مقدمة المترجم

يختص هذا الجزء ـ وهو الثالث من هذه المجموعة ـ بعرض طائفة مباركة من الذكريات تلقي بعض الأضواء على جانب من الخصال والحالات المعنوية والعبادية للعارف الخميني ـ رضوان الله عليه ـ ولا ريب انها لا يمكن أن تبين جميع المقامات المعنوية لهذا العارف الرباني الجليل، والولي المخلص، لأن مما لاشك فيه، أنه ـ قدس الله نفسه الزكية ـ كان يتكلم على الكثير من هذه المقامات، فقد عرف بشدة تكتمه بشأن حالاته الخاصة مع مولاه الحق جل جلاله، وما كان يشاهده من تجلياته تبارك وتعالى، وما كان يحظى به من كرامات، كما أنه قد عرف بتشدده " أيام حياته ـ في نهيه الذين شاهدوا شيئاً من كراماته أن يتحدثوا لأحد عنها، ونهيه المشدد لهم عن الكتابة عن حالاته الأخلاقية والعرفانية وما ظهر منها، وحزمه في منع المقربين منه عن مدحه ونشر فضائله.

ولكن على الرغم من هذه المحددات، يمكن لطالبي مقامات القرب الإلهي والكمال الإنساني، التعرف من خلال هذه الطائفة المباركة من الذكريات، على أبرز أركان منهج الامام الراحل ـ وهو في الواقع مستلهم من منهج مدرسة الثقلين: القرآن الكريم وأهل بيت النبوات صلوات الله عليهم أجمعين ـ في السير والسلوك إلى الله، وبهذا المنهج المبارك، وبالالتزام الجدي به ـ وبهمة عالية ـ إلى تلك المقامات السامية في الولاية لله جل جلاله، والقرب منه وطي معارج الكمال.

ولا يخفى أن في التعرف على هذا المنهج السلوكي ثمرة عظيمة لطلاب الهداية إلى طريق لقاء الله، اذ أن اجتهادهم في الإقتداء بهذه الشخصية الربانية، فيما كان يعمل به ويطبقه بجد واجتهاد، من فقرات منهج مدرسة الثقلين في السير والسلوك إلى الله جل جلاله نقول : اجتهادهم في ذلك، هو مفتاح فوزهم ـ "وبمقدار ما تتسع له أوعيتهم الوجودية " ـ مما فاز به العارف الخميني من بركات لا توصف، بفضل اقتدائه بسيرة أهل بيت النبوة ـ صلوات الله عليهم ـ أجل من الضروري الالتفات هنا، أن هذا الاجتهاد في الاقتداء ينبغي أن يكون معتمداً أسلوب التدرج في العمل بما عمل ـ رضوان الله عليه ـ وملاحظة ما تطيقه النفس، وشروط تطويعها برفق لمقتضيات هذا الطريق النيّر.

ويمكن التعرف على أهم أركان هذا المنهج المستقيم في السير والسلوك إلى الله تبارك وتعالى من خلال التدبّر في شدة التصاقه وأنسه ـ رضوان الله عليه ـ بالقرآن الكريم، كنز الهداية الربانية، ومخزن خطابات المولى جل وعلا، ومناجاته لعباده وأوليائه، وفي شدة تبعده ـ رحمه الله ـ وخضوعه وتهجده وتضرعه ومناجاته لله جل وعلا، في الاسحار، ودوام ذكره ومراعاة حرمة حضوره، في كل حركاته وسكناته ,وفي شدة عشقه وحبه ـ قدس الله نفسه الزكية ـ لموالى كل مؤمن ومؤمنة، أهل بيت النبوة ـ صلوات الله عليهم ـ وإحيائه لأمرهم وتعظيمه لشعائرهم وغيرته القدسية على حرماتهم، فهم مصدر كل خير ووسيلة كل طالب للقرب الإلهي.وكذلك في صدقه في المحافظة على الصلاة، وفي أول أوقاتها، وهي المحطات اليومية المباركة والمفتوحة أبوابها كل يوم، لمن يرغب في "لقاء الله " تبارك وتعالى. وكذلك في شدة ورعه وتقواه عن كل ذنب وكل معصية صغيرة كانت أو كبيرة، فهي العقبات الصادّة عن طريق قرب الحق جل وعلا، المبعدة عن حضرته القدسية، وكذلك في شدة اهتمامه بالقيام بالمستحبات واجتناب المكروهات، وفي ذلك يكمن وقود طي منازل القرب، فكل طاعة ـ سواء كانت أداء واجب أو مندوب أو عبادة أو ترك مكروه، هي براق يوصل الإنسان إلى أحد منازل القرب الإلهي.

وكذلك في شدة إخلاصه ـ رضوان الله عليه ـ في ابتغاء رضا الله عز وجل في كل حركاته وسكناته، فهذا الاخلاص هو مفتاح جعل كل الحركات والسكنات وسائل مواصلة إلى الله تعالى، لا إلى السراب الذي يتوهمه الإنسان ماءً.

كما تكشف لنا هذه الذكريات ـ من جهة أخرى، عن بعض خصاله المعنوية التي تحلى بها ـ رضوان الله عليه ـ ببركة العمل بوسائل السير والسلوك المشار إلى بعضها آنفاً، وهي ثمرة تخلقه بأخلاق الله وخلص أوليائه ـ رضوان الله عليهم ـ من سعة الصدر والعفو والصفح والتواضع والتوكل على الله تبارك وتعالى، وعزة النفس وعفتها والصدق بمعناه الشمولي والعدل بأدق معانيه وأوسعها، وحسن الخلق وحب الخير للجميع.

أعاننا الله وإياكم ـ أعزاءنا القراء ـ على الإقتداء بروح الله ووليه الصادق والأخذ بسيرته ففيها الإقتداء والسير على الصراط المستقيم لمحمد وآله ـ صلوات الله عليهم اجمعين ـ ولا حرمنا الله ـ جلت قدرته ـ إتباعهم وبركاتهم، والحشر في زمرتهم وشفاعتهم، وان يكون محيانا محياهم ومماتنا مماتهم، عاملين بسننهم آخذين بحجزتهم محبين لمن أحبوا مبغضين لمن أبغضوا؛ فهم حزب الله وحزب الله هم المفلحون، أنه ـ جل وعلا ـ ولي النعم. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ليلة المباهلة المباركة 24/ ذي الحجة / 1422

للهجرة النبوية الميمونة

عرفان محمود