متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
السياسة مفاهيمها وفلسفتها
الكتاب : العناصر الاساسية للسياسة الاسلامية    |    القسم : مكتبة السياسة و الإقتصاد

السياسة: مفاهيمها وفلسفتها

 

السياسة: صناعة يعرف بها تدبير الإنسان بما له من الشؤون الفردية والاجتماعية، وبما له من العقيدة والخلق والعمل، وبما له من مساس بالطبيعة، وبما له من روابط خاصة مع أهله وقومه ومن يشاركه في النوع، مع ما له من ربط خاص بمبدأه الكل وهو الله الخالق لكل شيء.

والسياسة حكمة عملية متفرّعة عن الحكمة النظرية وتختلف باختلافها، فمن كان رأيه: إنّ الإنسان موجود مادي صرف؛ لأن كل موجود متحقق مادي، وأنّ ما ليس بمادي فليس بموجود، وإنّ الإنسان الموجود سيصير معدوماً بحتاً كما كان ليساً محضاً، وأنه لا حياة وراء الحياة الطبيعية، وأنه لا حساب ولا ميزان لأعماله الحسنة أو السيئة بعد الموت. فالسياسة عنده هي كيفية تدبير الإنسان وإدارة شؤونه بحيث يأكل ويتمتع ويترف ويتزّين بالأزياء، ويتكاثر ويقول إني أكثر مالاً وأعز نفراً، يتبجح بأنه أحسن أثاثاً ورئياً، ولا يبالي من أين كسب المال وأين أنفقه، حلالاً كان أو حراماً.

فعلى هذا تكون العناصر الرئيسة للسياسة لديه مادية بحتة، وأما من كان رأيه أنّ الإنسان مؤلّف من نفس ناطقة لا تبيد ولا تموت، وبدن مادي، وهو ـ أي الإنسان ـ إنما يُنقل من دار إلى دار، وأنّ النفس لا تنعدم رأساً, بل تتحوّل من حال إلى حال بما له من المعارف والأخلاق والأعمال، وأنّ من وراء حياته الدنيوية برزخاً إلى يوم يبعثون، وأنّ هناك موقفاً تُوفّى فيه كل نفس ما كسبت، وأنّ أمامه موطناً تتلو فيه كل نفس ما أسلفت، وأنّ قدّامه ميعاداً علمت نفس فيه ما قدّمت وأخرت.

فالسياسة عند صاحب الرأي الثاني، صناعة تهذيب الإنسان، وتصحيح روابطه الفردية والاجتماعية، بحيث يقوم بالقسط، ويأمر بالعدل ويُؤثر غيره على نفسه، وإنْ كان به خَصاصة، ويقول {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[1] ويترنّم بأنه{قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى}[2] كما كان الأول يتصور بأنه {قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى}[3]. فعلى الرأي الثاني تكون العناصر الرئيسة للسياسة، مؤلّفة من الأمور المادية والمعنوية كما سيوافيك تفصيلها.

وحيث إنّ محور الكلام، هو تعيين العناصر الأصلية للسياسة الإسلامية. والإسلام دين إلهي يرى الإنسان متحوّلاً من النشأة الأولى إلى الآخرة ليرى أعماله ويُجزى بها، ويرى أنّ له مبدأً أوجده، ومعاداً يصير هو إليه ويلقاه ويحاسب عنده. فالعناصر الأصلية للسياسة عنده مؤلّفة من العلل الطبيعية ومن العلل غير الطبيعية، وفي ضوء هذا التمييز بين المذهبين المادي والإلهي نقول: إنّ العناصر الرئيسة للسياسة الإسلامية أربعة:

الأول: هو العنصر المادي:

وهو الإنسان بما أنه يعيش مع أبناء نوعه، وله خصائص فردية، وخواص اجتماعية.

والثاني: هو العنصر الصوري:

وهو الدين الإلهي بما له من الحكم والأحكام وهو كرامة إلهية يتصور بها الإنسان، ويصير به كريماً في فضائله، وكريماً في عقائده وأخلاقه وأعماله، وكريماً في روابطه الفردية والاجتماعية، وتتبلور سياسته في كرامته الشاملة.

الثالث: هو العنصر ألفاعلي:

وهو الله رب الإنسان، ورب كل شيء، الحري بأن يديره، ويربّيه، ويسوسه، ويهديه إلى صراطه، ولا سائس سواه، ولا ربّ غيره.

الرابع: هو العنصر الغائي:

وهو الكمال المحقق والبهاء الصرف الذي لا كمال فوقه ولا بهاء وراءه. الجدير بأن يكون غاية الإنسان الكادح إليه، ونهاية له ينتهي بلقائه ويستقر لديه، وهو الله الذي إليه تصير الأمور فهو تعالى: الآخِر، كما أنه تعالى هو الأول.

فتحصّل أنّ المسوس، هو الإنسان بجميع شؤونه التي يعيش بها مع أوليائه وأعدائه وفي أدواره وأطواره، وأنّ سياسته وتدبيره هما كرامته وتكريمه لأن يتجلّى الكرم في حياته السامية، وأنّ سائسه هو خالقه وربّه الأكرم الذي علّم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم، وأنّ هدفه العالي هو لقاؤه سائسه وزيارته ربّه, وأن تكون له قَدَم صدق عنده ومقعد صدق لديه.

فمن عرف حقيقة الإنسان وواقعية الإسلام، وعرف خالقه الباري ومعاده الذي ينتهي إليه أمره، فقد عرف السياسة الإسلامية. وأعرف الناس بالسياسة الإسلامية، أعرفهم بتلك الحقائق المتقدمة، ومن جهل هاتيك الحقائق البارعة فقد جهل السياسة الإسلامية جهلاً تاماً؛ لأن ذوات الأسباب لا تعرف إلاّ بأسبابها، فمن جهل السبب فقد جهل بالمسبب حتماً، كما أنّ من عرف السبب فقد عرف المسبب يقيناً، وتمام الكلام وإنْ كان متوقفاً على تنميق المقال في العنصر الأول إلاّ أنّ البحث المهم هنا هو في العنصر الصوري. أما العنصر المادي وهو الإنسان المؤلف من نفس مجردة وبدن مادي فله موطن آخر، كما أنّ إثبات عنصري ألفاعلي والغائي لهما موقف أجل وأعلى تكفله الفلسفة الإلهية الإسلامية بأبسط وجه.

وحيث إنّ القرآن تبيان لكل شيء، وهو يهدي للتي هي أقوم؛ لأنه نور وبرهان وبصائر وشفاء لِمَا في الصدور من الجهل والريب، وأنّ رسول الله (ص) مُبيّن للناس ما نزّل إليهم، وإنّ مَنّ كان بمنزلة هارون من موسى (ع) ومن كانت له أذن واعية تعي جميع ما ألقاه رسول الله(ص) وأملاه وأفاضه وأماده من خطبه وخطاباته وكتبه ورسائله وسيرته وسنّته، وكذا أهل بيته وعترته الكرام الذين هم حياة العلم وموت الجهل، فهذه الأمور ينابيع الدين ومصادر التبيين، ومسانيد التشريع، فبذلك كله يستند في توضيح السياسة الإسلامية من بُعدها الصوري وهو الدين المتبلور في كرامة الإنسان بما أنه إنسان بحيث تكون الجامعة الإنسانية المسلمة هي الإسلام الممثل.

وحيث إنّ الإنسان موجود واع، له تفكّر وتخلّق وعمل، فهو لا يعمل شيئاً إلا بعد أن يراه حسناً بحاله، ولا يراه حسناً إلا بعد التفكير.

فحياته حياة فكرية لا يعيش بدونها، كما أنه محتاج إلى غير واحد من الأمور، ليس في وسعه وحده تكفّلها، بل لابد من أن يعيش مع غيره من أبناء نوعه حتى يتكفّلوا جميعاً تأمين حوائجهم, بأن يبذل كل واحد شيئاً للآخر ويأخذ شيئاً منه بالمعاوضة أو نحوها، وهذا لا يتمّ بدون ضابط وقانون يعيشون في ضوئه، وبما أنّ كل واحد منهم يجرّ النار إلى قرصه، فقد احتاجوا إلى قانون حافظ لمنافعهم وجامع لشملهم، كما أنه لا يمكن أن يجعل وضع ذلك القانون بأيديهم وإلاّ وقع التشاجر أيضاً؛ لأن كل واحد منهم يضع قانوناً ينفعه أو ينفع أهله وقومه وإنْ ضرّ غيره.

ولَمّا كان اختلافهم في العمل الخارجي قد أوجب الافتقار إلى قانون يجمع شتاتهم، كذلك اختلافهم في العمل الذهني والنفسي وهو الفكر والخلق والدواعي النفسانية، وما إلى ذلك من الضغائن والأحقاد أو الآراء والأهواء، يوجب الاحتياج إلى قانون معصوم عن الزيغ والطغوى بحيث لا ترى فيه عوجاً ولا أمتاً، وحيث إنّ القانون المعصوم عن الخطأ والجهل صامت لا ينطق, بل إنما هو سواد على بياض يمكن أن يفسّر بما تهواه أنفس الطغاة، وأن يترجم بما يثير الضغائن أو الأحقاد، ويتخذ هزواً ولعباً يلعب به من يعطف الهدى على الهوى، ويستهزئ به من يحرّف الكلم عن مواضعه، فلابد من إنسان كامل كافل لذاك القانون المصون عن كل نقص وشين، وقائم بأمره بحيث يفسره كما هو في نفسه، ويعلّمه الناس ويبلّغه إليهم، ويدعوهم إليه، ويسير فيهم بنفس ذاك القانون، ويذبّ عن حريمه، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يمسّ كرامته خوف ولا حزن بل يسعى في حفظه بقلبه وقالبه، ويضحي بنفسه تجاهه؛ لأن في حفظ ذاك القانون الراقي تحفظ الإنسانية وتصير مدينتها فاضلة لا يسمع فيها شعار الجاهلية الجهلاء ـ (أنصُر أخاك ظالماً أو مظلوماً)[4] بل يسمع فيه صوت العدالة الإنسانية (كونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً)[5] وفوق ذلك كله قول الله تعالى:

{وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا}[6] {وَلاَ تَرْكَنُواْ إلى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[7] {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[8]

وذلك الإنسان الكامل الحافظ لحدود القانون، المفسّر له علماً، المنفِّذ له عملاً، هو الإمام السائس الناس على ميزانه، بحيث لا يحيف ولا يجور فيه، ولا يفسِّر بالأهواء، ولا يعمل فيه بالآراء الخاصة، بل يقدِّسه كل التقديس، ويحفظه كل الحفظ عن التحريف والضياع.

فهذه العناصر الرئيسة لصورة السياسة ومادتها المشار إليها إجمالاً، ولا بدّ في تفصيلها من تشريح الحياة الإنسانية وما لها من العلل وما عليها من العوارض والصواعق، ومن تبيين محتوى ذاك القانون الرافع لجميع حوائجها، ومن تحليل رابطة الأمة والإمام، ومن كيفية هداية ذلك الإمام وولايته وتدبيره للمجتمع الإنساني، ومن الحقوق المتقابلة.

ثم إنّ خصيصة السياسة الإسلامية التي هي الصورة الكاملة للإنسانية، سعيها البليغ في أن تعرِّف الإنسان حقيقته وتبيّنها له، لا بأن تكتفي بقولها: (من عرف نفسه، فقد عرف ربه)[9]

وقولها: (أعرفكم بنفسه، أعرفكم بربه)[10]

بل تشهده على نفسه وتنبّهه وتحيي ارتكازه النائم وتوقظه وتستدل على أنّ له نفساً لا تنعدم، وأنّ أعماله لا تزول وأنّ بين أعمالها وذاتها ارتباطاً خاصاً لا ينفصم، وأنه إن أحسن فقد أحسن لنفسه وإن أساء فلها  ـ أي أنّ العمل مختص بعامله حسناً كان أو سيّئاً، وأنّ كل إنسان بما كسب رهين.

والحاصل: إنّ السياسة الإسلامية، ليست بأن تدبر الإنسان الموجود، وتدبره كائناً ما كان، وفي ضوء أية تربية نشأ وارتقى، بل بأن تعلّمه الكتاب التكويني والتدويني، وتقول له في الدنيا؛ إقرأ صحيفة ذاتك، وتدبر فيها، وأجد التأمل في حقيقتك حتى تعلم من أنت؟ ومن أين أنت؟ وفي أين أنت؟ وإلى أين أنت؟ كما تقول له في الآخرة:

{اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[11]

فهذه هي السياسة الحقيقية التي تسوس الإنسانية، وتدبرها، وترزقها حياة طيبة، لا مجال فيها لشوك الظلم، ولا التعدّي، ولا نيران العصبية ولا وقود القومية الجاهلية، ولا سعير الطغيان، ولا أي داء من أدواء البشرية، بل تضع عنها إصرها والأغلال التي كانت عليها، وتُحِل لها الطيبات وتحرم عليها الخبائث، وتخرجها من الظلمات إلى النور، وتهديها إلى صراط العزيز الحميد، وتحررها من عبودية الشهوة، كما تعتقها من رقبة القسوة، وتعدلها بالعدل الجميل، وتقول:

{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}[12]

وتقول:

{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}[13]

وتحطّم التكاثر والتباهي بالكثرة والتفاخر بها فردياً كان كما في قوله تعالى:

{فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}[14]

أو جميعاً كان كما في قوله تعالى:

{تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ}[15]

(إنّ عبد الشهوة أذل من عبد الرق)[16]

وتهدم المعيار الجاهلي، وتبيّن وهنه وفساده، كما قال رسول الله(ص) لعلي(ع):

(إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية وتفاخرها بآبائها، ألا أن الناس من آدم وآدم من تراب وأكرمهم عند الله اتقاهم).[17]

وتؤسس المعيار الإلهي، وتبيّن سداده ودوامه كما قال رسول الله(ص):

(لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا عقل كالتدبير، ولا ورع كالكف عن محارم الله، ولا حسب كحسن الخلق، ولا عبادة مثل التفكر)[18]

وتنادي بأن النجاة، في التحرر من أوزار الميول المهلكة وأثقال الأهواء المردية، وفي الانعتاق من أعباء الغرائز التي تكون على شفا جرف هار تنهار في نار جنهم، كما قال رسول الله(ص) : (نجا المخِفُّون)[19]

وتصرّح بأن صُرح الاستقلال، إنما هو على أساس بالاستغناء عن غير الله تعالى. يا صاح إقرأ ما قاله رسول الله وانظر كيف تكون السياسة الإسلامية متبلورة في الكرامة، ويالها من كرامة، حيث قال(ص):

(لأن ادخل يدي في فم التنين إلى المرفق أحب إليّ من أن أسأل من لم يكن ثم كان)[20].

كما كان سبطه علي بن الحسين السجاد(ع) يقول:

(إنّ طلب المحتاج إلى المحتاج سفه من رأيه، وضلة من عقله، فكم قد رأيت يا إلهي من أناس طلبوا العز بغيرك فذلوا، وراموا الثروة من سواك فافتقروا، وحاولوا الارتفاع فاتضعوا..)[21]

وكذا يقول (ع):

(سبحان ربي كيف يسأل محتاج محتاجاً، وأنى يرغب معدم إلى معدم..)[22].

وهكذا يؤسس بنيانه على التقوى أي الكرامة التي لا سياسة دونها، كما لا كرامة في سياسة خالية من المعيار الإلهي، حيث يقول الإمام زين العابدين(ع) إذا نظر إلى أصحاب الدنيا:

(واعصمني من أن أظن بذي عدم خساسة، أو أظن بصاحب ثروة فضلاً فإن الشريف من شرفته طاعتك، والعزيز من أعزته عبادتك، فصل على محمد وآله ومتّعنا بثروة لا تنفد، وأيدنا بعز لا يفقد، وأسرحنا في ملك الأبد)[23].

فانظر أيها الإنسان الجائع إلى طعامك المعنوي وتبصّر، إنه لا يسدّ جوعك إلا الكرامة التي هي السائسة التي تسوسك وتديرك لتصير كريماً، لا يظلم ولا ينظلم، ولا يخون ولا يأتمن الخائن، لا يفسق ولا يركن إلى الفاسق، لا يقول بالباطل لأن الباطل كان زهوقاً، ولا يسكت عن الحق لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وتدبر القرآن الذي هو متن السياسة كيف تدرس الكرامة الأبية عن افراط الضيم وتفريط الذل؛ لأن أول ما نزل منه هو ما يعلن بالتكريم، ويدعو إليه، وحيث يقول عزّ من قائل:

{ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[24]

إشعاراً بأن مبدأ التعليم هو الله الأكرم، فحينئذ يكون التعليم تكريماً، والعلم كرامة، والمتعلم ـ وهو الإنسان ـ متكرماً، فلا يحوم حوله وهن ولا هون ولا ذلة ولا مسكنة ولا صغار ولا دناءة، إذ لا مجال لشيء من ذلك في مجال الكرامة ـ وهكذا من أواخر ما نزل منه نجده يورث الكرامة ويجلب إليها، ويرغب الإنسان نحوها، ويحثّه عليها، حيث يقول سبحانه وتعالى:

{ وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}[25]

لأن التقوى في لسان الوحي الكريم، هي المعيار للكرامة وحسب، وإنّ درجات الكرامة تتبع درجات التقوى. فمن كان تقياً كان كريماً، ومن كان أتقى كان أكرم، ولا قيمة للإنسان إلا بالكرم. ولذا قال سبحانه وتعالى:

{ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً}[26]

فمن لا تقوى له لا كرامة له، ومن لا كرامة له لا إنسانية له، فلذا قال مولانا علي بن الحسين (ع) في دعائه:

(والحمد لله الذي لو حبس عن عباده معرفة حمده على ما أبلاهم من مننه المتتابعة، وأسبغ عليهم من نعمه المتظاهرة، لتصرفوا في مننه فلم يحمدوه وتوسعوا في رزقه فلم يشكروه، ولو كانوا كذلك لخرجوا من حدود الإنسانية إلى حد البهيمية، فكانوا كما وصفهم في محكم كتابه:

{ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[27]

والكرامة هي المتجلية في طاعة الله فحسب والتحرر من أغلال الأهواء الداخلية، والانعتاق من سلاسل الميول الخارجية، حيث يقول رسول الله(ص):

(لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)[28]

وحيث إنّ الفصل الأخير للإنسانية هو الكرم، وأنّ الكرم بتقوى الله فحسب، فيتعين أن يكون هو المعيار السائس الذي يسوس الإنسان، ويدور الإنسان معه حيثما دار، فلا عبرة بالقومية، ولا باللغة، ولا باللون، ولا بأي وصف خارجي أجنبي عن الإنسانية، كما قال رسول الله(ص):

(لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى)[29]

رغماً لأنف من يجعل المعيار، القومية أو نحوها، فلذا نبشوا القبور، وحفروا الآثار، وتفاخروا بعظام بالية غافلين عن أنّ التفاخر إنما يكون بالهمم العالية والسر فيه أنّ التكاثر قد ألهاهم حتى زاروا القبور، وتباهوا بأحجار ضخام، وآثار فخام لديهم قد نسفها الإسلام نسفاً، وأبادها وجعلها هباءً منثوراً.

ولا ريب في أنّ الإنسان عطشان للسياسة التي تسوسه. فإن وجد الكرامة السائسة، فقد ارتوى ريّاً بالغاً لا ظمأ بعده؛ إذ ليس وراء الكرامة شيء، وإن لم يجدها، فقد ابُتلي بسراب اللون، أو القومية أو الثروة، أو الخصوصية المكانية، أو غير ذلك، مما هو خارج عن حريم إنسانيته، ولا مساس لشيء من ذلك بحقيقته التي هو بها إنسان، كما ابتلي الصهاينة بهذا الداء العَيَاء، والمرض العضال، حيث يتيهون في بيداء القومية البائدة، ويتحيرّون في الأرض الإسرائيلية البائرة، ويهرشون في وادي اليهودية الهاذية الهاذرة, ولقد نطق الوحي الكريم بذلك، حيث يقول:

{مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[30].

فقد كانوا يزعمون كما أنهم اليوم على زعمهم(حسبما أفاده سيدنا الأستاذ العلامة الطباطبائي قدس الله نفسه الزكية في تفسيره القيّم ـ الميزان ـ) أنهم هم المخصوصون بالكرامة الإلهية، لا تعدوهم إلى غيرهم. بما أنّ الله سبحانه جعل فيهم نبوة، وكتاباً، ومُلكاً، فلهم السيادة والتقدم على غيرهم، واستنتجوا من ذلك أنّ الحقوق المشروعة عندهم اللازمة المراعاة عليهم كحرمة أخذ الربا، وأكل مال الغير، وهضم حقوق الناس... إنما هي بينهم معاشر أهل الكتاب. فالمحرّم هو أكل مال الإسرائيلي على مثله، والمحظور هو هضم حقوق يهودي على أهل ملّته.

وبالجملة إنما السبيل على أهل الكتاب لأهل الكتاب، وأما غير أهل الكتاب فلا سبيل له على أهل الكتاب، فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا، ويفعلوا في دونهم ما أرادوا، وهذا يؤدي إلى معاملتهم لغيرهم معاملة الحيوان الأعجم كائناً من كان...[31] ولعله لهذا ولغيره من دسائس الحيل، قال سبحانه وتعالى:

{ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىَ خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ}[32]

وحيث إنّ الكرامة التي تسير إليها الإنسانية، وتصل إليها، وتتصوريها، حقيقة نفسية نفيسة وليست اعتباراً تناله يد الجهل والوضع، إيجاباً تارة، وسلباً أخرى. وحيث إنّ الحقائق لها مبادٍ وأسباب خاصة تجب بها وتمتنع دونها، فللكرامة صراط مستقيم يوصل إليها من سلكه، ولا يمكن الوصول إليها بدونه، فلها سبيل خاص يهدي سالكه إليها، ولا يمكن نيلها بأي سبيل آخر. ومن هنا يتضح الفرق بين السياسة الإسلامية وغيرها من السياسات المادية التي لا تعرف الكرامة. إذ إنّ الأهداف هناك تبرر الوسائل كائنة ما كانت(نحو هلاك الحرث والنسل) ولذا يسومون الضعاف سوء العذاب ويذبحون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، وإذا ما بطشوا بطشوا جبارين ولا يعرفون إلا أهدافهم المشؤومة، بخلاف السياسة الإسلامية التي لا تُجوّز الانتصار بالجور، ولا تسمح بالظلم ولا تجعله ذريعة إلى الفتح والغلبة كما قال علي(ع):

(أتأمروني أن أطلب النصر بالجور)[33]

ومنشأه هو قول الله تعالى:

{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}[34]

والى هذا الأصل المهم، أشار مولانا السجاد(ع) بقوله:

(يا من لا تغير حكمته الوسائل)[35]

لأن الحكمة هي الصفة الخاصة التي تقتضي إيصال كل موجود إلى كماله المقدّر له، ولا تتغير بالذرائع والوسائل بأن لا تقتضي الإيصال إلى الكمال، أو تقتضي الإيصال إليه من غير سبيله.

نعم, قد يترك المهم للفوز بالأهم ولكنه مضبوط يعرفه العقل، ولا ينكره الشرع. كما أن له ميزاناً خاصاً لا يمكن أن يتعدّاه. فكم فرق بينه وبين ما مرّ من تبرير الهدف وسائله الموصلة إليه كائنة ما كانت ولو بسفك الدماء البريئة:

{إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[36]

ولذا ترى السياسة المادية الطاغية أنّ أهدافها المرسومة لها قبل الانتصار تبرر لها الوسائل، فلا تتورع عن افتراسها وتكالبها ونهبها وسبيها وإحراقها وما إلى ذلك بعد الغلبة والفتح. وأما السياسة الإسلامية الكريمة فتمتنع عن ذلك كله حدوثاً وتنهى عنه بقاءً، ولذا قال علي بن أبي طالب (ع) لجيشه:

(لا تقتلوا مدبراً، ولا تصيبوا معوراً، ولا تجهزوا على جريح)[37]

ودعا ربه بقوله:

(... ان أظهرتنا على عدونا فجنبنا البغي، وسددنا للحق، وان أظهرتهم علينا فارزقنا الشهادة، واعصمنا من الفتنة)[38].

 


[1] سورة لقمان:33.

[2] سورة الأعلى:14

[3] سورة طه: 64.

[4] ولكن فسره رسول اللهص بقوله: ولينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، إن كان ظالماً فلينهه فإنه له نصر، وأن كان مظلوماً فلينصرهالجمع لصحيح مسلم الجزء الثامن ص باب نصر الأخ ظالماً أو مظلوماً.

[5] نهج البلاغة ص 421.

[6] النساء: 105.

[7] هود:113.

[8] المائدة: 2.

[9] بحار الأنوار: ج2 ص 32

[10] الاقتصاد للشيخ الطوسي ص 14

[11] الإسراء: 14.

[12] النحل:90.

[13] الأعراف:29.

[14] القصص: 79.

[15] النحل: 92.

[16] نهج البلاغة.

[17] من لا يحضره الفقيه ج4، ص 262.

[18] من لا يحضره الفقيه، ج4 ص 269 ـ 270.

[19] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 362

[20] من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 270.

[21] الصحيفة السجادية دعاء 28.

[22] الصحيفة السجادية دعاء 13.

[23] الصحيفة السجادية دعاء 35.

[24] العلق: 3 ـ 5.

[25] البقرة: 281.

[26] الإسراء: 70.

[27] الصحيفة السجادية دعاء 1.

[28] من لا يحضره الفقيه ج4، ص 273.

[29] خطبة حجة الوداع 1.

[30] آل عمران: 75.

[31] الميزان: ج3 ص 286.

[32] المائدة: 13.

[33] نهج البلاغة الخطبة 126

[34] الزمر: 64.

[35] مصباح الكفعمي ص 769

[36] النمل: 34.

[37] نهج البلاغة: الكتاب 14.

[38] نهج البلاغة الخطبة 171.

 


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net