ورعه عن الغيبة والسخرية بالآخرين واللغو ومجالسها
حيثما حلّ انهزمت الغيبة منذ بداية دراسته الحوزوية وأيام شبابه لم يكن الإمام يبقى مكاناً للغيبة حيثما حلّ، كان يمنع بشدة ذكر الآخرين بالسيء من القول[1].
ينهي عنها بحزم كان الإمام مجتنباً الغيبة بالكامل، وكان من سيرته إذا شعر أن أحدهم يريد أن يذكر آخراً بسوء قام لترك المجلس أو نهى عن ذلك بحزم[2].
وكان بنفسه متورعاً عنها كان الإمام ينهي الآخرين دائماً عن الغيبة حتى عن أشكال الغيبة التي لا تخرج من دائرة الذهن التي لا إشكال شرعاً فيها؛ وكان هو بنفسه مجتنباً للغيبة[3].
شرط الحضور في مجلسه كانت للإمام اجتماعات مع بعض الأصدقاء مثل آية الله السيد أحمد الزنجاني وسماحة الميرزا عبد الله المجتهدي والمرحوم سماحة السيد أحمد اللواساني وغيرهم، وكانت من شروط الحضور في هذه اللقاءات أن لا تقع فيها غيبةُ لأحد، والشرط الثاني أن لا تطرح فيها مباحثات علمية[4]!
مقاطعته مجالس الغيبة من الأمور التي يتفق عليها الجميع أن الإمام ـ ومنذ أيام شبابه ـ كان يمتنع عن الجلوس في محل ترتكب فيه الغيبة أو الكذب والمعصية، كان منذ البداية متورعاً بشدة عن الغيبة والكذب، كان ملتزماً إما بترك المجلس الذي تقع فيه الغيبة وإما أنه كان يقطع كلام المتحدث بغيبة[5].
حساسيته في حفظ الحدود الإلهية أقولُ عن تحقيق وبدقة، أن الإمام كان مراقباً وحساساً للغاية لكي يجتنب أبسط تجاوز لحدود الشرع، ولا يمكن لأي شخص الإدعاء بأنه رأى الإمام جالساً في مجلس غيبةٍ فضلاً عن أن يكون يغتاب بنفسه والعياذ بالله[6].
ينهانا عن الغيبة بنظرة حادة كان الإمام ملتزماً منذ أيام شبابه الأولى باجتناب الغيبة، بل وحتى نحن تلاميذه كنا لا نتجرأ على التحدث عن أحد إذا جلسنا عنده، لأنه كان يسكتنا عن الكلمة الأولى بنظرة حادة وكانت له هيبة خاصة في مثل هذه الموارد.
لقد كان ملتزماً بصورة(حاسمة) بجملة أمور: الصلاة جماعةً في أول وقتها، التهجد في الأسحار، واجتناب الغيبة، كان كذلك في أيام شبابه الأولى وقبل زواجه، فنجد أصدقاءه يصرحون أنه كان يتورع حتى عن صغائر الذنوب[7].
يجتنب المجالس التي تقسي القلب قلّ نظير الإمام حتى في كثرة عمله وحديته في العمل، أتذكرُ أنني ـ منذ أن عرفته ـ لم يكن أبداً يقضي شيئاً من أوقاته في البطالة أو فيما نسميها نحن طلبة الحوزة بـ( القعدات) وهي المجالس الطويلة التي لم تكن تخلو من الغيبة وإيذاء المؤمنين والضحك الطويل وكلها عوامل تسبب موت القلب والإبتعاد عن الله. وهذا ما سمعته أيضاً من زملائه في الأيام الأولى لدراسته الحوزوية، لقد كان مجتنباً لمثل هذه المجالس وإذا اضطر أحياناً للحضور في مجلس يحتمل أن ترتكب فيه مثل هذه الأمور، فإنه كان يمنعها بحزم أو يترك الجلوس ويغادر المكان فوراً[8].
يتأذى من الكلام الذي تشم منه رائحة الغيبة ضمن سؤالي عن أحوال الإمام في أيام شبابه الأولى، علمت من بعض أصدقائه في تلك الأيام أنه لم يصدر عنه أي عملٍ منحرف حتى في تلك الأيام الحساسة، وقد اتفقت أقوالهم بهذا الشأن، فمثلاً في اللقاءات البعيدة عن التكلف التي كانت تجمعهم، ويقع فيها بعض المطايبات والممازحات؛ كان الإمام يتأذى إذا اشتملت ولو على كلمةٍ واحدة فيها رائحة الغيبة، فكان يبادر إلى النهي عنها والتذكير بأن: (الغيبة محرمة).
لقد نفذ الإسلام إلى قلب الإمام بالكامل فكان حاكماً عليه[9].
يغير مجرى الحديث فوراً من الأمور التي يجمع على القول بها جميع اصدقاء الإمام هو أنه لم يقع في معصية الغيبة أبداً، بل ولم يكن يسمح ـ منذ أيام شبابه الأولى ـ باغتياب أحد في أي مجلس يحضره، وإذا أراد شخص ما أن يغتاب آخراً أثناء حديثه غّير الإمام مجرى الحديث فوراً[10].
لا يحق لكم قال الإمام لي يوماً وقد زرته بعد وفاة السيد البروجردي ـ رحمه الله ـ: (لا يحق لكم ـ في ظل هذه التحركات لصنع مراجع للتقليد!! ـ أن تتفوهوا ولا بكلمةٍ واحدة في تأييدي أو في اغتياب أحد السادة الآخرين)[11].
لا أرضى باغتياب أحد في بيتي كان طلبة الحوزة يخصصون مقداراً من النهار والليل للتباحث ـ وهم يجلسون في قسم البراني من بيت الإمام ـ فيما يرتبط بأوضاع الحوزة، وكانت هذه الأحاديث تشتمل أحياناً على انتقاد بعض العلماء، كما كانوا يعربون عن عدم ارتياحهم لامتناع الإمام عن القيام بأي خطوة في السعي للرجعية بل واختياره العزلة.
وفي أحد الأيام جاء المرحوم السيد مصطفى برسالة شفهية من الإمام هي: (سمعت أن بعض الأشخاص يغتابون ويتجرأون هنا على العلماء، إنني لا أرضى بأن يغتاب أو يهلك أحدٌ في هذا البيت الآخرين)[12].
ذنبٌ فظيع لا لذة فيه قال السيد السلطاني: كان السيد (الإمام) يكره الغيبة كثيراً ويقول عنها أنها: (معصية لا طعم فيها! فهي خالية من أي لذة، وهي ذنبٌ فظيع إلى جانب ذلك)[13].
لم يسعموا منه ولا كلمة غيبة واحدة! من المحال أن يكون الأشخاص الذين لازموا الإمام سنين طويلة قد سمعوا منه كلمةٌ واحدة في الغيبة أو في الإساءة للآخرين. وقد زاره أحد الأخوة يوماً وعرض قضية معنية وتعرض ضمناً إلى أحد الأشخاص فتأذى الإمام وقال: ( لا تتعرضوا بالقول لأحد هنا)[14].
لا تأخذه في الله أيةُ إعتبارات لم يكن يؤذي الإمام شيءٌ مثلما تؤذيه الغفلة عن الأوامر الإلهية وتجاوز حدودها خاصة إذا إراد شخصٌ أن يغتاب أو يهين مراجع الدين في حضوره؛ وقد كنت يوماً عنده فتحدث أحد الأشخاص عن العلماء والمراجع بحديث تشم منه رائحة الإهانة، فغضب الإمام عليه وشدد في معاتبته رغم أنه كان من أصحابه الأوفياء؛ فهو لم يكن يقيم وزناً لمثل هذه الاعتبارات وهوية الأشخاص فيما يرتبط بالتكاليف الإلهية، ولذلك لم يكن أقرب المقربين منه يتجرأ على نقل خبر له يتضمن غيبة أو إهانة لأحد من الناس، لأنه سيواجه قولاً حازماً من الإمام هو: (لست مستعداً لسماع هذا الخبر)[15].
شديد الورع عن انتقاد الآخرين كان الإمام شديد الورع عن إنتقاد الآخرين إلاّ في الموارد التي تقتضيها الضرورة، وفي هذه الموارد لا يهاب شيئاً يمنعه عن بيان الحقائق. إذا سأله أحدُ عن علم وفضل والحالات المعنوية لأحد الأِشخاص أجاب بذكره باحترام وتجليل إذا كان من أهل الفضائل أما إذا كان فاقداً لأي فضيلة اكتفى الإمام بالقول: (ماذا يمكنني أن أقول؟)[16].
ينهي عن الغيبة بالكناية كان الإمام يتحلى بحالة عميقة من سعة الصدر، فلم نشاهده يغضب على أحد أو يظهر الأذى رغم أننا كنا نلازمه من الصباح إلى المساء وعلى مدى سنين طويلة، ولكن مع ذلك لم يكن أحدٌ يتجرأ على أن يغتاب شخصاً ولو بالكناية أو يتعرض له بقولٍ سيء في حضور الإمام[17].
لا يتجرأ أحدٌ على الغيبة في محضره كان الإمام يلتزم الصمت الكامل في اللقاءات المسائية التي كانت تعقد بأمره، فلا يتكلم إلاّ إذا اقتضت الضرورة أن يبين قضية معينة. وقد جاءني أحد علماء النجف يوماً وقال لي بتعجب: ما أشد التزام هذا السيد الجليل بالصمت، أجل كان يلتزم الصمت ما لم يوجه أحدٌ الحاضرين سؤالاً له.
ولم يكن أحد يتجرأ على الغيبة في حضوره، أو على التحدث عن أشخاص غائبين بشيء. كان الإمام يجلس في هذه اللقاءات مدة نصف ساعة يتوجه بعدها لزيارة الحرم العلوي المطهر[18].
لا يتكلمُ إلاّ لضرورة كان الإمام قليل الكلام جداً، لا يتكلم إلاّ لضرورة، وإنني لم أسمع منه ولا كذبة واحدة أو كلمة غيبة أو بهتان طوال مدة معاشرتي له التي بدأت في قم سنة 1328هـ.ش(1949م)، حيث كنت أحضر دورسه في الققه والأصول وعلى مدى قرابة سبع سنين[19].
لا أرضى أن يغتابوا أحداً أو يتحدثوا ضد أحد لم يسأل بعض السادة مراجع التقليد عن أحوال الإمام في أيام محاصرة البعثيين لمنزله رغم أنه كان من المتوقع أن يبادروا لتفقد أحواله أو الاتصال به ولو هاتفياً على الأقل: وقد أثر هذا الموقف سلبياً وبقوة على الأخوة ومؤيدي الإمام، الأمر الذي أوجد احتمالات أن يتعرضوا لأولئك المراجع ببعض الكلمات غير المناسبة المنبعثة من آذاهم الشديد، وتجنباً لذلك قال الإمام بشأن هؤلاء الأخوة من أصحابه: (قد يصيب الانفعال والأذى الأخوة، فقولوا لهم عني أنني لا أرضى بأن يغتابوا أحداً أو يتحدثوا ضد أحدٍ في (براني) بيتي)[20].
لم أسمع منه كلاماً فيه شبهة الغيبة! كنت مع استاذي الجليل القائد المعظم للثورة مدة ثلاثين سنة، وأقسم بروحه العزيزة أنني لم أسمع طوالها أي كلام منه فيه شبهة أن يكون غيبة فضلاً عن الغيبة نفسها، ولن أنسى أنه جاء يوماً إلى مسجد السلماسي في وقت إلقائه درسه اليومي، لكنه كان يلتقط أنفاسه بصعوبة، قال: (والله لم تداخلني الخشية أبداً مثلما داخلتني اليوم)!! ثم أضاف: (لم أئت اليوم لإلقاءه الدرس، بل جئت من أجل أن أتكلم ببضع كلمات)!!
كنت إلى ذلك اليوم قد شاركت في درسه حدود (10ـ15) سنة لم أسمع منه أبداً كلمةّ تعنيفٍ واحدة يخاطب بها تلاميذه، أما في ذلك اليوم فقد قال: (إن لم يكن لديك علمٌ ولا عقل ولا دين فلا تفقد على الأقل إنسانيتك)!! ثم عاد إلى منزله وعاودته حمى مالطة ورقد في فراش المرض ثلاثة أيام!
أما سبب كل ما أصابه من أذى يومذاك فهو أن كان قد سمع أن أحد طلبته قد اغتاب أحد المراجع!! لقد أصابه كل هذا الأذى حتى أصبح يلتقط أنفاسه بصعوبة رغم أنه لم يقع هو في الغيبة بل ارتكبها أحد طلبته!![21]
لماذا لا نراقب ما تتفوه به ألسنتنا؟! كان الإمام يلقي درسه في علم الأصول في مسجد السلماسي عصر كل يوم، وفي أحد الأيام أخبروه أن أحد المتخصصين قد وجه إهانة للملا صدرا في مجلس الدرس، فغضب الإمام وقال ـ في مقام الوعظ والنهي عن التجرأ على زعماء الدين ـ : (الملا صدرا وما أدراك ما الملا صدرا، لقد حلّ المعضلات الفلسفية التي عجز أبو علي ابن سينا عن حلها، فلماذا لانراقب ما تتفوه به ألسنتنا)[22].
لا بأس بالمصارعة لطلبة الحوزة ولكن ليتورعوا عن الغيبة!! كان الإمام يوصينا ـ نحن طلبة الحوزة ـ قائلاً: (إذا أفرط الشباب منذ البداية في العمل بالمستحبات أضرّ ذلك يقيامهم بالفرائض، وقد أعرض الذين كانوا يفرطون في التقديس في البداية عن الاستمرار في المسلك الحوزوي، إن الإفراط في ذلك بالنسبة لأبناء الخمسة عشر أو الستة عشر عاماً يسبب لهم التعب والملل، من الضروري لهم أن يروحوا عن أنفسهم بالأمور المباحة شرعاً والمهم هو أن لا يرتبكوا المعاصي).
كان المرحوم آية الله الشهيد السعيدي حاضراً في المجلس فقال ـ رحمه الله ـ وهو جالس في آخر المجلس: هل يمكن لطلبة الحوزة أن يمارسوا المصارعة ياسيدي؟ أجاب: (نعم، يمكنهم أن يمارسوا المصارعة أيضاً ولكن يجب أن يتورعوا عن الغيبة)[23]!
ترك المجلس لاحتمال أن ترتكب فيه غيبة! جاء يوماً سيدٌ حسن الخلق إلى براني بيت الإمام وجلس انتظاراً للقائه إذ كان من برنامجه اليومي الجلوس في براني منزله مدة نصف ساعة قبل أن يتوجه إلى الحرم الشريف بزيارة أمير المؤمنين عليه السلام؛ بامكان أي شخص أن يلتقيه في هذا المدة ويحدثه بما شاء. وفي ذلك اليوم بدأ السيد المشار إليه بنقل حادثة للإمام وأثناء حديثه قال كلمة يشم منها نية التعريض بأحد الأشخاص، وأثر ذلك مباشرة أشار الإمام بعينه لي بإشارة عرفت منها ما يريد، فهيأت حذاءه لكي يترك المجلس ويتوجه للحرم العلوي، وقد قال لذلك السيد: ( لا أرضى بالتعرض لأحدٍ بكلمة في هذا المكان).
سيطر الأذى على السيد المذكورـ الذي لم يكن قد تحدث بعد ضد أحد ـ كما سيطر الأذى على باقي الطلبة الحاضرين في المجلس بسبب مغادرة الإمام قبل إنتهاء المدة المعتادة لجلوسه، فقد خرج قبل الساعة التاسعة بعشرين دقيقة، وكان المعتاد أن يخرج كل ليلة في الساعة التاسعة إلى الحرم، وقد تعجب الكسبة الذين يمر الإمام على دكاكينهم في طريقه إلى الحرم من مروره عليهم قبل عشرين دقيقة من الوقت الي إعتادوا رؤيته فيه وهو يتوجه إلى الحرم. لقد ترك المجلس بمجرد أنه شعر أن من المحتمل أن ترتكب فيه غيبة لأحد[24]!
كان يوصينا دائماً باجتناب التحدث عن الآخرين كان الإمام يوصينا دائماً أيام إقامته في النجف بأن: (لا تتحدثوا عن الآخرين)، وكان يقول: (والله إني لست راضياً أن يجلس أحدٌ على بساط براني منزلي أو بساط منزلي ويغتاب أحداً أو يهينه بأبسط أشكال الغيبة أو الإهانة).
ولذلك كنا نحرص على اجتناب ذلك، وحتى لو جاء أحد الوجهاء إلى براني الإمام وأراد أن يتعرض لأحد بكلمةٍ فقد كنا نقطع كلامه فوراً قائلين: إن سماحة السيد لا يرضى بأن يتحدث أحد في براني منزله بمثل هذه الأحاديث)[25].
لم يأذن لي بأن أذكر الاسم بعد عامين من وصول الإمام إلى النجف، جاء أحد مقلديه من اصفهان وهو يحمل معه مقداراً من الخمس لكنه لم يقدمه للإمام ـ لبعض الأسباب ـ بل ذهب إلى أحد السادة العلماء المعروفين في النجف، فأخذ هذا العالم إضافةً إلى سهم الإمام عليه السلام سهم السادة أيضاً من الخمس الذي جاء به هذا المؤمن وقال: أريد أن أصرفه لبناء مدرسة دينية.
وكان هذا المؤمن يعرفني فأخبرني ما جرى له مع ذلك العالم، ولذلك ذهبت للإمام لكي أحصل منه على الأذن الشرعي لمقلده هذا، وقلت للإمام: (لو أذنت لي أخبرتكم باسم هذا السيد الذي أخذ الأموال من هذا المؤمن). لكنه لم يأذن لي بذكر اسمه!!
لقد كان شديد المراقبة والى درجة لكي لا يذكر اسم أحدٌ في مجلسه بغيبةٍ سواء في مجالسه العامة أو الخاصة، ولذلك قال مراراً: (لست راضياً بأن يغتاب أحدٌ في براني بيتي)[26].
لم يغتب ولم يكذب لقد عشت مع هذا الرجل ستين عاماً دون أن أراه يغتاب أحداً أو يكذب ولا مرةً واحدة[27].
هذه غيبة قالت زوجة الإمام المحترمة: عشت مع الإمام (62)عاماً دون أن أسمع منه ولا كلمةً غيبة واحدة.
وهذه الحالة هي أشبه بالمعجزة حقاً. لقد نقلت هذه السيدة الحادثة التالية: كانت لنا خادمة لا تعمل جيداً ولذلك استبدلناها بأفضل منها، وبعد عدة أيام قلت للإمام: هذه الخادمة جيدة في عملها، فقال: (إن كنت تريدين بهذه الكلمة أن تقولي لي أن الخادمة السابقة لم تكن جيدة فهذه غيبة لست مستعداً لسماعها)[28].
لا تغتابي روت السيدة (زوجة الإمام) قائلة: جلس الإمام ليلةً بعد الصلاة فجاءت لنا السيدة فاطمة الخادمة بالشاي، وكانت الخادمة الأخرى مشغولة بجمع بعض الأشياء في زاوية من الغرفة، فقلت للإمام: إن السيدة فاطمة خادمة جيدة للغاية فقال: (لا تغتابي)! قلت: إنني لم أغتبها بل قلت إنها جيدة؟! قال: (إن قولك: إن هذه جيدة، الذي تسمعه تلك (الخادمة الأخرى ) يوحي بأنك تريدين أن تقولي أن الأخرى غير جيدة، وهذه غيبة)[29]!!
يغضب لأبسط معصية لم يكن الإمام يسعى كثيراً لتوجيه النصائح لنا منذ أن كنا أطفالاً، أي أننا كنا نفهم من خلال عمله العمل الحسن ونميزه عن العمل القبيح، بمعنى أنه كان يعلمنا بعلمه. وفي الوقت نفسه كان جاداً للغاية وحساساً تجاه المعاصي، فكان يغضب لإرتكاب أبسط معصية مثل غضبته ضد النظام البهلوي وقد سمعتم ـ معظمكم ـ كيف كانت!!
كنا يوماً جالسين في الغرفة عندنا إحدى أرحامنا فقالت لي بصوت منخفضٍ: إن فلاناً لم يحترمني عندما دخلت.. فرأيت ملامح الأذى الشديد تظهر فجأة على الإمام وقد التفت لهذه السيدة وقال: (ألا تعلمين أن الله موجودٌ هنا أيضاً؟! لقد صارت الأجواء هنا محرمة فالجلوس هنا حرام)!
لقد تغيّر حال الإمام إلى درجة قلقت بسببها عليه. قالت تلك السيدة: إنني لم أقل أكثر من أنهم لم يحترموني. فقال الإمام (أنتم لا تعلمون، أجل لا تعلمون وتنسون لكن الله لا ينسى، هذه غيبة، هذه غيبة)!
أجل، الإمام يتأذى ويغضب بشدة لفعل الحرام مثلما هو جادٌ للغاية في القيام بالواجبات متشددٌ بشأنها، لكنه لا يتشدد كثيراً تجاه المستحبات، فلا يسأل مثلاً: لماذا قمتم بها، أو لماذا لا تقومون بها، وبالتالي فهو لم يكن من أهل توجيه النصائح للآخرين إلاّ في بعض الموارد، وبالخصوص فيما يرتبط بالغيبة، وكنت حاضرةٌ بنفسي عندما جمع أهل بيته كافة وقال لهم: (أرغب في أن أقول لكم شيئاً)، كأنه كان ينتظر من أجل هذا القول فرصةٌ نجتمع فيها جميعاً. قال لنا: (أريد أن أقول لكم: تعرفون شدة حرمة الغيبة؟) قلنا: نعم، قال: (هل تعلمون كم هو عظيم أثمُ قتل النفس المحترمة عمداً؟)، قلنا: نعم، قال: (إثم الغيبة أعظم)! ثم قال: ( هل تعلمون عظم ذنب الزنا وما ينافي العفة؟)، قلنا: نعم، قال: (ذنب الغيبة أعظم)!
ثم أخذ يعدد الذنوب بهذه الصورة ثم قال: (الغيبة مثل لوك لحم الأخ الميت، فاجتهدوا في الورع عن الغيبة). ثم تابع موعظته في تبيان فظاعة الغيبة وشدة إثمها. وبصورة عامة كان يؤكد كثيراً على لزوم اجتناب الغيبة[30].
ينهي عن غيبة السجين! نتحدث أحياناً بأمور دون أن ندرك أنها من مصاديق الغيبة المحرمة، فمثلاً ارتكب أحد الأشخاص الذين كانوا يعملون في بيت الإمام جرماً أعتقل بسببه وألقي في السجن، وقد سمعت بخبره، وهممت يوماً أن أخبر أختي بذلك بعد أن سألتني عنه، فقطع الإمام كلامي قائلاً: (هذه غيبة)، قلت: ولكن عمله كان علنياً وهو الآن في السجن، فقال: (كلا، لقد ارتكب عملاً، وكان واجبهم أن يسجنوه، ولكن لا ينبغي لكم أن تفضحوه في مكان آخر)!
كان الإمام يعتبر بعض الأمور من مصاديق الغيبة في حين أننا لا نراها غيبة أصلاً![31]
كان يتأذى كثيراً لا أتذكر أن أحداً قد تجرأ على الغيبة ـ ولو مزاحاً ـ في المنزل بحضور الإمام، لأنه كان يتأذى كثيراً من ذلك[32].
يمنع عياله عن المعاصي منذ عهد الطفولة لم يكن يسمع لنا في المنزل بارتكاب أي معصية ومنها: الغيبة، الكذب، إهانة الأكبر، وإهانة المسلمين[33].
ويوصيهم بمراقبة أفعالهم كان الإمام يوصينا دائماً بأن نراقب سلوكنا لكي لا نقع في المعاصي خاصةً في الغيبة، وكان يؤكد على النساء أن يتحدثن ـ إذا اجتمعن ـ عن شؤونهن لا عن شؤون الآخرين[34].
إجتنبوا الكبائر كان الإمام يوصينا كثيراً باجتناب كبائر الذنوب والورع عن الغيبة بالخصوص، وكان يقول لنا بهذا الشأن: (إجتنبوا كبائر الذنوب لكي يغفر الله لكم صغائرها)[35].
يوصي باجتناب ما يؤدي إلى الغيبة لم ألاحظ السيد (الإمام) أبداً يتوقع مني القيام بعمل ما، وما كان يطلبه منا هو الورع عن المعاصي لا غير. كنا نجلسن أحياناً نتحدث عن أحد الضيوف أو إحدى القضايا فكان يقول لنا: (لا تتحدثوا عن شؤون الآخرين). فنقول: نحن لا نتحدث ضد أحد ياسيدي، بل ننقل قضية معينه، فيجيبنا: (عندما يجري الحديث عن شؤون الآخرين قد ينمي من حيث لا يشعر المتحدثون إلى الوقوع في الغيبة! أليس لديكم أحاديث عن شؤونكم أنتم؟ تحدثوا فيما يرتبط بشؤونكم، لماذا تتحدثوا عن الآخرين؟!)[36].
لا تغتابوا كنا يوماً عند الإمام فهممنا أن نسأله سؤالاً يرتبط بالسيد الشريعتمداري، لكنه لم يسمح لنا بالحديث وقال: ( لا تغتابوا)[37]!!
حسن العشرة للغاية إذا لم تقع غيبة كان الإمام حسن العشرة للغاية، فكان خير مجلس للمقربين منه هو المجلس الذي يحضره، كان بإمكان الإنسان أن يتحدث في حضوره دون تكلف، كنا ننقل في محضره حتى النكت الطريفة ولكن شريطة أن لا تشتمل على الغيبة والتعريض بأحد، أما إذا صدرت أثناء الكلام غيبة لأحد أو استهزاء به فقد كان يغضب بشدة[38].
يشدد الوصية بالورع عن الغيبة والسخرية بالآخرين أوصى الإمام قبل يومٍ من نقله إلى المستشفى مجدداً بالورع عن الغيبة، ولم يقل: لا تغتابوا، فهذا ما يجب أن نجتنبه بل قال: (اجتهدوا في اجتناب المجالس التي ترتكب فيها الغيبة).
كان يؤكد كثيراً على الورع عن الغيبة والسخرية بالآخرين[39].
يجتنب الغيبة ويلتزم بنافلة الليل سمعت من صديقٍ قديم: كان الإمام يتميز عن أصدقائه بخصلتين: الأولى أنه لم يكن يحضر مجالس تقع فيها الغيبة بل وكان ينهي عنها بشدة، أما الخصلة الثانية فهي إلتزامه الثابت بإقامة نافلة الليل[40].
_______________________
[1] آية الله السيد عباس خاتم اليزدي، مجلةباسدار اسلام، العدد:18.
[2] آية الله السيد الخوانساري، مجلةحوزة، العدد:32.
[3] آية الله السيد محمد صادق اللواساني، كتابخطوات في أثر الشمس، ج4، ص130.
[4] آية الله السيد الشبيري الزنجاني، مجلةنور علم، الدورة: 3، العدد:7.
[5] حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني، مجلةبيام انقلاب، العدد:60.
[6] آية الله السيد عز الدين الزنجاني.
[7] آية الله الشهيد المحلاتي، مجلة15خرداد، العدد:10.
[8] حجة الإسلام والمسلمين الرسولي المحلاتي، مجلةحوزه، العدد المزدوج:37ـ 38.
[9] آية الله محمد الفاضل اللنكراني، مجلةحضور، العدد الأول.
[10] الدكتور محمود البروجردي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج3.
[11] آية الله الشهيد المحلاتي، مجلة15خرداد، العدد: 10.
[12] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.
[13] حجة الإسلام والمسلمين مسيح البروجردي.
[14] حجة الإسلام والمسلمين الناصري، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج4.
[15] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، صحيفة جمهوري إسلامي 13/3/1369هـش.
[16] حجة الإسلام والمسلمين السيد جلال الدين الآشتياني، مجلةكيهان أنديشه، العدد:24.
[17] حجة الإسلام والمسلمين المسعودي الخميني، من خطاب له في جبهات القتال إبان الحرب المفروضة.
[18] حجة الإسلام والمسلمين عبد العلي القرهي، مجلةإطلاعات هفتكي، العدد: 2442.
[19] حجة الإسلام والمسلمين السيد علي الغيوري، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج6.
[20] آية الله السيد عباس خاتم اليزدي، المصدر السابق، ج2.
[21] آية الله السيد المظاهري، المصدر السابق، ج5.
[22] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، المصدر نفسه، ج2.
[23] آية الله الشهيد المحلاتي، مجلةأميد انقلاب، العدد:642.
[24] حجة الإسلام والمسلمين الفرقاني.
[25] حجة الإسلام والمسلمين الفرقاني.
[26] آية الله عباس خاتم اليزدي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.
[27] السيدة خديجة الثقفيزوجة الإمام، كتابأزهار من بساتين الذكريات.
[28] آية الله الفاضل اللنكراني.
[29] السيد علي الثقفي، مجلةبيك إرشادالشهرية، عدد الشهر الرابع سنة 1368هـ.ش.
[30] السيدة زهراء المصطفوي، صحيفة اطلاعات17/3/1367هـ.ش.
[31] السيدة زهراء المصطفوي.
[32] السيدة فريدة المصطفوي، صحيفة اطلاعات11/12/1360هـ.ش.
[33] السيدة فريدة المصطفوي، صحيفة اطلاعات11/12/1360هـ.ش.
[34] السيدة عاطفة الاشراقيحفيدة الإمام، مجلةزن روز، العدد: 1268.
[35] السيدة زهراء الاشراقيحفيدة الإمام، مجلةسروش، العدد:476.
[36] السيدة فرشته الأعرابيحفيدة الإمام، كتابأزهار من بساتين الذكريات، ص134.
[37] حجة الإسلام والمسلمين مسيح البروجرديحفيد الإمام.
[38] السيدة فاطمة الطباطبائيزوجة السيد أحمد الخميني.
[39] السيدة فاطمة الطباطبائيزوجة السيد أحمد الخميني، ملحق صحيفة اطلاعات14/3/1369هـ.ش.
[40] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، مجلةباسدار إسلام، العدد:13.
|