هل من سبيل لمعرفة كنهه
"لا سبيل إلى معرفة كنه الخالق وحقيقته والإحاطة به كما قال "ولا يحيطون به علماً" (طه: 110).
وقوله: "وما قد روا الله حق قدره" (الأنعام: 91).
وفي الدعاء "سبحان الله من لا يعلم ما هو إلا هو".
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: لا تقدر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين.
وقال علي عليه السلام: من قال فيه لم فقد علله، ومن قال فيه حتى فقد وقته، ومن قال فيم فقد ضمنه، ومن قال أنى فقد أنهاه، ومن قال متى فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد ألحد فيه، لا يتغير الله بتغاير المخلوق ولا يتجدد بتجدد المحدود.
وعن الصادق عليه السلام: وكيف أصفه بالكيف وهو الذي كيف الكيف حتى صار كيفا، فعرفت الكيف بما كيّف لنا من الكيف وتوضيح ذلك على ما قاله بعض العارفين: أن الخلق لم يعرفوا إلا إحتياج هذا العالم المنظوم المحكم إلى صانع مدبر حي عالم سميع بصير قادر وهذه المعرفة لها طرفان:
الأول: يتعلق بالعالم ومعلوم إحتياجه إلى مدبر.
الثاني: يتعلق بالله، ومعلومه، أسامي مشتقة من صفات غير داخلة في حقيقة الذات وماهيتة.
وقد ثبت إنه إذا أشار المشير إلى شيء وقال ما هو لم يكن ذكر الأسماء المشتقة جوابا أصلاً، فلو أشار شخص إلى حيوان فقال ما هو فقيل طويل أو أبيض أو بصير، أو أشار إلى ماء فقال ما هو فأجيب بأنه بارد، أو إلى نار فقال حار، فكل ذلك ليس بجواب عن الماهية الحقه، والمعرفة بالشيء هو معرفة حقيقته وماهيته لا معرفة الأسامي المشتقة، فإن قولنا حار معناة شيء مبهم له وصف الحرارة، وكذلك قولنا قادر عالم معناه شيء مبهم له وصف العلم والقدرة.
وأما قولنا أنه واجب الوجود فهو عبارة عن إستغناءه عن الفاعل، وهذا يرجع إلى سلب السبب عنه. وقولنا أنه يوجد عنه كل موجود يرجع إلى إضافة الأفعال إليه، فإذا قيل له ما هذا الشيء فقلنا: هو الفاعل لم يكن جواباً فكيف قولنا هو الذي لا سبب له لأن كل الأخبار عن غير ذاته وعن إضافة له إلى ذاته إما بنفي أو إثبات، وكل ذلك في أسماء وصفات وإضافات فإنا لما رأينا الوجود والقدرة والعلم فينا وعلمنا أنها ليست من ذواتنا بل من الفياض الحقيقي علمنا أنه موجود قادر عالم ونجد ذلك بلا كيفية لصفاته.
ولما رأينا فينا بعض الكلمات كالوجود والقدرة والعلم والحياة والإدراك ونحوها وعلمنا أن نقائضها من العدم والعجز والجهل والموت وعدم الإدراك نقائض، وصفنا ربنا بالكمالات ونزهناه عن النقائض مع عدم علمنا بكنه ما أثبتناه له تعالى.
فنهاية معرفة العارفين عجزهم عن المعرفة ومعرفتهم بالحقيقة أنهم لا يعرفونه حق معرفته، وأنه لا يمكنهم معرفة الحقيقية البتة وأنه يستحيل أن يعرف الله المعرفة الحقيقية المحيطة بكنه صفاته الربوبية إلا الله تعالى. فإذا انكشف لهم ذلك انكشافاً برهانياً فقد عرفوه أي بلغوا المنتهى الذي يمكن في حق الخلق من معرفته.
وهو الذي أشار إليه من قال العجز عن الإدراك إدراك بل هو الذي عناه سيد البشر ومن حيث قال: لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ولم يرد به أنه عرض منه ما لا يطاوعه لسانه في العبارة عنه بل معناه إني لا أحيط بمحامدك وصفات إلهيتيك وإنما أنت المحيط بها وحدك. وقال صل الله عليه وآله وسلم: إن الله احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار وإن الملا إلا على يطلبون كما تطلبونه أنتم. وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله: من نظر في الله كيف هو هلك، وإما اتساع المعرفة فإنما يكون من معرفة أسمائه وصفاته وبما تتفاوت درجة درجات الملائكة والأنبياء والأولياء في معرفة الله عز وجل وليس من يعلم أنه قادر عالم على الجملة كمن شاهد عجائب آياته في ملكوت السماوات والأرض، وخلق الأرواح والأجساد وأطلع على بدائع المملكة وغرائب الصفة ممعنا في التفصيل ومستقصياً دقائق الحكم، ومستوفيا لطائق التدبير، ومتصفا بجميع الصفات الملكية المقربة من الله تعالى نائلا لتلك الصفات نيل إتصافه بها، بل بينهما من البون البعيد ما لا يكاد يحصى وفي تفصيل ذلك ومقاديره. تتفاوت الدرجات فلا تلتفت إلى من يزعم أنه وصل إلى كنه الحقيقة المقدسة بل أحث التراب في فيه فقد ضل وغوى وكذب وافترى فإن الواقع أرفع وأظهر من أن يتلوث بخواطر البشر، وكلما تصوره العالم الراسخ فهو عن حرم الكبرياء بفراسخ، وأقصى ما وصل إليه الفكر العميق فهو غاية مبلغه في التدقيق سبحان من حارت لطائف الأوهام في بيداء كبريائه وعظمته وسبحان من لم يجعل للخلق سبيلا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته. وكما يمتنع على غير الله تعالى معرفة كنه ذات الله فكذلك يمتنع معرفة كنه صفاته لأن صفاته تعالى عين ذاته وكما وصفه به العقلاء فإنما هو على قدرأفهامهم وبحسب وسعهم فإنهم إنما يصفونه بالصفات التي ألفوها وشاهدوها في أنفسهم مع سلب النقائض الناشئة من إنتسابها إليهم بنوع من المقايسة ولو ذكر لهم من صفاته عز وجل ما ليس لهم ما يناسبه بعض المناسبة لم يفهموه ككونه تعالى لا أول له ولا آخر، ولا جزء له وليس في مكان ولا زمان، كان ولم يكن معه شيء من زمان أو مكان أو ليل أو نهار أو ظلمة أو ضياء، حاروا وتحيروا وعجزوا ولم يفهموا شيئاً فتوصيفهم إياه سبحانه بأشرف طرفي النقيض كالعلم والجهل والقدرة والعجز أو الحياة والموت إنما هو على قدرهم لا قدره، وبحسبهم لا بحسبه، فسبحانه عما يصفون وتعالى شأنه عما يقولون، ولذا قال باقر العلوم عليه السلام هل سمي عالماً قادراً الا لأنه وهب العلم للعلماء والقدرة للقادرون، وكلما ميزتموه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق ممنوع متكلم مردود إليكم والباري تعالى واهب الحياة ومقدر الموت ولعل النمل الصغار تتوهم إن لله زبانيتين أي قرنين فإنهما كمالها وتتصور أن عدمهما نقصان لمن لا يكونان له، ولعل حال كثير من العقلاء كذلك فيما يصفون الله تعالى به سبحان ربك رب العزة عما يصفون، ولذا أورد النهي عن وصفه تعالى بغير ما وصف به نفسه . (1) حق اليقين
|