عدالته ومساواته الشمولية
يقسم بالسوية على الرغم من إحاطته الواسعة والفائقة بالفلسفة والعلوم العقلية رجح الإمام البدء بتدريس الفقه بعد وصوله إلى النجف الأشرف، وذلك إستجابة لإلحاح الأصدقاء والمحبين. وكان قد اجتنب إلقاء الدروس ودفع رواتب لطلبة الحوزة وكذلك اجتنب كل الأمور التي تلجأ إليها الشخصيات البارزة في الحوزة، بهدف إيجاد منزلة خاصة لهم في الحوزة، كان الإمام يجتنب كل ذلك دفعاً للحساسيات التي توجدها في حوزة النجف، كان يتعامل كضيفٍ يقيم بصورةٍ مؤقتةٍ، أو كزائر حالفه توفيق زيارة العتبات المقدسة.
ولكن كثرة المراجعات له التي كانت تزداد باستمرار، وتجمع مقدار كبير من الحقوق الشرعية التي كانت تقدم له، جعلته يرى أن من المناسب أن يقوم بدفع رواتب الحوزويين، فخرق ـ وللمرة الأولى في تاريخ الحوزة في النجف ـ التمييز الذي كان حاكماً في توزيع الرواتب عليهم، إذ كان المألوف في هذه الحوزة تقديم الطلبة الإيرانيين ولعل الطلبة العراقيين أيضاً واعتبارهم من الطبقة الأولى من الحوزويين فيما كان الطلبة غير الإيرانيين وغير العرب مثل الطلبة الباكستانيين والهنود الأفغانيين يعدون من الطبقة الثانية فتدفع لهم رواتب أقل[1]!!
فتح أبواب المساواة في العطاء في أول شهر رمضان مرّ على الإمام بعد إقامته في النجف الأشرف، قام بتوزيع مقدار من الحقوق الشرعية كمساعدة لعلماء الحوزة العلمية في النجف وطلبتها، وتم تقسيمها بالسوية بينهم دون تمييز بين الإيرانيين والأفغانيين والهنود والباكستانيين والعرب وغيرهم، فأعطى للمتزوج منهم دينارين وللأعزب ديناراً واحداً، وكان لذلك صدىّ واسعٌ في الحوزة أثار الاستغراب لأنها المرة الأولى التي لا يميز فيها مرجعٌ للتقليد في النجف في تقسيم الحقوق الشرعية بين العلماء الإيرانيين وبين العلماء غير الإيرانيين فقسمها بينهم بالسوية.
وكان من آثار إجراء الإمام هذا هو أنه شجع الطلبة المحرومين من غير الإيرانيين وبخاصة من الأفغانيين والباكستانيين الذين عرّضوا للإهانة سنين طويلة بسبب هويتهم الإفغانية والباكستانية دون أن يكون لهم ذنبٌ غير ذلك! فكان يستلمون نصف رواتب نظائرهم من الطلبة الإيرانيين، ولذلك فقد شجعهم تقسيم الإمام بالسوية على الاعتراض والمطالبة بحقوقهم وبالمساواة وإنهاء حالة التمييز العرقي في حوزة النجف.
وعندما أخذ الإمام بدفع رواتب الحوزويين بصورةٍ مستمرة ـ بعد أن كان يقسم بينهم مساعدات بين الحين والآخر ـ التزم بمبدأ المساواة هذا في دفع هذه الرواتب كل شهر، فاضطر باقي العلماء إلى إنهاء تلك الحالة المنحرفة وغير الإسلامية التي كانت تحكم نظام دفع الرواتب في حوزة النجف لسنين طويلة، وأخذوا يدفعون الرواتب لجميع طلبة الحوزة بالسوية[2].
أنهى التمييز في العطاء كان التمييز القومي حاكماً على نظام دفع الرواتب في الحوزة قبل الإمام. فكان السيد الحكيم يدفع للطالب الأفغاني ديناراً ونصف الدينار. وللطالب الإيراني ثلاثة دنانير، أما الإمام فقد عمل بمبدأ التقسيم بالسوية للأموال بعد مجيئه للنجف الأشرف، فلم يكن يميز بين الطالب التركي عن الفارسي أو العربي أو الإيراني أو الأفغاني، لقد قال للمرحوم الشيخ الخلخالي: (امتحنوا الطلبة، ثم أعطوهم بالسوية دون تمييز لأحدٍ على آخر ). وعندما رأى المراجع الآخرون في النجف مثل السيد الحكيم والسيد الخوئي طريقة الإمام هذه غيّروا هم أيضاً طريقتهم السابقة في التوزيع[3].
ألغى نظام العطاء الذي ساد طويلاً بعد مدة من إقامة الإمام في النجف بدأ بدفع رواتب لطلبة الحوزة إثر إلحاح الأخوة عليه بهذا الشأن، وقد اتصل بي هاتفياً المرحوم الشيخ نصر الله الخلخالي وكان صرافاً ويقوم بتوزيع رواتب السادة البروجردي والخوئي على طلبة الحوزة، وكان اتصاله قبيل المرة الأولى التي وزع فيها رواتب السيد الإمام على الطلبة، وقد قال لي يومها: إن الطريقة التي توزع على أساسها رواتب السيد البروجردي ـ وأحياناً رواتب السيد الخوانساري ـ هي أننا نعطي الطالب الإيراني ثلاثة دنانير ونعطي غيره من الطلبة الهنود والباكستانيين ديناراً ونصف الدينار أو دينارين، فأسألوا الإمام عن طريقته هو في توزيع الرواتب.
فدخلت على الإمام ونقلت له قول الشيخ الخلخالي فقال: (وما الفرق بين الطالب الهندي والطالب الإيراني، أعطوا الجميع ثلاثة دنانير لكل منهم دون تمييز) وبذلك ألغى الإمام النظام الذي كان حاكماً على حوزة النجف طوال ألف عام[4].
بيّن طريقة الاستفادة من بيت المال عندما كان الإمام في النجف الأشرف، سافرت إلى سامراء لزيارة الإماميين علي النقي والحسن العسكري عليهم السلام، ونويت الإقامة فيها عشرة أيام قضيتها مع طلبة مدرسة المرحوم آية الله الميرزا الشيرازي فوجدتهم يعتبون على جميع السادة العلماء والمراجع يومذاك ويقولون: (إن الرواتب والمؤن التي يقدمها لنا آية الله الحكيم والامام قليلة سرعان ما تنفذ، ونحن هنا في ديار غربة نختلف عقائدياً عن أهل سامراء، ولذلك إذا نفذ ما عندنا لم يكن بمقدورنا أن نشتري شيئاً بالدين منهم ولا أن نقترض منهم. إن السادة بالنجف وقم اكثر من سامراء).
وجدت أن حلّ هذه المشكلة هي خدمةٌ لهؤلاء الطلبة خاصة وهم يحمون في الواقع الحرم المطهر للإماميين الهمامين عليهم السلام والذي يقع في ديار غربة. ولذلك ذهبت إلى الإمام في النجف وعرضت عليه الأمر وقلت: إن هؤلاء الطلبة قد اختاروا سامراء رغم وجود الحوزة العلمية في النجف، ورغم أنهم ليسوا مجدين في الدراسة بالكامل لكنهم لا يسمحون بأن يخلو حرم العسكريين من الزوار والطلبة ويصبح محلاً للعب الأطفال: ثم قلت لسماحته بعد أن نقلت له القضية دون زيادة أو نقصان: إذا منحتم هؤلاء الطلبة امتيازاً وزدتم في مقدار رواتبهم الشهرية نصف دينار لكل طالب فإن ذلك سيشجعهم على البقاء هناك.
كان الإمام يساوي في الراتب بين طلبة حوزة النجف وحوزة سامراء فيعطي لكل طالب ثلاثة دنانير شهرياً دون تمييز، وقد قال بعد أن أصغى لكلامي: (إن التسوية في الراتب بين طلبة النجف وطلبة سامراء هو امتياز بحدة ذاته)! أي أن المساواة في الراتب بين الطالب الذي يبذل جهوداً مضنية في الدراسة في النجف وبين الطالب الذي يبذل جهوداً أقل في سامراء هي بحد ذاتها امتياز لطلبة سامراء، وبذلك كان يشجع الطلبة المجدين والفضلاء ويكرم العلم ويبين للآخرين طريقة الإستفادة من بيت المال[5].
لم يكن يعطي أية امتيازات لأحدٍ كان الإمام يوزع ما يصله من الأموال الشرعية بين الحوزويين بالسوية دون تمييزٍ لأحدٍ على آخر. وقد قال أحد وجهاء حوزة النجف أن هذه الحوزة لم تر مثل الإمام من قبل، فهو لم يكن يعطي أية امتيازات لأحد في حين أن بعض المراجع كانوا يعطوا امتيازات لبعض الأشخاص تكتسب أحياناً أبعاداً غريبة[6].
لا يميز حتى عائلته عن الآخرين أقام الإمام الصلاة عند الحدود الكويتية التي وصلها عندما أراد الإنتقال من العراق إلى الكويت، أجهش جميع الذين رافقوه لتوديعه، فقد كان من الصعب أن يتصوروا أن يبقوا في العراق بدون الإمام.
وكان الإمام قد قال: (قد وضعت مبلغاً من المال في منديل في المنزل وهي مخصصة لمصاريف حياتي الشخصية). ثم كتب وصيته وجعل أربعة أشخاص أوصياء له في تنفيذها كنت أنا أحدهم، وقد كتب في وصيته هذه: (تعاملوا مع زوجتي بعد وفاتي تعاملكم مع أحد الطلبة، فادفعوا لها من سهم الإمام بمقدار ما تحتاجه المتطلبات المعيشية لأحد طلبة الحوزة).
وقد كتب الإمام هذه الوصية قبل أن يتخذ قراره بمغادرة العراق، فقد كتبها أيام محاصرة البعثيين لمنزله وبدأ جلاوزة حكمهم الإلحادي بشن حملات الإعتقال، وعندها أحس الإمام بالخطر وكتب الوصية ووضعها في طرفٍ أغلقه وسلمه لي، وأمرني بفتحه عند مغادرته العراق[7].
لا يعطي ولده اكثر من سائره طلبة الحوزة كانت مقادير ضخمة من الأموال تصل الإمام وتوضع تحت تصرفه، لكن ذلك لم يؤدّ إلى أبسط مظاهر التغير في مستوى معيشته هو أو ولده سماحة السيد مصطفى. وقد سافرت عدة مرات إلى العراق للتشرف بزيارة العتبات المقدسة، ولأنني كنت أتبادل أيام إقامتي في النجف الزيارات بكثرة مع السيد مصطفى، لذلك كان يدعوني بين الحين والآخر لتناول طعام الظهيرة أو العشاء في منزله، فسألته يوماً عن أمرٍ سمعته عنه، قلت له: سمعت أنكم تستلمون رواتب من المراجع الآخرين، فما الضرورة لذلك؟ هل أنتم بحاجة لذلك؟ ابتسم السيد مصطفى وقال: إن أبي لا يعطيني سوى ما يكفي فقط للطعام ودفع ثمن إجارة البيت وبالمقدار المتوسط، لكنني بحاجةٍ أيضاً لشراء الكتب ولذلك فأنا مضظر لتوفير ما أشتري به الكتاب، لذلك فأنا مضطر لاستلام رواتب باقي المراجع.[8]
ولم يكن يعطيه ما يزيد على مصاريفه المعيشية كان على المرحوم السيد مصطفى أن يأتي للإمام كل أسبوع ويستلم مصروفه الأسبوعي منه! ولم يكن الإمام يعطيه أبداً ما يزيد على مصاريفه المعيشية، لذلك عندما عزم على أداء فريضة الحج وفر تكاليف السفر من ثمن بيته في قم الذي باعه من أجل ذلك وأضاف إليه مقداراً من المال أعطته له زوجته[9]!!
الاقتداء بأمير المؤمنين (ع) رأيتُ المرحوم السيد مصطفى مرةً في أحد أيام الخريف وقد ارتدى عباءةً بالية من النوع الرشتي، فقلت له ممازحاً: هل اشتريت هذه العباءة من باعة الملابس البالية؟! قال: بل هذه عباءة أحد أصدقائي الرشتيين (وكان جاراً له) استعرتها منه إذ رأيت الجو بارداً اليوم وليست لديّ عباءة شتوية. ثم قال لي: يا فلان! إلاّ ينبغي لنا أن نجتمع كافة من اجل أن نضيع أميراً ثانياً للمؤمنين؟![10].
لا أقدر أن أدفع لك راتب الحوزة كان الإمام يتشدد على نفسه كثيراً فيما يرتبط بالاستفادة من بيت المال، لقد قال لسماحة السيد أحمد قبل أن يتعمم: ( لا أقدر على أن أدفع لك راتب الحوزة قبل أن تتعمم ). ولذلك كانت والدة السيد أحمد هي التي تعطيه مصروفه الشخصي من أموالها الشخصية قبل تعممه سواء عندما كان في إيران أو في النجف، وعندما تعمم بدأ الإمام يعطيه راتباً شهرياً بمقدار ما يعطيه لسائر طلبة الحوزة دون تمييز، وهكذا كان يتعامل مع ولده الآخر السيد مصطفى فلم يكن يميزه عن الآخرين[11].
خصصنا لولدكم راتباً شهرياً كان لي ولدٌ اسمه الشيخ محمد حسن وقد تعمم وعمره (13) عاماً، في اليوم التالي لارتدائه الزي الحوزوي جاء مقسم رواتب الإمام لطلبه الحوزة وقال لي: يقول الإمام: (خصصنا لولدكم راتباً شهرياً بدءً من هذا الشهر لأنه قد تعمم)[12].
لا يميز أولاده عن سائر طلبة الحوزة كان الإمام يتعامل مع ولده كسائر طلبة الحوزة فيما يرتبط بقضايا الحوزات العلمية الدينية العامة، أي أنه كان يعطيه راتباً مساوياً لما يعطيه لأي طالب في الحوزة، وكان يسعى لتحسين أوضاع ولده المعيشية مثلما يسعى لتحسين الأوضاع المعيشية لسائر طلبة الحوزة دون تمييز، فقد كان يراه كأحدهم[13].
لا فرق بينكن وبين العاملة كان الإمام يقول لنا مكرراً: ( لا يوجد أدنى فرقٍ بينكن وبين العاملة التي تخدم في المنزل).[14]
لا يميز أرحامه عن غيرهم لم يكن الإمام يميز أرحامه عن غيرهم، فاذا كانت لأحد أرحامه حاجة وكانت لأحد الغرباء حاجة مماثلة كان يساوي بينهما في ذلك؛ فمثلاً إذا احتاج قريبه الفلاني إلى(50) ألف تومان لتكاليف الزواج، واحتاج غريبٌ للمبلغ نفسه، ساعدهما السيد بالسوية إن استطاع، وإن لم يستطع لم يقدم لأي منهما شيئاً[15].
لم يتسجب لطلبه فأثنى عليه! عندما عزمتُ على السفر إلى باريس لزيارة ـ الإمام أيام إقامته فيها؛ أعطاني أحد أرحامه الذي تربطه بنا رابطة نسبية رسالة وأخبرني أنه محتاج للمال، قلت له: أمثال هذه الاحتياجات كثيرة ولا أظن أن الإمام يوافق على تلبية احتياجك وحدك، فالمحتاجون كثيرون، وإذا استطاع الإمام فإن عليه أن يقدم المعونات للجميع، لا أظن أن سيستجيب لو ذكرت اسمك على نحو التمييز، إنني مطمئنُ أنه لن يقبل مني أنا على الأقل. فقال: ليس لدي من ألجأ إليه غيره، أنت ذاهب الآن إلى باريس فأعرض الأمر على سماحته.
ثم سافرت إلى باريس ولما تشرفت بالدخول عليه، أخرجت الرسالة وأخبرته بمضمونها وقلت لسماحته: إن أذنتم لي قرأتها لكم. فقال: ( لا أقدر على مساعدته، فأمثاله كثيرون، فأما أن أقدم العون لهم جميعاً وإما أن أمتنع عن تقديم العون لأحد، فليس من الصلاح أن أخصه وحده بالعون، لا يمكنني أن أفعل ذلك).
قلتُ : هل تجيزوني أن أعطيه شيئاً من الأموال المتعلقة بكم والتي يسلمها لي مقلدوكم لكي أوصلها لكم، أعطيها له كقرض يسدده عند القدرة والاستطاعة (ولا يخفى أن لسهم الإمام موارد خاصة للصرف لا يمكن إعطاؤه لأي شخص، بدون إذن مرجع التقليد فهو الذي يجب أن يحدد موارد التصرف به). وقلت لسماحته أيضاً: وحتى إذا لم يستطع تسديد هذا القرض، فان الكثيرون قد حصلوا من سماحتكم على منافع كثيرة!!
التزم الإمام الصمت فترة وهو يتأمل ثم رفع رأسه وقال: (لم يعطني أحدٌ مثل هذه الإجازة)!
وعندما رجعت إلى إيران، أخبرت ذلك السيد بما جرى وأنا أتصور أن موقف الإمام سيؤذيه، لكنه ارتاح لهذا الموقف وقال: بارك الله فيه، كم هو فريدٌ هذا الرجل؟! صدق فيما قال، يوجد كثيرون لديهم مثل مشكلتي فمن أين يأتي بما يعينهم جميعاً به؟![16].
عدله في تعامله مع أولاده كان الإمام ينظر لجميع أولاده بعين المساواة، ويحبهم بالسوية وبطريقة لم نعرف إلى اليوم وبعد كل هذه السنين من منهم يحبه الإمام أكثر من البقية؟![17]
المساواة في مقدار المشاركة في التشييع! يقول الشيخ جمال ـ وهو رجل مسن متدين وصادق كان له دكان لبيع الأدوات الكهربائية بالقرب من منزل الإمام في شارع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم (في النجف): شاهدت الإمام مراراً وهو يشارك في تشييع بعض العلماء الكبار فكان يسير مع الجنازة إلى صحن حرم أمير المؤمنين عليه السلام ولا يدخل الحرم معهم بل يعود من هناك إلى منزله. وقد دققت في ذلك في يوم وفاه ولده السيد مصطفى، فتعجبت بالكامل عندما رأيته في ذلك اليوم يلتزم بسيرته المعهودة في مثل هذه المراسم، فقد سار مع المشيعين لجثمان ولده العزيز إلى صحن الحرم العلوي ثم رجع إلى المنزل ولم يدخل الحرم!![18]
لم يميّز ولده حتى بعد وفاته ...ومن الذكريات المثيرة للإنتباه التي أحملها عن تلك الأيام، هي تلك التي ترتبط بطريقة مشاركة الإمام في مراسم تشييع جنازة ولده، كان عادة لا يشارك في مراسم الدفن وصلاة الميت إلاّ نادراً كأن كان المتوفي من كبار العلماء أو من أصدقائه وأصحابه. وكانت مشاركته على النحو التالي: يحضر إلى مكان وضع الجنازة قبل حملها وبدء تشييعها بحدود خمس دقائق، ثم يسير خلفها حدود(20ـ 30) متراً، ثم ينسحب ويستقل سيارة أجرة عائداً إلى المنزل؛ وقد التزم، بذلك في يوم تشييع جثمان ولده أيضاً فلم يميزه بشيء في هذا المجال أيضاً!![19]
سار مع المشيعين بالمقدار نفسه لم يكن الإمام يشارك عادة في صلاة الميت على العلماء عندما كان في قم، لكنه كان يشارك في تشييع الجنازة إلى حين وصولها إلى باب الحرم ثم يعود، لأنه لو دخل الحرم مع الجنازة فإن طلبة الحوزة كانوا سيلحون عليه أن يقيم عليها صلاة الميت وهذا لم يكن يريده، وبالطبع كان أحياناً يضطر للموافقة بسبب كثرة الإلحاح، ولكن لم يكن من عادته البقاء في مراسم التشييع إلى نهايتها، فحتى في مراسم تشييع جثمان المرحوم السيد الصدر والمرحوم السيد الخوانساري والمرحوم السيد الحجة والمرحوم السيد البروجردي، والمرحوم السيد فيض والمرحوم السيد كبير وكلهم من كبار العلماء، سار الإمام مع المشيعين إلى باب صحن حرم السيدة المعصومة ـ سلام الله عليها ـ وعاد من هناك[20].
المساواة في قراءة الفاتحة للأموات كان الإمام ـ بعد استشهاد المرحوم السيد مصطفى ـ يذهب كل يوم تقريباً إلى قبره ويقرأ سورة الفاتحة على روحه واستمر ذلك إلى الليلة الأربعين، وبعد ذلك يذهب إلى قبره في ليالي الجمعة عندما يتشرف بزيارة الحرم العلوي، وكانت طريقته في ذلك عادية للغاية، فكان يقرأ الفاتحة لجميع الأموات ثم يقوم من عند القبر ويذهب وكانت هذه سيرته طوال مدة إقامته في النجف[21].
المساواة بين شهداء أبناء المسؤولين وغيرهم إثر استشهاد ابن أحد الوزراء طلبوا من الإمام أن يصدر بياناً بهذه المناسبة فقال: (تطلبوا مني أن أصدر بياناً لمجرد أن والده وزير؟ فهل تتصورون أنه لم يستشهد سوى أبن هذا الوزير؟! إن جميع الشهداء ابنائي، فإذا أردت أن اصدر بياناً فيجب أن يكون لهم جميعاً لا أفرق بينهم)[22].
يعامل تلامذته بالمساواة كان الإمام يتعامل مع جميع تلامذته بعين المساواة، دون أن يميز الذين يبدون مودة أكبر له أو يحظون بسابقة أطول معه عن غيرهم، بل ولم يكن يرجح تلامذته على غيرهم من طلبة الحوزة في تعامله معهم، إنني كنت على علاقة وثيقة به منذ أمدٍ طويل وأنا من قدماء تلامذته والداعين إليه، ورغم ذلك يعاملني بطريقةٍ عادية وطبيعية تماماً مثلما يتعامل مع بقية طلبة الحوزة، وهذه في عقيدتي من محاسن أخلاقه، ولذلك لم أكن أنزعج من هذه الطريقة في تعامله معي بل وكانت تزيدني حباً له[23].
يحذر من تمييز المنتسبين إلى بيته كان مقر (خاتم الانبياء صلى الله عليه وآله وسلم ) القيادي يدعو باستمرار أعضاء بيت الإمام للحضور في محافل جند الإسلام في الجبهات، فكان هؤلاء الأعزاء يستجيبون ويضفون بحضورهم وتقديمهم هدايا الإمام لجند الإسلام وإبلاغهم سلامه إليهم حالة خاصة من الحماس على الجبهات، وقد شارك اثنان من هؤلاء الأجلاء أيضاً في عمليات بدر هما الشهيدان حجة الإسلام والمسلمين الموسوي وحجة الإسلام والمسلمين السليمي، وقد تواجدا في جزر(مجنون) في منطقة علميات بدر، وألقوا خطابات في جند الإسلام، وأبلغوهم تحياته وأهدرهم قطعاً نقدية مباركة من الإمام وحرضوهم على مواصلة العمليات؛ وقد حظى هذان العزيزان بشرف الشهادة وهما في طريقة العودة في بداية جسر(سيد الشهداء)إثر قصف العدو البعثي للمنطقة؛ وتم نقل جسديهما إلى طهران، وعندما نقلوا للإمام خبر استشهادهما قال: ( حذار من نقض قيم العدالة والمساواة في التبليغ عن شهادة هؤلاء الأعزاء في أجهزة الإعلام والإذاعة والتلفزيون بملاحظة انتسابهما إلى بيتي، انتبهوا إلى الأمر لكي لا يتمايز التبليغ بشأن هذين الشهيدين عن باقي الشهداء)[24].
يجب التدقيق لكي لا يقع تمييز اتصل سماحة السيد أحمد يوماً بمجلس الشورى هاتفياً وقال: يقول الإمام أنه تم التأكيد في كلمات النواب قبل مداولات المجلس بشأن جدول أعماله ـ على تضحيات القوة الجوية والطيارين أكثر من غيرهم، وسماحته وضمن ارتياحه ورضاه البالغ عن شجاعة وتضحيات الطيارين، ولكنه راض بالدرجة نفسها تجاه جميع صنوف القوات المسلحة: البرية والبحرية والجوية وحرس الثورة وقوات الدرك، ولذلك فقد قال: (يجب التدقيق في الأمر لكي لا يقع تمايز في التعامل معهم)[25].
كان يتوقع أن تدينه المحكمة
ثمة قضيتان أتذكرهما الآن جيداً اتخذ الإمام بشأنهما موقفاً حازماً للغاية، الأولى قضية عمليات (المرصاد) التي تدخل فيها بحزم، والثانية قضية شخص قدم شكوى قضائية ضد الإمام قال فيهاـ مخاطباً الإمام ـ: أنكم ألحقتم بي ضرراً وعليكم جبران ذلك!
ولا أدري أي أبناء الحلال في العدلية هو الذي وقعت في يده هذه الشكوى فأرسل إبلاغاً رسمياً للإمام قال فيه: حضرة السيد روح الله المصطفوي، رفعت للمحكمة شكوى ضدكم، فعليكم أن تحضروا إلى المحكمة في الساعة الفلانية بأنفسكم أو إرسال محامٍ ينوب عنكم لتقديم التوضيحات بشأنها!
ثم اتصلوا بي هاتفياً من بيت الإمام وسألوني عن الأمر، فقلت: لا علم لي بالأمر ابعثوا لي بالإبلاغ لكي أحقق في الأمر، ولما جاؤوني بالملف وجدت أن الشاكي هو من أهالي خرمشهر، وهو يطالب في شكواه بتعويضات من الإمام على التسعين ألف تومان أو التسعمائة ألف، (كانت التعويضات المدعاة تقل عن المليون تومان)، وقدم توضيحاً لذلك بقوله: عندها هاجم الصداميون مدينة خرمشهر جمعنا أثاث منزلنا وأردنا الخروج من المدينة، لكنكم قلتم إن الخروج من المدينة خلاف أحكام الشريعة، ولذلك بقينا في المدينة ثم دخلها العراقيون ودمروا كل أثاثنا، لذا عليكم أن تدفعوا لنا نحن أثاث منزلنا !
قلت يومها لرئيس العدلية يومذاك: هل هذه الشكوى جديرةٌ بالعرض وهل تشتمل على ما يتطلب الملاحقة القضائية أصلاً؟ بل هل يمكن وصفها بأنها شكوى؟ فقال: والله لا علم لي بالأمر، لقد كتبها الرجل وقدمها لأحد موظفي العدلية فكتب الإبلاغ وسلمه للشرطي الذي أوصله بدوره لبيت الإمام!
ولم تكن هذه القضية جديرة بالمتابعة أصلاً، ليس لأنها موجهة ضد الإمام بل لأنها فاقدة لشروط الشكوى القضائية من الأساس.. وبعد مدة سألني الإمام عن هذه الشكوى فأخبرته بقصتها فقال: (لو حددتم مبلغاً معيناً نقدمه للشاكي)! قلتُ: لو قمتم بذلك وشاع أن أحد الأشخاص قدم مثل هذه الشكوى وقد دفع له الإمام تعويضات عن خسارته فلن يكون بإمكانكم الاستجابة لتبعات الأمر لأن أهالي جميع المناطق المتضررة في الحرب سيقدمون شكاوى مماثلة وعليكم أن تدفعوا تعويضات لهم جميعاً وهذا ما لا تستطيعون؛ فاسمحوا(ودون متابعة الشكوى ) بأن يدفعوا له مبلغاً من المال.
وافق الإمام على الاقتراح وقد تابع هذه الشكوى ضده إلى هنا ولم يقل؛ من هذا الذي قدم شكوى ضدي؟ ومن هذا الموظف الذي كتب الإبلاغ؟ ومن هذا الشرطي الذي جاء به؟ كيف لم يفهم هذا أن الشكوى ضدي، وأمثال ذلك، كلا لم يقل ذلك، بل على العكس سأل عن متابعة هذه الشكوى وكان يتوقع أن تدينه المحكمة وتطلب منه أن يدفع تعويضات للشاكي!![26]
نريد إقرار عدالة الإسلام قال الإمام في لقائه بعوائل قرية(قارنا) الكردية من قرى مهاباد: (نحن نريد أن نقيم في هذه الدولة عدالة الإسلام الذي لا يسمح بأن تظلم يهودية في ظل حكمه، والإسلام الذي يكون الشخص الأول فيه على حدٌ سواء مع الشخص الآخر أما القانون)[27].
لا فرق بين رجال الدين وغيرهم قدمت تقريراً للإمام ـ أثناء لقائي بسماحته ـ عن منظمة التفتيش العامة في الدولة، فقال: (يجب أن تحتل مهمة التفتيش في عمل المؤسسات الثورية بالذات موقع الصدارة في عمل المنظمة، فإذا شاهدتم ـ أثناء تحقيقاتكم ـ أن أحد المنسوبين لمؤسسات الثورة قد ارتكب مخالفةً فسلموه فوراً للسلطات القضائية لكي يبت مجلس القضاء الأعلى في أمره، لا فرق في ذلك بين أن يكون من رجال الدين أو من غيرهم)[28].
جيدٌ إذا لاحقتم المتخلفين زار، أعضاء هيئة متابعة أمر الإمام، وأثناء اللقاء سأل السيد الموسوي الأردبيلي الإمام عن حاله فأجاب: (الحمد لله ) ثم التفت إلينا وقال: (ولكن إذا قمتم أنتم بأعمالكم ـ إن شاء الله ـ بصورة جيدة ولاحقتم مرتكبي المخالفات)!![29]
__________________________
[1] حجة الإسلام والمسلمين الدعائي.
[2] حجة الإسلام والمسلمين السيد حميد الروحاني، كتابدراسة تحليلية لنهضة الإمام الخميني، ج2.
[3] آية الله محمد اليزدي.
[4] حجة الإسلام والمسلمين الفرقاني.
[5] حجة الإسلام والمسلمين عبد المجيد الإيرواني، كتابخطوات في أثر الشمس، ج2، ص 278.
[6] آية الله خاتم اليزدي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.
[7] المصدر السابق.
[8] آية الله الفاضل اللنكراني.
[9] حجة الإسلام والمسلمين الناصري، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.
[10] آية الله المحمدي الجيلاني.
[11] حجة الإسلام والمسلمين الفرقاني.
[12] حجة الإسلام والمسلمين الأنصاري الأراكي.
[13] حجة الإسلام والمسلمين الدعائي، مجلةبيام انقلاب، العدد: 18.
[14] السيدة فريدة المصطفوي ابنة الإمام، مجلة زان روز، العدد: 966.
[15] حجة الإسلام والمسلمين حسن الثقفي شقيق زوجة الإمام، كتابخطوات في أثر الشمس، ج1، ص148.
[16] حجة الإسلام والمسلمين حسن الثقفي، المصدر السابق، ص 149.
[17] السيدة فريدة المصطفوي، صحيفة اطلاعات11/12/1360هـ.ش.
[18] حجة الإسلام والمسلمين السيد مجتبى الرودباري، مجلة15خرداد، العدد: 7.
[19] حجة الإسلام والمسلمين السيد محمود الدعائي، صحيفة اطلاعات 3/8/1358هـ.ش.
[20] آية الله صادق الخلخالي.
[21] آية الله صادق خاتم اليزدي.
[22] السيد رحيم ميريان.
[23] آية الله إبراهيم الأميني، مجلةبيام انقلاب، العدد: 105.
[24] السيد غلام علي الرجائي.
[25] حجة الإسلام والمسلمين الهاشمي الرفنسجاني، صحيفة اطلاعات5/7/1359هـ.ش.
[26] آية الله الموسوي الأردبيلي.
[27] صحيفة كيهان25/6/1358هـ.ش، كتابمحضر نور، ج1، ص202.
[28] حجة الإسلام والمسلمين المحقق الداماد، صحيفة اطلاعات7/9/1360هـ.ش، كتابمحضر نور ج1، ص557.
[29] آية الله الإمامي الكاشاني، صحيفة كيهان8/10/1368هـ.ش، كتابمحضر نور، ج2، ص100.
|