متون الكتب :  
الفهارس :  
أسماء الكتب والمؤلفين :  
مكالمته عليه السلام مع رأس اليهود
الكتاب : إرشاد القلوب ج2    |    القسم : مكتبة التربية و الأخلاق

[مكالمته عليه السلام مع رأس اليهود]

بحذف الاسناد مرفوعاً إلى الباقر عليه السلام قال: قال محمد بن الحنفية: أتى رأس اليهود إلى أمير المؤمنين عليه السلام عند منصرفه من وقعة النهروان وهو جالس في مسجد الكوفة، فقال: يا أمير المؤمنين اُريد أن أسألك عن أشياء لا يعلمها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ، قال: سل عمّا بدا لك يا أخا اليهود.

____________

1- في "ج": جميع.

2- في "ج": يرتحل بها.

3- أي عائشة.

4- عنه البحار 28: 86 ح3.


الصفحة 214
قال: إنّا نجد في الكتاب انّ الله عزوجل إذا بعث نبيّاً أوحى إليه أن يتّخذ من(1) أهل بيته من يقوم [مقامه](2) في اُمّته من بعده، وأن يعهد إليهم فيه عهداً يحتذى عليه ويعمل به في اُمّته من بعده، قال: نعم، ثمّ قال: وانّ الله عزوجل يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء ويمتحنهم بعد وفاتهم، فأخبرنا كم يمتحن الله الأوصياء في حياة الأنبياء(3) من مرّة، وكم يمتحنهم بعد وفاتهم، وإلى من يصير أمر الأوصياء إذا رضى بمحنتهم؟

قال له عليّ عليه السلام: تحلف بالله الذي لا إله إلاّ هو الذي فلق البحر لموسى، وأنزل عليه التوراة لئن خبرتك بحق عمّا سألتني عنه لتؤمننّ به؟ قال: نعم، قال عليّ عليه السلام: [انّ الله تعالى يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في](4) سبعة مواطن ليبتلي طاعتهم، فإذا رضى طاعتهم ومحنتهم أمر الأنبياء أن يتّخذوهم أولياء في حياتهم وأوصياء بعد وفاتهم، فتصير طاعة الأوصياء في أعناق الاُمم موصولة بطاعة الأنبياء، ثمّ يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء في سبعة مواطن ليبتلي صبرهم، فإن رضى محنتهم ختم لهم بالسعادة.

قال له رأس اليهود: صدقت يا أمير المؤمنين، فأخبرني كم امتحنك الله في حياة محمد صلّى الله عليه وآله من مرّة؟ وكم امتحنك بعد وفاته من مرّة؟ وإلى ما يصير آخر أمرك؟ فأخذ أمير المؤمنين عليه السلام بيده وقال: انهض معي لاُنبئك بذلك يا أخا اليهود، فقام إليه جماعة من أصحابه وقالوا: يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك معه، قال: إنّي أخاف أن لا تحتمله قلوبكم، قالوا: ولِمَ ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال: لاُمور بدت لي من كثير منكم.

____________

1- في "ج": يخلف في....

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ج": في حياتهم.

4- أثبتناه من "ج".


الصفحة 215
فقام إليه الأشتر فقال: يا أمير المؤمنين أنبئنا بذلك فوالله انّا لنعلم انّه ما على ظهر الأرض وصيّ نبيّ سواك، وانّا لنعلم انّ الله عزوجل لا يبعث بعد نبيّنا صلّى الله عليه وآله نبيّاً سواه، وانّ طاعتك في أعناقنا موصولة بطاعة نبيّنا، فجلس عليّ عليه السلام وأقبل على اليهودي فقال: يا أخا اليهود انّ الله عزوجل امتحنني في حياة نبيّنا صلّى الله عليه وآله في سبعة مواطن فوجدني فيهنّ ـ من غير تزكية لنفسي بنعمة الله ـ له مطيعاً، قال: فيم وفيم يا أمير المؤمنين، قال:

أمّا أوّلهنّ فإنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّنا محمد صلّى الله عليه وآله وحمّله الرسالة، وأنا أحدث أهل بيته سنّاً، أخدمه في بيته، وأسعى بين يديه في أمره، فدعا صغير بني عبد المطّلب وكبيرهم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمداً(1) رسول الله، فامتنعوا من ذلك وأنكروه عليه، وهجروه ونابذوه واعتزلوه واجتنبوه، وسائر الناس مقصية له مخالفة عليه لما ورد عليهم(2) ما لا يحتمله قلوبهم، ولم تدركه عقولهم.

فأجبت رسول الله وحدي إلى ما دعاني إليه مسرعاً مطيعاً موقناً، لم يختلجني في ذلك الأخاليج(3)، فمكثنا بذلك ثلاث حجج ليس على ظهر الأرض خلق يصلّي لله ويشهد لرسول الله صلّى الله عليه وآله بما آتاه الله غيري وغير ابنة خويلد رحمها الله ـ وقد فعل ـ، ثمّ أقبل على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الثانية يا أخا اليهود فإنّ قريشاً لم تزل تخيل الآراء وتعمل الحيل في قتل النبي صلّى الله عليه وآله حتّى إذا كان آخر ما اجتمعت في ذلك الدار ـ دار الندوة ـ

____________

1- في "ج": وأنّه.

2- في "ج": مبغضون له ومخالفون عليه قد استعظموا ما أورده عليهم.

3- في "ج": في ذلك شك.


الصفحة 216
وابليس الملعون حاضر في صورة أعور ثقيف، فلم تزل تضرب أمرها ظهراً لبطن حتّى اجتمعت آراؤها على أن ينتدب من كلّ فخذ من قريش رجلا، ثمّ يأخذ كلّ رجل منهم سيفه، ثمّ يأتي النبي صلّى الله عليه وآله وهو نائم على فراشه، فيضربوه بأسيافهم جميعاً ضربة رجل واحد فيقتلوه، فإذا قتلوه منعت قريش رجالها فلم تسلّمه، ويمضي(1) دمه هدراً.

فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، وخبره بالليلة التي يجتمعون فيها والساعة التي يأتون فراشه فيها، وأمره بالخروج في الوقت الذي خرج فيه إلى الغار، فأنبأني رسول الله صلّى الله عليه وآله بالخبر، وأمرني أن أضطجع في مضجعه وأقيه بنفسي، فأسرعت في ذلك مطيعاً مسروراً به نفسي لاُقتل دونه.

فمضى صلّى الله عليه وآله لوجهه واضطجعت في مضجعه، ثمّ أقبلت رجالات قريش موقنة في أنفسها بقتل النبي صلّى الله عليه وآله، فلمّا استوى بي وبهم البيت الذي أنا فيه ناهضتهم بسيفي، ودفعتهم عن نفسي بما علمه الله والناس منّي، ثمّ أقبل على أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الثالثة يا أخا اليهود فإنّ ابني ربيعة وابني عتبة كانوا فرسان قريش، ودعوا إلى البراز يوم بدر، فلم يبرز لهم خلق من قريش، فأنهضني رسول الله صلّى الله عليه وآله مع صاحبيّ رضي الله عنهما ـ يريد بصاحبيه(2) حمزة بن عبد المطلب، وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب ـ وقد فعل، وأنا أحدث أصحابي سنّاً وأقلّهم بالحرب تجربة، فقتل الله بيدي وليداً وشيبة سوى من قتلته من جحاجحة قريش في ذلك اليوم وسوى من أسرت، وكان منّي أكثر ممّا كان من أصحابي، واستشهد

____________

1- في "ج": مضى.

2- في "ج": بهما.


الصفحة 217
ابن عمّي في ذلك اليوم رحمه الله، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الرابعة يا أخا اليهود فإنّ أهل مكة أقبلوا إلينا عن بكرة أبيهم، قد استجاشوا مَنْ يليهم من قبائل العرب(1) وقريش طالبي بثأر مشركي قريش في بدر، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، فتأهّب النبي صلّى الله عليه وآله وعسكر بأصحابه في سد سفح اُحد، وأقبل المشركون فحملوا علينا حملة رجل واحد، فاستشهد من المسلمين من استشهد، وكان ممّن بقي ما كان من الهزيمة، وبقيت مع رسول الله صلّى الله عليه وآله ومضى المهاجرون والأنصار إلى منازلهم من المدينة، كلّ يقول: قُتل رسول الله وقُتل أصحابه.

ثمّ ضرب الله عزوجل وجوه المشركين، وقد جرحت بين يدي رسول الله صلّى الله عليه وآله نيف وسبعين جراحة، منها هذه وهذه ـ ثمّ ألقى رداءه وأمرّ يده على جراحاته ـ وكان منّي في ذلك ما على الله ثوابه إن شاء الله، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الخامسة يا أخا اليهود فإنّ قريشاً والعرب تجمّعت وعقدت بينها عقداً وميثاقاً لا ترجع من وجهها حتّى تقتل رسول الله صلّى الله عليه وآله وتقتلنا معه معاشر بني عبد المطلب، ثمّ أقبلت بحدّها وحديدها حتّى أناخت علينا بالمدينة وأيقنت لأنفسها(2) بالظفر فيما توجّهت له، فهبط جبرئيل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وآله فأنبأه بذلك، فخندق على نفسه ومن معه من المهاجرين والأنصار، فَقَدمتْ قريش فأقامت على الخندق محاصرة لنا ترى في أنفسها القوّة وفينا الضعف، تبرق وترعد ورسول الله صلّى الله عليه وآله يدعوها إلى الله

____________

1- في "ب": من قبائلهم من العرب.

2- في "ج": واثقة في أنفسها.


الصفحة 218
ويناشدها بالقرابة والرحم فتأبى ولا يزيدها ذلك إلاّ عتوّاً.

وفارسها فارس العرب يومئذ عمرو بن عبدود، يهدر كالبعير المغتلم يدعو إلى البراز ويرتجز ويخطر برمحه مرّة وبسيفه اُخرى، لا يقدم عليه مقدم، ولا يطمع له(1) طامع، لا حمية تهيّجه ولا بصيرة تنجعه(2)، فأنهضني إليه رسول الله صلّى الله عليه وآله وعمّمني بيده، وأعطاني سيفه هذا ـ وضرب بيده إلى ذي الفقار ـ فخرجت إليه ونساء أهل المدينة(3) بواكي إشفاقاً عليّ من ابن عبدود، فقتله الله بيدي والعرب لا تعد لها فارساً غيره، وضربني هذه الضربة ـ وأومأ بيده إلى هامته ـ فهزم الله قريشاً والعرب بذلك وبما كان منّي فيهم من النكاية، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا السادسة يا أخا اليهود فإنّا وردنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله مدينة أصحابك خيبر على رجال اليهود وفرسانها من قريش وغيرها، فتلقونا بأمثال الجبال من الخيل والرجال والسلاح، وهم في أمنع دار وأكثر عدد، كلّ ينادي للبراز وينادي(4) للقتال، فلم يبرز لهم من أصحابي أحد إلاّ قتل حتّى إذا احمرّ الحدق، ودعيت إلى البراز، وأهمت كلّ امرء نفسه، والتفت بعض أصحابي إلى بعض وكلّ يقول: يا أبا الحسن، يا أبا الحسن انهض.

فأنهضني رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى دارهم، فلم يبرز إليّ منهم أحد إلاّ قتلته، ولا ثبت لي فارس إلاّ طعنته(5)، ثمّ شددت عليهم شدّة الليث على فريسته حتّى أدخلتهم مدينتهم مشدّداً عليهم، واقتلعت باب حصنهم بيدي، ثمّ

____________

1- في "ب" و "ج": لا يطمع فيه.

2- في "ج": تشجعه.

3- في "ج": أهل البلد.

4- في "ج": ويدعو.

5- في "ج": ولا يثب لي فارس إلاّ طحنته.


الصفحة 219
دخلت عليهم مدينتهم وحدي أقتل من يظهر فيها من رجالها، وأسبي من أجد من نسائها حتّى افتتحتها وحدي، ولم يكن لي فيها معاون إلاّ الله وحده، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا السابعة يا أخا اليهود فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله لمّا توجّه لفتح مكة أحبّ أن يعذر إليهم ويدعوهم إلى الله عزوجل آخراً كما دعاهم أوّلا، فكتب إليهم كتاباً يحذّرهم فيه وينذرهم عذاب ربّهم، ويعدهم الصفح عنهم ويمنّيهم مغفرة ربّهم، ونسخ لهم فيه آخر(1) سورة براءة لتقرأ عليهم، ثمّ عرض على أصحابه المضيّ به إليهم، فكلّهم يرى التثاقل فيه، فلمّا رأى ذلك ندب منهم رجلا يوجه به، فأتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد إنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك.

فأنبأني رسول الله صلّى الله عليه وآله بذلك، ووجّهني بكتابه ورسالته إلى أهل مكة، فأتيت مكة وأهلها من قد عرفتم ليس منهم أحد إلاّ ولو قدر أن يضع على كلّ جبل منّي إربااً لفعل، ولو بذل في ذلك نفسه وأهله وماله وولده، فبلّغتهم رسالة النبي صلّى الله عليه وآله، وقرأت عليهم كتابه، فكلّ(2) تلقّاني بالتهدّد والوعيد، ويبدي لي البغضاء، ويظهر لي الشحناء من رجالهم ونسائهم، فكان منّي في ذلك ما قد رأيتم، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

قال: يا أخا اليهود هذه المواطن السبعة التي امتحنني ربّي مع نبيّه فوجدني فيها كلّها بمنّه مطيعاً، ليس لأحد فيها مثل الذي لي، ولو شئت لوصفت ذلك ولكنّ الله تعالى نهى عن التزكية.

____________

1- في "ج": نسخ لهم في آخره.

2- في "ج": فكلّهم.


الصفحة 220
فقالوا(1): والله يا أمير المؤمنين لقد صدقت، فوالله لقد أعطاك الله عزوجل الفضيلة بالقرابة من نبيّنا صلّى الله عليه وآله، وأسعدك بأن جعلك أخاه تنزل منه بمنزلة هارون من موسى، وفضّلك بالمواقف التي باشرتها والأهوال التي ركبتها، وذكر(2) لك الذي ذكرت وأكثر منه ممّا لم تذكره، وممّا ليس لأحد من المسلمين مثله، يقول ذلك من شهدك منّا مع نبيّنا ومن شهدك بعده. فأخبرنا يا أمير المؤمنين بما امتحنك الله به بعد نبيّنا صلّى الله عليه وآله فاحتملته وصبرت عليه، فلو شئت(3) أن نصف نحن ذلك لوصفناه علماً منّا به، وظهور منّا عليه، إلاّ انّا نحبّ أن نسمع ذلك منك كما سمعنا منك ما امتحنك الله به في حياته فأطعته فيه.

قال عليه السلام: يا أخا اليهود انّ الله عزوجل امتحنني بعد وفاة نبيّه صلّى الله عليه وآله في سبعة مواطن، فوجدني فيهنّ من غير تزكية لنفسي بمنّه ونعمته صبوراً.

أمّا أوّلهنّ يا أخا اليهود فإنّه لم يكن لي خاصة دون المسلمين عامة أحدآنس به، ولا أستقيم إليه، ولا أعتمد عليه، ولا أتقرّب به غير رسول الله صلّى الله عليه وآله، هو ربّاني صغيراً، وبوّأني كبيراً، وكفاني العيلة، وجبرني من اليتم، وأغناني عن الطلب، ووقاني التكسّب، وعالني في النفس والأهل والولد، هذا في تصاريف اُمور الدنيا مع ما خصّني به من الدرجات التي قادتني إلى معالي الحظوة عند الله عزوجل.

فنزل بي من وفاة رسول الله صلّى الله عليه وآله ما لم يكن(4) أظنّ انّ الجبال

____________

1- في "الف" و "ب": قال اليهودي.

2- في "ج": ذخر.

3- في "ج": ولو شئنا.

4- في "ج": أكن.


الصفحة 221
لو حملته كانت تنهض به، فرأيت الناس من أهل بيتي من بين جازع لا يملك جزعه، ولا يضبط نفسه، ولا يقوى على حمل فادح ما نزل به حتّى قد أذهب الجزع صبره، وأذهل عقله، وحال بينه وبين الفهم والافهام والقول والاستماع، وسائر الناس من غير بني عبد المطلب بين معزى يأمر بالصبر، وبين مساعد على البكاء جازعين لجزعي(1).

فحملت نفسي على الصبر بعد وفاته، ولزمت(2) الصمت والاشتغال بما أمرني به من تجهيزه وتغسيله وتحنيطه وتكفينه، والصلاة عليه، ووضعه في حفرته، وجمع كتاب الله وعهده إلى خلقه، لا يشغلني عن ذلك بادر دمعة، ولا هائج زفرة، ولا لاذع حرقة، ولا جليل مصيبة حتّى أدّيت في ذلك الحقّ الواجب لله عزوجل عليّ لرسوله صلّى الله عليه وآله، وبلغت فيه الذي أمرني به، فاحتملته صابراً محتسباً، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

أمّا الثانية يا أخا اليهود، فإنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أمّرني في حياته على جميع اُمّته، وأخذ على جميع من أحضره منهم البيعة لي بالسمع والطاعة، وأمرهم أن يبلغ الشاهد منهم الغائب في ذلك، فكنت المؤدّي إليهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أمره إذا حضرته، والأمير على من حضرني منهم إذا فارقته، لا يختلج في نفسي منازعة أحد من الخلق لي في شيء من الأمر في حياة النبي صلّى الله عليه وآله ولا بعد وفاته.

ثمّ أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله بتوجيه الجيش الذي وجهه مع اُسامة بن زيد عندما أحدث الله به من المرض الذي توفّاه فيه، فلم يدع النبي صلّى الله

____________

1- في "ج": باك لبكائهم جازع لجزعهم.

2- في "ج": بلزوم.


الصفحة 222
عليه وآله أحد من قبائل(1) العرب ولا الأوس ولا الخزرج وغيرهم من سائر الناس ممّن يخاف على نقضه أو منازعته، ولا أحد ممّن يراني بعين البغضاء ممّن قد وترته بقتل أبيه أو أخيه أو حميمه إلاّ وجّهه في ذلك الجيش، ولا من المهاجرين والأنصار والمسلمين وغيرهم من المؤلّفة قلوبهم والمنافقين، لتصفوا قلوب من يبقى معي بحضرته، ولئلاّ يقول قائل شيئاً ممّا أكره، ولا يدفعني دافع عن الولاية والقيام باُمور رعيّته واُمّته من بعده.

ثمّ كان آخر ما تكلّم به في شيء من أمر اُمّته أن يمضي جيش اُسامة ولا يتخلّف عنه أحد ممّن أنهض معه، وتقدّم في ذلك أشدّ التقدّم، وأوعز فيه أبلغ الايعاز، وأكّد فيه أكثر التأكيد، فلم أشعر بعد أن قُبض النبي صلّى الله عليه وآله إلاّ برجال ممّن بعث مع اُسامة بن زيد وأهل عسكره قد تركوا مراكزهم، وأخلوا بمواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله فيما أنهضهم له وأمرهم به وتقدّم إليهم(2) من ملازمة أميرهم، والمسير معه تحت لوائه حتّى ينفذ لوجهه الذي وجّهه إليه(3).

فخلّفوا أميرهم مقيماً في عسكره، وأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى حل عقدة عقدها الله عزوجل ورسوله لي في أعناقهم، فحلّوها ونكثوها وعقدوا لأنفسهم عقداً ضجّت به أصواتهم، واختصّت به آراؤهم من غير مناظرة لأحد منّا من بني عبد المطلب، أو مشاركة في رأي، أو استقالة لما في أعناقهم من بيعتي.

فعملوا ذلك وأنا برسول الله صلّى الله عليه وآله مشغول بتجهيزه عن سائر

____________

1- في "ج": افناء.

2- في "ج": تقيدهم.

3- في "ج": أنفذه إليه.


الصفحة 223
الأشياء، فإنّه كان أهمّها وأحقّ ما بُدئ منها، وكان هذا يا أخا اليهود أفدح(1) ما ورد على قلبي مع الذي أنا فيه من عظيم الرزية، وفاجع المصيبة، وفقد من لا خلف منه إلاّ الله عزوجل، فصبرت عليها إذ أتت بعد اختها على تقاربها وسرعة اتّصالها، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

أمّا الثالثة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد النبي صلى الله عليه وآله كان يلقاني معتذراً في كلّ أيّامه ويلزم غيره ما ارتكبه من أخذ حقّي ونقض بيعتي، ويسألني

____________

1- في "ج": أقرح.


الصفحة 224
تحليله، فكنت أقول: تنقضي أيّامه ثمّ أرجع إلى(1) حقّي الذي جعله الله عزوجل لي عفواً هنيئاً من غير أن أحدث في الإسلام مع حدوثه وقرب عهده بالجاهلية حدثاً في طلب حقّي بمنازعة، لعلّ فلاناً يقول فيها: نعم، وفلاناً يقول: لا، فيؤول ذلك من القول إلى الفعل.

وجماعة من خواص أصحاب محمد صلى الله عليه وآله [ممّن](2) أعرفهم بالنصح لله ولرسوله ولكتابه ولدينه والإسلام يأتوني عوداً وبدواً(3) وعلانية وسرّاً فيدعوني إلى أخذ حقّي، ويبذلون أنفسهم في نصرتي ليؤدّوا(4) إليّ بذلك بيعتي في أعناقهم، وأقول: رويداً وصبراً قليلا لعلّ الله أن يأتيني بذلك عفواً بلا منازعة ولا إراقة الدماء، فقد ارتاب كثير من الناس بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله، وطمع في الأمر بعده من ليس له بأهل، فقال كلّ قوم: منّا أمير [ومنكم أمير](5)، وما طمع القائلون في ذلك إلاّ لتناول الأمر غيري.

فلمّا قربت وفاة القائم وانقضت أيّامه صيّر الأمر من بعده لصاحبه، فكانت هذه اُخت اُختها، ومحلّها منّي مثل محلّها، وأخذا منّي ما جعله الله عزوجل لي، فاجتمع إليّ نفر من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله ممّن مضى رحمه الله ومن بقى ممّن أخّره الله من اجتمع، فقالوا لي فيها مثل الذي قالوا لي في اُختها.

فلم يعد قولي الثاني قولي الأوّل صبراً واحتساباً ويقيناً، اشفاقاً من أن تفنى عصبة تألّفهم رسول الله صلى الله عليه وآله باللين مرّة وبالشدة اُخرى، وبالبذل مرّة وبالسيف اُخرى، حتّى لقد كان من تألّفه لهم أن كان الناس في الكن والقرار

____________

1- في "ج": يرجع إليّ.

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ب": غدوّاً وجدّاً.

4- في "الف": ليروا.

5- أثبتناه من "ب" و "ج".


الصفحة 225
والشبع والري واللباس والوطأة والدثار، ونحن أهل بيت محمد لا سقوف لبيوتنا ولا أبواب ولا ستور إلاّ الجرائد وما أشبهها، ولا وطاء لنا، ولا دثار علينا، يتناول الثوب الواحد في الصلاة أكثرنا، ونطوي الأيّام والليالي جوعاً مشاعاً(1)، وربّما أتانا الشيء ممّا أفاء الله علينا وصيّره لنا خاصة دون غيرنا، ونحن على ما وصفت من حالنا، فيؤثر به رسول الله صلى الله عليه وآله أصحاب(2) النعم والأموال تألّفاً لهم.

فكنت أحق من لم يفرق هذه العصبة التي ألّفها رسول الله صلى الله عليه وآله ولم يحملها على الخطيئة التي لا خلاص لها منها دون بلوغها أو فناء آجالها، لأنّي لو نصبت نفسي بدعوتي(3) إلى نصرتي كانوا في أمري على أحد منزلتين، امّا متّبع مقاتل وامّا مقتول إن لم يتبع الجميع، وامّا خاذل يكفر بخذلانه إن قصّر في نصرتي أو أمسك عن طاعتي، وقد علم انّي منه بمنزلة هارون من موسى، يحلّ بهم في مخالفتي والامساك عن نصرتي ما أحلّ قوم موسى بأنفسهم في مخالفة هارون وترك طاعته.

ورأيت تجرّع الغصص، وردّ أنفاس الصعداء، ولزوم الصبر حتّى يفتح الله عزوجل أو يقضي بما أحبّ أن يُدان في حقّي، وأرفق بالعصابة التي وصفت(4)أمرهم، وكان أمر الله قدراً مقدوراً، ولو لم اتق هذه الحال يا أخا اليهود ثم طلبت حقّي لكنت أولى ممّن طلبه، لعلم من مضى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بحضرتك منهم، فإنّي كنت أكثر عدداً، وأعزّ عشيرة، وأمنع رجالا، وأطوع أمراً، وأوضح حجّة، وأكثر في هذا الدين مناقباً وآثاراً لسوابقي وقرابتي

____________

1- في "ج": جوعاً عامتنا.

2- في "ج": أرباب.

3- في "ب" و "ج": فدعوتهم.

4- في "الف": وضعت.


الصفحة 226
ووراثتي، فضلا عن استحقاقي ذلك بالوصية التي لا مخرج للعباد منها، والبيعة المقدمة في أعناقهم ممّن تناولها.

ولقد قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وانّ ولاية الامامة في يده وفي بيته لا في يد الذي تناولوها ولا في بيوتهم، وانّ أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس أهل البيت وطهّرهم تطهيراً أولى بالأمر بعده من غيرهم في جميع الخصال، ثمّ التفت إلى أصحابه وقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الرابعة يا أخا اليهود، فإنّ القائم بعد صاحبه كان يشاورني في موارد الاُمور فيصدرها عن أمري، ويناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي لا اُعلم أحداً ولا يعلمه أصحابي، ولا يناظره في ذلك غيري، ولا يطمع في الأمر بعده سواي، فلمّا أتته منيّته على فجأة بلا مرض كان قبله، ولا أمر كان أمضاه في صحّة من بدنه، لم أشك أن قد استرجعت حقّي في عافية بالمنزلة التي كنت أطلبها، والعافية(1) التي كنت ألتمسها، وانّ الله عزوجل يأتي بذلك على أحسن ما رجوت، وأفضل ما أمّلت.

فكان من فعله أن أختم أمره بأن سمّى قوماً أنا سادسهم، ولم يساوني بواحد منهم، ولا ذكر لي حالا(2) في وراثة الرسول، ولا قرابة ولا صهراً ولا نسباً، ولا كان لواحد منهم سابقة من سوابقي، ولا أثر من آثاري، فصيّرها شورى بيننا وصيّر ابنه حاكماً علينا، وأمره أن يضرب أعناق الستة الذين صيّر الأمر فيهم إن لم ينفذوا أمره، وكفى بالصبر على هذا يا أخا اليهود صبراً.

فمكث القوم أيّامهم كلّ يخطبها لنفسه وأنا ممسك، قد سألوني عن أمري فناظرتهم في أيّامي وأيّامهم وآثاري وآثارهم، وأوضحت لهم ما لم يجهلوه من

____________

1- في "ب" و "ج": العاقبة.

2- في "ج": حقاً.


الصفحة 227
وجوه استحقاقي لها دونهم، وذكّرتهم عهد رسول الله صلى الله عليه وآله إليهم وتأكيد ما أكّده لي من البيعة في أعناقهم، دعاهم حبّ الامارة، وبسط الأيدي والألسن في الأمر والنهي، والركون إلى الدنيا، والاقتداء بالماضين قبلهم إلى تناول ما لم يجعل الله عزوجل لهم، فإذا خلوت بالواحد منهم ذكّرته أيّام الله، وحذّرته ما هو قادم عليه وصائر إليه، التمس منّي شرطاً أن اُصيّرها له بعدي.

فلما لم يجدوا عنّي إلاّ المحجّة البيضاء، والحمل على كتاب الله عزوجل، ووصيّة الرسول صلى الله عليه وآله من إعطاء كلّ امرئ منهم ما جعله الله له، ومَنْعِهِ ما لم يجعل الله له أزواها(1) عنّي إلى ابن عفان طمعاً في التبحبح معه فيها، وابن عفان رجل لم يستويه بواحد ممّن حضره حال قط فضلا عمّن دونهم، لا ببدر التي هي سنام فخرهم، ولا غيرها من المآثر التي أكرم الله عزوجل بها رسوله ومن اختصّه معه من أهل بيته.

ثمّ لم أعلم القوم أمسوا من يومهم حتّى ظهرت ندامتهم، ونكصوا على أعقابهم، وأحال بعضهم على بعض، كلّ يلوم نفسه ويلوم صاحبه، ثمّ لم تطل الأيام بالمستبد بالأمر ابن عفان حتّى كفروه وتبرّؤوا منه، ومشى إلى أصحابه خاصة وسائر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله يستقيلهم من بيعته، ويتوب إلى الله عزوجل من فلتته، فكانت هذه يا أخا اليهود أكبر من اُختها وأقطع(2) وأحرى أن لا يُصبر عليها، فنالني منها الذي وصفه ما لم يجد فيه، ولم يكن عندي إلاّ الصبر على ما أمض وأبلغ منها.

ولقد أتاني الباقون من الستة من يومهم كلّ راجع عمّا كان ركب منّي يسألني خلع ابن عفان والوثوب عليه وأخذ حقّي، ويعطيني صفقته وبيعته على الموت تحت

____________

1- في "ج": زووها.

2- في "ب": أعظم، وفي "ج": أفظع.


الصفحة 228
رايتي أو يردّ الله عزوجل عليّ حقّي، فوالله يا أخا اليهود ما منعني منها إلاّ الذي منعني من اُختيها قبلها، ورأيت الابقاء على من بقى من الطائفة أبهج لي وآنس لقلبي من فنائها، وعلمت انّي إن حملتها على دعوة الموت ركبته، فامّا نفسي فقد علم من حضر ممّن ترى ومن غاب من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله انّ الموت عندي بمنزلة شربة الباردة في اليوم الشديد الحر من ذي العطش الصدي.

ولقد كنت عاهدت الله عزوجل ورسوله أنا، وعمّي حمزة، وأخي جعفر، وابن عمّي عبيدة على أمر وفينا به لله عزوجل ولرسوله، فتقدّمني أصحابي وخلفت بعدهم لما أراد الله عزوجل، فأنزل عزوجل فينا: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا}(1) حمزة وعبيدة وجعفر [قضوا نحبهم](2)، وأنا والله المنتظر يا أخا اليهود وما بدّلت تبديلا.

وما سكتني عن ابن عفان وحثّني على الامساك إلاّ انّي عرفت من أخلاقه فيما اختبرت منه ما لن يدعه حتّى يستدعي الأباعد إلى قتله وخلعه فضلا عن الأقارب وأنا في عزلة، فتصبّرت حتّى كان ذلك لم أنطق فيه بحرف من لا ولا نعم، ثمّ أتاني القوم وأنا يعلم الله كاره لمعرفتي بما تطامعوا به من اعتقال الأموال، والمرح في الأرض، وعلمهم بأنّ تلك ليست لهم عندي، وشديد عادة منتزعة، فلما لم يجدوها عندي تعلّلوا الأعاليل، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا الخامسة يا أخا اليهود، فإنّ المبايعين لي لمّا لم يطمعوا في ذلك منّي وثبوا بالمرأة عليّ ـ وأنا وليّ أمرها والوصيّ عليها ـ فحملوها على الجمل، وشدّوها على

____________

1- الأحزاب: 23.

2- أثبتناه من "ج".


الصفحة 229
الرحال، وأقبلوا بها تخبط الفيافي(1)، وتقطع البراري، وتنبح عليها كلاب الحوأب، وتظهر لهم علامات الندم في كلّ ساعة وعلى كلّ حال، في عصبة قد بايعوني ثانية بعد بيعتهم الاُولى في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله حتّى أتت أهل بلدة قصيرة أيديهم، طويلة لحاهم، قليلة عقولهم، عارية آراؤهم، وهم جيران بدو ووراء بحر.

فأخرجتهم يخبطون بسيوفهم بغير علم، ويرمون بسهامهم بغير فهم، فوقفت من أمرهم على اثنتين كلتاهما في محلّة المكروه ممّن إن كففت لم يرجعوا ولم يقلعوا، وإن أقدمت(2) كنت قد صرت إلى الذي كرهت، فقدّمت الحجّة بالأعذار والانذار ودعوت المرأة إلى الرجوع إلى بيتها، والقوم الذين حملوها إلى الوفاء ببيعتهم لي، والترك لنقضهم عهد الله عزوجل فيّ، وأعطيتهم من نفسي كلّ الذي قدرت عليه، وناظرت بعضهم [فرجع](3) وذكرته فذكر، ثمّ أقبلت على الناس بمثل ذلك فلم يزدادوا إلاّ جهلا وتمادياً وغيّاً.

فلمّا أبوا إلاّ هي ركبتها منهم، وكانت عليهم الدائرة، وبهم الهزيمة، ولهم الحسرة، وفيهم الفناء والقتل، وحملت نفسي على التي لم أجد منها بدّاً، ولم يسعني إذ فعلت ذلك وأظهرته آخراً مثل الذي وسعني منه أوّلا من الاغضاء والامساك، ورأيت انّي إن أمسكت كنت معيناً لهم عليّ بامساكي فيما صاروا إليه وطمعوا فيه من تناول الأطراف، وسفك الدماء، وقتل الرعية، وتحكيم النساء النواقص العقول والحظوظ على كلّ حال، كعادة بني الأصفر ومن مضى من ملوك سبأ والاُمم الخالية، فأصير إلى ما كرهت أوّلا وآخراً.

وقد أهملت المرأة وجندها يفعلون ما وصفت بين الفريقين من الناس ولم

____________

1- الفيف والفيفاة: المفازة التي لا ماء فيها، وجمعها الفيافي. (لسان العرب)

2- في "ج": أقمت.

3- أثبتناه من "ج".


الصفحة 230
أهجم على الأمر إلاّ بعدما قدّمت وأخّرت وتأنّيت وراجعت وراسلت(1) وشافهت وأعذرت وأنذرت وأعطيت القوم كلّ شيء التمسوه، بعد أن عرضت عليهم كلّ شيء لم يلتمسوه، فلمّا أبوا إلاّ تلك أقدمت عليها، فبلغ الله عزوجل بي وبهم منهم ما أراد(2)، وكان منّي عليهم بما كان منّي إليهم شهيداً، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

وأمّا السادسة يا أخا اليهود، فتحكيمهم الحكمين ومحاربة ابن آكلة الأكباد وهو طليق ابن طليق، معاند لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله وللمؤمنين منذ بعث الله محمداً صلى الله عليه وآله إلى أن فتح الله عزوجل عليه مكة عنوة، فاُخذت بيعته وبيعة أبيه لي معه في ذلك اليوم وفي ثلاثة مواطن بعده، وأبوه بالأمس أوّل من سلّم عليّ بإمرة المؤمنين، وجعل يحضّني على النهوض بأخذ حقّي من الماضين قبلي، يجدّد لي بيعته كلّما أتاني.

وأعجب العجب انّه لما رأى ربّي تبارك وتعالى قد ردّ لي حقّي وأقرّه في معدنه، وانقطع طمعه في دين الله(3) وفي أمانة حمّلناها حاكماً، كرّ على العاصي ابن العاص فاستماله فمال إليه، ثمّ أقبل به بعد أن أطمعه مصر ـ وحرام عليه أن يأخذ من الفيء فوق قسمته درهماً، وحرام على الراعي ايصال درهم إليه فوق حقّه ـ فأقبل يخبط البلاد بالظلم ويطأهم بالغشم، فمن تابعه أرضاه ومن خالفه ناواه، ثمّ توجّه إليّ ناكثاً علينا، مغيراً في البلاد شرقاً وغرباً ويميناً وشمالا، والأنباء تأتيني والأخبار ترد عليّ بذلك.

فأتاني أعور ثقيف فأشار أن اُولّيه البلاد الذي هو بها لأداريه(4) بما اُولّيه

____________

1- في "ب": أرسلت.

2- في "ب": على ما أرادوا.

3- في "ج": انقطع طمعه أن يصير في دين الله رابعاً.

4- في "ب": لأدرأه.


الصفحة 231
منها، وفي الذي أشار به الرأي في أمر الدنيا، ولو وجدت عند الله في توليته لي مخرجاً، وأصبت لنفسي في ذلك عذراً فأعملت الرأي في ذلك، وشاورت من أثق بنصيحته لله عزوجل ولرسوله صلى الله عليه وآله ولي وللمؤمنين، فكان رأيه في ابن آكلة الأكباد كرأيي، ينهاني عن توليته ويحذّرني أن أدخل في المسلمين يده، ولم يكن الله يراني أن أتّخذ المضلّين عضداً.

فوجّهت إليه أخا بجيلة مرّة وأخا الأشعر اُخرى وكلاهما ركن إلى الدنيا وتابع(1) هواه فيما أرضاه، فلمّا لم أره يزداد فيما انتهك في محارم الله إلاّ تمادياً شاورت من معي من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله البدريين، والذين ارتضى الله عزوجل أمرهم ورضى عنهم بيعتهم، وغيرهم من صلحاء المسلمين والتابعين، فكلّ يوافق رأيه رأيي في غزوه ومحاربته ومنعه ممّا نالت يده.

وانّي أنهضت إليه أصحابي، أنفذ إليه من كلّ موضع كتبي، واُوجّه إليه رسلي أدعوه إلى الرجوع عمّا هو فيه والدخول فيما فيه الناس معي، فكتب يتحكّم عليّ ويتمنّى عليّ الأماني، ويشترط عليّ شروطاً لا يرضاها الله عزوجل ولا رسوله ولا المسلمون ولا المؤمنون، ويشترط في بعضها أن أدفع إليه أقواماً(2) من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أبراراً فيهم عمّار بن ياسر ـ وأين مثل عمّار، والله لقد رأيتنا مع النبي صلى الله عليه وآله وما يعد(3) منّا خمسة إلاّ كان سادسهم، ولا أربعة إلاّ كان خامسهم ـ اشترط دفعهم إليه ليقتلهم ويصلبهم.

وانتحل دم عثمان، ولعمر الله ما ألّب على عثمان ولا جمع الناس على قتله إلاّ هو وأشباهه من أهل بيته، أغصان الشجرة الملعونة في القرآن، فلمّا لم أجب إلى ما

____________

1- في "ج": اتّبع.

2- في "ج": أدفع إليه أصحابي وهم أقواماً....

3- في "ج": وما تقدم.


الصفحة 232
اشترط كرّ مستعلياً في نفسه بطغيانه وبغيه بحمير لا عقول لهم ولا بصائر(1)، فموّه لهم أمراً فاتّبعوه وأعطاهم من الدنيا ما أمالهم(2) به إليه، فناجزناهم وحاكمناهم إلى الله عزوجل بعد الاعذار والانذار.

فلمّا لم يزده ذلك إلاّ تمادياً وبغياً لقيناه بعادة الله التي عوّدنا من النصر على أعدائه وعدوّنا، وراية رسول الله صلى الله عليه وآله بأيدينا لم يزل الله تعالى يقتل حزب الشيطان بها حتّى يقضي الموت عليه، وهو معلم راية أبيه التي لم أزل اُقاتلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله في تلك المواطن، فلم يجد من الموت منجا إلاّ الهرب. فركب فرسه وقلب رايته لا يدري كيف يحتال، فاستعان برأي ابن العاص فأشار عليه باظهار المصاحف ورفعها على الأعلام والدعاء إلى ما فيها، فقال له: انّ ابن أبي طالب وحزبه أهل بصائر ورحمة وفقهاً(3)، وقد دعوك إلى كتاب الله أوّلا وهم مجيبوك إليه آخراً، فأطاعه فيما أشار به عليه إذ رأى أن لا منجا له من القتل أو الهرب غيره.

فرفع المصاحف يدعو إلى ما فيها بزعمه، فمالت إلى المصاحف قلوب من بقى من أصحابي بعد فناء خيارهم، وجهدهم في جهاد أعداء الله وأعدائهم على بصائرهم، وظنّوا انّ ابن آكلة الأكباد له الوفاء بما دعا إليه، فأصغوا إلى دعوتهم، وأقبلوا بأجمعهم في اجابته، فأعلمتهم انّ ذلك منه مكر ومن ابن العاص معه، وانّهما إلى النكث أقرب منهما إلى الوفاء، فلم يقبلوا قولي ولم يطيعوا أمري، وأبوا إلاّ اجابته كرهت أم هويت، شئت أم أبيت، حتّى بعضهم يقول لبعض: إن لم يفعل فألحقوه بابن عفان أو ادفعوه إلى ابن هند يرميه(4).

____________

1- في "ب": بصيرة.

2- في "ب": أمالوا.

3- في "ب" و "ج": فقهاء.

4- في "ب" و "ج": برمته.


الصفحة 233
فجهدت علم الله جهدي، ولم أدع علّة في نفسي إلاّ بلّغتها في أن يخلّوني ورأيي فلم يفعلوا، وراودتهم على الصبر على مقدار فواق الناقة أو ركضة الفرس، فلم يجيبوا ما خلا هذا الشيخ ـ وأومأ بيده إلى الأشتر ـ وعصبة من أهل بيتي، فوالله ما منعني أن أمضي على بصيرتي إلاّ مخافة أن يقتل هذان ـ وأومأ بيده(1) إلى الحسن والحسين عليهما السلام ـ فيقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وذرّيته من اُمّته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا ـ وأومأ بيده إلى عبد الله بن جعفر، ومحمد بن الحنفية ـ فإنّي أعلم لولا مكاني لم يقفا ذلك الموقف، فلذلك صبرت على ما أراد القوم مع ما سبق فيه من علم الله عزوجل.

فلمّا رفعنا عن القوم سيوفنا تحكّموا في الاُمور وتخيّروا الاحكام، وما كنت بالذي احكم في دين الله أحداً إذ كان التحكيم في ذلك الخطأ الذي لا شك فيه ولا امتراء، فلمّا أبوا إلاّ ذلك أردت اُحكّم رجلا من أهل بيتي أو رجلا ممّن أرضى رأيه وعقله، وأثق بنصيحته ومودّته ودينه، وأقبلت لا اُسمّي أحداً إلاّ امتنع منه ابن هند، ولا أدعوه إلى شيء من الحقّ إلاّ أدبر عنه، وأقبل ابن هند يسومنا عسفاً، وما ذلك إلاّ باتّباع أصحابي له على ذلك.

فلمّا أبوا إلاّ غلبتي على التحكيم برئت إلى الله عزوجل منهم وفوّضت ذلك إليهم، فقلّده(2) أمراً فخدعه ابن العاص خديعة ظهرت في شرق الأرض وغربها وأظهر المخدوع عليه ندماً، ثمّ أقبل عليه السلام على أصحابه فقال: أليس كذلك؟ قالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

أمّا السابعة يا أخا اليهود فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله كان عهد إليّ أن اُقاتل في آخر الزمان من أيّامي قوماً من أصحابي، يصومون النهار ويقومون

____________

1- في "ج": وأشار إلى.

2- في "ج": فقلّدوه.


الصفحة 234
الليل، ويتلون الكتاب، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية فمنهم ذو الثدية، يُختم لي بقتلهم بالسعادة، فلمّا انصرفت إلى موضعي هذا ـ يعني بعد الحكمين ـ أقبل بعض القوم على بعض باللاّئمة فيما صاروا إليه من تحكيم الحكمين، فلم يجدوا لأنفسهم مخرجاً إلاّ أن قالوا: كان ينبغي لأمير المؤمنين انّه لا يتابع من أخطأ، وأن يقضي بحقيقة رأيه على قتل نفسه وقتل من خالفه منّا، فقد كفر بمتابعته إيّانا وطاعته لنا في الخطأ، واُحلّ لنا بذلك قتله وسفك دمه.

فجمعوا على ذلك وخرجوا راكبين رؤوسهم ينادون بأعلى أصواتهم: لا حكم إلاّ لله، ثمّ تفرّقوا فرقة بالنخيلة والاُخرى(1) بحروراء، [واُخرى](2) راكبة رأسها تخبط(3) الأرض شرقاً حتّى عبرت دجلة، فلم تمرّ بمسلم إلاّ امتحنته، فمن تابعها استحثّته(4) ومن خالفها قتلته، فخرجتُ إلى الاولتين واحدة بعد اُخرى أدعوهم إلى طاعة الله عزوجل والرجوع إليه، فأبيا إلاّ السيف لا يقنعها غير ذلك.

فلمّا أعييتُ الحيلة فيهما حاكمتهما إلى الله عزوجل، فقتل الله(5) هذه وهذه، وكانوا يا أخا اليهود لولا ما فعلوا لكانوا ركناً قويّاً وسدّاً منيعاً، فأبى الله إلاّ ما صاروا إليه، ثمّ كتبت إلى الفرقة الثالثة ووجّهت رسلي تترى، وكانوا من جملة أصحابي وأهل التعبّد والزهد في الدنيا، فأبت إلاّ اتّباع اُختيها والاحتذاء على مثالهما، وأسْرَعَتْ في قتل من خالفها من المسلمين.

وتتابعت إليّ الأخبار بفعلهم، فخرجت حتّى قطعت إليهم دجلة واُوجّه إليهم السفراء والنصحاء، وأطلب العتبى بجهدي بهذا مرّة وبهذا مرّة وبهذا مرّة ـ وأومأ

____________

1- في "ج": وفرقة.

2- أثبتناه من "ج".

3- في "ب": تخط.

4- في "ج": تركته.

5- في "ج": فقتلت.


الصفحة 235
بيده إلى الأشتر، والأحنف بن قيس، وسعيد بن قيس الأرحبي، والأشعث بن قيس الكندي ـ فلمّا أبوا إلاّ تلك ركبتها منهم فقتلهم الله يا أخا اليهود عن آخرهم ـ وهم أربعة آلاف أو يزيدون ـ حتّى لم يفلت منهم مخبر، فاستخرجت ذا الثدية من قتلاهم بحضرة من ترى، له ثدي كثدي المرأة، ثمّ التفت إلى أصحابه فقال: أليس كذلك؟ فقالوا: بلى يا أمير المؤمنين.

فقال عليه السلام: قد وفيت سبعاً وسبعاً يا أخا اليهود، وبقيت اُخرى واُوشك بها فكأنّ قد قربتْ، فبكى أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وبكى رأس اليهود وقال: أخبرنا الاُخرى، فقال: الاُخرى أن تخضب هذه من هذه ـ وأومأ بيده إلى لحيته وأومأ بيده إلى هامته ـ.

قال: فارتفعت أصوات القوم في المسجد الجامع بالضجة والبكاء حتّى لم يبق بالكوفة دار إلاّ خرج أهلها فزعاً(1)، وأسلم رأس اليهود على يد عليّ عليه السلام من ساعته، ولم يزل مقيماً حتّى قُتل أمير المؤمنين عليه السلام واُخذ ابن ملجم لعنة الله عليه، فأقبل رأس اليهود حتّى وقف على الحسن عليه السلام والناس حوله وابن ملجم لعنه الله بين يديه، فقال له: يا أبا محمد اقتله قتله الله، فإنّي رأيت في الكتب التي اُنزلت على موسى بن عمران عليه السلام انّ هذا أعظم جرماً عند الله من ابن آدم قاتل أخيه، ومن القدار عاقر ناقة ثمود(2).

تمّ الحديث والحمد لله وحده وصلّى الله على سيّدنا محمد النبي وآله الطاهرين وسلّم تسليماً كثيراً(3).

____________

1- في "ب": جزعاً.

2- في "ج": صالح.

3- الخصال: 364 ح58 باب السبعة; عنه البحار 38: 167 ح1; وفي الاختصاص: 163.


الصفحة 236


 شبكة البتول عليها السلام  @ 11-2006  -  www.albatoul.net

إنتاج : الأنوار الخمسة للإستضافة والتصميم @ Anwar5.Net