[خبر ذعلب، وقول عليّ عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني]
بحذف الاسناد مرفوعاً إلى الأصبغ بن نباتة قال: لما جلس عليّ عليه السلام في الخلافة وبايعه الناس خرج إلى المسجد(3) متعمّماً بعمامة رسول الله صلى الله عليه وآله، لابساً بردة رسول الله، منتعلا بنعل رسول الله صلى الله عليه وآله، متقلّداً سيف رسول الله، فصعد المنبر فجلس عليه السلام [عليه](4) متّكئاً(5)، ثمّ
____________
1- في "ج": لو قد مِتنا.
2- أمالي الصدوق: 187 ح3 مجلس 40; ومعاني الأخبار: 230; عنهما البحار 14: 334 ح1; وفي مناقب ابن شهر آشوب 2: 56.
3- هكذا في النسخ، وفي "الف": الى المدينة.
4- أثبتناه من البحار.
5- في "ج": والبحار: متمكّناً.
شبّك بين أصابعه فوضعها على بطنه وقال:
معاشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، هذا سفط العلم، هذا لعاب رسول الله، هذا ما زقّني رسول الله صلى الله عليه وآله زقّاً زقّاً، سلوني فإنّ عندي علم الأوّلين والآخرين، أما والله لو ثنّيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل الانجيل بانجيلهم، وأهل التوراة بتوراتهم(1)، حتّى ينطق التوراة والانجيل فيقولا: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله عزوجل فينا، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتّى ينطق القرآن فيقول: صدق عليّ ما كذب لقد أفتاكم بما أنزل الله فيّ، ولولا آية من كتاب الله لأخبرتكم بما يكون وما هو كائن إلى يوم القيامة، وهي قوله تعالى: {يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده اُمّ الكتاب}(2).
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فوالذي فلق الحبّة وبرئ النسمة لو سألتموني عن آية آية في ليل نزلت أم في نهار، مكّيها ومدنيّها، سفرها وحضرها، ناسخها ومنسوخها، ومحكمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها لأخبرتكم.
فقام إليه رجل يقال له: "ذعلب" ـ وكان ذرب اللسان، بليغاً في الخطب، شجاع القلب ـ قال: لقد ارتقى ابن أبي طالب مرقاة صعبة، لأخجلنّه اليوم لكم بمسألتي إيّاه، فقال: يا أمير المؤمنين هل رأيت ربّك؟ قال: ويلك يا ذعلب لم أكن أعبد ربّاً لم أره، قال: فكيف رأيته صفه لنا؟ قال: ويلك لم تره العيون بمشاهدة الأبصار(3) ولكن رأته القلوب بحقائق الايمان.
ويلك يا ذعلب انّ ربّي لا يوصف بالبعد [ولا بالقرب](4) ولا بالحركة ولا بالسكون، ولا بقيام فيقال: انتصب، ولا بجيئة ولا بذهاب، لطيف اللطف لا يوصف
____________
1- زاد في "ج": وأهل الزبور بزبورهم.
2- الرعد: 39.
3- في "ب": الأعيان.
4- أثبتناه من "ج".
باللطف، عظيم العظمة لا يوصف بالغلظ، رؤوف الرحمة(1) لا يوصف بالرقة، مؤمن لا بعبادة، مدرك لا بحاسّة، قائل لا بلفظ، هو في الأشياء على غير ممازجة، خارج منها على غير مباينة، فوق كلّ شيء ولا يقال شيء فوقه، وأمام كلّ شيء ولا يقال له أمام، داخل في الأشياء لا كشيء في شيء داخل، خارج منها لا كشيء من شيء خارج، فخرّ ذعلب مغشيّاً عليه، ثمّ قال: بالله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عُدت إلى مثلها.
ثمّ قال عليه السلام: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث بن قيس فقال: يا أمير المؤمنين كيف يؤخذ(2) من المجوس الجزية ولم يُبعث إليهم نبي ولم ينزل عليهم كتاب، قال: بلى يا أشعث قد أنزل الله عليهم كتاباً، وبعث إليهم نبيّاً حتّى كان لهم ملك سكر ذات ليلة، فدعا إليه ابنته إلى فراشه فارتكبها، فلمّا أصبح تسامع به قومه فاجتمعوا على بابه فقالوا: أيّها الملك دنست علينا ديننا وأهلكته، فاخرج نطهّرك ونقيم عليك الحد.
فقال: اجتمعوا واسمعوا كلامي فإن لم يكن لي مخرج ممّا ارتكبت وإلاّ فشأنكم، فاجتمعوا فقال لهم: هل علمتم انّ الله لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم واُمّنا حوّاء؟ قالوا: صدقت أيّها الملك، قال: أوليس قد زوّج بنيه ببناته وبناته من بنيه؟ قالوا: صدقت هذا هو الدين، فتعاقدوا على ذلك، فمحا الله ما في صدورهم من العلم، ورفع عنهم الكتاب، فهم الكفرة يدخلون النار بغير حساب، والمنافقون أشدّ عذاباً منهم، فقال الأشعث بن قيس: والله ما سمعت بمثل هذا الجواب، والله لا عُدت إلى مثلها أبداً.
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه رجل من أقصى المسجد متوكّئاً
____________
1- في "ب": وذو الرحمة.
2- في "ج": تأخذ.
على عصاه، فلم يزل يتخطّى الناس حتّى دنا منه فقال: يا أمير المؤمنين دلّني على عمل إذا أنا عملته نجّاني الله عزوجل من النار، فقال له: اسمع يا هذا ثمّ افهم ثمّ استيقن، قامت الدنيا بثلاث: عالم ناطق مستعمل لعلمه، وبغنيّ لا يبخل بماله على أهل دينه، وبفقير صابر، فإذا كتم العالم علمه، وبخل الغني، ولم يصبر الفقير فعندها الويل والثبور، وعندها يعرف العارفون بالله انّ الدار قد رجعت إلى بدئها، أيْ الكفر بعد الايمان.
أيّها السائل فلا تغترنّ بكثرة المساجد وجماعة أقوام أجسادهم مجتمعة وقلوبهم شتّى، إنّما(1) الناس ثلاثة: زاهد، وراغب، وصابر، فأمّا الزاهد فلا يفرح بشيء من الدنيا أتاه ولا يحزن على شيء منها فاته، وأمّا الصابر فيتمنّاها بقلبه فإذا أدرك منها شيئاً صرف عنها نفسه لما يعلم من شرّ عاقبتها، وأمّا الراغب فلا يبالي من حلٍّ أصابها أم من حرام.
قال: يا أمير المؤمنين فما علامة المؤمن في ذلك الزمان؟ قال: ينظر إلى ما أوجب الله عليه من حقّ يتولاّه، وينظر إلى ما خالفه فيبرأ منه وإن كان حميماً قريباً، قال: صدقت والله يا أمير المؤمنين، ثمّ غاب الرجل فلم نره، فطلبه الناس فلم يجدوه، قال: فتبسّم عليّ عليه السلام.
ثمّ قال: سلوني قبل أن تفقدوني فلم يقم إليه أحد، ثمّ قال للحسن عليه السلام: قم فاصعد المنبر فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون: انّ الحسن لا يحسن شيئاً، فقال: يا أبت كيف أصعد وأتكلّم وأنت في الدنيا تسمع وترى؟ قال: بأبي واُمّي اُواري نفسي عنك وأسمع يا ولدي ولا تراني.
فصعد الحسن عليه السلام المنبر فحمد الله بمحامد شريفة بليغة، وصلّى على النبيّ وآله صلاة موجزة، ثمّ قال: أيّها الناس سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه
____________
1- في "ج": أيّها السائل الناس....
وآله يقول: أنا مدينة العلم وعليّ بابها، وهل يدخل المدينة إلاّ من بابها؟ ثمّ نزل فوثب إليه عليّ عليه السلام فحمله وضمّه إلى صدره، ثمّ قال للحسين عليه السلام: يا بني قم فاصعد المنبر فتكلّم بكلام لا تجهلك قريش من بعدي فيقولون الحسين بن عليّ لا يبصر(1) شيئاً، وليكن كلامك تبعاً لكلام أخيك.
فصعد الحسين عليه السلام المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وصلّى على نبيّه صلاة موجزة، ثمّ قال: يا معشر الناس سمعت جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: إنّ عليّاً هو مدينة الهدى، فمن دخلها نجا ومن تخلّف عنها هلك، فوثب عليّ عليه السلام فضمّه إلى صدره فقبّله، ثمّ قال: معاشر الناس، اشهدوا انّهما فرخا رسول الله صلى الله عليه وآله ووديعته التي استودعنيها، وأنا أستودعكموها أيّها الناس، انّ رسول الله صلى الله عليه وآله سائلكم عنها(2).
>>>>>>
|