متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
الفصل الحادي عشر: عزته الإيمانية وعلو همته
الكتاب : قبسات من سيرة الإمام الخميني الحالات العبادية والمعنوية    |    القسم : مكتبة التاريخ و السيرة

عزته الإيمانية وعلو همته


لا يكلف نفسهُ منةٌ لأحدٍ عليه
لم يلاحظ أبداً أن يطلب الإمام شيئاً من أحد أو يكلف نفسه منةٌ لأحد عليه، لم أرهُ أنا ـ طوال مدة معرفتي به ـ يلتمس شيئاً من أحد، فمثلاً لم يكن يطلب من البائع أن يقلل ثمن البضاعة إذا رأى الثمن مرتفعاً، بل كان يعرض عن شرائها[1].

حذارِ من أن تسيؤا إلى كرامة الحوزة
أصاب القلق عدداً من طلبة الحوزة تجاه مستقبلها بعد وفاة آية الله البروجردي، فبعضهم كانوا قلقين تجاه أصل وجود الحوزة وبعضهم الآخر ـ من ذوي الأفق الضيق ـ كانوا قلقين من الأوضاع المادية للحوزة، ومع حلول موسم شهر محرم الذي يسافر طلبة الحوزة إلى أرجاء البلاد للتبليغ، كان بعض السادة يوصونهم بأن يذكروا الناس بحاجة الحوزة للأموال، أما الإمام فقد قال في خطابه لؤلاء المبلغين: (حذار من أن تسيؤا إلى كرامة الحوزة في جولاتكم التبليغية هذه وتمدوا يد الإستجداء للناس للحصول على الأموال لها، إن الله تعالى هو ضامن رزقكم وهو عز وجل يحفظ الحوزة)[2].

ينبغي أن تكون هممكم عالية
أوقفت الدراسة في الحوزة مدة أربعين يوماً إثر وفاة آية الله البروجردي. وفي اليوم الأول لاستئناف السادة لدروسهم وجد الإمام نصيحة لطلبة الحوزة في درسه في المسجد الأعظم في وقت كانوا يتسائلون: ماذا سينزل بطلبة الحوزة بعد وفاة السيد البروجردي، في ظل تلك الحالة خاطبهم الإمام بالقول: (لا ينبغي أن يصيبكم الهم تجاه رزقكم في أي وقت.. ينبغي أن تكون هممكم عالية إلى درجة لا يكون للدنيا قيمة في نظركم ولا بمقدار قيمة القشة)[3].

لا أحب أن تضعفوا مكانتكم المحترمة
أتذكر أننا رأينا الإمام يوماً ونحن في طريقنا إلى الحرم وكان يسير في الاتجاه نفسه، فسرنا خلفه حباً لمرافقته، لكنه عندما شعر بذلك توقف وقال: ( هل يريد السادة شيئاً؟)، قلنا: لا، أحببنا أن نرافقكم لا غير فنحن نأنس بذلك. فقال (شكر الله سعيكم، أشكركم على ذلك، أنتم سادة، أنتم طلبة الحوزة، أنتم لكم مكانة محترمة، وأنا لا أحب أن تضعفوا هذه المكانة بالسير خلفي، تفضلوا بمتابعة طريقكم لكي أتابع أنا أيضاً طريقي)[4].

حبّه لأن يتحلى الحوزويون بعزة النفس تجاه مظاهر الدنيا
كان الإمام يحب أن يتحلى طلبة الحوزة بعفة النفس وعزتها، ولذلك كان لا يتعامل بارتياح مع بعضهم من الذين يظهرون الفاقة والفقر، ولكن ذلك لا يعني أنه كان يمتنع عن تقديم المساعدات لهم، فقد توسطت بنفسي مراراً لديه وكتبت له رسائل بشأن احتياجات عدد من الطلبة فكان يستجيب بكل رحابة صدر ويقدم العون، لكنه كان لا يحب أن يأتي أحدهم بنفسه ويظهر الحاجة، فقد حدث أن بعض الطلبة ممن لا يعرفون أخلاق الإمام كانوا يأتون إليه ويظهرون الحاجة فكان يردهم بطريقة يفهمهم أن عملهم هذا غير صحيح خاصة إن كان بحضور أشخاص آخرين.

كان الإمام يحب أن يتحلى جميع طلبة الحوزة بعزة النفس تجاه مظاهر الدنيا وان يتحلوا بحالة التوكل على الله ويحافظا عليها[5].

سعيه لإبعاد روح التملق والرياء عن طلبة الحوزة
كان بعض طلبة الحوزة يجلبون الحقوق الشرعية للإمام، فكان الإمام يتعامل معهم بطريقة مربية تنفي عن نفوسهم الطمع وتحفظ فيهم حالة عزة النفس فلا يتخضعون لأحدٍ من أجل المال، وقد اقترح عليّ بعض الإخوة أن أطلب من الإمام تقليل تشدده في هذا المجال لكنني رفضت لأنني كنت على يقين من أن كل ما يريده الإمام هو إبعاد روح التملق والرياء عن الطلبة وتطهيرهم منها أن كان فيهم شيءٌ منها[6].

نهيه عن التعرض للذلة والمسكنة
كان بعض طلبة الحوزة والعلماء الإيرانيين يأتون لزيارة العتبات المقدسة بصورة غير قانونية عن طريق منطقة آبادان وبدون أخذ تأشيرة دخول من الحكومة العراقية، ولذلك كانت السلطات العراقية تعتقل بعضهم عند الحدود وتلقيهم في السجن وقد تعرضهم للإهانات، ثم يتدخل السادة العلماء لإنقاذهم وتمكينهم من زيارة كربلاء والنجف، وقد كنت ذات ليلة عند الإمام في النجف فسمعته يعرب عن قلقه تجاه هذه الظاهرة وقال: ( لا ينبغي أبداً أن تقترن زيارة الإمام الحسين عليه السلام بمثل هذه الحالة من التعرض للذلةِ والمسكنة)[7].

إجتنابه إظهار الأذى
زار المرحوم السيد فضل الله الخوانساري ـ وهو صهر آية الله السيد أحمد الخوانساري ـ الإمام في تركيا لتفقد أحواله وكان ممثلاً لعلماء طهران وآية الله السيد الخوانساري، وخلال هذا اللقاء اقترح على الإمام أن يأتي أحد أرحامه إلى تركيا لكي يدبر أمور معيشته في هذا المنفى فأجاب الإمام: ( لاحاجة بي لأحد، إن السيد (علي بي) يقوم باستضافتي بأفضل صورة)!

وكان (علي بي) يشغل منصب رئيس شعبة منظمة الأمن الملكي (السافاك) الإيرانية في مدينة (بورسا) التركية! وكان هدف الإمام من قوله هذا هو جعل المسؤولين الإيرانيين يتصورون بأنه مرتاحٌ في تركيا فيفكرون لذلك بتغيير هذا المنفى! فقد كانت مكالماته تسجل من قبل عناصر منظمة (السافاك).

وقد قال الشهيد السيد مصطفى الخميني فيما بعد أنه : عندما وصلت إلى تركيا وجدتُ الإمام يعاني حالة شديدة من سوء التغذية ولعله كان سيصاب بمرضٍ شديد لو كنت قد تأخرتُ في الوصول إليه! كان يتناول شيئاً من أي طعام يقدم دون أن يظهر أدنى إنزعاج، ولم يطلب منهم ولا مرة واحدة الطعام الذي يحتاجه بدنه[8].

السجن والنفي لم يؤثرا على معنوياته
كان المرحوم آية الله السيد مصطفى يقول: بعد شهرين من حبس الإمام في منفاه التركي ذهبت إليه، وعندما دخلت غرفته وجدت ستائرها مسدلة لم يحركها طوال هذه المدة! أي انه بقي في هذه الغرفة شهرين دون أن يلقي نظرة على خارج هذه الغرفة!!

سألته عن سبب عدم إزاحته لهذه الستائر فأجاب: (ولماذا أفعل ذلك؟)!!

لم تكن مثل هذه القضايا مهمة عنده أصلاً، طلبت منه أن أزيح الستائر، فأستجاب تلبية لرغبتي فرأى بعد شهرين المنظر الخارجي المحيط بغرفته وكان منظراً لحدائق مترامية الأطراف!!

أن هذه الحادثة تكشف عنه أن السجن والنفي لم يكونا ليؤثرا على معنويات الإمام[9].

امتناعه عن أن يطلب شيئاً منهم
كان المرحوم الحاج السيد مصطفى ينقل الحادثة التالية: بعد أن نفوني إلى تركيا والتقيت الإمام بعد ثلاثة أو أربعة شهور من الفراق وجدته في غرفة ستائرها مسدلة لم يكشف منها إلاّ مقدار قليل يدخل منه ضوءٌ قليلٌ إلى الغرفة، فسألت الإمام: لماذا لا يزيحون هذه الستائر؟ ثم أزحتها وسألته : لماذا تجلسون في الظلام؟ أجاب: ( لم أرغب في طلب أي شيءٍ منهم حتى بشأن هذه الستائر)[10].

أنا صاحب المنة عليك
جاء أحد الأشخاص للإمام أيام إقامته في النجف وقدم له مبلغاً كبيراً كان بذمته من الحقوق الشرعية، وقد تحدث أثناء ذلك بكلام شعر الإمام منه أنه يمنُّ عليه بتقديم هذه الحقوق الشرعية له فواجه ذلك بحدةٍ وقال: (إن لي أنا المنة عليك لأنني رفعت عن عاتقك مسؤولية هذه الأموال الشرعية وجلعتها في ذمتي)[11]!

خُذ المال وإذهب!
جاء أحد التجار الإيرانيين بمبلغ ضخم من الحقوق الشرعية وقدمها للإمام في النجف، وتحدث بكلمات يفهم منها أن قد قطع طمعه بهذا المبلغ الضخم وقدمه للإمام لذلك فهو يرجو منها أن يخفف عنه شيئاً ويهبه مثلاً الخمس المتعلق بسيارته، وعندها وضع الإمام المبلغ كله أمامه وقال: ( خذه وإذهب! هل تتوهمون أنكم تتفضلون علينا بتقديم هذه الحقوق لنا، فتمنون علنيا بذلك؟! كلا، بل نحن نمنّ عليكم، لأننا بقبولنا لما تدفعونه من هذه الأموال تبرءُ ذمتكم أنتم، فيما يكون أول بدء مسؤوليتنا وإنشغال ذمتنا بها)[12]!

إجتنابه القيام للذين يقدمون له الحقوق الشرعية
كان بعض التجار البارزين يأتون من إيران إلى النجف ويقدمون للإمام مبالغ كبيرة من الحقوق الشرعية يأتون بها من إيران، وكانت تبلغ هذه الأموال أحياناً مليون تومان وهو مبلغ كان يعد كبيراً في تلك الأيام، ورغم ذلك كان الإمام يعاملهم بطريقة عادية للغاية ويكتفي بأن يقول لهم: (أسأل الله أن يتقبلها منكم)، وكان يجتنب القيام لهم عند دخولهم في حين كان يقوم لأحد الطلبة العاديين في الحوزة في المجلس نفسه!!

كان هذا التعامل يثير تعجب الجميع ولكن الإمام كان يعتقد بأن التاجر إنما يقوم بواجبه بتقديم هذه الأموال[13].

لا نشعر بالحفاوة الأولى
سمعت بنفسي مراراً من الكثير من الأشخاص قبل انتصار الثورة وبعده شكايات مضمونها : لماذا نواجه مثل هذا التعامل في مكتب الإمام أو القسم (البراني)من بيته كلما جئنا لتقديم الحقوق الشرعية لسماحته، في حين أننا نلقي المزيد من الحفاوة في بيت أي من السادة مراجع التقليد عندما ندخلها لتقديم الحقوق الشرعية ؟! إننا كلما دخلنا بيت الإمام استقبلونا بحفاوة بالغة واحترام مشهود ولكننا نلاحظ بروداً واضحاً في التعامل من قبل الإمام عندما نقدم لسماحته الحقوق الشرعية فلا نشعر بعد ذلك وعند خروجنا من عنده بالحفاوة التي استقبلنا به في تعامله الأولى قبل أن نطرح قضية الحقوق الشرعية[14]!!

لا منة لكم عليّ
كان بعض السادة يبدون المزيد من التواضع غير المألوف في تعاملهم مع المتملقين والذين يقدمون لهم الحقوق الشرعية، أما الإمام فقد كان يتعامل على العكس من ذلك وبطريقة تبين أن تقديم الحقوق الشرعية لا يشكل ـ بحدّ ذاته ـ سبباً للمزيد من الإحترام للذي يقدمها، إذ أن عقيدة الإمام بشأن عمل الذين يقدمون هذه الحقوق هي: (إنكم إنما تقومون بواجبكم بتقديمها، فلا تتوهموا أن لكم منةُ عليّ بتقديمها، إنكم بعملكم هذا تبرأون ذمتكم وترتاحون! في حين أن عملكم هذا يوقعني أنا في مشقةٍ إذ أن عليّ أن أصرف هذه الأموال في مواردها، أي إنكم بعملكم هذا سببتم لي مشقة فلا منّة لكم عليّ به)[15]!!

لم اسع أبداً للحصول على المال
كان يأتي مراراً عددُ من الأشخاص للإمام ويقولون له: إن الذين يأتون إلى الحج هم من مقلديكم في الأغلب، وهم يحبونكم ويودون إيصال ما بذمتهم من حقوق شرعية إلى سماحتكم، فمن الضروري أن ترسلوا إلى مكة في موسم الحج من كل عام ممثلاً عنكم؛ لكي يقبض هذه الحقوق الشرعية، لكنه لم يكن يستجيب لهذه الطلبات، وقد سعى بعضهم إلى إرسال سماحة السيد مصطفى الخميني إلى الحج من أجل ذلك إلاّ أن الإمام لم يوافق.

استمر الحال على ما هو عليه، إلى أن اقترح عليّ السيد مصطفى في إحدى السنين أن أسافر إلى الحج واستلم من الناس هذه الحقوق الشرعية كوكيل للإمام، فوافقت وعندما دخلت على الإمام لتوديعه قال لي كلمة كانت بالنسبة لي موعظة بليغة، لقد قال لي: (إنني لم أسع للحصول على المال أبداً، وطوال حياتي، وأحب أن يكون حال أصحابي أيضاً على هذا النحو).

وكان الإمام قد سمع بكيفية تراكض بعض الأشخاص خلف هذا التاجر أو ذاك إذا سمعوا بوجوده وطلبهم للقياه من أجل استلام الحقوق الشرعية منه، ولذلك قال لي بحزم: (لا ألفينك تدخل منازل قوافل الحجيج، لا تذهب إليها حتى بهدف زيارة أحد، فأنت وكيلُ لي ومن الممكن أن يتوهم بعضهم أنك قد ذهبت لجمع الحقوق الشرعية.اذا جاءك شخص وسألك عن مسألة شرعية فأجبه، وإذ قدم لك شيئاً من الحقوق الشرعية فأقبله منه ولا ترده، ولكنني لا أرضى أبداً أن تحرك يداً أو رجلاً من أجل الحصول على الأموال لي، دع الناس يعطون ما بذمتهم من الحقوق الشرعية على وفق ما يرغبون فيه من أساليبهم، اجلسوا في منزلكم ومن شاء أن يسلمكم شيئاً منها فليأت هو اليكم)[16].

عدم احتفائه بالأثرياء
قبل سنين من تفجر بالثورة، توفي شقيق أحد أثرياء مدينة خمين، وقد أنفق هذا الثري مبالغ كبيرة من أجل دفن أخيه في مكان خاص في حرم السيدة المعصومة (فاطمة بنت الإمام الكاظم عليه السلام )، ثم طلب مني أن يزور الإمام، فعرضت الأمر على الإمام فوافق على لقائه لكونه من أهل خمين، وقد خطر في ذهني آنذاك أن هذا الرجل يحظى باحترام كبيرٍ من أي من السادة يزوره بحكم أن ضخامة ثروته تمكنه من تقديم مساعدات مؤثرة في التمكين من دفع رواتب طلبة الحوزة.

وعندما دخلنا بيت الإمام ثم جاء الإمام، قال هذا الثري أثناء اللقاء مخاطباً الإمام: يبدو أن سماحتكم مصابون بمرضٍ، فأذنوا لي في استدعاء اثنين من الأطباء المتخصصين من الخارج لكي يعالجوكم. فأجاب الإمام: ( لا حاجة لذلك، لقد بعث الأميني (رئيس الحكومة الإيرانية يومذاك) مبعوثاً وعرض عليّ أن يستدعوا طبيباً لعلاجي، فرفضت، إنني أعرف طبيباً في طهران يزورنا أحياناً ويعالجنا، وفي ذلك الكفاية).

ألحّ هذا الرجل الثري في طلبه إلى درجة التوسل والرجاء لكن الإمام بقي مصراًعلى رفضه وتعامل مع هذا الثري بحالةٍ كاملةٍ من عدم الاهتمام!

هذا الموقف يكشف عن نقاء روح الإمام وزهده في الدنيا ومظاهرها، فروحه أسمى بكثير من أن يحتفي برجلٍ غني من أجل أن يتبرع بشيءٍ لرواتب الحوزة وطلبتها[17].

يجتنب التقرب من الأغنياء
كان يوجد بين الحوزويين من يعتبر الارتباط بالعامة من أجل الحصول على المكاسب الدنيوية مظهراً لكماله ونبوغه! أما الإمام فكان يدين هذه المسيرة ويدحضها في دروسه عموماً وفي مواعظه في نهاية دروسه، ولم يكن يسعى أبداً للتقرب من الأثرياء وكانزي ذهب الدنيا، ولذلك فقد أتته المرجعية دون أن يدعي الزعامة[18].

تورعه عن موارد الشبهات
قام أحد أصحاب المصانع الكبرى في طهران ببناءٍ مسجد وطلبت من الإمام ـ قبل نفيه عن إيران ـ أن يبعث أحد المبلغين لإمامة صلاة الجماعة في المسجد وإرشاد الناس، فوافق الإمام ـ دون رغبة ـ على الاستجابة لهذا الطلب، وبعد اختيار احد الحوزويين لهذه المهمة قال له قبل إرساله: (يجب عليكم ـ إلى جانب القيام بمسؤولية التبليغ والإرشاد، أن لا تنسوا أمرين، الأول: أن لا يذكر إسمي في المسجد، والثاني: أن يكون تعاملكم مع مؤسس هذا المسجد بطريقةٍ لا يتوهم معها أننا طامعون بثروته)[19].

اضطررت إلى مرافقة الثري في زيارته للإمام!
كان المرحوم الشيخ نصر الله الخلخالي ينقل الحادثة التالية قائلاً: كان أحد أثرياء إصفهان رجلاً وجيهاً وصالحاً يساعد الحوزات بالتبرعات إضافة إلى تقديمه مبالغ ضخمة كحقوق شرعية، وكان هذا الثري محباً للإمام، وقد زار النجف في الأيام التي كانت الحكومة الطاغوتية في إيران تفرض ضغوطاً شديدة لكي لا يلتقي الزوار الإيرانيين بالإمام، ورغم ذلك فقد طلب هذا الثري الإصفهاني ـ وكان صديقاً قديماً لي ـ أن يزور الإمام لكي يحظى بلقائه ولكي يقدم له مبلغاً من المال كدعم لدفع رواتب طلبة الحوزة، لكنني كنت أعلم أن الإمام يتعامل عادة في مثل هذه الحالات بحالة من عدم الاهتمام بمثل هذا الشخص، الأمر الذي يترك آثاراً مضادة على روحية هذا الصديق، ولذلك فقد اضطررت إلى مرافقته في زيارة الإمام.[20]!!

لن أقدم طلباً للإفراج عن مصطفى ولو كان مصيره القتل
كان الإمام دائماً هدفاً لمختلف أشكال هجمات العدو، لكنه صمد في مواجهتها جميعاً، وقد شاهدنا عن قرب حركته المضادة الرافضة لظلم الظالمين ولكفر حكومة حزب البعث العراقية في عدة حالات، منها ما يتربط بسفر المرحوم آية الله الحكيم إلى بغداد اعتراضاً على سياسة الحكومة البعثية، وقد أخذت وفود مسلمي وشيعة العراق تتدفق أفواجاً لزيارته في حركة احتجاجية ضد الحكم البعثي الذي قام إثر ذلك بمهاجمة منزل آية الله الحكيم وحاصره وأغلق بابه وأخذ باعتقال كل من يأتي إلى منزله، فذهب آية الله الحكيم إلى الكوفة وعطل دروسه احتجاجاً، وعاش هذا المرجع الكبير لشيعة العالم أيامه الأخيرة في حالة من الغربة والمظلومية استمرت إلى وفاته؛ فقد امتنع علماء النجف من التردد عليه وزيارته خوفاً من إثارة غضب النظام البعثي ضدهم، أما الإمام الذي تحلى بالروح والشجاعة النبوية فقد ذهب بنفسه لزيارته كما كان يرسل ولده المرحوم السيد مصطفى لزيارته في منزله يومياً، فاعتقل النظام البعثي السيد مصطفى ونقله إلى بغداد، وعندها سيطرت حالة من الخوف على النجف، وأخذ الجميع يزورون الإمام طالبين منه أن يطلب رسمياً من الحكم البعثي اطلاق سراح مصطفى معربين عن قلقهم من احتمال تعريضه للأذى الماحق في السجن، لكن الإمام قال في جوابهم: (إن الجهاد يشتمل على مثل هذه الصعاب والمرارات، والذي يسلك هذا الدرب لا يطلب شيئاً من عدوه أبداً، ولذلك لن أقدم طلباً للإفراج عن السيد مصطفى حتى لو كان مصيره القتل)!

وقد بقي السيد مصطفى مسجوناً في بغداد قرابة اسبوع دون أن يعرف أحدٌ أي شيء؛ عن مصيره[21].

ينبغي أن يستغفر الله بسبب ذلك!
قام أحد الأخوة ـ وهو من قدماء أصحاب الإمام في النجف ومن الذين كان الإمام يحبهم ـ بطبع مؤلفات آية الله الشهيد المرحوم السيد مصطفى الخميني، وبعث ـ من غير طريق مكتب الإمام ـ رسالة إلى سماحته كان مضمونها هو: لقد قمنا بعون الله بطبع كتاب(...) للأستاذ الشهيد المرحوم آية الله السيد مصطفى الخميني، ونحن نسعى إلى عرض الكتاب في السوق بنصف الثمن المتعارف لمثل هذا الكتاب إذا وافقتم على ذلك وساعدتمونا بمقدار من تكاليف الطبع ونحن أيضاً نتنازل عن حقوق الطبع من أجل ذلك.

عندما قرأ الإمام هذه الرسالة إنزعج كثيراً وخاطبنا قائلاً بلهجةٍ مفعمة بالأذى: (ماذا يقول هذا السيد في رسالته هذه ؟! إنه بهذه الرسالة قد أهان مصطفى وكتابه وينبغي له أن يستغفر الله بسبب ذلك)[22].

لو طلبت شيئاً من البعثيين فسأصبح مديناً لهم
كان الإمام قد اتخذ قراراً بأن لا يطلب شيئاً ممن يعتبره من الظلمة والفساق، وقد اعتقلت مجموعة من المنافقين في العراق أيام إقامة الإمام في النجف، وقد جاء إثر ذلك المدعو (تراب حق شناس)إلى النجف وهو يحمل رسالة من آية الله الطالقاني كتبت بمداد غير مرئي، فأخذته إلى الإمام وعندما دخلنا عليه ظهرت الكتابة في هذه الرسالة، وكان آية الله الطالقاني قد نقل لحق شناس حادثة كانت قد جرت له مع الإمام والسيد الزنجاني لكي يرويها للإمام كعلامة على صدق كونه قد جاء مبعوثاً من قبل آية الله الطالقاني، كما أبلغني تراب حق شناس رسالة شفهية من المرحوم آية الله الطالقاني موجهة لي لكي أطمئن إلى صحة كونه مبعوثاً منه، وكانت هذه الرسالة الشفهية هي أيضاً عبارة عن حادثة جرت بيني وبين آية الله الطالقاني ترتبط بلقائي به في السجن.

وكانت رسالة آية الله الطالقاني تشتمل على طلب من الأمام أن يطلب من المسؤولين العراقيين إطلاق سراح تلك المجموعة من المنافقين. وبعد تسليم الرسالة وإطلاع الإمام عليها أجاب: (ينبغي أن أفكر في الأمر).وعندما ذهبت إليه في اليوم التالي قال لي: (إنني لا أتدخل شخصياً في هذا الأمر، لأنني لو طلبت شيئاً من البعثيين فسأصبح مديناً لهم وسيطلبون مني أشياءً في المقابل)!

قدمت للإمام بعض التوضيحات على أمل أن يغير موقفه لكنه قال: (لو كان السيد الطالقاني والسيد الزنجاني جالسين هنا الآن وهما يطلبان هذا الطلب لما استجبت لذلك، لأنني لا أطلب شيئاً ممن لا أعتقد بنزاهته بل أعتبره من الظلمة والفاسدين، ولكن إذا استطعتم أنتم القيام بعمل ما لإطلاق سراحهم، فلا مانع لدي)[23].

لا يقيم وزناً لهذه الاعتبارات
عندما كنا في خدمة الإمام قبل حوادث (15) خرداد، عزم أحد أصدقائي على السفر إلى كربلاء وقال لي: لدي صديق في كربلاء ومن المقرر أن يرسل دعوة رسميةلزيارتها، فقلت لصديقي: سأرتب لك هذا الأمر، وكان في نيتي أن أطلب من الإمام أن يكتب رسالة إلى الأجهزة المختصة لتسهيل أمر سفر هذا الصديق! لقد كنت جاهلاً لا أعرف الإمام!!

قد طلبت بالفعل ذلك من الإمام يوماً وهو في طريقه إلى منزله، فقال: (أنا لا أفعل مثل هذا)!!

لقد تضاعف حبي وإيماني بالإمام إثر هذا الموقف أضعافاً مضاعفة! فقد كنت أتصور أن ملازمتي لخدمته وحضوري درسه سيجعلانه يستجيب لطلبي ويكتب الرسالة فوراً، لكنني وجدت هذا الرجل الجليل لا يقيم وزناً لهذه الاعتبارات[24].

تحرروا بهمة عالية من الذلة والمهانة
لاحظت ومنذ بداية وصول الإمام إلى طهران قادماً من باريس مظاهر المودة له تتجلى في قسمات وجوه معظم أفراد قوى الأمن، لقد خاطبهم فور وصوله قائلاً: (لقد كان الشاه وبلاطه يسحقون كرامتكم وشخصيتكم ويستصغرونكم في مقابل الأميركان، عليكم أن تتحلوا بهمم عالية تتحررون بها من الذلة والمهانة)، ثم قال: (لا تخشوا أحداً، اطمئنوا أن الشاه لن يعود، لم تبق فيه قوة للعودة وإلحاق الأذى بكم).[25]

لا تخضع لي أنا أيضاً
يروي أحد مقربي الإمام: حدثت يوماً مشكلة بيني وبين إحدى الشخصيات الأمر الذي أقلقني كثيراً فذهبت إلى الإمام وعرضت عليه المشكلة ثم قلت لسماحته: إنني لن أخضع لسلطة أحد سواكم في الدنيا! فقال لي فوراً وعلى نحو البداهة: (لا تخضع لي أنا أيضاً)[26]!!

هيهات من الذلة
من صفات الإمام البارزة إجتنابه الكامل القيام بأي عملٍ تشم منه أبسط أشكال الذلة[27].

قطع الطمع عما في أيدي الناس
أشار الإمام مراراً إلى القضية التالية: (إن اعتمادنا على أنفسنا مع قناعتنا بأكل الخبز والجبنة لا غير، خيرٌ من أن نتمتع بأفضل متنزهات العالم وآخر موديلات السيارات الفاخرة ولكن في ظل الاعتماد على ما في أيدي الآخرين)[28].

يمنع توزيع رسالته العميلة مجاناً
بعيد طبع الرسالة العملية للإمام تم إهداء عدد محدود من نسخها لبعض الأشخاص، وكان هذا أمر مألوفاً في بيوتات جميع المراجع ولكن الإمام منع ذلك فور معرفته به وقال: (إن الرسالة العملية كسائر الإحتياجات الحياتية للناس فهم إما بحاجة إليها وفي هذه الحالة يجب عليهم شراؤها مثلما يشترون احتياجاتهم الأخرى، وإما أنهم في غنّى عنها، وفي هذه فبأي مسوغ شرعي تعطى مجاناً لهم على حساب بيت المال؟!). وحسب إطلاعنا كان الإمام أول مرجع للتقليد يمنع توزيع رسالته العملية مجاناً[29].

 

_____________________________

[1] آية الله جعفر السبحاني.

[2] حجة الإسلام والمسلمين التوسلي، مجلةباسدار اسلام، العدد:13.

[3] حجة الإسلام والمسلمين زين العابدين الباكوئي، من كلمة له في جبهات القتال سنة 1982م.

[4] حجة الإسلام والمسلمين العبائي الخراساني، كتابأزهار من بساتين الذكريات.

[5] حجة الإسلام والمسلمين عباس علي عميد الزنجاني، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج5.

[6] آية الله المحمدي الجيلاني.

[7] حجة الإسلام والمسلمين السيد مجتبى الرودباري، مجلة15خرداد، العدد المزدوج:5ـ6.

[8] حجة الإسلام والمسلمين السيد حميد الروحاني، دراسة تحليلية لنهضة الإمام الخميني، ج2، ص59.

[9] حجة الإسلام والمسلمين شهاب الدين الاشراقي، صحيفة اطلاعات1/8/1359هـ.ش.

[10] آية الله الخلخالي، كتابخطوات في أثر الشمس، ج3، ص62.وقد نقل عن المرحوم السيد مصطفى الخميني انه قال: عندما ذهبت إلى تركيا وجدت الإمام في حالةٍ بدنية صعبة للغاية فقد أصابه هزال شديد جعل من الصعب التعرف عليه للنظرة الأولى، كان من غير الممكن معرفته إلاّ بعد الاقتراب منه والتحدث إليه، وكان سبب ذلك اجتنابه لبعض الأطعمة التي كانت تقدم له لملاحظات صحية أو شرعية، والأهم من ذلك هو أنه لم يكن يرغب أن يكلف أحداً مشقة إعداد طعام خاص له رغم وجود عدة أشخاص مكلفين بخدمته.المؤلف.

[11] حجة الإسلام والمسلمين الأنصاري الكرماني، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.

[12] حجة الإسلام والمسلمين رحيميان.

[13] حجة الإسلام والمسلمين السيد مرتضى الموسوي الأردبيلي الأبركوهي.

[14] حجة الإسلام والمسلمين الأنصاري الكرماني، كتابخصوصيات في حياة الإمام الخميني، ص80.

[15] آية الله عباس خاتم اليزدي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.

[16] المصدر السابق.

[17] حجة الإسلام والمسلمين حيدر علي الجلالي الخميني، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج6.

[18] آية الله الجوادي الآملي، المصدر السابق، ج4.

[19] آية الله حسن الصانعي، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.

[20] آية الله السيد عباس خاتم اليزدي، مجلةباسدار اسلام، العدد:18.

[21] حجة الإسلام والمسلمين السيد علي أكبر المحتشمي، مجلةندا، العدد الأول.

[22] حجة الإسلام والمسلمين رحيميان.

[23] حجة الإسلام والمسلمين السيد محمود الدعائي، مجلةحوزة، العدد:45.

[24] حجة الإسلام والمسلمين القرهي.

[25] حجة الإسلام والمسلمين السيد محمد الموسوي خوئنيها، مجلةمرزداران، العدد:29.

[26] حجة الإسلام والمسلمين الأنصاري الكرماني، كتابحوادث خاصة من حياة الإمام الخميني، ج2.

[27] آية الله جعفر السبحاني، مجلةنور علم، الدورة: 3، العدد:7.

[28] حجة الإسلام والمسلمين السيد أحمد الخميني، مجلةشاهد، العدد:24.

[29] حجة الإسلام والمسلمين مهدي الكروبي.


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net