متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
السياسة الإسلامية تنفي سلطة غير الله على الإنسان
الكتاب : العناصر الاساسية للسياسة الاسلامية    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

فإذا تبيّن إجمالاً أنّ السياسة الإنسانية تكمن في كرامتها، وأنها تدور معها حيثما دارت، ولا تحيد عنها، فيلزم البحث عن مقتضى الكرامة وشؤونها المهمة ولوازمها وآثارها فيما يلي:

السياسة الإسلامية تنفي سلطة غير الله على الإنسان

إنّ الكرامة تقتضي أن لا يعبد الإنسان إلاّ ربّه ولا يطيع إلاّ خالقه الذي هو خالق كل شيء، ولا يخضع إلا له، ولا يحتاج إلا إليه، ولا يسأل إلاّ إيّاه، ولا يتوكل إلاّ عليه ولا يثق إلاّ به. كما أمر الله تعالى أكرم خليقته وأشرف بريّته(ص) بذلك، حيث قال:

{ قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[39]

ثم أمر الناس باتخاذه(ص) أسوة، فقال عزّ من قائل:

{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}[40]

فليس لغير الله تعالى سلطة على الإنسان كما بيّنه تعالى بقوله:

{ مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ * وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ}[41]

وبقوله تعالى:

{وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[42].

فليس لأحدٍ أن يدّعي السلطة على الناس. كما أنّ الكرامة الإنسانية تأبى الخضوع لغير الله، فلا إله إلا الله ولا رب سواه.

وأما طاعة الأنبياء العظام، والمرسلين الكرام، والأئمة البررة، ففي الحقيقة إطاعة الله؛ لأن الإمام لا شأن له إلا الخلافة عن الرسول، والرسول بما أنه رسول لا شأن له إلا إبلاغ ما يتلقّى من الوحي بلا زيادة ولا نقيصة؛ لأنه {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} فليس له أن ينطق بما يهوى، أو يحكم بين الناس بما يرى، بل يحكم بينهم بما أراه الله، حيث قال:

{لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ}[43]

{وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ}[44].

{فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[45].

وحيث إنّ الحكم لابد وأن يكون بالحق، وأنّ الحق لا يكون إلاّ من الله فحسب كما قال تعالى:

{لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[46]

فالحكم لا يكون إلا بما أنزل الله، وأما الحكم الذي لا يكون بالحق (أي بما أنزل الله) فهو جور وجاهلية ـ شرقية كانت تلك الجاهلية الجائرة أم غربية ـ حيث قال الله تعالى:

{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}[47]

وكما أنّ لا شيء عدا الحق إلا الضلال، إذ:

{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ}[48].

فكذلك ماذا بعد الحكم بالحق إلا الجاهلية؟ فتحصّل أنّ الرسول(ص) وكل من كان إماماً معصوماً، فهو مع الحق، كما أنّ الحق معه، يدور معه حيثما دار، ولكن الحق من الله فكم فرق بين موجود يكون مع الحق وبين مبدئه المتعال الذي يكون منشأ الحق ومنه الحق. فعلى هذا التحليل تكون إطاعة الولي المعصوم، هي إطاعة الله لُبّاً، كما أشار إليه قوله تعالى:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}[49]

حيث يدل على أنّ إطاعة الرسول إنما هي بإذن الله، وحيث إنّ:

{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ}[50]

فحكم الله تعالى بإطاعة الرسول، مسبوق بتعليمه الحق إيّاه، وأمره بإبلاغ ذلك الحق إلى الناس، ثم أمر الناس بإطاعة ذاك الرسول.

وحاصله؛ إنّ إطاعة الرسول(ص) ـ بما أنه رسول ـ تكريم للرسالة، وأنّ الرسالة ـ بما هي رسالة ـ لا شأن لها إلا إظهار الحق من الله، سواء كان في التشريع بالإيجاب والتحريم، أو في التكوين بالإحياء والإماتة ـ مثلاً ـ لأنه مظهر فعله تعالى على التوحيد الأفعالي، يده بمنزلة يده تعالى، كما أشار إليه بقوله:

{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}[51].

على غرار قوله تعالى

{وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى}[52]

فحينئذ تنحصر الطاعة في أمر الله تعالى ونهيه، فما وافق حكمه تعالى يطاع، وما خالفه يطرح ـ كائناً ما كان ـ كما قال رسول الله(ص):

(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[53]

وحاشا الرسول(ص) والإمام المعصوم(ع) أن ينطقا بما يخالف الحق، أو يأمروا بالباطل أو يعملا بما يهويانه، فتبيّن أنّ النبي(ص) وإنْ كان { أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ}[54]

إلاّ أنّ تلك الولاية هي من مظاهر ولاية الله تعالى. فهو(ص) مظهر السلطة الإلهية، لا أنه سلطان مستقل بنفسه. ومما يؤيد أنّ النبوة والرسالة ـ بما لها من الشؤون المهمة ـ مظهر لقولِ الله تعالى وفعله، ومجلى لقهره ولطفه، ومرآة لجماله وجلاله تعالى، قوله تعالى:

{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ}[55]

حيث يدل على أنّ شيئاً من أقاويله التي يبلّغها لا تكون من عنده، وتقوّلاً على الله وافتراءً عليه، وإلاّ لكان ما كان من الأخذ باليمين، وقطع الوتين مع عدم الحجز والمنع من أحد؛ لأنه تعالى هو القاهر فوق عباده، ولا رادًّ لقضائه{ ولا معقّب لحكمه}[56]

وهكذا سيرته (ص) وسنّته العملية التي تكون حجةً إلهية للناس، سيرة مرضية إلهية، حسبما أُشير إليه, وحيث إنّ جميع شؤونه(ص) مظاهر شؤون الله الذي كان يوم هو في شأن، فمن كذّب شيئاً في أقواله أو أفعاله(ص) فإنما كذّب الله تعالى في قوله وفعله، حيث قال تعالى:

{ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ}[57]

لدلالته على أنّ تكذيبه (ص) ليس تكذيباً لشخصه، وردّاً لمقالته من حيث هو شخص خاص وإنسان مخصوص، بل هو جحد وإنكار لآيات الله تعالى؛ لأن رسول الله(ص) بقوله وفعله وقلبه وقالبه آية إلهية، فتكذيبه (ص) تكذيب الله، كما أنّ تصديقه تصديق الله تعالى. ومما يرمز إلى ذلك من أنّ جميع تلك الشؤون الدينية إنما هي بالأصالة لله تعالى، وإنما هي لغير الله من جهة كونه آية له ومظهراً محضاً له، قوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[58]

حيث إنه تعالى ثلّث الأمر أولاً، وثنّاه ثانياً، ووحّده ثالثاً؛ لأنه في أول قوله تعالى أوجب إطاعة الله، وإطاعة الرسول، وأولي الأمر، وفي ثاني قوله تعالى جعل الحكم والمرجع الذي يرجعون إليه عند التنازع أمرين: أحدهما نفسه تعالى، والثاني رسوله (ص)، ولم يذكر لأولي الأمر اسمٌ؛ لأن جميع شؤون أولي الأمر إنما هي مبرزات شأن الرسول، ومظاهر سنّته وليس لغيره (ص) شأن مستقل[59]، وفي ثالث قوله تعالى وهو ذيل الآية الكريمة، جعل المعيار والميزان في ذلك الطوع.

وهذا الرجوع أمراً واحداً، لا ثاني له، ولا شريك له: هو الإيمان بأن الله تعالى هو الأول الذي منه يصدر كل شيء، والآخر الذي إليه ينتهي كل شيء، فليس لغيره تعالى شأن مستقل. وهذا هو التوحيد وعياً وإرادة، فتدبر.

فتحصّل أنّ السياسة الإسلامية التي تدور مدار كرامة الإنسان، وتقتضي أن لا سلطة لأحدٍ على أحد. فليس لأحدٍ أن يدّعيها، وليس لأحدٍ أن يتحمّلها، بل هي لله تعالى فحسب. ففي أي مورد حكم الله تعالى بالإتباع، وجب إتباعه طوعاً ورغبةً، وفي أي مورد نهى الله تعالى عنه، وجب الانتهاء عنه. وقد أمر تعالى بإتّباع رسوله، حيث قال:

{مَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[60]

وقال تعالى أيضاً:

{خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ}[61]

أي بقوة القلوب وقوة الأبدان، فيجب أخذ ما آتاه الرسول بقوة القلب والقالب معاً.

 


 [39] الأنعام:162.

[40] الأحزاب: 21.

[41] آل عمران: 79 ـ 80.

[42] المائدة: 116 ـ 117.

[43] النساء: 105.

[44] المائدة: 49.

[45] ص: 26.

[46] يونس: 94.

[47] المائدة:50.

[48] يونس:32.

[49] النساء: 64.

[50] الأحزاب: 4.

[51] الفتح: 10.

[52] الأنفال: 17.

[53] نهج البلاغة ص50 صبحي الصالح، من لا يحضره الفقيه: ج4ص 372.

[54] الأحزاب: 6.

[55] الحاقة: 40 ـ 47.

[56] الرعد: 41 مضافاً إلى أنه قد يكون مورد التنازع هو نفس ولي الأمر.

[57] الأنعام: 33.

[58] النساء: 59.

[59] مضافاً إلى أنه قد يكون مورد التذرع هو نفس أولي الأمر.

[60] الحشر:7.

[61] البقرة: 63.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net