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ... لا ... وانبرى الامام قائلا : أليس هذا قد صح عندكم ؟ .... نعم ، ولكني أحب أن تصححه لي من التوراة ؟ ... وتلا الامام عليه قطعة من التوراة قائلا : هل تنكرون التوراة تقول لكم : جاء النور من قبل طور سيناء وأضاء للناس من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران ... وأقر رأس الجالوت بهذه الكلمات ، إلا أنه طلب من الامام تفسيرها ، فقال ( عليه السلام ) له :
1 ـ هكذا في النسخ المخطوطة والمطبوعة ، والصواب فيه بالباء والمعنى إن أدركتم صحبته وفيه ، اي قصدوه واسمعوا ما يقوله.
(146)
أنا أخبرك بها ، أما قوله : جاء النور من قبل طور سيناء فذلك وحي الله تبارك وتعالى الذي أنزله على موسى على جبل طور سيناء. وأما قوله : وأضاء للناس في جبل ساعير فهو الجبل الذي أوحى الله عزوجل إلى عيسى بن مريم وهو عليه. واما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران فذاك جبل من جبال مكة ، وبينه وبينها يومان ؟ أو يوم ... قال شعيا النبي : فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة رأيت راكبين أضاء لهما الأرض أحدهما على حمار ، والآخر على جمل ، فمن راكب الحمار ، ومن راكب الجمل ؟ ... ولم يعرف رأس الجالوت ذلك رغم انه موجود في التوراة فطلب من الامام ايضاح ذلك له. فقال ( عليه السلام ) : أما راكب الحمار فعيسى ، وأما راكب الجمل فمحمد ( صلى الله عليه وآله ) أتنكر هذا في التوراة ؟ ... ووجه الامام إليه السؤال التالي : هل تعرف حبقوق النبي ؟ .... نعم اني به لعارف ... وأخذ الإمام ( عليه السلام ) يقرأ ما أثر عنه قائلا : فإنه قال : ـ وكتابكم ينطق به ـ جاء الله تعالى بالبيان من جبل فاران وامتلأت السماوات من تسبيح أحمد وأمته ، يحمل خيله في البحر ، كما يحمل في البر يأتينا بكتاب جديد ـ يعني القرآن الكريم ـ بعد خراب بيت المقدس ، أتعرف هذا وتؤمن به ؟ ... واعترف رأس الجالوت بذلك. والتفت إليه الامام فأقام عليه حجة أخرى ، وهي ما جاء في الزبور ، من التبشير بالرسول الأعظم محمد ( صلى الله عليه وآله ) قائلا : فقد قال داود في زبوره ـ وأنت تقرأه ـ اللهم ابعث مقيم السنة بعد الفترة ، فهل تعرف نبيا أقام السنة بعد الفترة غير محمد ( صلى الله عليه وآله ) ؟ ... وأخذ رأس الجالوت يراوغ ، وينكر الحق قائلا : هذا قول داود نعرفه ولا ننكره ، ولكنه عنى بذلك عيسى ، وامامه هي
(147)
الفترة ... فرد عليه الامام قائلا : جهلت ان عيسى موافقا لسنة التوراة حتى رفعه الله إليه ، وفي الإنجيل مكتوب ان ابن البرة ـ اي عيسى ـ ذاهب ، والبارقليطا جاء من بعده ، وهو الذي يحفظ الآصار ، ويفسر لكم كل شئ ، ويشهد لي كما شهدت له ، أنا جئتكم بالأمثال ، وهو يأتيكم بالتأويل ، أتؤمن بهذا في الإنجيل ؟ ... وطفق رأس الجالوت يقول : نعم لا أنكره .... ووجه الامام إليه السؤال التالي : أسألك عن نبيك موسى بن عمران ؟ .... سل .... ما الحجة على أن موسى تثبتت نبوته ؟ ... واخذ رأس الجالوت يستدل على نبوة موسى قائلا : انه جاء بما لم يجئ به أحد من الأنبياء قبله ... مثل ماذا ؟ ... مثل فلق البحر ، وقلبه العصا حية تسعى ، وضربه الحجر فانفجرت منه العيون ، واخراجه يده بيضاء للناظرين ، وعلاماته لا يقدر الخلق على مثلها .... وصدق الامام مقالته قائلا : صدقت في أنها حجة على نبوته .. إنه جاء بما لم يقدر الخلق عل مثله ، أفليس كل من أدعى أنه نبي ، وجاء بما لم يقدر الخلق على مثله وجب عليكم تصديقه ؟ ... وأنكر اليهودي مقالة الامام قائلا : لا ، لان موسى لم يكن له نظير لمكانه من ربه ، وقربه منه ، ولا يجب علينا الاقرار بنبوة من ادعاها ، حتى يأتي من الاعلام بمثل ما جاء به ... ونقض الامام كلام اليهودي قائلا : فكيف أقررتم بالأنبياء الذين كانوا قبل موسى ، ولم يفلقوا البحر ، ولم يفجروا من الحجر اثني عشر عينا ، ولم يخرجوا أيديهم مثل اخراج موسى يده بيضاء ، ولم يقلبوا العصا حية تسعى ... وأجاب اليهودي :
(148)
قد خبرتك انه متى جاءوا على نبوتهم من الآيات بما لا يقدر الخلق على مثله ، ولو جاءوا بمثل ما جاء به موسى أو كانوا على ما جاء به موسى وجب تصديقهم .... ورد الإمام ( عليه السلام ) حجته قائلا : يا رأس الجالوت فما يمنعك من الاقرار بعيسى بن مريم وكان يحيى الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله ... وراوغ اليهودي فقال : يقال : انه فعل ذلك ، ولم نشهده ... ورد الامام عليه ببالغ الحجة قائلا : أرأيت ما جاء به موسى من الآيات شاهدته ؟ أليس إنما جاءت الاخبار من ثقات أصحاب موسى انه فعل ذلك ... بلى ... والزمه الامام بالحجة القاطعة قائلا : كذلك أيضا أتتك الأخبار المتواترة بما فعل عيسى بن مريم ، فكيف صدقتم بموسى ، ولم تصدقوا بعيسى ؟ ... ووجم رأس الجالوت ، فقد سد عليه الامام كل نافذة ، وأقام عليه الحجة البالغة ، وبان عليه العجز. وأضاف الإمام ( عليه السلام ) يقول : وكذلك أمر محمد ( صلى الله عليه وآله ) وما جاء به ، وأمر كل نبي بعثه الله ، ومن آياته أنه كان يتيما فقيرا ، راعيا أجيرا ، ولم يتعلم ، ولم يختلف إلى معلم ، ثم جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء ( عليهم السلام ) واخبارهم حرفا ، حرفا ، واخبار من مضى ، ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثم كان يخبرهم بأسرارهم ، وما يعلمون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة ... وقطع رأس الجالوت على الامام كلامه قائلا : لم يصح عندنا خبر عيسى ، ولا خبر محمد ، ولا يجوز أن نقر لهما بما لا يصح ... وفند الإمام ( عليه السلام ) كلام اليهودي قائلا : فالشاهد الذي يشهد لعيسى ومحمد شاهد زور ؟ ... وأخرس رأس الجالوت ، ووجم ، وهو كظيم ، وراح يفتش في حقيقة مغالطاته
(149)
شبهة يتمسك بها فلم يجد ، وسيلة يتمسك بها لدعم أباطيله.
|