دور تطهير المال من الحق الشرعي في صحة الصلاة وفريضة الحج
بعد تطهير النفس وتزكيتها بتصفيتها وتجريدها من شوائب الرياء ونحوه من المؤثرات السلبية على صحة العبادة وترتب الثواب على غيرها من الأعمال الصالحة القابلة لأن يقصد بها التقرب لله سبحانه . يأتي دور تطهير المال الذي يريد المكلف أن يحج به من الحق الشرعي ونحوه لأنه بدون ذلك يكون ثوب الإحرام والهدي اللذان يشتريهما بالمال المشتمل على ذلك الحق ـ محكومين بالغصبية وعدم الإباحة وذلك يقتضي بطلان صلاة الطواف وعدم ترتب الأثر الشرعي المطلوب على تقديم الهدي فيكون حجه محكوماً بالبطلان بهذا الاعتبار . وبوحي من هذه المناسبة أحب أن أقدم لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والمستطيعين للحج العازمين على القيام به على الوجه الصحيح بصورة خاصة ـ النصيحة التالية (والدين النصيحة) وذلك بأن يقف كل واحد منهم وقفة تدبر وتفكر سائلاً نفسه لماذا أؤدي الصلاة وأصوم وأقوم بسائر الواجبات وأريد الذهاب إلى الحج رغم ما يقتضيه من صرف مال كثير مع تحمل المزيد من المشقة والعناء والتعرض لبعض الأخطار التي تؤدي إلى الوفاة في بعض الأحيان كما حصل للكثيرين ممن حجوا سابقاً ويتوقع عروضه لمن يحجون لاحقاً ؟ ولماذا أنا ملتزم بترك المحرمات الشرعية التي نهاني الله سبحانه عن ارتكابها وخصوصاً الكبائر منها ؟
( 37 )
وإذا كان تاركاً للأولى ـ أي للواجبات ـ كلا أو بعضاً وفاعلاً للثانية أي المحرمات كلا أو بعضاً وتاب لله سبحانه من ذلك كله وانطلق في سبيل الاستقامة على نهج التقوى فعليه أن يسأل نفسه ويحاسبها بأسلوب آخر قائلاً : لماذا أنا رجعت إلى النهج القويم بعد الانحراف عنه ؟ فسيكون الجواب على كلا السؤالين بأن ذلك هو العبادة التي خلقني الله من أجلها وأنا مأمور بها لكونها سبيل الكمال والسعادة في الدنيا والآخرة فإذا أتيت بها كما أمرني الله تعالى ظفرت بذلك وإذا أهملتها خسرت ثواب الطاعة في الآخرة ومصلحتها المعجلة في الدنيا وعرضت نفسي للعقاب الشديد في الدار الأخرى وسببت لها الكثير من المتاعب والمصائب في هذه الدار وذلك هو الخسران المبين . هذا هو الجواب المتوقع حصوله من المسلم الواعي الذي يُفرض في حقه أن يكون حاملاً في ذهنه صورة هذه المحاسبة لنفسه وطرح تلك الأسئلة عليها لتجيبه بلسان الفطرة السليمة والعقيدة الصحيحة بالأجوبة المذكورة . وعلى ضوء ذلك نقول للمسلم الذي عقد العزم على السفر لحج بيت الله الحرام وهو يحمل في ذهنه صورة الحوار والمحاسبة المذكورة وفي قلبه العقيدة والإيمان بمضمونها ومحتواها : إذا كنت مؤمناً بهذه الحقيقة فعليك أن تعمل بمقتضاها باستقامتك في منهج التقوى التي تتحقق بفعل ما أمرك الله به من الواجبات وترك ما نهاك عنه من المحرمات ـ وحيث أن إخراج الحق الشرعي من مالك بعد تعلقه به واجب شرعي لنفسه كالصلاة والصيام والحج وسائر الواجبات
( 38 )
الشرعية النفسية كما أنه واجب لغيره لتوقف صحة الحج عليه نظراً لاشتراط صحة صلاة الطواف كغيرها من الصلوات ـ بإباحة ثوب الإحرام الذي يأتي الحاج بهذه الصلاة فيه كما أن ترتّب الأثر الشرعي على تقديم الهدي متوقف على شرائه بمال مطهر من حق الغير ومن المعلوم أن كلا الأمرين ـ صحة الصلاة المذكورة وصحة الإهداء ـ أي تقديم الهدي ـ متوقفان على تطهير المال الذي يُشترى به ذلك الثوب وهذا الهدي . أجل : حيث أن إخراج الحق الشرعي واجب شرعي لنفسه ولصحة الحج يكون المطلوب منك أيها الأخ المسلم العزيز أن تؤدي هذا الواجب معجلاً ، وقبل سفرك إلى بيت الله الحرام إذا كنت مُعيناً لنفسك رأس سنة لتأدية فريضة الخمس في نهايتها وكان متعلقاً فعلاً بما تملكه من النقود أو الأعيان المالية وكان ذلك ميسوراً لك بحيث لا يترتب عليه ضرر أو حرج ـ ومع فرض ترتب ذلك ترجع إلى مُقلَّدك أو وكيله ليُجريَ معك مصالحة على المقدار الذي وجب في مالك من الخمس وينتقل بهذه المصالحة من عين المال إلى ذمتك وتدفعه له أقساطاً حسبما تساعدك ظروفك وبعد انتقال الحق الشرعي من عين المال إلى الذمة يتمكن المكلف حينئذ من التصرف بهذا المال بيعاً وشراء ويتحقق بذلك شرط صحة صلاة الطواف ولا يبقى إشكال بالنسبة إلى الهدي . ويُطلب منك يا أخي العزيز أن تحتاط لهذا الحق الذي ثبت ديناً في ذمتك وذلك بأن تسجله في وصيتك كسائر الديون والواجبات وقد يصبح الإيصاء بتأديتها واجباً إذا توقفت عليه . وإذا كنت غير محاسب نفسك فيما مضى بالنسبة إلى فريضة الخمس ونحوها من الفرائض المالية ـ يصبح السعي في هذا السبيل واجباً ويتحقق ذلك غالباً بمراجعة وكيل المرجع الذي تقلده لتخبره بمجموع ما تملكه من
( 39 )
الأموال النقدية والعينية ونحوها مما له قيمة مالية وهو بدوره يبين لك النوع الذي هو متعلق للحق الشرعي والنوع الذي لا يكون كذلك وتكون النتيجة معرفة المقدار الواجب من الخمس ووجوب دفعه كله مع التمكن بدون ضرر أو حرج كما تقدم ومع فرض ذلك يأتي دور المصالحة على الحق الشرعي ليصبح ديناً في ذمتك وتدفعه أقساطاً بعد تحديد رأس السنة . والنصيحة التي أحب تقديمها لأبنائي الأحباء وإخواني الأعزاء بصورة عامة والعازمين على التشرف بزيارة بيت الله الحرام وجوباً أو استحباباً أو زيارة سائر المقامات المقدسة ـ بصورة خاصة . هي طلب الاحتياط والحذر الشديد من التسويف والتسامح في تأدية الواجبات الشرعية ـ بصورة عامة والواجبات المالية بصورة خاصة لأهمية الثانية باعتبار كونها حقوقاً للناس ولا تبرأ ذمة من وجبت عليه إلا بدفعها لمستحقها أو للحاكم الشرعي الذي يقلده أو لوكيل هذا الحاكم وإذا أراد دفعها للمستحق مباشرة فالأحوط مراجعة مرجعه أو وكيله ليأخذ الرخصة منه في ذلك ـ على تفصيل محرر في الرسائل العملية وإذا قصر المكلف في تأدية الواجبات المالية المتمثلة بالحقوق الشرعية ونحوها فإنه يتعرض بذلك لأشد العقوبات التي لا تترتب على ترك الواجبات البدنية كالصلاة والصوم رغم أهميتها وذلك لأن الواجب المالي فيه حقان أحدهما يرجع إلى الله المشرع والثاني يرجع إلى مستحق هذا الحق . ولو أن المكلفين أدركوا ما يترتب على تأدية الفريضة المالية والتصدق بصورة عامة ـ من الفوائد المادية والمعنوية المعجلة في هذه الحياة مضافاً إلى ما ينالونه من النعم الخالدة والسعادة الحقيقية الدائمة في الآخرة لتسابقوا إلى ذلك ولم يتأخروا عنه وذلك لأن الإنفاق الواجب أو المستحب يُصبح في واقعه تجارةً مع الله سبحانه تترتب عليها الأرباح
( 40 )
الكثيرة والفوائد العديدة . منها زيادة النعمة بسبب الشكر العملي الذي قام به المنفق في سبيل الله تعالى لقوله سبحانه : ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ )(1). ومنها دوام النعمة لأن جميع النعم والألاء التي يمن بها الله سبحانه على الإنسان هي في الواقع أمانة له عند من أنعم بها عليه فإذا صرفها وتصرف بها كما أمره الله المالك الحقيقي ـ وجوباً أو استحباباً ـ عبر بذلك عن كونه أميناً محافظاً على الأمانة وذلك يقتضي بطبعه إبقاء صاحبها لها عنده وعدم أخذها منه . وهذا بخلاف ما إذا صدر منه عكس ذلك فإن النتيجة تكون منسجمة مع مقدمتها وهي عروض النقص بدل الزيادة أو الخسارة والفقدان للنعمة بالكلية بعد وجودها والتمتع بها. وإلى ذلك أشار الله سبحانه في آخر الآية السابقة بقوله تعالى : ( وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ) . لأن المراد بالكفر على ضوء ما يوحي به جو الآية ـ هو الكفر العملي المقابل للشكر العملي ـ وبقرينة المقابلة بينهما يُفهم أن المراد بالعذاب الذي أنذر به الله سبحانه أعم من العقاب الأخروي بحيث يشمل العقوبة المعجلة الحاصلة بسبب الكفر بنعمة الله تعالى ومن أبرز مصاديقها العقوبة المتحققة بسلب النعمة من الكافر بها قلبياً وعملياً كما حصل من قارون وحصلت له العقوبة المناسبة لذلك ـ أو عملياً كما هو شأن الكثيرين ممن آمنوا بمؤدى قوله تعالى : ____________ (1) سورة ابراهيم ، الآية : 7 . (2) سورة ابراهيم ، الآية : 7 .
( 41 )
( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ )(1) . ولكنهم كفروا بنعم الله عملياً بعدم صرفها فيما أوجب عليهم صرفها فيه أو بصرفها في سبيل معصيته ليكونوا مصداقاً لقول الشاعر :
أعارك مالَه لتقوم فيـه * بطاعته وتقضي بعضَ حقه فلم تقصد لطاعته ولكن * قويت على معاصيه برزقه
ويُضاف إلى الفائدتين السابقتين وهما زيادة النعمة ودوامها فوائد أخرى عديدة مادية ومعنوية تترتب على الإنفاق في سبيل الله سبحانه ـ منها دفع البلاء وقد أُبرم إبراماً وطول العمل ومحبة الله وخلقه لمن ينفق في سبيل الله ومعاملته بالاحترام والتقدير ومقابلته بالمثل عندما يصبح محلاً للمساعدة . تجاوباً مع قوله تعالى : ( هَلْ جَزَاءُ الإحسَانِ إلاًّ الإحْسَانُ ) (2) . وقول الشاعر :
أحس إلى الناس تستعبد قلوبهم * فطالما استعبد الإنسان إحسانُ
هذا مضافاً إلى الجزاء الأوفى الذي وعد به رب العالمين المؤمنين المحسنين بقوله تعالى : ( إنَّ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلئِكَ هُمْ خَيْرُ البَريَّةِ * جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْري مِن تَحْتِها الأَنْهَارُ خَالِدينَ فِيها أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ )(3) . ____________ (1) سورة النحل ، الآية : 53 . (2) سورة الرحمن ، الآية : 60 . (3) سورة البينة ، الآيتان 7 و8 .
( 42 )
ومن أراد الاطلاع بصورة تفصيلية على أهمية الإنفاق في سبيل الله تعالى ودور البر والإحسان في سعادة الإنسان في كلتا الدارين . فليطلع على ما نشر في الجزء الأول من وحي الإسلام تحت العناوين التالية ـ وهي ( حول صفة الكرم والسخاء ) ( دور الزكاة والإحسان في سعادة الإنسان ) ( التجارة الرابحة في الدنيا والآخرة ). ومن المناسب لموضوع هذا الحديث ذكر القصة التالية التي ذكرها صاحب كتاب ( جزاء الأعمال ) صفحة 14 . وذلك لأنها تبين مدى تأثير الإحسان على نفسية من يُقدم له ليندفع إلى احترام المحسن ومكافأته بالمثل وتقديمه على غيره وخصوصاً إذا كان ذلك الغير مسيئاً له كما هو مضمون هذه القصة وهي كما يلي بلسان المؤلف(1) نفسه حيث يقول فيها : كنتُ في سفينة مع جماعة من الكبراء فغرق زورقٌ من خلفنا ووقع منه أخوان في دوران التيار فقال أحدهم للملاح خلص هذين الأخوين ولك مني مائة دينار فما أنقذ أحدهما الملاحُ حتى هلك الآخر فقلتُ له : حيث نفد عمره حصل التواني بإنقاذه فتبسم الملاح وقال : إن ما قلته صحيح غير أن ميل خاطري لخلاص هذا كان أكثر . والسبب في ذلك أني كنت مرة منقطعاً في الصحراء فحملني هذا على جمله وأما ذاك فذقت منه سوطاً لا أنساه ضربني به في عهد صباه فقلتُ صدق الله العظيم حيث قال : ( مَّن عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا )(2) . ____________ (1) هو مجتبى بلوجيان (2) سورة فصلت ، الآية : 46 .