محور السياسة الإسلامية، الأمة الواعية والإمام العادل الحق
قد تقدّمت الإشارة إلى أنّ الحياة الإنسانية الاجتماعية لا تتحقق بدون النظام والتشكيل، وهو قد يكون بالشورى، وقد يكون بالإمامة، بمعنى أنّ الحاكم الذي يرجع إليه في حلّ المشاكل، وبِيَده أزمة أمور الملكة وتنفيذها، وحفظ ثغورها، وجباية أموالها والذبّ عنها، ودعوة الناس إلى النفر والحرب، والصراع أو السلم، والمعاهدة والمهادنة، وما إلى ذلك، هل هو شخص واحد جامع لجميع الشرائط، أم أشخاص عديدون يتشاورون ويتبادلون وجهات النظر فيؤخذ بالمُجمع عليه أو المشهور بينهم ـ لأنهم إما أن يتفقوا على أمر فهو المُجمع عليه، أو يختلفون فيه بالأكثر والأقل فهو المشهور لديهم ـ ولكل من المسلكين فوائد ومزايا، ولكن الأولى هو الأول مهما أمكن؛ لِمَا جرت عليه سيرة الأنبياء حيث لم تعهد نبوة استشارية، ولا رسالة بالشورى، بل إنّ تعدد الأنبياء في عصرٍ ما إن كان يختص كل واحد منهم بقوم وقطر من الأرض، أو كان بعض منهم تابعاً لآخر نحو تبعية لوط لإبراهيم(ع) {فآمن له لوط} (العنكبوت:26) أو نحو تبعية هارون لموسى(ع) وإن كان شريكاً في أمره،ولكن لم يكن مساوياً له، بل كان وزيراً وعضداً لموسى(ع) وهكذا جرت سمة الإمامة للأئمة (عليهم السلام) حيث إنه لم تعهد إمامة استشارية، ولا خلافة وإمامة بالشورى، بل إنّ تعدد الأئمة في عصر كانت إمامة بعضهم بالفعل دون بعض، وإن أمكن أن تكون ولايتهم التكوينية وما لهم من المقامات النفسية (التي لا تنالها يد الجعل والنصب الاعتباري كما لا تصل إليها يد النزع والغصب) بالفعل.
وأما المشورة وإن ورد في مدحها إنه: (ما خاب من استشار)[62]
وأنه: (من أستبدّ برأيه هلك)[63]
وفي صلاح الزوجين اللذين يخاف شقاقهما دعوة إلى بعث الحَكَمين ولكن في الفصال والطلاق، ورد:
{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}[64].
وهكذا ورد في مدح سيرة المؤمنين الواجدين لعدة شروط:
{أَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}[65]
وهكذا أمر الله رسوله(ص) بالمشاورة حيث قال تعالى:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[66]
ولكن لا يدل شيء من ذلك على لزوم كون القيادة بالمشورة والزعامة بالشورى. أما الأدلة الدالة على حسن الاستشارة، فليست على حد يعارض ما يدل على نظام الإمامة وأن الناس يحتاجون إلى إمام يديرهم؛ لأن لسان تلك الأدلة هو مدح المشورة الذي لا كلام فيه دون تعيين كيفية الحكومة، وأما ما يدل على أنّ أمر المؤمنين بالشورى ففيه:
أولاً: أنه يختص بما كان ذلك الأمر هو أمرهم، يعني إذا كان تعيينه بأيديهم، وأما إذا كان هو أمر الله لا أمرهم، فلا مجال للشورى فيه.
وحيث إنّ السياسة الإسلامية ـ كما تقدم ـ تقتضي أن لا يكون لأحد على أحد سلطة إلا من قِبَل الله تعالى وتعيينه، فتعيين كيفية الحكومة والسلطة بيد الله تعالى، فهو أمر الله، لا أمر الناس حتى يشاور بعضهم بعضاً ويستشيروا، ولو سلّم فإنما الاستشارة في تعيين القائد، لا أن تكون القيادة بالشورى(وكم فرق بينهما) وما وقع في صدر الإسلام كان من قبيل المشاورة في تعيين الزعيم، لا أنه كانت الزعامة بالشورى. والى هذا الأمر الدقيق أشار مولانا علي بن أبي طالب(ع) بقوله:
(... وإنَّما الشُّورى للمُهاجرينَ والأنصارِ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً، كان ذلك لله رضى، فإن خرجَ عن أمرهمْ خارج بِطعنٍ أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوهُ على إتباعهِ غير سبيلٍ المؤمنينَ وولاّه الله ما تولّى)[67].
حيث بيّن (ع) أنّ أمرهم إنما هو تعيين الإمام بالمشاورة، لا أنّ الإمامة بالشورى بأن يكون هناك أئمة يتشاورون، وأن تكون القيادة بالشورى.
نعم, للإمام أن يستشير قومه، ويشاورهم، ولكن التصميم بيده، والعزم بإرادته، والحزم بقلبه، فلذا قال تعالى:
{ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ}[68] حيث جعل العزم النهائي، والتصميم الغائي بيده. ومن هذا الباب قال علي (ع) لابن عباس:
(لك أن تشير عَلَيَ وأرى، فإن عصيتك فأطعني)[69]
وأصل ذلك، قوله تعالى:
{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}[70]
حيث يدل على أنّ أمر الرسالة، وتصميم الرسول، ليس بالشورى، فليس لغيره حق في النظر النهائي، والتصميم الغائي، وهكذا من هو بمنزلة الرسول، هو الإمام العدل الحق.
فتحصّل أنّ الشورى إنما هي في تعيين القائد وانتخابه، لا في القيادة إلا أن تتعذر الإمامة، ولم تتيسّر لشخص مُعيّن، وادّعى غير واحد القيادة، ولم يمكن تعيين أحدهم، فحينئذ لا علاج إلا بأن تكون القيادة بالشورى حسماً للتشاحّ، وفصلاً للتنازع(نعوذ بالله منه).
بقي هنا أمران: أحدهما؛ لزوم كون الأمة واعية في انتخاب إمامها، وثانيهما؛ لزوم كون الإمام جامعاً لشرائط الإمامة. وكلاهما في غاية الأهمية في السياسة الإسلامية.
أما الأمر الأول، فيلزم أن تكون الأمة من الوعي بدرجة تكفيها لمعرفة شرائط الإمامة، وفي اجتماعها فيمن يدّعي الإمامة، أو يريدون تعيينه لها. وهذا الأصل هو الموجب لأن يكون لرأي الجمهور قيمة، وإلا فلا قيمة لرأي من لا يعرف الإمامة وشؤونها وشرائطها، ولا لرأي الجمهور الجاهل بشأنها، وإنما القيمة لرأي من يعلم الحق ويعرفه. كما قال عزّ من قائل:
{ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ}[71]
حيث إنه تعالى جعل معيار التشخيص والتحقيق، رأي العلماء، ومَنْ آتاه الله العلم، وإلاّ فلا واقع له. وهكذا استدل رسول الله(ص) واحتجّ على قومه بقوله:
{ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}[72]
يعني أنهم لو تفكروا لعرفوا أنه رسول الله، وأنّ ما جاء به هو وحي أنزله الله، فيؤمنون به(ص)، ويخضعون لأمره خضوعاً لأمر الله تعالى، وأما الذين لا يعرفون الإمامة وشرائطها، ولا يعلمون الحكومة وشؤونها: فلا كرامة لهم ـ كما تقدم ـ ولذا قال الحكيم في كتابه الكريم:
{... فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ}[73]
يعني أنّ فرعون، وَجَدَ قومه خفاف العقول، خالين من المعرفة والتحقيق، وقد عمل هو شخصياً على تركيز الجهل وعدم المعرفة لديهم بحرمانهم من الوعي والتعليم، ثم طلب منهم الطاعة فأطاعوه إماماً.
والجهل داء لا دواء له؛ لأنه لا فقر أشد من الجهل، كما أنه لا مال أعود من العقل، فياليت الشعوب والجماهير نبهّت الحكومات ووعّتها حتى ينقطع شرّ الطغاة والفراعنة:
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[74]
وحيث إنّ القرآن هو عين الكرامة، ولا يمسّ كرامته شيء من الإهمال، وكان العمل به موجباً لأن تصير الجامعة الإنسانية كريمة ـ كما تقدم ـ فقد عين واجب الأمة في انتخاب إمامها بأنه لابد وأن تكون الأمة واعية، وعارفة، وذكية؛ كي لا تتحمّل الضيم. وقال تعالى:
{ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ* كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السَّعِيرِ}[75]
يعني أنّ الكلام في الله تعالى، لابد وأن يستند إلى علم عقلي، أو نقلي معتبر، فمن يجادل فيه بغير علم فهو جاهل، ويكون انتخابه وتعيينه من يحكم عليه بغير وعي ومعرفة. فلذا يتبع كل إمام وزعيم وقائد كائناً من كان شرقياً أو غربياً، ملحداً أو منافقاً، خائناً أو عميلاً للأجنبي، فيتبع كل شيطان متمرد على حكم الوحي والعقل. فهذه الأمة الخفيفة الوعي.. يمتلكها كل شيطان مارد ، تنهب معادنها وذخائرها الأيادي الخائنة، فتذهب هذه الأمة الجاهلة ضحية جهلها وحرمانها من كرامتها التي يدعوها إليها الإسلام ويأمرها بها.
وأما الأمر الثاني: فيلزم أن يكون الإمام مع كونه عادلاً ـ بإطاعة مولاه في جميع ما أمره به وندبه إليه بالإتيان، وفي جميع ما نهاه عنه وزجره عنه بالإمتناع والانتهاء عنه بترك الأهواء والميول[76]ـ صائناً لنفسه، ومستقلاً في رأيه، ومالكاً لوعيه، وحراً في إرادته، حتى لا يطمع فيه أهله، ولا غير أهله، ولا ينفذ إلى قلبه من كان من أهله أو أجنبياً عنه، ولا يمكر به الداخلي ولا الخارجي، ولا يستفزّه القريب والغريب، ولا يستخفّه الصديق والعدو، حتى يليق بزعامة الأمة وقيادة الملة، التي يعمل التقي بخلاف غيرها من الأنظمة الفاجرة التي يتمتع فيها الشقي[77].
ولقد عيّن القرآن الكريم وظيفة الإمام المتبوع بأنه لابد وأن يكون عالماً بالله، وهادياً إلى سبيله، وسائراً في صراطه، حتى لا يضل الناس ولا يمنعهم عن خيرهم المقدّر لهم، حيث قال تعالى:
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ* ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[78]
يعني أنّ المجادل في الله لو لم يكن جداله مستنداً إلى برهان عقلي، أو وحي سماوي بلا واسطة أو هداية مستفادة من الوحي مع الواسطة، يكون ضالاً. فإذا ادّعى الإمامة والمتبوعية والحال هذه، فلا شأن له إلاّ الضلال الموجب لخزي الدنيا وعذاب الحريق في الآخرة. فكما أنّ منطوق الآية الثالثة من سورة الحج ينادي بلزوم الوعي في الآية، والجمهور كذلك يعنى لزوم القداسة في الإمام حتى يكون إماماً عادلاً، وهادياً إلى صراط العزيز الحميد، كما يلزم أن تكون أمة مرحومة تنال خيرها المقدر لها. وكما أنّ خفّة الأمة وجهلها كانت تستوجب إتباعها لكل شيطان مريد، ولأن يسيطر عليها كل فرعون. حيث إنّ لكل موسى فرعون، كذلك فإن خفّة الإمام وعدم صيانته النفسية وعدم حريته الإرادية توجب لأن يغفل عمن يمكر به، فلذا قال الحكيم في كتابه الكريم:
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ}[79].
وحيث إنّ المتبوع الجائر إنْ اُتيح له أن يقول ( ما علمت لكم من إلهٍ غيري) وأن يقول (أنا ربكم الأعلى) لا يتحاشى عنه مع استخفاف التابعين، فإن لم يمكن له ادعاء الإلوهية فهو يقنع بادّعاء الظلّية، ويقول (أنا ظل الله) وما إلى ذلك مما لا يقوله إلا الخفيف، ولا يقبله إلا المستخف، فكلاهما في النار، لقوله تعالى:
{ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ}[80]
{ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ}[81]
والسر في ذلك كله هو أنّ كل أناس يلحقون بإمامهم يوم القيامة، كما قال عزّ من قائل:
{ يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ}[82]
وحيث إنّ الأمة الجاهلة تدور مدار العصبية والشيطان، كما قال علي بن أبي طالب(ع) في وصف الشيطان بأنه:
(إمام المتعصّبين وسلف المستكبرين)[83]
فلذا تحشر الأمة الجاهلة معه في جهنم، كما في قوله تعالى:
{ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}[84]
إنّ السياسة الإسلامية تعتقد أنّ الأمة أمانة، وأنّ الإمام أمينها، وتصرّح بأن النظام الإسلامي يستقر على ركنين؛ أحدهما؛ الأمة الواعية، وثانيهما؛ الإمام العادل الحق. فاللازم هنا التصريح بأن مقتضى الكرامة السائسة هو أن تكون الأمة بقضّها وقضيضها، ونفسها ونفيسها، أمانة إلهية، وأن يكون الإمام أمين هذه الأمة، لا يخونها أصلاً، بل يعلّمهم الكتاب والحكمة، ويزكّيهم، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد، ويشاورهم فإذا عزم فليتوكل على الله، ويُبيّن لهم ما جرى لهم وعليهم، ويحفظ كيانهم، ويطرد عنهم الفقر الفكري والمالي، ويذبّ عن حريمهم، ويسد ثغورهم، وما إلى ذلك من شؤون القيادة كل ذلك بأيديهم وأنفسهم ونفائسهم وأبدانهم وأموالهم؛ لأن ارتباط الأمة والإمام، إرتباط الأعضاء والقلب، كما إستفاده هشام بن الحكم من جعفر بن محمد الصادق(ع) واحتجّ به على عمرو بن عبيد المنكر للإمامة المعهودة والقيادة الخاصة[85]والدليل على كون الأمة أمانة بيد الإمام، ما قاله موسى(ع) لقوم فرعون:
{ أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}[86]
يعني يجب عليكم أن تؤدوا هذه الأمانة (التي لا ربّ لها إلا الله) إليّ لأنيّ رسول أمين في أصل الرسالة والإبلاغ، وأمين في حفظ هذه الأمانة الإلهية:
{وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[87]
يعني يلزم أن تكون أمة بني إسرائيل تحت تدبير موسى(ع) وتربيته (ع) ويكون هو (ع) كفيلاً لهم، وحافظاً إياّهم حسبما أشير إليه، وكما أنّ الإمامة عهد إلهي لا ينال الظالمين ولا يمسّ كرامته الظالمون، كذلك الأمة أمانة إلهية لا تؤدّى إلاّ إلى أهلها وهو الإمام العدل الحق، وكما أنّ النصيحة لأئمة المسلمين من التكاليف المهمة التي لا يغل عليها قلب امرئ مسلم، كذلك خيانة الأمة أعظم الخيانة، وغش الأئمة أفظع الغش، كما قال علي بن أبي طالب (ع):
(من استهان بالأمانة، ورتع في الخيانة، ولم ينزه نفسه ودينه عنها فقد أحل بنفسه الذل والخزي في الدنيا، وهو في الآخرة أذل وأخزى، وأن أعظم الخيانة، خيانة الأمة، وأفظع الغش غش الأئمة)[88]
وحيث إنّ الأمة بدمّها وعرضها ومالها أمانة بيد الإمام، فلو خان المنصوب من قِبَله في شيء من ذلك، فقد ارتطم بأعظم الخيانة بالنسبة إلى الأمة وارتكب أفظع الغش بالنسبة إلى الإمام. فلو رضي الإمام بذلك، فقد ابتُلي بذلك أيضاً، حيث إنه إنما يجمع القوم الرضا والسخط مضافاً إلى أنّ العامل منصوب من قِبَل الإمام ويعدّ فعله فعلاً له، وإطاعة مثل هذا الخائن من فواقر الظهر، كما قال رسول الله (ص) لعلي(ع):
(أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصي الله عز وجل ويطاع أمره.. الخ) [89] وذلك لأن الخيانة والغلول وإن كانا من الكبائر والموبقة لكل أحد إلاّ أنهما للإمام الوالي لأمر الأمة أشدّ وأدهى وأمرّ، ولذا قال تعالى:
{ وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[90]
والإمام الخائن فتنة لمن افتتن به، مُضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمّال خطايا غيره، رهن بخطيئته، من الذين يحملون أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم فهو مع كونه رهناً بخطيئته؛ لأن كل نفس بما كسبت رهينة، كذلك حمّال خطايا غيره من الذين أغواهم وأضلّهم، ومن سنَّ سنة سيئة فعليه وزر من عمل بها مع أنّ عامل تلك السيئة أيضاً رهن لها، فعلى الإنسان وزران، وعلى العامل وزراً واحد.
والحاصل أنّ الأمة بجميع شؤونها أمانة إلهية بيد الإمام، ولذا يكون الإمام مأموراً بمعرفتها وحفظها وإصلاحها كما كان رسول الله(ص) كذلك حيث قال تعالى له:
{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}[91]
لأن مرونة الإمام، وانعطافه إلى الأمة، وحنينه نحوها، يوجب انجذابها إليه، ويمنع انفضاضها وتفرّقها عنه، بل لا تهجر هذه الأمة إمامها في الضرّاء كما تكون معه في السرّاء، ولا تحيد عنه في العُسر كما تكون معه في اليسر، ولا تنفض من حوله حال الغلاء والمجاعة والمخمصة كما تطوف حوله حال الرخص والخصب، رغماً لأنف من زعم أنّ الفقر الاقتصادي والمخمصة ونحو ذلك يوجب انفضاض الأمة من حول إمامها. فلذا قال تعالى:
{ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ}[92]
والسر في ذلك هو الأصل الذي تدور معه السياسة الإسلامية، وهو أصالة الكرامة التي توجب تحمّل أعباء الفقر الاقتصادي، وتمنع من تحمّل التحقير والتوهين وخشونة الزعيم وغلظته، فالذي يجمع شتات الأمة هو رأفة الإمام كما قال تعالى:
{لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[93]
لأن الإمام وإن كان منهيّاً عن الإلتفات إلى من جمع مالاً وعدده، وألهاه التكاثر، ولكنه مأمور بخفض الجناح لمن اتبعه من المؤمنين. ولذا وصف الله نبيه(ص) بالرأفة والرحمة، حيث قال:
{ لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}[94]
ومن آثار رأفته المباركة ورحمته الكريمة، هو تأسّفه الشديد على حرمان بعض الأمة من قبول ما جاء به، كما قال تعالى:
{ فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[95]
وقال تعالى مسلّياً رسوله(ص):
{ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}[96]
وحيث إنّ مقتضى نظام الإمامة والأمة أن يكون الإمام رؤوفاً بأمته، ورحيماً بها، فقد أوصى إمام الأمة علي بن أبي طالب(ع)، مالكاً الأشتر حين ولاّه مصر بذلك وقال:
(.. وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبُعاً ضارياً، تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق..)[97]
ومن فوائد رأفة الإمام الأمين بأمته التي هي أمانة عنده، هو أنّ الأمة لا تنفض من حوله في الشدائد، بل في مطلق ما يلزم حضورها واشتراكها، كما قال تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[98]
حيث وصف الأمة المؤمنة ـ حقاً ـ بالاجتماع مع إمامها، وعدم ذهابها إلى حوائجها الشخصية إلا بعد الإذن، ومن ذلك حديث حنظلة غسيل الملائكة المعروف بين أصحاب السير. والسر في ذلك هو الفرق بين الناس وبين الأمة، فالناس لا جامع لشتاتهم ولا عامل لوحدتهم، دون الأمة فإن لأعضائها هدفاً واحداً، يأتمّون من أجله بإمامهم حتى يصلوا إليه، وبما أنهم يؤمّون مقصداً واحداً لذلك قيل لهم ـ الأمة ـ فإذا كان إمام الأمة رؤوفاً بها، فهي أيضاً تحنّ إليه وتشتاقه؛ لأن القلوب مجبولة على حب من أحسن إليها، كما أفاده رسول الله(ص)[99] ولعله لذلك كلّه صار سيد المرسلين حبيب الله، يحب الله، ويحبّه الله، وهو من أفضل مصاديق قوله تعالى:
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}[100]
وكان إتّباعه (ص) هو طيّ سبيل المحبة، وموجباً لأن تصير الأمة التي تؤمّه وتأتمّ به(ص) محبوبةً لله تعالى، كما قال تعالى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}[101]
فعلى أئمة المسلمين، أن يتأسّوا برسول الله (ص) الذي كان أسوة المحبة، وقدوة الرأفة، وممثل الرحمة بالنسبة لأي موجود كان في سبيل الله.
كما نقل مالك في (الموطأ) باب جامع ما جاء في أمر المدينة ص (644) عن هشام بن عروة عن أبيه: (إن رسول الله(ص) طلع له أُحُد فقال: هذا جبل يحبّنا ونحبّه)[102] لأنه (ص) ممن يشاهد كل موجود بما أنه آية ومُسبحٌ لله سبحانه ويفقه تسبيحه، فإذا بلغ الإمام حدّ الأمانة والرأفة والرحمة والمحبة للأمة، يصير ممن يستجاب دعاؤه كما قال رسول الله(ص).
(أربعة لا ترد لهم دعوة: إمام عادل[103] فلا يدعو بخير إلا ويستجيب الله تعالى له.. الخ).
ولمكان الاهتمام برأفة الإمام بالأمة ورد ما نقله مالك في الموطأ باب ما جاء في حسن الخلق، أن معاذ بن جبل قال:
(آخر ما أوصاني به رسول الله(ص) حين وضعت رجلي في الغرز أن قال (أحسن خلقك للناس يا معاذ بن جبل).
نعم, إنّ صاحب الخلق العظيم لا يوصي إلاّ بحسن الخلق.
والحاصل أنه لما كان الحق لا يجري لأحدٍ إلاّ جرى عليه، ولا يجري عليه إلاّ جرى له، لذا يجب على كل واحد من الأمة والإمام، العمل بما يجب عليه للغير من حقوق، كما له أن يطالب الغير بأداء ما عليه من الواجبات، وهذا من أعظم ما افترضه الله سبحانه، كما قال علي بن أبي طالب(ع):
(وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الوالي. فريضة فرضها الله سبحانه لكل على كل فجعلها نظاماً لأُلفتهم وعزّاً لدينهم، فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة، ولا تصلح الولاة إلا باستقامة الرعية. فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها، عزّ الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها السنن فصلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليها، أو أجحف الوالي برعيته، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت معالم الجور، وكثر الادغال في الدين، وتركت محاج السنن فعمل بالهوى، وعطلت الأحكام، وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار، وتعز الأشرار، وتعظم تبعات الله سبحانه عند العباد. فعليكم بالتناصح في ذلك، وحسن التعاون عليه).
إلى آخر ما أفاده أمير البيان[104] ولقد أغنانا بذلك عن بيان لزوم رعاية الحقوق المتبادلة بين الإمام والأمة. ويا له من بيان وحق له(ع) أن يقول:
(إنّا لاُمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدلت غصونه)[105] ولا وقع للمصباح عند الصباح.
نعم, إنّ الذي كان يحب الله ورسوله، وكان الله يحبّه ويحبّه الرسول لا يوصي الوالي والرعية إلا بما يورث المحبة الإلهية وهو القيام بالقسط في الحقوق المتقابلة.
[62] شرح مسند أبي حنيفة: ص 517
[63] بحار الأنوار:ج65 ص 295
[64] البقرة: 233.
[65] الشورى: 38.
[66] آل عمران: 159.
[67] نهج البلاغة الكتاب 6.
[68] آل عمران:159.
[69] نهج البلاغة: الكلمات القصار: ص 531، د. صبحي الصالح.
[70] الأحزاب: 36.
[71] سبأ: 6.
[72] يونس: 16.
[73] الزخرف: 54.
[74] الأنعام: 45.
[75] الحج: 3ـ 4.
[76] في صحيح مسلم عن رسول الله ص: حرم الله الجنة على الوالي الغاش لرعيته الجزء الأول ص 88.
[77] نهج البلاغة، الخطبة 40.
[78] الحج: 8 ـ 9.
[79] الروم: 60.
[80] القصص: 42.
[81] هود: 98.
[82] الإسراء: 71.
[83] نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: 192. د. صبحي الصالحص:286.
[84] الأعراف: 18.
[85] أصول الكافي ، كتاب الحجة.
[86] الدخان: 18.
[87] الأعراف: 104 ـ 105.
[88] نهج البلاغة كتاب: 26.
[89] من لا يحضره الفقيه ج4، ص 264.
[90] آل عمران: 161.
[91] آل عمران: 159.
[92] المنافقون: 7.
[93] الحجر: 88.
[94] التوبة:128.
[95] الكهف:6.
[96] فاطر:8.
[97] نهج البلاغة، كتاب 53.
[98] النور:62.
[99] من لا يحضره الفقيه ج4 ص 273 ونهج البلاغة، د. صبحي الصالح ص : 427.
[100] المائدة:54.
[101] آل عمران: 31.
[102] وكذا في صحيح مسلم ج4 ص 134.
[103] من لا يحضره الفقيه ج4 ص 255.
[104] نهج البلاغة الخطبة 216 د. صبحي الصالح ص 333 ـ 334 باب حق الوالي وحق الرعية.
[105] نهج البلاغة الخطبة 233، د. صبحي الصالح ص : 354.
|