متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
انطباعي
الكتاب : الطريق إلى جمران    |    القسم : مكتبة القُصص و الروايات

انطباعي

 

لقد تألّق الإمام الخميني بالرحمة والحيوية.. بل وبالنعيم.. من تركيز قوي غمرني بطاقة مطهّرة.. وشعور.. كان لهما أعمق إحساس بالشكر.. لقد أحسست وكأني قد مُنحت الكثير من محيط الوجود.. وبدا لي التديّن واضحاً بما تدفّق خلال الإمام مما يُكنُّه هذا المحيط.. وخلال الثلاثين دقيقة التي قضاها الإمام على المنصّة، أحسست بخلايا عقلي وقلبي تفيض كلّها بحب شاف.. وتقدير.. لقد نلت كلّ ما يمكن أن يناله أحد.. ذلك لأن اللّه يدلّنا على ما يريد، ويبيّن لنا عن وجوده، وقصده الكامل.. من خلالمخلوق منّا.. وحتى حياتي كلّها.. أحسست بمعناها يتّضح.. واستيقظت معرفتي بمصيري.. وعثرت على ما بقي مهملاً منطاقتي وقدراتي.. ونهضت كرامتي.. وتصاعد تكاملي.. فقد اُصبح من الآن فصاعداً إنساناً أفضل وأعمق وأوسع اُفُقاً وأبعد نظراً.. وكان لمشاعري التي اندفعت خلالي تأثير موضوعي غريب على نفسي؛ ما كانت نزوة عاطفية.. بل كانت وكأن تكامل الإمام قادر على التقدّم نحو كلّ شيء في الكون على صفحات أنهر من حنان.. ومعان تقتحم القلوب فتطهّرها وتُمجّدها.. وما كان قصد الإمام أن يحوّلني شخصياً الى الصورة التي قد أصبح عليها يوماً.. ولكني تحوّلت فعلاً نتيجة لطهارة ذاته ووجوده.. وإنَّ الشيء السماوي المطلق الذي أحسست به ينتشر في كياني كأنه مستمداً من حقيقة الإمام الخميني.. وكان أسمى تجربة تعرّضت لها في حياتي.. وإنني أذكر حين كنت أستمع الى جوقة «هانْدل» الغنائية تمجّد المسيح وتترنم بالشكر للّه.. لقد بدت لي ذلك اليوم على درجة النقاوة والرفعة كتجربتي التي شهدتها هنا.. غير أن الموسيقى في الحالة الأولى كانت العامل المُعبّر عن أسمى العواطف التي يعرفها الإنسان.. وتمثّلت أمامي لحظاتُ الحبّ العارم والتسليم لشخص آخر.. وجال بخاطري لحظات لَمَستُ فيها اُبُوَّتي جوهر روح ابنتي.. وتذكرت لحظات انتصاري في بعض منافساتي الرياضية.. وأمعنت فكري فيما نلته من ثواب لصلاتي.. وما استقبلت من جمهور يستمع إليّ.. جمهور تضمَّن رهباناً وأتقياءً ممن يتمتعون بتقدير كبير.. ولكن هذه الخبرة التي اتّخذت هذه المرحلة من حياتي توقيتاً لها، كانت أجمل خبرة يدور بخيالي أن اكتسبها حتى عن طريق اللّه ذاته.. وذلك لما لهذه الخبرة من قدرة مطلقة، ولَهيب يُطهّر المعاني والأحاسيس..

ولما غادر الإمام الخميني المنصّة.. واصطفّ الجمهور خارجاً من الباب.. وقفت ونظري لا يغادر المكان الذي كان يجلس فيه الخميني: لقد أشرق هذا المكان بالطاقة التي كمنت الآن في قلبي.. مازال التألّق هناك.. وتحركتُ مع الموجات التي أعقبت تلك القدرة الساطعة، أكفكف أغزر دمع سكبته في حياتي.. يُطهّر كلّ كياني.. وقد يرى «ق.س.نيبول» في أساطير القدامى مجافاة لعقله ومنطقه.. وذلك لأنها لاتتمشى مع ما يراه هو معقولاً.. ولأنها لا تبارك الحديث من الحضارة الدنيوية.. وقد يستطيع أن يكتب ببراعة في حدود انحيازه.. وربما كان من ذلك أكثر براعة من كثير من الكُتّاب الملتزمين بعلم الأساطير.. ومع ذلك.. لا يستجيب قلبه لأعظم قوى الدفع براءة.. تلك القوى التي جعلت المسيح يقول: «فإنْ أنت لم تتحول.. لتصبح في براءة الأطفال.. فلن يُسمح لك بدخول مملكة الفردوس».. وعليه فقد لا يُسمح لنيبول دخول الجنة ذلك لأنه شعوره قد تبلد تجاه مفهوم الحياة الـذي ملأ كياني كلّه شـحنةً من خلال الإمام.. قد لا يقف على معنى هذا النظام بالذات.. وقد لا يُقدّر انعدام السلبية والتبلد.. وقد لا يدرك قيمة الطهارة والنقاوة والوئام الشامل الذي يسود.. أما بالنسبة لي، فقد بدا لي كلّ ذلك جليّاً بإدراك وملاحظة على مستوى طبيعي شاهدته.. أما بالنسبة لنيبول فكلّها محض خيال...!

إنّ مستوى العادة والرضا والوئام الذي يبديه أيّ إنسان يتوقّف على مدى تفاعله مع قوانين الكون.. أو هكذا كانت خبرة مؤلف هذا الكتاب.. ولكن لابدّ أن يستلهم الفرد منّا مايبعد عنه الشكوك فيما عبر عنه «والاس ستيفنز» بـ«واقع الإحسان الماهر».. ويتضح لي أن «نيبول» و«مايك والاس» العاملين بإذاعة كولومبيا بالولايات المتحدة الأمريكية ـ وهما أوّل من سُمح لهما بمقابلة الخميني بعد التحفّظ على المحتجزين الأمريكيين ـ لم يلمسا جوهر ما أسمياه بالإحسان الماهر.. ذلك الإحسان الماهر الذي أدّت كفاية تواضعه إلى فشل العديدين من أذكياء بني الإنسان في استكشافه... أما من اختير ليصيبه هذا الإحسان، فسيبقى في غيب من خلَقَ كلّ هذا... لابدّ أن يُطلع شخص ما على ما يدلّ على اللّه.. وأعظم المعرفة حينئذ أن تتعرف على وجوده حين ترى أعلام الوجود رفرافة عالية.. أنْ ترى اللّه وأنت ترى خلق اللّه.. أن لا تنكر الموت وأنت ترى الموتى.. وأن تؤمن بالنشأة الآخرة وأنت ترى النشأة الأولى.. وكما يقول المتصوّفون: إنَّ اللّه موجود بصفة مطلقة حيثما اتجهت.. وحتى في حدود النسبية فقد تحسّ بوجوده بدرجات متفاوتة تختلف باختلاف دلالاتها حسب ما تظهر به قدرته من جماد أو أحياء أو من الطبيعة المحيطة ذاتها.. وقد ترى قدرة اللّه تتألق في أذكى صورة.. وأقوى لفظ.. وأجلى نطق.. من خلال رجل معترف به تماماً كالإمام الخميني.. وحتى القرآن ذاته.. أحد رموز أسرار اللّه.. فعديد من الناس مثلاً يقرأونه فيعتقدون أنه شعر يجارى.. وأنّ في رسالته طابع التكرار.. وأنّ تنظيمه ليس مطرداً.. ومع ذلك.. وحين يشاء اللّه.. فإنّ طاقة القرآن تنطلق إذا ما قرأه إنسان يستسلم لعزّة اللّه.. ويتذوق إيقاع اللغة العربية.. ويعيش في طبيعتها الداخلية.. وإنَّ أعظم الجزاء لتصيب من اُوحي إليه به.. إنَّ الوحيد الذي يعرف ويفهم القرآن حقّاً وصدقاً لهو من اُنزل عليه الكتاب.. وبدا لي الخميني وكأنه القرآن.. وكأني باللّه يرتّل في استمرار وتلقائية ما في قلبه من كتاب مقدّس وآيات بينات...

ومن الواضح أن من بين الخلائق من اختيروا في هذا العالم ليعوا انّ القرآن منزل من السماء.. هؤلاء فقط قادرون على معرفة اللّه.. ومن هؤلاء من اختصهم اللّه بقدر من البركات يعينهم على لمس ما يتضمن هذا المعلم الإسلامي من تكامل وقُدرة.. المعلم الإسلامي الذي أظهرته مجلة التايمز على أنه رجل عام 1979م.. (ونحن ندرك طبعاً أنّ التايمز أشادت به كما لو أشادت بهتلر وجعلته رجل العالم حين أسّس حكمه النازي قبل الحرب مباشرة)..

فإذا ما تركت انطباعي جانباً.. لواجهتني بعض المتناقضات عن هذه الثورة.. حقيقة أنَّ على هذه الأرض كثيراً من الأذكياء والمفكرين المخلصين الذين قد يعارضون الإمام الخميني وتكليفه الشرعي الإسلامي.. ولكن ذلك لا يمحو الواقع.. إنها الحقيقة انّ الإمام يتحدث بطلاقة وبلاغة يصدر بهما الأمر النهائي، على أكمل وجه، بما يظهر معارضي الإسلام ومناوئي الإمام وقد أعوزتهم البلاغة، وبُعْدُ جدالهم عن الاكتمال.. وذلك لأنهم يناهضون ما بارك فيه اللّه المطلق.. المطلق الذي خلق الكون الذي نشهد.. ولعلي أضيف في عُجالة.. المطلق الذي جعل الكراهية تسيطر على قلوب الملايين من الناس.. وألقيت نظرة على الفراغ الذي امتلأ بالخميني منذ هنيهة.. فرأيت حقيقة هذا الكون الخفية...

ولأن الشخص الذي غادر المكان نقي ومليء بتكامل الحياة.. فهو يخلّف وراءه طاقة وضوءاً في جوّ هذا المكان.. ويتضح من ذلك لماذا تلكّأت في مغادرة المكان.. ولماذا شخص بصري الى المنصّة حيث الملاءة البيضاء تغطي المقعد.. وظننت قبل رؤيتي للإمام الخميني أني سأقف على مجرى هذه الثورة.. فقد افترضت أنّ الخميني نفسه سَيُظهر نوعاً من مواطن الضعف في زاوية ما.. أو أنه سيبدي لوناً من ألوان القيد أو القصور.. غير أنه.. بالرغم من شدّة الحزم والصلابة التي ظهرت على وجهه.. وبالرغم من التزامه بعقيدة الإسلام المطلقة التزاماً لا يلين ولا يحيد.. بالرغم من ذلك كلّه كانت هناك بركة الوجود.. بركة اكتمال الحياة.. لقد نعمت بما يسمى في الشرق «دارشان».. أي القوة والطاقة المقدّستين اللتين يتألق بهما قدّيس.. أو أحد بني الإنسان المعترف بقدرهم وقيمتهم.. وفي حالتنا هذه.. يرجع ذلك الى المعاني العاصفة الصاخبة للثورة ـ ربما كانت المرة الأولى منذ عهد رسول اللّه محمد نفسه أن يُحدث حكيم أو صوفي تغييراً سياسياً عنيفاً أدّى الى ثورة.. وحرب.. وقد يكون تغييراً شاملاً في أسس السياسة الدولية.. ـ ولما كان لأوجه نشاط الخميني عواقب دولية، كان لوجود هذا الرجل قوّة وغاية إضافيتان.. فالروحاني أو القدّيس في أغلب الأحيان لا يخلُّ بالنظام الدنيوي.. وللراهب والمتصوّف أتباع.. ولكن أوجه نشاطهما تعرض عملية سياسية للتطهير والتغيير.. أما هنا.. فبالرغم من تجاوز قبضة ما كان نسبياً ومتغيراً (أي حالة التأسيس في نقاوة الوجود)، فإنَّ آية اللّه الخميني قاد ثورة مسَّت حياة كلّ فرد.. ثورة راحت تصفع سياسة الواقع في العالم.. وتصفع الأمم المتحدة.. وتصفع مركز المخابرات الأمريكية.. وتصفع مناورات موسكو.. وقد كان التحدّي الوحيد للغرب وللرأسمالية حتى هذه اللحظة ينبع من مذهب الاشتراكية ومن ثورات ونظريات الماركسية ـ اللينينية الملحدة.. أما الآن.. فإن المذهب الديني المحافظ، وهو بالفعل جوهر مخدر الشعوب، قد أيقظ الشعوب على قوّة الاساطير.. وقّوة الحقيقة الدينية. ولأن الإمام الخميني وقف حقّاً في مركز كلّ ذلك.. ولأنه الداعي لكلّ ذلك بحق.. ولأن أحاسيسه تحرّكت تكشف للناس بفعالية، وتنشر عليهم بوضوح ما يريده اللّه.. فانّ ذلك يعني أنه على قدر سام من الرضا والقدرة الروحية في دلالة كونية وأهمية فائقتين.. فمنذ لحظات.. ظهر هنا مسلم ورع قَلَبَ العالم رأسا على عقب.. مستعرضاً أنّ الدين قادر على أن يلعب دوراً حيوياً في نتائج أحداث العالم.. وحتى شَجْبُ اتجاه هذه الثورة الديني، كان موقفاً دينياً في حدّ ذاته.. فما كانت إدانة الثورة غير تعبير منا أنّ اللّه ذاته لم يكتب على نفسه أن يتدخل في شؤون العالم الهامّة.. أو أننا ننكر وجود اللّه.. اللّه وحده قادر على تبرئة هذه الثورة والدفاع عنها.. والسبيل الوحيد الى ذلك أن تصمد الأمة الإيرانية في تحدّي تنبوءات الكهنة الدنيويين والتصّدي لها.. هؤلاء الكهنة الدنيويون الذين يخشون تهديدات الاتحاد السوفياتي.. أو تساورهم أمانيهم بديمقراطي اشتراكي يخلف الخميني...

ومن الطبيعي.. إن كانت ملاحظاتي وانطباعاتي صحيحة.. أنْ تخرج الثورة الإسلامية في إيران ظافرة بأعلى معاني النصر على الإطلاق.. وستبقى إيران معقلاً لمذهب الاسلام الشيعي.. وستبقى الأمة كلّها مؤيدة للقيم والمبادئ المستمدة من نظام ديني عتيد.. متحدية بذلك استكبار أيديولوجية الإنسان الغربية.. ومتصدّية للعقيدة العلمية ومناظرات الجدل المادية على السواء...

ولقد كان هيّناً أن أقف أمام كاهن.. أو سيد أو روحاني معروف بقدرته.. فقد فعلت ذلك في عدد من المناسبات... ولكن الأمر يختلف تماماً حين أقف في حضور شخصية دينية تألّقت فيها جودة وَرع.. أو حكيم من القدامى.. وهو في الوقت نفسه قمّة التحول الشامل لشكل السياسة العالمية.. وستظل ثورة الخميني للأبد تُغَير من مناظرات الصراع وجداله.. وبينما تستمر القوى العظمى في حربها الأيديولوجية.. ستبقى دولة واحدة في غير تبعية لأيّ منها.. تتمتع بحكمها الذاتي.. ولا تأبه لعمالقة العالم.. وتخلق أبعاد جديدة للمناقشة حول العالم «الحرّ» منه و«الدكتاتوري»..

لقد أدّى العلم والتقدّم الى عدم التجاء الشعوب الى اللّه فيما يختصّ بأحداث العالم.. ولعلّ اللّه شاء أن يذكّرهم بذاته ووجوده.. فكانت هذه الانتفاضة الدينية المفاجئة والتي انبعثت عن شخص ومشاعر آية اللّه الخميني.. انتفاضةً لايمكن فهمها إلاّ من مركز العاصفة الإسلامية.. وبهدوء كامل.. أما أحاسيس الخميني التي عبّرت بوضوح وجلاء عن المطلق.. فقد انسابت في جهازه العصبي دون عقبة.. أو مقاومة..

وفي خمس دقائق عاد وفود المؤتمر الى السيارات.. وفيما عدا حراس الثورة المقيمون هنا حالياً بمنطقة مقرّ الإمام الطاهرة.. كنت الوحيد الذي بقي من الجمهور بهذه القاعة.. لقد كان جلال الموقف ذلك الذي حدا بي الى توقّفي هناك لمثل هذه المدة الطويلة.. وإلى عدم مبالاتي بكمية الحركة التي لايخطئها شخص عند الحشد المنصرف.. والى فشلي في الإنصات الى التوجيه الصادر للعودة الى السيارات.. ولمغادرة موقع القدرة والضياء.. ولكني وقفت يغمرني تقدير وإعجاب.. أو بالأحرى.. وقفت مستتراً خلف وافر من الجود والإحسان اللذين خلّفتهما بالقاعة روحانيات الإمام الخميني.. فبقيت كشخص خَفيّ حتى اللحظة التي بدت عندها نفسي وكأنها أخذت كفايتها.. أما حرّاس الثورة.. فقد لاحظوا انفعالي طيلة حديث الإمام.. ووقفوا على التأثير الذي أتعرض إليه من خلال هذه التجربة.. بينما وقفت أنا بالقاعة التي كادت تخلو.. وقفت أحملق دون حراك.. ولايزال قلبي يضطرم بنعيم لذيذ طعمه.. حلو مذاقه.. وتحدث مترجمي «محمد عباس زاده» مع حرّاس الثورة الذين بدا على مُحيّاهم نوع من الارتياح والغبطة وهم يرون شخصاً من الغربيين يجتاحه تألق وجود قائدهم الطاهر.. وكان واضحاً لي أنهم أيضاً قد فهموا وأدركوا أنّ طبيعة الإمام الخميني حقيقة مطلقة.. وأنّ اللّه قد أضفى عليها من لدنه قداسة.. فنبعت منها هذه الثورة.. ومن الواضح أنه قد يصعب على «ابراهيم يزدي» أن يستشعر هذه الحقيقة ولذلك تبدو له آيات لهذه الثورة لا يعرف لها تفسيراً.. وقد أشرقت وجوه حرّاس الثورة بالبهجة والفرح لرؤية قائدهم المحبوب.. وبمشاركة واحد من غير المسلمين لهم في هذا الحب.. لقد كانت لحظة بُرّئت فيها الثورة.. والإسلام.. وكل ما يحدث في إيران.. وعبَّروا عن رغبتهم في مقابلتي.. فاتجهت إليهم.. وأسندت ظهري الى الحائط.. وسألوني.. لا عن الإمام.. ولكن عن الثورة.. وعندها عاودني فيض من شعور نقي تدفّق في عينيَّ.. وبدأ يطهّر قلبي مرّة أخرى.. وأقول بإخلاص أنّ هذه العاطفة ملكت عليَّ كياني كلّه.. وكان عجزي عن التعبير أعظم الاستجابة بلاغةً للردّ على سؤالهم.. لقد كانت أنقى عاطفة أحسست بها منذ شققت طريقي عبر مدافن جنّة الزهراء منذ عامين تقريباً.. وقد أحسّ حرّاس الثورة بما ينتابني.. وشاركوني في صمت إجماعنا على قداسة شرعية قائدهم الإمام.. وأخيراً.. وما أن كفكفت دمعي، حتى وجدت طريق الموضوعية أمامي واضحاً.. فطفق لساني معبراً عن أفكاري.. يروي عن خبرتي التي اكتسبتها في اليوم ذاته.. ومع أن نهر المشاعر مازال ينساب في قلبي، فقد تمكنت من التعبير عن خبرتي هذا اليوم.. كيف أزاحت ليَ الستار عن منابع إلهام هذه الثورة.. إن لبّ هذه الثورة قد صار في كياني.. ومع أنه لم يكن مقدراً لي أن أولد في إيران، فأصبح مسلما يحارب من أجل الثورة.. فقد انضممت إليها بكلّ وجداني.. فما علمت عنها غير أصلها الطاهر.. فاستحقت مني على الأقّل صلاتي المتواضعة..

ومن المعروف انّ ثورات أخرى قامت.. ثورات ليست ذات طابع إسلامي.. ولا تصل بحال الى حجم هذه الثورة.. ربما يعبر اللّه لنا عن مشيئته بدرجات متفاوتة في بقاع مختلفة من العالم.. فإذا كنا نستطيع أن نقرأ شيئاً عن عاطفة فرد من خلال خطّ يده، فقد لا يكون الإسلام إذن النحو الوحيد الذي دلّ به اللّه لنا على وجوده من خلال الإنسان.. أما القضية المعقدة فكانت أن نتبين أنه ربما لم يرد اللّه أن يؤيّد تعميم هذه الثورة في الكون كلّه.. ولكني كنت على يقين أنّي أحسّ قدسية هذه الثورة.. وقدسية الإسلام.. وقدسية الإمام الخميني.. مع أنّ إحساسي لم يتغير عن احتمال مصير آخر يكمن في عالم الغيب لعالمنا الغربي.. ولازالت هناك تحدّيات لهؤلاء المحاربين الإيرانيين.. إن جهادهم الداخلي لم ينته.. ولذلك فقد تكون رؤيتهم عُرضَةً لشيء من الزيغ.. فهم لايزالون.. حتى وهم يردّدون كلمات إمامهم.. يفرطون كثيراً في تبسيط «قوى الحق» التي تنشد شيئاً من الوضوح في عالمنا.. وبالذات في المجال القومي.. وقد كانوا ـ معظمهم على الأقل ـ تنقصهم سعة الصدر بالرحمة والشفقة والحكمة ليدركوا أنّ شخصاً ما قد يظلّ مخلصاً ومتطوراً بكفاية وهو في الوقت ذاته يناهض هذه الثورة.. فالثورة قامت للبعض.. قامت من أجل إيران.. وربما قامت من أجل الشرق الأوسط كلّه.. ولا يعني ذلك أبداً أن من يعارض الثورة.. أو يقاوم نشر الإسلام في العالم.. يكن بالضرورة شريراً أو شيطاناً.. أما عن نفسي.. فإني حسبما أعتقد واُوقن به فإن اللّه ذاته قد لا يشاء إسباغ تأييده المطلق لمحاولة تهدف الى جعل الخلق كلّه مسلماً... غير أن شيئاً واحداً كان يقيناً.. لقد كان من خلال الإسلام، وبالإسلام وحده، أنّ اللّه أحيا قوة إحدى رسالاته.. يُقَوّض الافتراضات الدنيوية النامية في الغرب والشرق الداعية الى إقصاء مفهوم قدرة اللّه عن مسرح الأحداث في العالم.. تلك كانت الطاقة الكبرى لشخص حساس يشاهـد هذه الثورة: يراها معجزة مطهّرة.. معجزة لا غنى عنها.. وقوة حاسمة لتجديد روحانيات البشرية...

وقد يظهر أنّ الثورة الاسلامية في ايران لم تكن نموذجاً للمسببات والنتائج التي تتعرض لها السياسة الدولية الحديثة حيث لا حساب مطلقاً لإله.. وحيث لا صلة للّه بتحليل الأحداث.. أما من خلال الإمام وهذه الثورة، فإن الإسلام أوضح وأكثر التحديات صلابة لتلك المفاهيم.. وما كان حزمه القوي.. ورفضه اتّباع المخادعة السياسية التي تنادي بها قواعد «ماكيافيللي» غير إشارة هامّة الى خزائن المعاني والحق.. تلك الخزائن التي تاه عنها إدراك الإنسان منذ زمن.. إنّ الثورة الإسلامية في إيران لأكفأ وأقوى وسيلة لهذا الاعتراف.. وهذه المواجهة.. وهذه الصحوة.. وحتى نهضة الديانة المحافظة في أمريكا كانت في حدّ ذاتها تميل الى الكونية في ذلك الوقت مع أننا لم نستشعر أن تعبير المسيحية المتمشي مع تعاليم الإنجيل رئيسيّ بدرجة كافية أو تغلب عليه سمةُ الأساطير حتى يمكننا مقارنته مع ما يحدث في إيران.. وأما الفارق الشاسع بين قيادتي «جيري فولويل» و«الإمام الخميني» لَيُعبّر عن مشيئة اللّه في هذا الفارق.. وفي مدلوله..

وكان هامّاً للعديدين من الغربيين أن يتبيّنوا أنهم لايقبلون هذه الثورة كنموذج للمجتمع الأوروبي أو مجتمع أمريكا الشمالية.. إذ هم يعتقدون أن الفرد في الغرب قد صار خارقاً في تقدّمه، وعلمه بدقائق الإبداع والإختراع التي لا تنفذ.. في خبرة غير موضوعية.. وتعبير فردي.. ربما كان بإمكان الإسلام أيام رسول اللّه محمد أن ينتشر في العالم كله.. أما الآن.. فإنّ الأمور قد جاوزت المدى في إبعاد البشرية عن علم الأساطير.. كان لابدّ من استخلاص حقيقة ما من إقصاء الأساطير.. ومن هذا الاكتفاء الذاتي.. ومن التخلص من غرور النفس.. ومهما كانت هذه الحقيقة.. فهي لم تجد لها نظاماً متكاملاً للمناقشة يمكن به مناظرة هذه الثورة... وبمعنيً ربما كان ظاهره بدائياً غير أنَّ في باطنه الأساس، فإن هذه الثورة تحت القيادة الرشيدة لآية اللّه روح اللّه الخميني، أنقى نهضة للروح في عالمنا اليوم.. وإن المعايير التي استعملت لتقنين هذه الثورة تختلف عن تلك التي يمكن تطبيقها لتقنين غيرها من الثورات.. كثورة نيكاراجوا مثلاً.. أو ثورة كوبا.. ومع ذلك، فنحن بحاجة إلى إعلان أن البعض قد توصّل الى وجود حقيقة غير مادّية في أساس الوجود.. وأن الإسلام وهذه الثورة هما الوسيلة لإثبات هذه الحقيقة.. وأن هؤلاء الذين ولدوا داخل الحدود التي يحتمل أن يسيطر عليها تأثير هذه الحقيقة، هم جميعاً أولئك المختارون للتمسك والالتزام بقوتها الاسطورية..

وبالطبع لم أردّد شيئاً من هذا التحليل والانطباع على مسامع حرّاس الثورة.. فإنْ أنا أعلنت أنَّ هناك حقائق عديدة، وأنَّ هناك طرقاً أخرى الى اللّه إلى جانب طريق الإسلام، وأنّ الإسلام وإنْ كان حقيقة كونية إلا أنه ليس حقيقة لتعُمّ الكون كلّه بسيطرتها الروحية، إني إن فعلت ذلك، ما أصبت السبيل الأنسب والمفيد ليقرّبني ممن يجب عليهم أن يروا الإسلام على أنه الحقيقة الوحيدة.. فالمسلم ـ وخاصة المسلم الإيراني ـ يرى أن توجيه أي قدر من طاقته وتفكيره للنظر في أنّ للحقيقة وجهين.. وأن دينه أمر نسبي لأمور أخرى.. وأنه ينبغي عليه أن يتبع أسلوباً معتدلاً في نشر حقيقة الإسلام.. يرى في ذلك كلّه إخماداً للقوة اللازمة لتحفيزه.. وبالتالي للطاقة اللازمة لتحقيق الهدف الذي من أجله ظهر الإسلام للعالم.. هذا الهدف هو معرفة الاستسلام لمن خلق هذا الكون.. هذا الهدف هو الحركة، وتطور النفس، لتصيب قدراً أوفر من الوئام مع الكون.. هذا الهدف هو أعلى معاني الإنجاز.. وهذا ما يتضمنه الآن الإمام نفسه؛ أبدية الفرد من خلال امتداد النفس لتندمج في المطلق...

وليتمكن شخص من التقدّم بنجاح نحو هذا الهدف.. فإنه يجب عليه ألا يساوره في الفعالية الفائقة لنظام العبادة والتطهر والتعاليم التي يمليها عليه دينه.. حتى اللّه.. فقد شاء أن تكون بهذه الطريقة.. فما أن نال شخص بركة من اللّه، فإنه بصدق حَدْسه يحس بوجوب وجود أكثر من طريق تؤدّي كلّها الى ما هو المطلق.. وأن عددها يساوي عدد الطرق التي أوضح اللّه بها لنا عن ذاته عند اختياره لأنبيائه.. فكلّ دين ينفرج عند نقطة معينة ويسلك طريقاً غير الذي سلكته الأديان الأخرى. ولم يشذّ الإسلام عن ذلك أبداً.. بَيْدَ أنّها كانت لمدلول معين حين اختار اللّه هذا الدين ليُذكّر كلّ إنسان من خلاله بأسمى معنيً لبُعد الحياة الروحي.. وقد قامت الثورة الإسلامية نتيجة لتفوق وسمو الإمام الخميني.. فليس هناك قائد معروف آخر لديانة أخرى مشهورة ـ حتى البابا ـ ليس هناك من يداني الإمام الخميني في شدّة وقدر القداسة التي يتألّق بها...

وقد سُجل ما أدليت به لحرّاس الثورة.. وإني أعتبر أن عباراتي كانت أكثر إسهاباً وإرضاءً من أي ملاحظات ارتجلتها بعد حضوري مشهداً بلغ تألّق جماله الذروة.. فقد يشاهد فرد رقصة بحيرة البجع لـ«رودلف نيرييف».. وقد يشاهد فريقاً رائع التدريب في كرة السلة يلعب لشمال «كارولينا» ويفوز بالبطولة.. وقد يقع الشخص في حب أجمل امرأة أو أكمل رجل.. وقد يتسلق جبال «افيريست» فيصل إلى قمتها.. وقد يستمع لموسيقى «باخ» من كنيسة «وسْتيمنسْتَر».. ولكن ما من تجربة منها تساوي شيئاً مما حدث لي اليوم.. فإنْ تَفتَّح قلبك بحقّ لتستقبل بركات آية اللّه الخميني، فإنَّ ذلك يعني أنك رأيت انعكاس اللّه ذاته، إذ هو يتمثل فقط من خلال الجهاز العصبي لإنسان.. لقد حصلت على هذه البركة.. وجاشت في عقلي كلّ المعاني المترتبة على ذلك.. لقد وضحت حياتي.. ليس بتشكيل عن طريق الإسلام.. ولا حتى عن قصد من الإمام نفسه.. ولكن اللّه ذاته يعلّمني مالم أكن أعلم.. وذلك من خلال شيء مطلق ينساب دون انقطاع في أحاسيس وشخصية الإمام الخميني.. أما هذه التوجيهات فقد نُقشت داخل قلبي.. وخرجت من لقائي بالإمام الخميني أكثر ذاتية وأوفرَ تكامل مما كنت عليه قبل حضوري إلى إيران.. وإنَّ حقيقة الإمام الخميني ومكانة مشاعره.. وعظمة تكامله الشخصي.. ذهبت كلّها حتى الى ما هو أبعد من الإسلام.. إنها تؤثر في الخلق كلّه على مستوى الجزئيات الفعلية للحياة ذاتها.. والخلق يبرأون مما أصابهم من علل.. وبالذات أولئك المحظوظين الذين تفتحت قلوبهم فعرفوا حقيقته.. وقد أعدّت لي يومي هنا بطريقة أو بأخرى كلّ تجاربي السابقة.. وبالأخص.. ارتباطي بأوجه الحياة الروحية والبديهية.. لو كان «كارل جنج» اليوم حيّاً لكان بىـن القلة البـارزين من المثقّفـين الغربيين الذين يُحيُّون آية اللّه الخميني ويعترفون بوظيفته وتكامله.. فقد عرف «جنج» المرض الذي ألَمَّ بروح الإنسان حين بدأ الإنسان العصري بعزل نفسه عن أساطير الماضي.. ربما رأى «جنج» هذه الثورة على أنها محاولة لضمان شكل من التوازن بعد معاناة الاضطراب.. وذلك برجوع روح الإنسان الى ما هو معقول نتيجة لتطهير اللّه لها من هذا الكون..

فلما أتممت تعليقاتي.. كما اُلهمت إيّاها.. عرض عليّ حرّاس الثورة أن يسمحوا لي بمقابلة الإمام شخصياً.. وقد يجد القاريء الآن أن ذلك لا يتمشّى مع المنطق.. فبعد أن مَلَكَ عليّ الإمام حواسي.. وبعد أن نعمت بالفعل بمحيط الحب والقدرة.. فقد تبدو رؤيتي له شخصياً شيئاً يزيد عن الحاجة.. لقد شعرت وكأني قد اُسبغ عليَّ كلّ ما أراد اللّه لي أن أحصل عليه.. أما أن اُقابل الإمام شخصياً، فكأني أجعل الإمام يركز على شخصي.. وأنا أعلم أن وقته ثمين جدّاً لمثل ذلك.. وأنا أعلم أيضاً أنّ كلّ استفساراتي عن الثورة ودوره فيها قد أجيبت كلها بكفاية.. ومن ثمّ بدا غير الطبيعي أن أسعى الى لقاء شخصي مع الإمام.. ومع ذلك فقد قُدّم العرض بشغف لم أخطئه.. وتبينت أنه بالرغم من احتمال كونها مجرّد شكليات.. وبالرغم من أني لم اُفكر في فرض نفسي على الإمام.. فإنّ مقابلتي له شخصياً قد تُعزز من تصديق الغرب لي فيما أكتبه عن هذا الموضوع.. وقد تسمح لي كذلك بأن اُضيف أي جديد عن الإمام حين يكون في لقاء شخصي مع أحد.. وعلى ذلك وافقت على اللقاء المبدئي الذي سعى اليه بشغف مرشدي ومترجمي «محمد عباس زاده».

واُرشدنا خلال بوابة الى ممر يؤدي الى منزل الإمام.. وانتظرنا هناك لمدة ثلاثين دقيقة تقريباً.. ثم دعينا للانتظار بحجرة داخل المنزل نفسه.. فخلعنا أحذيتنا وطلب منّا الجلوس حيث قُدّم لنا شيء من الشاي (وفي ايران لا ينقطع تقديم الشاي)، وحيث جلس عدد من رجال الدين للمثول أيضاً بين يدي الإمام.. والآن.. ومرة أخرى ينتعش الجو.. وينبض بالتفتح والنقاوة.. فإذا ما قارناه بجو الفندق.. فكأننا نتنفس بالفندق من خلال ماسورة عادم سيارة.. أما هناك فكأننا نتنسم الهواء على جبل من جبال الهملايا.. بهذا القدر الكبير كان الفارق الذي تحدثه أحاسيس الخميني.. وبهذا القدر أيضاً تؤثر المهابة بشحناتها المحلية المستمرة على البيئة المحيطة.. وكان هناك واحد من رجال الدين، وقد بدا في غير حساسية وتهذيب.. فقد استمر يشهق الدخان الى رئتيه، حتى في منزل الإمام!.. وفيما يبدو انّ هناك تصريحاً، حتى في منزل الإمام، أن يستمر الفرد على ما أدمن عليه.. ولكن.. مع ان للسيجارة تأثيراً في تلويث الجو.. إلا أن الدخان الناتج لم يكن كافياً لتبديد حقيقة المشاعر التي يزخر بها هذا المنزل.. وأغمضت عيني فتنسمت في الهواء هدوءاً وصفاءً.. وبعد حوالي خمس عشرة دقيقة.. اُخطرنا في عجالة أن الإمام قد أحدث تغييراً مفاجئاً في جدول أعماله.. وأنه سيعود الى القاعة ليتحدث الى جمهور جديد من المخلصين.. طلاب من المدارس الثانوية وعدد من فقراء جنوب طهران.. ويعني ذلك انّ الإمام لن يتمكن من استقبالنا بحجرته الخاصة.. وأنني ومترجمي قد نستطيع لقاءه وهو في طريقه الى القاعة.. وكان بالحجرة عدد من رجال الدين لايكادون يصدّقون كيف سُمح لمحرر غربي مثلي.. وغير مسلم.. بالدخول الى مسكن الإمام.. فمعظم المحررين الغربيين لم يسمح لهم حتى بدخول ايران خلال الأربعة عشر شهراً الماضية.. أما أن أكون في انتظار مقابلة شخصية مع الإمام.. فذلك قد تجاوز حدود المعقول.. فشعرت لتَوّي أن موقفي كان معجزاً بحقّ...

واندفعنا الى الممر الذي يصل المنزل بالقاعة.. وعلمنا أن الإمام في طريقه.. وخرج الخميني من باب منزله.. ومرّة أخرى هبّت رياح الطاقة الإلهية واندلعت قوة الحب والمهابة التي سمت الى مستوى الكونية.. ودنا مني.. فأخبره محمد عن اسمي ومن أين جئت.. وامتدت يده لتصافحني.. فارتعشت كلتا يداي تستقبلانه.. وأمسكت يده برهة ليست بالقصيرة.. وصعقت عيناي بقدرته الراسخة.. لقد كانت كما تخيلتها.. وعُقد لساني خلال العشر ثوان أو الخمس عشرة ثانية التي غمرني في سكونها مرة أخرى محيط غير محدود زاخر بالأهداف الرائعة.. إنه هو كما كان بالقاعة.. غير أن الكون كان في هذه المرة أقرب.. وكانت كما لو لمحت وجه «يهوا» في لحظة تمثل فيها «يهوا» في شكل إنسان.. ما تمنّيت ولا قصدت أن اُخلَّ بتكامل لحظة وجودي معه.. وبدت ذاتيتي تتشكل في هدوء بال وقرارة عين.. تنتشر في وئام، دون حاجة الى مزيد.. لقد غمرني قبل أن يلمس يدي، أو بالأحرى، حين تشبّثت يداي بيده.. لقد ذُكّرت بالاستكمال الأبدي كحقيقة له حين كان أقرب ما يكون مني.. ويبدو أنّ رحلتي لإيران قد أكملت نفسها.. ربما عدت الى بلدي بعد أن غادر الإمام القاعة.. أما الآن.. والأمر كذلك.. أني قد رأيتـه عن قرب، فإن الإجـابات تترى في إيحـاء مطرد.. حـقّاً.. ما استعرض الإمام شخصه أبداً.. وحتى أحباؤه جميعهم وأولئك الذين كانوا معه لم ولن يتوقّعوا منه أن يستعرض شخصه.. لقد كان كونيّاً متجرّداً.. ولذلك كان فيّاضاً برحمة لا حدّ لها، وإخلاص وتفان لكلّ هؤلاء الذين اهتدوا فاتبعوا طريق الإسلام.. وحتى خلال المحاضرة.. لاحظت «أحمد» إبن الإمام.. يتّجه ببصره نحو والده ـ وكان يجلس على يمين الخميني ـ ويحملق في أبيه.. وهو يحسّ ويعلم أنه ما عاد ذاك الخميني الذي ألفَه من قبل أباً له.. وإنما صار الخميني المعلم والقائد.. لقد أصبح الخميني منبع الحكمة النابضة بالحياة لقد تجسَّم في الخميني مضمون الإسلام.. وظلّ أحمد يتفرس في وجه أبيه علّه يتبين تأكيد الفكرة القائلة بأنّ كلّ ما يراه الخميني مناسباً يسوده الترابط والتوافق.. وقد اكتسب أحمد من توازن أبيه المتعادل جمال هدوئه وصفائه.. وإن قوى الذكاء الدافعة التي سجلها أحمد من مشاهدته لأبيه عن قرب قد أطلعته على تحركات الكون الصحيحة حين تتجسَّم داخل واحد من بني الإنسان.. كان كالتلميذ الروحي يتطلّع الى سيده ومعلمه.. لقد كان أقرب تلاميذ الإمام إليه.. لقد تسامى والده فوق مكانة الوالد.. لقد أصبح والد للأمة الإيرانية جمعاء وللمسلمين المخلصين في جميع بقاع الأرض.. لقد كانت ـ إذن ـ حقيقة الخميني المجردة تلك التي أسبغت عليه تعبير الإخلاص الفائق للّه.. وللإسلام...

وأعود إلى مرافقي «محمد» يُقَبّل في حرارة يد الإمام الذي اتّجه اليه مادّاً يده اليسرى.. وهي رغم تقدم العمر كانت يداً جميلة، احتفظت بحيويتها، وكانت دون شكّ تغلفها لثمات شفاه الآلاف من الإيرانيين.. إنها بركة من نوع خاص ينالها المسلم الذي تتاح له فرصة تقبىـل تلك اليد.. وقـد قال لي «محمد» بشغف فيما بعد.. وهـو يبسط يده لـي: «لن تمسّ هذه اليد الاّ ما هو طاهر، ولن تمتد إلاّ للخير.. ما حييت».. وبعد أن عدت الى الفندق علت الدهشة وجوه العديدين من المسلمين حين علموا أنني شاهدت الإمام شخصياً.. وودّ الجميع أن يروا يدي.. فيحسدونني.. ويؤكدون لي أن يدي تلك.. قد نالت قدراً من القداسة!

ونزلنا خلال ممرات أدّت الى شارع حيث انتقلنا الى الفندق في سىـارة أجـرة.. وأحسست بالـزمان والمكان يتآمران عليّ فيقللان تدريجياً من شأن تجربتي.. ولكن سرعان ما أخذت بزمام أمري وانتباهي ووقفت على كلّ ما في تجربتي من معان وقَدْر ـ على الأقل بالقدر الذي عبرت به التجربة عن نفسها الآن في ظروفي الحاضرة ـ وكم شعرت أن توتراً هائلاً ينزاح عني.. ذلك التوتر الذي سبَّبه ما بدا على سطح الثورة مما قد يُرى على أنه إفراط وتناقضات.. وأيقنت أنني استكشفت وخبرت سرّ الثورة الكبير.. وعلمت أنّي سأحاول نقل هذا السر بطريقة أو بأخرى من كتابي عن إيران.. أما السر.. فقد أفصحت عنه.. إنها الحقيقة عن هذه الثورة.. وأنا أتـوقع أن كثيراً من الناس سيفترضون أنني بالغت فيما رويت وأحسست أو أنني قد ضُلّل بي.. وقد يشعر آخرون أنني خُنت هدف الحرية والديمقراطية وغدرت به فيما كتبت (ولي أصدقاء كانت لهم صلات ببعض من أعدموا أو عذبوا أو نزعت منهم الثقة، فصاروا الآن من أصلب معارضي السلطة الحاكمة في الوقت الحاضر).. ولكني أصرّ على أنّ ما كتبت هو الحقيقة التي يجب على كلّ فرد أن يأخذها في اعتباره على أقلّ تقدير.. وقد يرفض ذلك.. غير أن الحقّ يجب أن يقال.. وقد قلته هنا.. وإنني لأسارع بالاعتراف انّ جميع تجاربي اللاحقة في إيران كانت تحمل في طياتها ما يطابق ما انطبع في مخيلتي عن تكامل قائد الثورة.. وعلى ذلك.. فقد وجدت معياراً لقياس وتحديد معنى الأحداث المتعددة التي تعرضت لها.. وأثناء مقابلتي مع الإمام.. تمنّيت مخلصاً لو أن مشاهير السياسة أدركوا أهمية زيارتهم للإمام الخميني.. وما زلت أتمنى أن يحدث ذلك.. فالإمام الخميني أعظم القادة السياسيين شخصيةً في القرن العشرين.. وإنه لأكثر من ذلك بكثير.. إنه أحد أفراد قليلين جدّاً ممن التقيت بهم.. ثم تركوني شخصاً غير الذي كنت من قبل...

إنه هناك في ايران يدعم إحدى رسالات اللّه الكريمة:

الإسلام.. والحقيقة الرائعة في الاستسلام لعزة اللّه...                                       

 

تمّ بعون اللّه

والسلام عليكم ورحمة اللّه وبركاته


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net